رواية لم يبقى لنا الا الوداع الفصل الرابع 4 - بقلم منى احمد
(4) زوجتين.
لم تدر كيف مرت الشهور عليها وأنهت اختباراتها فَحياتها منذ قاطعها والدها بدت قاحلة كالصحراء، وزاد الأمر عليها بأسًا استغلال شقيقتها هالة عدم تواصل أمجد معها وزكت نار الفتنة بينها وبينه وبثت سمومها على سمعها، فَتغلغلت الظنون إلى نفسها بأنه استطاب البعد عنها وأن وعده لوالدها جاءه على طبق من ذهب لِيلوذ الفرار فهو لم يحاول ولو لمرة واحدة السؤال عنها سرًا ولا رؤيتها ولو عن طريق الصدفة بل انقطع وكأنه يشارك والدها بعقابه لها، وبينما هي تدور بتيه بِيم هواجسها طرق أحمد غرفتها ووقف يتطلع إليها بحزن وأردف:
- بابا بيقولك ألبسي أي حاجة علشان أبيه أمجد هيجي بعد العِشا يكتب الكتاب.
اتسعت عينا منار لا تصدق أن يتم عقد قرانها هكذا وكأنهم يتسترون على عارها، فهبت عن فراشها واندفعت نحو غرفة والدها واقتحمتها دون إذن فصرخ شُهدي بوجهها وعنفها على فعلتها، ولكنها وقفت أمامه بملامح جامدة واستمعت إلى تقريظه دون أن تُبدي أي ردة فعل وحين انتهى من سبه إياها وأشاح بوجهه عنها زفرت منار وأردفت بانهزام:
- أنا آسفة إني دخلت اوضة حضرتك بدون إذن وِآسفة على كل حاجة عملتها وِآسفة أني خيبت أملك وخذلتك وكسرتك وصغرت بيك، آسفة وقابلة تعمل فيا أي حاجة إلا أنك تجوزني بالشكل المهين دا.
ألقت منار قولها واستدارت بجسد مرتعد لتغادر ولكنه استوقفها هادرًا بصوته:
- استني عندك ممكن أفهم إيه معنى الكلام اللي سمعته دا؟
ازدردت منار لعابها وأجابته بخوف:
- أنا مش عايزة أتجوز أمجـ...
لطم وجنتها بقسوة بترت كلمتها فحاولت منار تمالك ألمها وثبتت أمامه وكررت رفضها مما أثار غضبه عليها فانهال على وجهها صفعًا ودفعها بقوة فسقطت أرضًا، بينما انتفضت رنا التي وقفت أمام بابا غرفته بخوف لرؤيتها عنف والدها وتجمدت برهبة ولم تشعر بتبولها من فرط خوفها إلا حين اندفعت منار واحتضنتها وهي تبكي الحال الذي آل إليه أمرهم بسبب فعلتها وجذبتها بعيدًا حينها انهارت رنا في البكاء وأخذ جسدها يرتج من مبلغ ذعرها، ووقف شُهدي مُتسع العين يتابع ما حدث لابنته وارتمى فوق مقعده بجسد منهك يشعر بالأسف والحزن ونكس رأسه بعدما فلت منه زمام الأمر تمامًا.
بينما حاولت منار بمساعدة نهلة تهدئة رنا وبعد معاناة ساعدتها على الاغتسال وبدلت لها ثوبها فسكن جسد رنا وبشق الأنفس غفت، فَتطلعت نهلة إلى وجه شقيقتها المكدوم بِندم وأردفت:
- حقك عليا يا منار أنا السبب علشان كنت عارفة إن هالة بترقد لك وكان المفروض أنبهك من الأول إنها سمعتك وأنتِ بتتكلمي مع أمجد علشان تخدي بالك.
بادلتها منار النظرات بحزن لِوهلة قبل أن تشيح بوجهها فَدمعت عين نهلة حزيًا من ذنبها، وفجأة لاحت أمام صورة شقيقتها عفاف فَمسحت دموعها وأردفت:
- طيب إيه رأيك لو كلمت عفاف وطلبت منها تنزل أجازة ونخليها تحاول تتفاهم مع بابا و...
