رواية اسد مشكي الفصل السادس و الاربعون 46 - بقلم رحمه نبيل

 رواية اسد مشكي الفصل السادس و الاربعون 46 - بقلم رحمه نبيل

ما قبل الأخير | أحضانها موطنٌ |

كانت ثواني تنفست بها الصعداء قبل أن تزل قدمها وتشعر بجسدها يتهاوى ارضًا تحضر كل خلية منها لأستقبال احضان الأرضية الصخرية الصلبة أسفلها تعد نفسها للمزيد والمزيد من الجراح التي ستغطي مناطق أخرى لم تصل لها مصائب الفترة السابقة، لكن قبل أن يحدث أي من هذا سمعت همسة جوار أذنها ويد قوية تضمها :

_ بسم الله عليكِ حبيبتي، إلى أين الرحال حلوتي، أيهون عليكِ العم أرسلان؟

ونعم قد تخطأ قبضة يده القوية وكلماته، لكنها لا تخطأ أبدًا نبرته تلك، ابتلعت ريقها وهي تستدير صوب أرسلان ببطء تبصر نظراته له التي يشوبها الغيظ والغضب .

_ إلى أين سلمى ؟؟

نظرت له سلمى ثواني وهي تقلب الأفكار داخل رأسها تدرس ردات فعلها وردة المتوقع على كل رد لها، فأرسلان العزيز بهذه الملامح أمامها إن لم تعطه ردًا ينتظره منك فتقسم أنها ستُسحب للسجن الآن وهذه المرة لن يخرجها إلا بعد يومين على أقل تقدير ..

_ إلى اللامكان عزيزي آرس .

رفع أرسلان حاجبه بسخرية وهو يحاول أن يتنفس بشكل طبيعي، ثم نظر لها ببسمة واسعة يدفعها بخفة لنفس البوابة التي خرجت منها للتو يردد ببساطة تفوق بساطتها السابقة :

_ أوليس قلبي أولى بوجودكِ من اللامكان سليمى ؟! 

نظرت سلمى لدفعته لها، وملامحه الحادة ونبرته الجادة، ونظرات الحارقة، لتشعر أن الكلمات لا تليق مع هذا الموقف لتبتسم بسخرية وهي تنقاد لدفعاته وكأنها أسير حرب يقاد صوب محبسه :

_ حسنًا كانت هذه كلمات في غاية الرومانسية سأحب سماعها بين أحضانك في الشرفة أرسلان وليس في هذه الوضع، لذا ربما اليوم مساءً إن رضيت عنك سريعًا يمكنك ترديدها مجددًا بنبرة أشد حنانًا ودفئًا وستلتمع عيناي كما لو أنني أول مرة اسمعها .

ابتسم أرسلان بسمة واسعة وهو يدفعها أمامه:

_ ترضين عليّ ؟؟ عساني أنا أرضى عنكِ، إلى أين تحسبين نفسك ذاهبة ؟؟ هذه المرة الثالثة التي أمسك بكِ على بوابة مختلفة، هل تريدين أن أحضر صخور بناء واغلق كامل مداخل القصر بأكمله سلمى ؟! 

_ أو ابسط، دعني أفعل ما اريد أرسلان.

_ لا .

تنفست بصوت مرتفع وهي تتوقف فجأة ليتوقف هو بسرعة وهو يبتعد للخلف بسرعة بعدما كاد يصدمها بقوة ، ينظر لها بأعين متسعة بالخوف عليها من صدمة منه قد تؤذيها، وهي نظرت له بحاجب مرفوع تردد بصوت غاضب :

_ صدقني هذا العالم لا يسير على أهوائك جلالة الملك احيانًا سيكون من الجيد أن تخالفك الحياة مرات عديدة .

ابتسم لها بسخرية ولم يكد يتحدث كلمة واحدة حتى رفعت اصبعها في وجهه دون شعور :

_ أنا هنا لست طوع أوامر جلالتك عزيزي، أنا امرأة مستقلة، في أي زمن نحن ؟؟ زمن الاستعباد والسبايا؟! هذا زمن الحرية والاراء جلالة الملك، وأحمد ربك أنك لست في عالمي وإلا اقسم أنني كنت سأقلب عليكِ منظمات حقوق المرأة اجمعها .

رمش أرسلان وهو ينظر لها بعدم فهم، ومن ثم حرك عيونه صوب إصبعها يراقبه بضيق يتحدث بنبرة شبه جادة يحاول أن يكون لينًا :

_ تقلبين عليّ ماذا يا امرأة ؟؟ 

_ منظمات حقوق المرأة.

_ وما هذه الأشياء ؟!

رمشت وهي لا تفهم كلماته، وهو يراقبها بجدية ينتظر اجابتها ليحدد إن كان انقلاب ذلك الشيء عليه سيزعجه أم سيكون خفيف الوزن مثلًا فيتحمله دون تأفف .

_ هذه منظمات لحفظ حقوق المرأة وتطالب بها في عالمي ..

_ وهل تحتاج المرأة في عالمك للمطالبة بحقوقها ؟! ألا يعلم الأشخاص هناك المعنى لكلمة حقوق، منذ متى يطالب الناس بحقوقهم ؟؟ لماذا تحتاج المرأة لتقيم تلك الأشياء لأخذ حقوقها ؟! هل رجال قومك عديمي مروءة ؟؟ 

نعم هم كذلك، ربما ليس الجميع، لكن الأغلبية الساحقة كذلك، وعلى الجانب الآخر هناك نساء متجبرات يسلبن الرجال حقوقهم، في الحقيقة، كانت حقوق المرأة في عالمها هي أصغر الصغائر التي قد تؤرقها مقارنة بكل الفساد هناك، لكنها بالطبع لن تخبره، فلا تريد أن يجن زوجها ويسحب جيوشه ويتحرك ليحرر عالمها من أفكارهم الغبية، رغم أن هذه فكرة جيدة في الحقيقة.