ربتت منار كتفها وأردفت بوهن:
- سيبي عفاف فِحالها يا نهلة وكفايه اللي هي فيه ومتنسيش إن ظروفها بقت متكعبلة بعد حماتها ما راحت قعدت معاهم وباعت شقتها هنا، فَمش هيبقى الغربة وأولادها وحماتها ونقوم مزودين عليها الحِمل باللي عملته، وبعدين أنا فعلًا أستحق أي حاجة حصلت علشان غلطت لما غمضت عيني عن الحلال وسمحت لشيطاني إنه يوجهني.
نكست منار رأسها وأضافت بِانكسار:
- أنا بس اللي مش قادرة اتحمله ووجعني كسرة بابا بسببي وإنه اخدكم بذنبي وجمد قلبه عليكم، حتى رنا اللي كانت روحه فيها ودايمًا يقعد يتكلم معاها بطل يقرب منها، وهي بقت بتخاف منه لدرجة إنها لما بتسمع صوت زعيقه بتترعب ومبقتش بتقدر تتحكم فِنفسها.
ازدادت شفقة نهلة وحزنها على شقيقتها فَهي تُحمل نفسها الذنب كاملًا وتزيد بمعاقبة نفسها يومًا بعد يوم والآن ترفض الزواج من حبيبها بعد معاناتها تلك فأسرت إليها بما يجول بخاطرها:
- بس أنتِ كده بتحملي نفسك فوق طاقتها وممكن يجي عليكِ وقت توقعي من كتر ما بتضغطي على نفسك، فَحاولي تخففي شوية الحِمل عن نفسك وتبطلي تعاقبي حالك على كل حاجة وتحرمي نفسك من اللي بتحبيه علشان تكفري عن الذنب، يا منار أنتِ حتى كتب الكتاب عايزة تلغيه؟
هزت منار رأسها وأجابتها بخزي:
- بس أنا مش بعاقب نفسي فِموضوع كتب الكتاب يا نهلة، أنا رفضت لأني حسيت إني زي ما أكون عملت جريمة لا تغتفر وبَستخبى بجوازي منها، وشوفت اليوم اللي المفروض يكون أسعد يوم فحياتي أتعس يوم، يا نهلة بابا فِلحظة حسسني إنه هَيكتب كتابي فِالسر علشان يستر عاري وأنا لو حصل واتجوزت أمجد بالطريقة دي عمري ما هعرف ارفع عيني فوشه، ودايمًا هحس إني صغيرة فِنظره وإنه اتجوزني علشان يصلح غلطة مش أكتر، علشان كده أنا عندي أستعداد اتعاقب بأني أتحرم من أمجد بس متجوزهوش بالطريقة دي يا نهلة.
أجهشت منار في البكاء بين ذراعي شقيقتها ولم تر والدها الذي انسحب من أمام غرفتها وهاتف أمجد الذي استجاب سريعًا لاتصاله وهو يتلفت حوله بحذر وأنصت لحديث شُهدي بوجه مقطب، وحين طال صمته ابلغه بموافقته مُرغمًا وألقى هاتفه أرضًا ولعن حظه فهو اعتمد على حالة الخصام بين شُهدي ومنار ليتمم عقد قرانه منها دون جلبة، والآن وبعد اتصاله بات عليه ترتيب احتفال لِعقد القران وإشهاره، شد أمجد شعره وكاد يصرخ ويلعن شُهدي ومُفاجآته وأطاح أمجد بالطاولة الصغيرة من أمامه بغضب، ولكنه سرعان ما تمالك نفسه وغادر غرفة نومه لِيصطدم بليان التي أتت فور سماعها صوت جلبة فاحتضنها أمجد وقبل وجنتها مُردفًا:
- أهدي يا لولي محصلش حاجة كل الحكاية أني مأخدتش بالي واتخبطت فالترابيزة فوقعت.