هل لو كان أرسلان من عالمها ليكون بمثل تلك التصرفات والأخلاق ؟! 

كلمات رددتها في رأسها بنبرة تائهة وكأنها تحاول إدراك أنه ليس من عالمها، ليس من عالمها ؟؟ وكأنها للتو استوعبت أنها أحبت وتزوجت رجل ليس من عالمها .

ويلي هل تحققت احلام الطفولة الحمقاء التي كانت توافيها كل ليلة عن الارتباط بمصاص دماء أو مستذئب قوي متجبر يقيم حربًا لأجلها ؟!

لكن أرسلان لم يكن ...لم يكن مستذئب أو مصاص دماء حتى، لكنها تقسم أنه أشد بطشًا ورعبًا منهم  حينما يتحول في الحروب .

_ هل يمكنك أن تقيم حربًا لأجلي أرسلان ؟! 

تعجب أرسلان من تحول دفة الحديث فجأة لا يستوعب ما خرجت به من العدم في هذه اللحظة، وسؤالها كان مفاجئًا لكنه أجاب وهو يهز كتفه بكل بساطة :

_ لا أظن أن أي من أسباب حروبي السابقة ينافس زوجتي اهمية، لذا نعم اقيم حروبًا لأجلكِ واحتل بلادًا لعيونك سليمى.

اتسعت بسمة سلمى بقوة وهي تنظر حولها بسرعة تطمئن لعدم وجود أحدهم في المكان قبل أن تقترب منه تقبل وجنته بسعادة، ومن ثم ابتعدت عنه تضم يديها لصدرها بسعادة كبيرة :

_ أحلامي تتحقق بك يابني، نعم لا تستطيع التحول لذئب أو يمكنك اخراج انياب كمصاص دماء، لكن ملامحك هذه أشد رعبًا من كل ذلك، لذا اكتفيت بك حلمًا آرس.

وأرسلان المسكين يقف أمامها يتابعها لا يدري هل يتجاوز عن قبلتها على الملأ، ام يحاول فك طلاسم كلماتها حول الذئاب ومصاصي الدماء وما هذه الأشياء هو سمع عن المستذئيين من كتب الأساطير التي كان يراها مقززة، لكن ما هذا مصاص الدماء ؟!

_ ما معنى مصاص الدماء ؟!

التمعت عيون سلمى وهي تتذكر كل أفلام مصاصي الدماء التي شاهدتها سابقًا وكل الكتب التي غرقت بها عنهم في فترة إدمانها لكل الخوارق قديمًا، تتحدث بصوت هائم شارد في احلام خيالية قديمة لبطلها المغوار : 

_ أوه هذا شخص له انياب كبيرة يشرب بها الدماء وله قدرات خارقة سرعة عالية وبشرة شاحبة بعض الشيء وعيون ثاقبة وشخصية قوية و.....

_ شرب الدماء حرام سلمى .

وكانت كلمات نطق بها أرسلان فجأة لتهوى سلمى من غيمة أحلامها الطفولية القديمة الأسفل السافلين، ترفع عيونها له بعدم إدراك :

_ ها ؟؟ ماذا ؟! 

_ كيف يشرب الدماء ؟! هذا حرام، "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ" .

رمشت سلمى بعيونها تحاول أن تفهم ما يقال، ونعم هي كانت تعلم الآية بالفعل، لكن هذه كتب وشخصيات أحبتها و....

شعرت بالتشوش في أفكارها وهي تراه يتحدث بجدية أمامها ليس وكأنه يتناقش معها في شخصيات خيالية طفولية ابتدعها بعض الأشخاص في القرن التاسع عشر .

_ ثم شرب الدماء هذا شيء مقزز، سبحانه الله لا يحرم شيء إلا وكان به مفسدة للجسد، تناول الدم بكميات كبيرة يؤدي إلى خطر زيادة نسبة الحديد في الجسد، وبالتالي يؤدي إلى التسمم.

ونعم هذا أرسلان زوجها الذي عاش وترعرع بين السيوف يقف الآن يحلل شغفها بشكل علمي، ليس وكأنه عالمًا كبيرًا في الأحياء .

وهذا يؤدي بها لسؤال دار فجأة في عقلها .

_ ما هي دراستك أرسلان ؟؟

نظر لها أرسلان بعدم فهم :

_ ماذا ؟!

_ دراستك ما الذي درسته، لكل إنسان شغف يدرسه، ما هو شغفك ؟!

فتح أرسلان فمه وكاد ينطق بكلمة القتال والحروب لكنها سبقته تقطع عليه طريقه :

_ عدا القتال والحروب .

نظر لها ثواني وقد فاجئته بالسؤال، فعندما كان يسأله أحدهم عن وظيفته أو هوايته أو حياته كان يحصرهم في الكلمتين اللتين استثنتهما هي، لم يهتم أحدهم لمعرفة ما يقبع خلف درع حروبه.

نظر لها ثواني وهو يتذكر دراسته القديمة يبتسم بحنين وكأنه لم يتخيل يومًا أن يعود لتلك النقطة من شخصيته :

_ الطب وصناعة الأدوية .

شهقت سلمى بعدم تصديق ليبتسم هو لها يردد بهدوء :

_ نحن لا ندفع بالاطفال طوال الوقت للقتال سلمى، بعض النظر عن طفولتي والتي كانت استثناءً على كل ذلك، لكننا نكون حريصين على حصول الصبي قبل انضمامه للجيش على دراسة ينتفع وينفع بها .

صمت يشرد في حياته :

_ رغم أنني قضيت نصف عمري في القتال والحروب إلا أنني لم اترك شغفي يبهت ودرست الطب وكنت أسهر ليالي طويلة على كتب الاعشاب والطب بالأعشاب وغيرها، ودرست الطب لفترة طويلة من حياتي، وقد كان هذا السبب الرئيسي لقربي من نزار قديمًا وقد كان يشاركني نفس الشغف ونستشير بعضنا البعض في أمور كثيرة، قبل أن....تنحصر حياتي في أمور المملكة وغيرها من الشؤون فأضطررت للتخلى عن شيء لافسح المجال لشعبي في حياتي، بالطبع لن اتخلى عن القتال، وبالتالي تخليت عن الطب .

كانت سلمى تراقبه وهي متسعة الأعين، تشعر أنها لا تعلم عن أرسلان شيئًا تهمس دون وعي :

_ أنت طبيب ؟؟ 

_ كنت .

_ لكنك ....لكنك لم ....حينما أُصبت كان يمكنك ...كان يمكنك علاجي ورغم ذلك تلجأ لطبيب آخر و...هل تمزح أرسلان؟!

نظر لها أرسلان بملامح غير مفهومة وأبى أخبارها أنه لا يحب معالجه من يخصه خوفًا من ارتجاف يده واذيته، وأنه طوال الوقت كان يساعد في تطبيب جراح الجيش ويقف جنبًا إلى جنب مع زيان يعالج هذا وذاك، لكنه يومًا لم يفكر في التجرأ والاقتراب من جروح من يخصه فهو لا يتحمل أن يدخل مشاعره في العلاج فيضعف وقد سبق وتلقى ضربة حينما فشل في علاج والده قديمًا، ويعلم أنها إرادة الله فوق كل شيء لكنه لم يتخطى بعد .

لذا اختار الكذب للمرة هذه المرة وهو يجيب ببساطة يخفيها أسفل نظرات توتره من تعري حقيقته التي دفنها أمام زوجته .

_ هذا لأنني نسيت هذه الأمور تقريبًا.

ابتسمت له بسمة تخبره أنها لم تصدقه تجذب وجهه بين كفيها وهي تهمس بإصرار :

_ قد ينسى الإنسان من يحب وقد ينسى نفسه حتى، لكنه لا ينسى شغفه أرسلان، حتى وإن نسى ....

حركت كفها تلتقط كفه تتحسسها بحب :

_ يدك لن تنسى ما تعلمته يومًا .

نظر لها أرسلان ثواني قبل أن يبعد عيونه عنها :

- دعينا من هذا الأمر و....

_ لا أرسلان ليس دعينا أنت لا يمكنك ترك حلمك بهذه البساطة، يمكنك ....يمكنك الدراسة لفترة واسترجاع ما تعلمته وتمارس شغفك في أوقات كثيرة، لا تدفن ما تحب فتبهت أرسلان ارجوك، هل يمكنك أن تحقق لي هذا الطلب الصغير ؟! 

نظر لها ولعيونها وللرجاء القابع في عيونها، لكنه تنفس بصوت مرتفع يحاول الابتعاد عن هذا الحديث، ولا يعلم السبب لكنه لم يكن مرتاحًا للتحدث في شيء توجع لغلقه قديمًا .

_ هيا لترتاحي عزيزتي فلدينا الكثير لنجهزه لزفافنا سلمى .

ختم حديثه يجذب كفها خلفه وهي تسير تدرك أن زوجها يحتاج للكثير والكثير من المحاولات ليتجاوز ما تخلى عنه، ليعود لصورته الكاملة في طفولته، وهي تقسم أنها لن يهنأ لها بال إلا حينما تعيده لما كان عليه يومًا قبل أن تجرفه تيارات الحياة بعيدًا عن مراسيه....
ـــــــــــــــــــــــــــــــ

_ أين كنتِ نازين ؟!

شهقت نازين بصوت مرتفع وهي تضع يدها على صدرها برعب بعدما سمعت صوت مفاجئ في الغرفة التي دخلتها للتو، استدارت صوب الصوت لتبصر زيان يقف في منتصف الغرفة يحمل بين يديه كعكة كبيرة مغطاة بالفواكه التي كانت تلطخ وجهه وثوبه وحوله بعض الزهور والشموع وقد كانت هذه فكرة الملكة لمساعدته في خلق جو رومانسي يحتفل به مع زوجته بذكرى زواجهما ..

_ ما الذي ...ما الذي تفعله في الظلام أنت ؟؟ لقد كدت توقف قلبي زيان ما بك ؟؟ 

رمش زيان بعدم فهم وهو يتحرك صوبها يتحدث بضيق بعض الشيء :

_ لقد كنت انتظرك لأجل مفاجئتك .

_ مفاجئتي ؟؟ لقد كدت توقف ضربات قلبي منذ ثواني و....ثم ما هذا الذي تحمله أنت وما الذي فعلته بنفسك ؟! زيان لقد لطخت ثوبك بشكل صعب .