راقبت ليان ملامحه وأنفاسه المهتاجة وتهربه بعينه من النظر إليها وحاولت سبر أغواره التي للمرة الأولى تُدرك عمقها وغموضها، فبعد مواجهة أبناء عمومتها له ولوالدها وصدامهم الكارثي، علمت أن الأمر لن يمر مرور الكرام لِمعرفتها بطبيعة زوجها الحساسة واعتزازه الشديد بكرامته ورفضه أي إهانة، والآن وبعد سماعها صوت سقوط الطاولة تأكدت من محاولته إخفائه استيائه وغضبه عنها وتأثره بِكلماتهم السامة واتهامهم له بالجشع والطمع، ولكم تخشى الآن ردة فعله بأن يقرر إثبات حُسن نوياه بابتعاده عنها ليحفظ كرامته من الإهانة، فأسرت إليه بمخاوفها قائلة:
- بصراحة أنا خوفت أحسن تسيبنِي بعد اللي حصل من قرايب بابا فحقك علشان تثبت لهم أنك مش طمعان فيا ولا فمال بابا زي ما اتهموك و..
منعها أمجد من إضافة المزيد وأحاط وجهها بكفيه وأردف:
- ليان أنا يوم ما اتقدمت لك وِطلبت أيدك للجواز كنت عارف إن أي حد هيعرف بطلبي هيقول على طول أني طمعان فِفلوس والدك، وقرايب عمي زيهم زي غيرهم من الناس تفكيرهم السيء بغيرهم واحد، ولعلمك أنا بعد ما طلبت إيدك ووافقتي عمي فهمني نواياهم وبسبب كلامه وخوفه من اللي عرفه عنهم قررنا أننا نتجوز بسرعة ومن غير فرح، علشان محدش فيهم يحاول يأذيكِ أو يتطاول عليكِ وعلى عمي، ولعلمك أنا لسه عند اتفاقي آخر الشهر هاخدك ونسافر رحلة شهر عسل تعويضًا عن الفرح اللي اتحرمتِ منه.
تعلقت ليان بعنقه وقبلت شفتيه وابتعدت وعيناها تغرق بعينه وأردفت:
- أنا مش عارفة هحبك أكتر من كده إيه؟ تعرف أني لحد اللحظة دي مش مصدقة أني مرات أمجد المُشير اللي ساب بنات الدنيا بحالها وأختارني أنا وحبني.
حملها وعاد إلى غرفتهم وجلس فوق فراشه وأجلسها فوق ساقيه وضمها بين ذراعيه قائلًا:
- لو على الحلم فأنتِ كنتِ بالنسبة لي نجمة عالية فالسما كنت ببص لك وأقول معقول النجمة دي ممكن تقبل بواحد فقير وعايش لوحده زيـ...
انتشلت ليان نفسها من بين ذراعيه ووضعت يدها فوق شفتيه وهتفت:
- أوعى تقول على نفسك فقير تاني لأنك أغني مني بحبك ليا وبأخلاقك وبكل حاجة فيك، ولو على الفلوس فأنا وكل ما أملك رهن إشارتك وسيب اللي يقول يقول لأني واثقة فيك.
---
فاجأ أمجد شُهدي بصباح اليوم التالي بوقوفه أمامه حاملًا علبة فاخرة وباقة من الزهور وسلمه إياها وهو يحاول تفادي النظر إليه قائلًا:
- ممكن يا عمي تقبل مني الهدية دي لِمنار وبعد إذنك أنا سمحت لِنفسي واتفقت مع محل الفِراشة علشان يبعت العمال تعلق نور بطول العمارة من فوق لتحت وكمان فالشارع كله، وبالنيابة عنك عزمت جيرانا وقلت لهم إن كتب كتابي على منار بكرة بعد المغرب إن شاء الله، وبالنسبة للمأذون فأنا كلمته واتفقت معاه على كل حاجة بس في حاجة واحدة باقية طالبها من حضرتك واتمنى متكسفنيش فيها.