نظر زيان صوب ثوبه :

_ حسنًا هذا كان بسبب العنب لقد أكثرت منه .

نظرت له نازين ومازالت لا تفهم وللتو فقط انتبهت للشموع والزهور حولها :

_ ما هذا ؟؟ زيان هذا ...

صمتت وهي تحاول أن تستوعب ما يحدث في المكان قبل أن تسمع صوت زيان يردد بسعادة وهو يشير حوله بحماس شديد :

_ هذه ذكرى زواجنا عزيزتي لقد اعددت كل شيء بنفسي حتى قالب الحلوى .

حركت نازين عيونها صوب الحلوى لتبصر شكلها المزري وكأن زيان صنعها باستخدام قدمه، ومن ثم حركت عيونها على هيئته المزرية التي توحي بمقدار ما مر به في سبيل اعداد شيء ليسعدها، وهي لم تحرمه من بسمة واسعة تهتف بصوت سعيد وعيون لامعة :

_ يا ويلي زيان ما هذا الجمال عزيزي، سلمت يمناك يا قلبي.

اقتربت منه تنتزع منه الحلوى تضعها جانبًا تدعو الله أن ينساها في خضم الاجواء الشاعرية هذه تقترب منه تضم وجهه بين يديها تمسح لطخات العنب عن وجهه :

_ زيان هل كنت تصنع الحلوى بوجهك؟! 

ابتسم زيان لها وهو يتحدث بحماس شديد :

_ تذوقت البعض، هيا تعالي لتبصري هديتي .

سحبها بسرعة صوب الخزانة الخاصة بملابسها، وهو يقربها له بحنان يدفعها أمامه يتحدث بسعادة كبيرة :

_ افتحيها.

نظرت له بعدم فهم قبل أن تفتح الخزانة تحاول فهم ما يحدث، وقبل أن تعبر عن حيرتها بأي كلمات كانت شهقتها تسبقها وهي تتراجع للخلف بصدمة كبيرة تنظر صوب زيان لا تصدق ما تبصرة تحدق فيه بعدم فهم .

_ هذا ...زيان هذا ...هذا ....

صمتت وقد كانت الكلمات صعبة عليها وزيان ابتسم يراقب باستمتاع نظراتها الملتمعة وصوتها قديمًا قبل زفافهم يرن في أذنه حتى الآن.

" فستان الزفاف ليس سيئًا، لكنني تخيلت فستان أشد روعة من هذا زيان، مثلًا فستان ابيض مطرز بالزهور كالاميرات والاساطير، تخيل أن افعلها وأكون الأولى التي تزف بالورود وترتدي الورود ؟!"

سقطت دموع نازين وهي تركض للفستان بسرعة تضمه لها تراقب الزهور التي تملئه بشكل بديع، تتحرك يدها عليها بأعين ملتمعة لا تصدق ما تبصر، فستان زفاف كما ...تخيلت، بعد كل تلك السنوات من زفافها تنال حلمها .

استدارت صوب زيان الذي كان يتمتع بذلك المشهد وقبل أن يعي ما يحدث سمع صرخة سعيدة منها وهي تندفع صوبه بشكل جنوني أدى لسقوطه بقوة ارضًا لتعلو صرخات أخرى في المكان مختلفة تمامًا عن صرختها السعيدة .

ونازين تلك المسكينة التي كانت تحيا حلمًا متأخرًا كانت تصرخ سعادة وهي تنكب على زيان تقبل وجهه بفرحة كبيرة تضمه بحب :

_ لقد فعلتها زيان، فعلتها، كيف ....كيف فعلت هذا ؟!

اغمض عيونه بقوة وهو يكتم تأوهه بصعوبة، وقبل حتى فتح عيونه والتحدث سمع همستها التقريرية :

_ هل هي الملكة ؟! لا بد أنها هي، فهي من تستطيع صنع مشغولات بالزهور، لقد رأيتها تصنع تاجًا لفاطمة وكذلك باقة زهور لبعض النساء، ذكرني أن اشكرها .

_ يا ابنتي أنتِ إن لم ترحمي فقرات ظهري وتنهضي من فوقي الآن، سأكون أنا ذاتي ذكرى لكِ، ابتعدي نازين سأموت .

انتفضت نازين من فوقه حينما استوعب ما حدث فجأة تعدل من ثوبها وهي تراقبه ينهض يتمسك بظهره، تنتظر أن يستقر ويهدأ تضم يديها لصدرها بحماس شديد وحينما أبصرت أنه أخيرًا نهض وأصبح بخير _ حسب ما ترى هي _ :

_ إذن سأذهب لارتدائه والعودة للمكان، وأنت تخلص من قالب الحلوى هذا ريثما اعود .

ختمت حديثها تنطلق صوب الخزانة تحمل الفستان لأحضانها تركض صوب المرحاض تاركة إياه يراقبها باستنكار ويده ما تزال تمسك ظهره وكأنه يخشى سقوطه ارضًا :

_ مهلًا هذا كان جارحًا، لقد هربت من العمل لساعتين مبكرًا فقط لعمل هذا القالب الذي تريدين التخلص منه .

_  لو أنك قضيت الساعتين في الاستغفار لكان خير لك عزيزي .

نظر زيان صوب باب المرحاض المغلق بحنق شديد وغضب أكبر، قبل أن يتلاشى كل هذا وهو يضحك بخفوت سعيد بل يكاد يطير من السعادة أن روح زوجته قد عادت وأخيرًا .

تنفس بصوت وهو يدرك أن كل ذلك لم يحدث إلا حينما شفت صدرها من ذلك الوسخ قبل تسليمه للملك بارق .......

" زيان توقف عن هذا، تمالك نفسك ما بك ؟؟ منذ متى وأنت بهذا التهور ؟؟ دع التهور للمعتصم واحتفظ بتعقلك"

اتسعت عيون المعتصم والذي كان يمسك يد زيان يمنعه من الاندفاع صوب السجن لقتل أنمار، وأرسلان يقف أمامه يلقنه دروس في كيفية التحكم بغضبه وهو غاب عن هذه الدروس من الأساس .

زفر أرسلان وهو يمسح وجهه ينظر صوب طريق السجن وقد انتهى الجميع مما يريد من أنمار يفكر في زيان والذي جاءه يومًا يخبره أن قصاصه من أنمار سيأخذه ولو على جثته .

" ما الذي تريده أنت زيان ؟؟ تريد قتل الرجل لتصغرني أمام الملك بارق بعدما تعهدت له أن يتسلمه قطعة واحدة ها ؟؟"

وزيان الذي لم يذكر شيئًا عن تقطيع أنمار كان يراقب ما يقول أرسلان بملامح بلهاء وكأن أرسلان يعبر عن رغبته التي يرغب برؤيتها :

" اسمعني جيدًا لأنني لا احب هذه التصرفات الغبية المتهورة في مملكتي، أنت ستدخل هذا السجن تفعل به ما تشاء على أن تحتفظ به قطعة واحدة " 

نظر له المعتصم بصدمة وهو يفلت زيان بعدم وعي، وصدمة زيان لم تكن تقل عن صدمة المعتصم، لكن المعتصم تجاوز سريعًا وهو يدرك أن أرسلان ليس ذلك الرجل الذي تتوقع منه تهدئة أو تعقل أو حكم قد تساعد في إطفاء نيران غضبك، وقد جرب ذلك بنفسه حين حرضه على إلياس العزيز الذي يقبع الآن في سجن طويل لن ينتهي قريبًا داخل اسوء سجون مشكى.

أرسلان كان من ذلك النوع الذي يحب مساعدة من حوله في إطفاء نيرانهم وهو في الأساس بركان ثائر .

تنفس زيان بصوت مرتفع وهو ينظر صوب أرسلان ثواني قبل أن يسحب أرسلان المعتصم بعيدًا عن طريق زيان يتحدث بجدية :

" تعالى هنا يا بني دع الولد يعتمد على نفسه، دعه يستعيد ذكريات الجيش وقد تيبست عضلات جسده من طحن الأعشاب، هيا زيان هي فرصة واحدة لتشفي صدرك وصدر زوجتك، خذ قصاصك يا اخي واذهب لتسعد قلب زوجتك "

نظر له زيان ثواني قبل أن ينطلق بالمدفعية لا يبصر أمامه سوى ضباب، سوى دمار منزله، جثث أبناءه، قبورهم، تعذيب زوجته لكل هذا الوقت، لا يبصر سوى قصاصًا له ..

راقبه أرسلان ببسمة صغيرة وهو يشفي صدور من حوله واحدًا تلو الآخر، الآن زيان ومن ثم جميع النساء اللواتي نجين من الجحر والله ليجعلهن يبصرن اذلالًا لأنمار لا يتبعه إذلال...

_ كيف أبدو ؟؟ 

رفع زيان عيونه ببطء وقد خرج من شروده على اجمل المناظر التي يقسم أنه يستطيع أن يقضي حياته بالكامل يتأملها .

تنفس بصعوبة وهو يراقب مظهر نازين أمامه مبتسمًا بسمة صغيرة لا تعبر عن نصف مشاعره، يتحرك صوبها ببطء وشفتيه ترتجف وكأنه لا يجد أي كلمة تعبر عما يكتم لها من مشاعر .

تأوه وهو يهمس باسمها :

_ نازين يا ويلي تبدين ....ساحرة حبيبتي، كنتِ ومازلتِ والله يشهد عليّ أن عيني هذه لم تبصر من النساء من ينافسك بهاءً، هذا إن أبصرت نساء غيرك في هذا العالم .

سقطت دموع نازين وهي تتحرك صوبه راكضة وهذه المرة تعلم زيان من خطأ المرة السابقة، وقد استعد ولم يكن الامر على حين غفلة، يتلقفها بين أحضانه يدور بها بسعادة وهي تضم رقبته بحب تهمس جوار أذنه : 

_ ألا أن الحياة خارج أحضانك جحيمًا زيان .

_ والحياة بين أحضانك فردوسًا نازين .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

أطلق المعتصم صرخة مرتفعة تداركها فورًا وهو يضع يده على فمه بسرعة قبل أن تصل صرخته للجنود بالقرب منهم، يحرك عيونه برعب وصدمة يحدق بالسيف المستقر في الجدار جواره على بعد شعرة واحدة بعدما ألقته فاطمة عليه بغرض عرض مهارتها في تقطيعه دون ترك أي أثر لجرمها .

ابتلع ريقه وهو يبعد عيونه عن السيف بصعوبة يحدق بعيون  فاطمة التي لم تكن تناسب ما تفعله، تلك النظرات البريئة المستكينة كيف ...كيف كادت تقطع رأسه للتو ؟؟ كيف فعلتها ؟؟ 

_ هل نجحت ؟! هل كنت جيدة ؟!