سأله شُهدي بحيرة عن طلبه فأجابه أمجد بحرج:
- طالب من حضرتك تتفق مع الشهود لإن زي ما حضرتك عارف أنا مقطوع من شجرة وعيلة والدي مقاطعيني من سنين ومعنديش اللي يستحق يشهد على عقد جوازي من منار.
صاح شُهدي فجأة مناديًا ابنه فظهر أحمد بجواره وكأنه نبت من عدم فاستدار نحوه وأعطاه العلبة قائلًا:
- دخل العلبة دي لأختك وقول لها أنها هدية من خطيبها، وقول لأخواتك يشغلوا أغاني علشان كتب كتاب أختك بكرة.
هرول أحمد بسعادة بينما التفت شُهدي نحو أمجد وجذبه إلى الداخل مُردفًا:
- أدخل يا ابني البيت بيتك.
ابتسم أمجد وتبع شُهدي باستحياء ليصل إلى سمعه صوت صيحة عالية تبعها صوت أغاني صاخب وزغاريد بددت حزن المنزل، فلمعت عين شُهدي بالدمع حينها خفض أمجد رأسه وأردف:
- عمي أنا عايز أبدًا حياتي مع منار وأنت راضي عنها قبل ما تكون راضي عني، وصدقني أنا أول مرة ألمس منار كان فِاليوم المشؤوم اللي حضرتك شوفتنا فيه وحقيقي من وقتها وأنا ندمان ومستصغر نفسي إني حطيت حضرتك قبل منار فالموقف المُشين دا، واللي بسببه مقدرتش أتحمل أقعد فالشقة وقلت أبعد لحد ما الأمور تهدا وعلشان أوفي بوعدي ليكِ، وأرجوك لو جواك لسه زعل مني ومنها أنساه وأدينا الفرصة نثبت لك إن تريبتك مَضعتش هدر.
زفر شُهدي وأوما بتفهم فهو يعلم برحيله وظنه في بادئ الأمر تهرب من اتفاقه معه ولكنه هاتفه وأخبره بانتقاله إلى مسكن آخر وأنه على وعده معه، فأردف:
- سيبها على الله يا ابني.
أحس أمجد من وجوم شُهدي أنه لن يعفو عما رآه فاستأذنه بحرج وغادر، بينما وقف شُهدي يبادل نظره بين غرفته وغرفة ابنته التي ضجت بالصخب فنكس رأسه واتجه صوب غرفته ولم ير دموع منار التي سالت فوق وجنتيها وعودتها إلى غرفتها بخطى مُنكسرة.
وفي الموعد المحدد جلست منار تُحيطها رنا ونهلة من الجانبين بينما وقفت هالة ترمقها بضيق بعدما رفضت مشاركتها الاحتفال، وبالخارج جلس الرجال يستمعون إلى خطبة المأذون باحترام وحين وصل إلى قوله الأخير"بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير" انهمرت دموعها وتمنت لو كانت والدتها بجوارها لِتغمرها بحنانها الذي افتقدته كثيرًا وانتشلتها وكزة نهلة من شرودها فرأت قدمين تقفان أمامها فظنتها لأمجد ورفضت رفع وجهه نحوه وحين جُذبت لتقف أغمضت عينها وحاولت الابتعاد إلا أنها تجمدت حين صافح أذنها صوت والدها بقوله:
- مبارك يا منار.