_ في التخلص مني ؟؟ نعم كنت أكثر من جيدة، فاطمة كدتي تقطعين اذني للتو .

نظرت له بعدم فهم وهي تقترب منه تدقق النظر بأذنه:

- ما تزال في مكانها .

_ هذا بفضل الله ورضاكِ علينا عزيزتي .

ابتسمت له ولم تلتقط سخريته، وهي تجذب السيف مرة ثانية بحماس شديد تتحرك لمنتصف الساحة التي كان يعلمها بها القتال منذ أيام موفيًا بوعده الذي قطعه عليها .

_ إذن هل نكمل ؟؟

_ نكمل ماذا ؟!

_ قتال .

_ فاطمة هل تستغلين أنني أخشى اذيتك لتقطعيني ؟!

_ لا أريد تقطيعك يا المعتصم أريد فقط أن اصبح ماهرة .

_ أنتِ بهذه الطريقة ستصبحين جزارة حبيبتي وليس ماهرة .

نظرت له بحزن ليتنهد بصوت مرتفع وهو يرفع سيفه بهدوء يحرك في الهواء يحاول أن يذكر نفسه أنه سبق وعلم الكثيرين غيرها، لماذا الأمر صعب هذه المرة بهذا الشكل ؟!

ونعم الإجابة كانت لأنه الآن يعامل زوجته وعالمه الذي مجرد خدش به سيحيل سنوات عمره لجحيم، وليس رجل خشن يريد أن يجعله جامدًا يتحمل الحروب والقتال ومجرد خدش لن يعني له الكثير.

_ ارفعي سيفك هيا .

اتسعت بسمة فاطمة بقوة وهي ترفع سيفها تقلده بمهارة شديدة، وهو يراقبها ببسمة يراها وقد كانت طالبة نجيبة، تحرك صوبها يوجه ضربه جانبية لتصدها بمهارة فتتسع بسمة المعتصم .

يضربها ضربة لليمين وأخرى لليسار بحركات بطيئة وقد كان اليوم يعلمها كيفية تحديد من أين تأتيها الضربة حسب نظرتها ليد العدو .

وبمجرد أن تأكد أنها تلتقط الحركات بسرعة ابتسم يخبرها بهدوء يتجهز بجدية وقد علت نظراته شيء من التحفز وكأنه يراقب عدوًا يتمختر أمامه :

_ إذن بما أننا انهينا الجزء التعليمي، لنبدأ بالجزء التطبيقي .

وقبل أن تعي فاطمة ما يقصد كان المعتصم يرفع سيفه بقوة يهبط به صوبها في ضربة ارتجفت فاطمة وهي تصدها بسرعة وقد كانت صدتها تلك ردة فعل من جسدها في الأساس لا تعي هي بها .

حركت عيونها بعيدًا عن السيفين وهي تنظر في وجه المعتصم بأعين متسعة قبل أن تلقي السيف ارضًا وقد امتلئت عيونها دموعًا وهو يراقبها بعدم فهم، لتنظر له بلوم وعتاب غير مفهوم تتحرك بعيدًا عنه بسرعة بعدما ألقت في وجهه كلماتها الأخيرة :

_ كدت تقتلني يا المعتصم .

نظر المعتصم السيف بين كفه بصدمة وهو يحدق في أثرها، يقتلها ؟؟ لقد كان حريصًا ألا يقترب منها السيف بشكل كبير حتى، وهي كادت تجز عنقه منذ ثواني والآن هي من تركض باكية ؟!

تحرك بسرعة بعدها وهو يبحث عنها يزفر بضيق وقد تأكد من سوء الفكرة، تأكد من أن فكرة تدريب زوجته كان اسوء الأفكار التي خرج بها عقله على الاطلاق، ليته ما تحدث ولا نطق بهذه الكلمات يومًا .

وصل للغرفة الخاصة به يفتحها بسرعة بحثًا عنها، لكن فجأة وجد نفسه عاجزًا عن ذلك بعدما اكتشفت أنها مغلقة من الداخل .

_ ماذا ؟؟ فاطمة ؟! افتحي الباب .

_ غادر من هنا يا المعتصم، لا ارغب في الجلوس معك الآن، ليس بعدما حاولت التخلص مني منذ قليل .

تشنجت ملامح المعتصم بقوة وهو يشعر بالبلاهة، ينظر حوله بحثًا عن أحد يراقب ما يحدث له، ليطمئن أن لا أحد.

يقترب من الباب يهمس بصوت متيقن أنه وصل لها خلف الباب مباشرة حيث تجلس .

_ افتحي هذا الباب فاطمة وتوقفي عن كل ما تفعلينه هذا يا امرأة...

نظرت فاطمة للباب من الجانب الآخر، تجلس على الفراش بهدوء وهي تراقب الباب بتجبر غريب عليها، وقد بدا أن القطة الصغيرة خرج لها اظافر .

فجأة انتفضت عن الفراش وهي تسمع صوت ضربة قوية على الباب والمعتصم يردد بغضب :

_ حسنًا لا تفتحي الباب ابقي طوال الوقت وحدك بالداخل .

اتسعت عيون فاطمة بصدمة وخوفه، وهي تنتفض عن الفراش تفتح الباب بسرعة قبل رحيله تتحدث بلطف وهي تنظر له بأعين حزينة :

_ ستتركني وحدي هنا يالمعتصم ؟؟ 

توقفت اقدام المعتصم وهو ينظر لها بتعب، ومن ثم تحرك صوبها يجذبها من ثوبها كما لو أنه أمسك بلص يدخلها الغرفة، ومن ثم اغلق خلفها يتحرك صوب الخزانة وهو ما يزال يجذبها بنفس الطريقة وهي تسير معه تتابعه دون كلمة .

والمعتصم يخرج لها ثوبًا مريح يخلع عنها الحجاب، ومن ثم يفك لها فستانها ويساعدها في ارتداء ثوب النوم، يتحرك هو للأنتهاء كذلك من ثوبه ومن ثم عاد وجذبها من ثوبها بنفس الطريقة يلقي بها على الفراش وتبع جسده بها، يجذبها لاحضانه ومن ثم رفع الغطاء فوقهما يربت عليها مقبلًا رأسها بحنان :

_ هيا نامي عزيزتي انتهي اليوم ...

نظرت له فاطمة لا تفهم ما يحدث، لكنها رغم ذلك كانت تشعر بالإرهاق والنعاس واحضان المعتصم كانت أكثر من محفز لذلك، لذا سقطت في النوم مبتسمة براحة، والمعتصم يراقبها بحب وقد أبصر على مدار الأيام السابقة تحسنًا واضحًا في حالتها ...

تنفس بعمق وهو يغمض عيونه بسعادة وراحة :

_ وأخيرًا ....

ــــــــــــــــــــــــــــــ

_ كيف حال عشبتي عسى أجواء أبى تليق بكِ ومناسبة لنموك .

أبعدت توبة عيونها عن النافذة تستدير مبتسمة بسمة واسعة تستقبل بها نزار بعدما استدعاه الملك في أمر خاص بالمملكة، تتحرك صوبه تردد ببسمة واسعة :

_ المكان جميل كثيرًا نزار، لقد أبصرت للتو بحيرة لامعة في الأسفل، هل يمكننا الذهاب للجلوس عندها بعض الوقت ؟؟

نظر لها بحنان وهو يهز رأسه موافقًا :

_ طالما أنكِ طلبتي بهذا اللطف ...

فرد كفه أمامه بكل رقي وهدوء داعيًا إياها لتسبقه وهي راقبته ببسمة ترفع طرف ثوبها تميل له بلطف، ومن ثم تحركت صوبه ليتمسك بكفها وهو يصحبها معه في جولة مسائية بعدما خلت الطرقات من قاطني القصر .

وهي تسير معه تستمتع بالهدوء والليل .

وحينما وصلوا بعد دقائق للبحيرة جلست توبة على أطرافها تحدق بالمياه بأعين غائمة وهي تبتسم بسمة غريبة يتباعها هو دون أن يقاطع شرودها، ودقائق تلتها أخرى، ونزار اكتفى بها حياة في هذه اللحظة وفي كل لحظة .

وبعد صمت طويل أفاقت توبة وهي تبصر نظراته لها تبتسم بسمة صغيرة :

_ ماذا ؟؟

_ هل نسيتني ؟؟ أراكِ وقد شردتي بالبحيرة عني .

_ بل ناجيتها عنك .

نظر لها بعدم فهم لتمسك كفه تجذبها لحضنها وهي تميل عليه تشير صوب البحيرة بهدوء مبتسمة. :

_ في الجزء الخلفي لقصر سبز كانت هناك بحيرة صغيرة اعتدت الجلوس جوارها لكتابة مذكراتي في مجلد صغير، مجلد سجلت به كيف أريد أن يكون زوجي في المستقبل .

ابتسمت وهي تنظر له :

_ غريب أنني كنت بهذا الغباء ولم ابصرك من قبل نزار .

نظر في عمق عيونها يطيل النظر حتى شعر أن ثانية أخرى للنظر في عيونها تفصله عن النجاة أو الغرق في تأملها، لذا ابتسم بسمة صغيرة يتحدث بجدية :

_ وهل تراكِ ذكرتي اسمي في كتابك ؟؟

_ تريد الحقيقة ؟؟ لم أفعل سوى مرات معدودة حينما كنت اذكر ذلك الطفل الذي أراد أن يتزوجني فقط لأجل خصلات شعري اللامعة .

نظر لها نزار ثواني وكأن ما قيل محي من رأسه ليبتسم فجأة حينما ضربت ذكرى شبه بعيدة عقله .

_ وقد حققت رغبتي عزيزتي وها أنتِ ذا بشعرك اللامع زوجتي وبين أحضاني، لكنني مازلت حانق على ذلك الكتاب الذي ضم اسمك ولم يفعل باسمي .

_ لا تحنق عزيزي، فإن لم يكن اسمك ضمن محتويات كتابي فتأكد أنه عنوان الكتاب الآن .

اتسعت بسمة نزار بقوة وهو يشعر بالراحة يضمها صوبه يهتف لها بصوت رقيق حنون :

_ منذ تلك اللحظة التي نبض بها قلبي لكِ للمرة الأولى، علمت أنني ظفرت من الحياة بكِ توبة، ما دونك دون عزيزتي ...

التمعت عيون توبة وهي تردد بكل ذرة صدق وعشق داخلها وقد أدركت منذ فترة طويلة تلك الحقيقة :

_ أنت نزار كنت الأول في كل شيء، كل شيء واعنيها، وطأت داخل صدري اماكن لم يصل لها غيرك و....

_ لن أسمح أن يحدث على أية حال .

ضمها بلطف يجذبها وهو يشرد معها بنجوم الليل التي تنعكس بالبحيرة أمام عيونهم، وقد انتهى كل ما يؤرقهم في هذه الحياة .