فتحت منار عينيها وحدقت بوجهه لثوان لا تصدق أنه يفتح لها ذراعيه وأجهشت في البكاء وهي ترتمي بينهما وتشبثت به فبدت وكأنها تحتمي به من الغرق ولسانها يرجوه السماح والعفو، وعلى مقربة منهم وقف أمجد يتابع ما يدور بوجه عابس وعيون قاتمة يشعر بنيران الغيرة تموج بداخله وتتقاذف كالحمم وعقله يندد ويصرخ بأحقيته هو باحتوائها عن والدها، وكما اشتعلت غيرته هدأت بعدما أجبره عقله على الهدوء والتريث فهو لا يُريد إحداث شقاق آخر بينهم وما أن أشاح بوجهه عنهم رأى أمامه شقيقتها البغيضة تنظر باتجاه منار بكراهية، ولوهلة تسلل إلى قلبه الخوف وأدرك أن تلك المراهقة التي لم تتجاوز الرابعة عشر من عمرها عدو لا يستهان به وعليه من الآن وصاعدا الحذر منها لينتبه لصوت شُهدي يطلب من الاقتراب ومد يده نحوه بيد ابنته وأردف:
- بنتي من اللحظة اللي اتكتبت فيها على اسمك بقت أمانة فِرقبتك فَحطها جوا عنيك وحافظ عليها واتقي الله فيها ولو فيوم غلطت عاتبها بمحبة لما تهدى وطول بالك عليها.
أومأ أمجد وأجابه بتلقائية:
- من غير ما تقول يا عمي منار هي النفس اللي بتنفسه وعلشانها أنا مستعد أعمل أي حاجة ويكفي أن أول ما حضرتك كلمتني علشان أعمل لها الحفلة أنا مترددتش ونفذت فوقتها على طول، عمومًا يا عمي أنا وعدك أني هحافظ عليها بحياتي وأني هبذل كل ما فوسعي علشان أسعدها.
أنهى أمجد قوله مغتالًا بما فعل والتفت إليها وعينه تتفرس بملامحها التي زادها الحزن جمالًا، وود لو كان بمفردها معها لأخبرها بكل طريقة ممكنة كم يعشقها ويتمناها ولكنه سيهدأ حتى تحين فرصته ويقتنص منها ما يشبع به رغبته المشتعلة، نبهه عقله وذكره بخطوته التالية فالتقط بيدها المرتعشة ورفعها نحو شفتيه وقبلها قائلًا بِهمس:
- حقك على قلبي أني كنت السبب فعذابك طول الفترة اللي فاتت، حقك على قلبي أني سيبتك لوحدك ومكنتش جنبك فِأكتر وقت أنتِ كنتِ محتجالي فيه، ويعلم ربنا أني كنت بتعذب زيك وِيمكن أكتر لأني كنت ما بين نارين نار وعدي لعمي ونار حبي ليكِ وقلبي اللي هيتجنن علشان يطمن عليك، وأوعدك يا منار إن من اللحظة دي أني هحاول على قد ما أقدر أعوضك وأنسيكِ كل لحظة حزن عدت عليكِ وأنا مش معاكِ.
لم تصب كلماته مكانها المعتاد بِقلبها وللمرة الأولى تستمع إليه وتتصنع السعادة كي لا تلفت الانتباه إليها خاصة ووالدها يحدق بها بتوجس، وكيف لا تتصنعها فهي سعادة ناقصة فكلماته تأخرت كثيرًا لتقال، وتساءلت أين كان وهي تبكي ليل نهار منهكة الروح ومستنزفة القوى تبحث عن ملاذٍ تُخبأ بداخله حزنها وسندًا تتكأ إليه لتشد أزرها ولكنها كانت بمفردها تمامًا؟ أما هو فتعلل بِالتزامه بوعده لِوالدها واختفى تمامًا بل وانتقل إلى مكانٍ آخر ولم يُكلف نفسه عناء التوضيح وتركها لظنونها تنهشها بلا رحمة، والأصعب وأده لِفرحتها بِمهدها قبل أن تولد فهي ظنته سعى من تلقاء نفسه لإعداد ذاك الحفل لعقد قرانهما ليخبرها بطريق غير مباشر أنه لن يترك أي فرصة ليظن أحد بها السوء أو يلوك سمعتها بلسانه، ولكنه صفعها بحقيقة أنه وافق أن يتم عقد قرانهم بسرية ولولا والدها لكان تم بكل خزي، تاهت منار بِيم أفكارها تتقاذفها أمواج الحيرة والتشتت يمينًا ويسارًا وضاعت منها كلمات أمجد التي أخذ يمطرها على سمعها فظنها أمجد تشعر بالخجل فأختلس النظر نحو والدها متصنعًا الحرج، حينها تفهم شُهدي الموقف وأشار إلى أبنائه بالانصراف واتجه صوب غرفته فَاسترعى انتباهه نظرات ابنته هالة الغامضة التي خصت بها شقيقتها فعقد حاجبيه ورمقها بغضب، فهو لم ينس محاولتها لتسميم فكره وعليه معرفة السبب الذي دفعها لفعل ذلك فاتجه نحوها ودفعها خلسة لداخل الغرفة وأوصد الباب خلفه بينما تبادلت رنا ونهلة النظرات لِتدرك الأخيرة أن شقيقتها على وشك الإصابة بنوبة ذعرها فابتسمت وأشارت إليها بدخول غرفتها بينما اتجه أحمد للشرفة وجلس بداخلها، وبغرفة هالة وقف والدها يتابع حركات يدها فأدرك خوفها منه فطلب منها الجلوس برفقته وأردف:
- أنا عايزك تنسي أني والدك وتتكلمي معايا بصراحة وتطلعي اللي جواكِ علشان أنا مش عاجبني حالك ولا نظراتك لأخواتك وبعدك عنهم حتى نهلة بعدتيها عنك وبقيتي تتعاملي معاها بجفاء، اتكلمي يا هالة وفهميني ليه بقيت شايف فعينك نظرة عداوة لأخواتك كأنك بتكرهيهم.
شبكت هالة كفيها وعيناها تحاول استشفاف نوياه ولاحظت أسفه وحزنه فامتعضت ملامحها وأجابته بجمود:
- قبل ما أجاوبك ممكن حضرتك تقولي ليه ضربتني رغم أني جيت وقلت لك على اللي بتعمله منار من ورا ضهرك على السطوح؟ وليه من بعدها بتتعامل معانا بزعيق وإهانة وضرب وعقاب؟
بادلها شُهدي النظرات وفهم مُرادها من السؤال فأردف بجدية:
- ضربتك علشان أنتِ فضحتي أختك ومخوفتيش عليها مني وكنتِ قاصدة تبلغيني علشان تشوفيها وهي مكسورة، أنتِ عارفة يا هالة أنتِ عيبك إيه؟ عيبك أنك فاكرة إن اللي بتعمليه صح طالما أنتِ مبتعمليش نفس الغلط اللي غيرك عمله وبتدي لنفسك حق مش ليكِ ونسيتي إن سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام قال "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من اتبع عوراتهم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في بيته".
ازدردت هالة لعابها باضطراب وهمت بالدفاع عن نفسها فأوقفها شُهدي بقوله:
- أنتِ أخدتي بالك من اللي فالحديث يا هالة أخدتي بالك إن ربنا عز وجل هيتتبع اللي بيكشف عورة غيره ودي حاجة كبيرة معناها إن ربنا هيرفع ستره عنه وهيبقى عقابه كبير، فهل تحبي إن ربنا يرفع ستره من عليكِ ويبعت اللي يفضحك زي ما فضحتي أختك وقبلها زميلتك مها!
ألقى شُهدي كلمته الأخيرة مُتعمدًا ونظر إلى ابنته التي شخصت بعينها بخوف وكادت تفر من جواره ولكنه هز رأسه بالنفي وأضاف:
- مخافيش أنا لو كنت عايز أضربك كنت ضربتك من وقت ما عرفت اللي عملتيه فزميلتك.
ازدردت هالة لعابها وسألته بتردد:
- وهو حضرتك عرفت من مين؟
زفر شُهدي للخوف البادئ على ملامحها وأجابها:
- أختك نهلة جت وقالت لي على كل حاجة كنتم بتعملوها وطلبت أروح معاها لبيت مها علشان تعتذر لها ولما روحت البنت طلعت زوق جدًا وقبلت اعتذار أختك وقعدت معاها تتكلم وأنا قعدت مع والدها واتكلمت معاه كتير وطلبت منه يسامحك أنتِ وأختك وساويت الموضوع معاه.
أوقف شُهدي استرساله وعينه تتفحصها بحثًا عن بادرة ندم ولكنها أغمضت عينها وتهربت منه، فزم شفتيه لعنادها المبالغ به في الخطأ وأردف:
- بصي يا هالة أنا مش حابب أفضل أتكلم وأنتِ ساكتة وبتبص لي وخلاص، علشان كده أنا هَقولك اللي عندي وهَسيبك لِنفسك وضميرك وعايزك تقعدي مع حالك وتراجعي نفسك وشوفي هَينفع تبني حياتك على نفس النهج اللي ماشية عليه بالظلم، علشان لو أنتِ أخترتي الطريق دا فَلازم تعرفي إن هَيجي عليكِ يوم وتخسري وهَتدفعي تمن كل حاجة عملتيها باللي اترتب عليها من فساد لحياة غيرك، وعمومًا يا بنتي أنا مش عايز غير مصلحتك وعايز افتخر بيكِ وأقول بنتي هالة أهي مش أتكسف وأقول يا خسارة، وأخر حاجة ليكِ عليا إني مش هَمد إيدي عليكِ تاني ولو فِيوم محتاجة تتلكمي فيها معايا حتى لو كنتِ غلطتي فأنا هَسمعك وهَنصحك لوجه الله.
راقبت هالة والدها وهو يغادر غرفتها ولم تدر لِما أحست بالخوف يعتريها وأنهمرت دموعها، في حين استحوذ الخوف على رنا التي ظنت والدها سيقوم بضرب شقيقتها فاندست بفراشها تغمض عينيها هربًا من سماعها لأي صوت ولم تنتبه لولوج والدها الذي تسلل وجلس بجوارها إلا حين أحاطها بذراعيه فجفلت وحدقت به بعيون مُتسعة وهمست بتلقائية:
- أنا معملتش حاجة والله و...
رأى شُهدي الدموع فِعينها متجمدة فِانفطر قلبه عليها وجذبها إلى صدره وأردف بحنو:
- أنا اللي عملت وحقك عليا يا رنا على الخوف اللي زرعته جواكِ بِقسوتي واهمالي، سامحيني يا بنتي أني سيبتك كده من غير ما افهمك إن مالكيش ذنب فاللي حصل.
أجهشت رنا في البكاء وأخفت وجهها بصدر والدها وأردفت:
- أنا شوفتك وأنت بتضربهم ولما جيت أتكلم معاك زعقت فيا ومرضتش تدخلني اوضتك فَعرفت أني لو عملت حاجة أنا كمان هَتضربني زيهم، واللي أكد لي ده إن حضرتك بطلت تيجي تسمع لي القرآن وبطلت تتكلم معايا.
قبل شُهدي رأسها وأبعدها قليلًا عنه وكفكف دموعها مُردفًا:
- من النهاردة هرجع زي ما كنت صاحبك اللي بِتحكي له وهَسمع لك وهَلعب معاكِ، المهم إنك متقفليش على نفسك ولا تخافي مني يا رنا.
حدقت به بريبة حتى أكد لها بنظراته أنه يعي ما قال فابتسمت للمرة الأولى منذ أشهر وأومأت واحتضنته قائلة:
- يعني حضرتك كده سامحت منار ومش هَتزعق تاني وهَتكلمنا زي الأول ومافيش ضرب بالحزام.
ربت شُهدي ظهرها وعينها تلمع بالدموع وأومأ فَابتسمت نهلة وتركت مكانها وانضمت إليهم واندست هي الآخرى بين ذراعي والدها، فَأبتعد شُهدي ورمقهما سويًا ثم دغدغدهم لِتنطلق ضحكات سعادتهم معلنة إنتهاء جفائه معهم. عرض أقل
•تابع الفصل التالي "رواية لم يبقى لنا الا الوداع" اضغط على اسم الرواية