_ أخبرتني أنك ستذهب غدًا لزيارة الوليد .

هز رأسه يقبلها بلطف :

_ نعم قصرت معه ولم أزره لثلاثة أيام بسبب انشغالي في الوقت الأخير، لكن لا بأس غدًا أراضيه .

_ هل يمكنك المجئ معك؟!

_ إذا أردتِ، فلا بأس.

_ نعم أريد..

صمتت وصمت هو حتى تحدث بصوت منخفض وهو لا يود سحبها من هذه الأجواء الهادئة صوب تلك النقطة من الحديث، لكنه مجبر .

_ قبل قليل أخبرني والدي أن....حكم الاعدام في حق أنمار سيُنفذ فجر الغد، تريدين الذهاب لسبز لرؤ....

_ لا، لا أريد أن أفعل.

قاطعته دون أن تبعد عيونها عن البحيرة أمامها وهي تبصر آخر لقاء معه حين جاء من مشكى لسبز مكبلًا يلفظ أنفاسه الأخيرة قبل أن يعالجونه للحكم عليه .

_ لقد تخطيت هذا الجزء من حياتي ووعدتك المرة السابقة أنها ستكون المرة الأخيرة التي أسمح لنفسي فيها بالتفكير في هذا الخسيس وكل ما يتعلق به، لم أعد اهتم بأي شيء يخصه حتى لو كان انتقامًا، نلت انتقامي بما حدث له، ونلت مكافئتي بزواجي منك .

وعم صمت آخر من بعد كلماتها وهي تضم نفسها لنزار رافضة حتى تذكر تلك اللحظات التي تحولت بها وكادت تقطع وجه أنمار بأظافرها وهي تصرخ بأنه قتل طفلها، ولولا وجود نزار في ذلك الوقت لكانت قطعته أشلاء بلا مبالغة، أو انهارت ارضًا كالجثة .

جملتها ما تزال ترن بعقل نزار وهي تصرخ بروح مذبوحة .

" ما الذي فعله لك، كان صغيرًا...كان طفلًا، كان ولدك أيها الخسيس، لا سامحك الله، لعنة الله عليكم أيها الشيطان، والله لأخذن حقه منك أمام الله يا وسخ "

ومن بعد انهيارها طلبت من الجميع ألا يتحدث أحدهم عنه أمامها.

كان لها ما تريد، وكان لنزار ما يريد ....

نزار الذي أبى مغادرة سبز مع زوجته قبل أن يأخذ من أنمار ما يرغب به .

"إذن أين هو ؟؟" 

رفع له أنمار عيونه وهو لا يرى بها بشكل جيد بسبب تضخم مرعب بها يحاول التنفس بشكل طبيعي لكن يبدو أن الكسور التي أصابت ضلوعه حالت ما دون ذلك .

" لا أعلم من تقصد وحتى إن علمت تعتقد أنني قد ابوح لك بشيء تريده ؟؟ "

ابتسم له نزار بسمة صغيرة وهو يتحرك يجلس أمامه بهدوء يراقبه بأعين ضيقة جعلت أنمار يدرك أنه جاء ليكمل وصل التعذيب التي يتلقاها على يد كل من يبصره .

" لا تحاول صدقني فضرباتك لن تكون اسوء مما نلت بالفعل ."

وبسمة نزار لم تتزحزح أو تختفي أو حتى تتلاشى لثانية واحد، بل ظل ينظر له بهدوء شديد وهو يدس يده داخل جيوبه:

" أنا لا استخدم قوى الجسد أنمار، فقوى العقل يؤلم أكثر عزيزي ."

ختم حديثه وهو يتساءل بجدية وعيون أنمار تتحرك على يده بريبة وحزر، لكن نزار لم يهتم وهو يكمل كلماته بنبرة مخيفة :

"أين هو جثمان محمد ؟؟ "

رفع له أنمار عيونه بعدم إدراك وكأنه لا يفقه عمن يتحدث، وقد بدا أن كثرة عدد ضحاياه أنسته من يتحدث عنه أنمار لذا تحدث وهو لا يفهم ما يريد :

" عزيزي قتلت الكثيرين بهذا الاسم، أي واحد تقصد ا....."

قطع كلماته صرخة جنونية هزت جدران السجن، بل وربما القصر بأكمله حينما شعر أن قطعة جمر مشتعلة التصقت جلده المصاب، ولم يكن ذلك سوى الاعشاب المطحونة التي أخرجها نزار وسكبها على قدمه بغضب صارخًا :

_ محـــــــمـــــد ولـــــــــدك أيها الوســــخ، أين جثمان الفتى ؟؟

بكى أنمار بوجع وقد شعر في هذه اللحظة أن كل لحظات المه السابقة لا تساوي لحظة واحدة من ذلك الوجع الجحيمي الذي يشعر به يحاول فرك قدمه لإبعاد الاعشاب عنه :

_ هذا .....أوقفه....أوقفه هذا ....

_ نعم هذا ...هذا ما سيملئ جسدك خلال ثواني يأكله، حتى عظامك ستذوب إن لم تتحدث بمكان جثمانه .

عض أنمار شفتيه بوجع مريع وقد شعر أنه سيفقد أنفاسه خلال ثواني بسبب الوجع، لم يكن يعترض على الموت وهو سيناله على أية حال، لكن بهذه الطريقة التي سمع عنها كثيرًا ولم يجربها، كانت اسوء موتة قد يحظى بها سجين يومًا ..

" ميتة مشكى" كما أطلق عليها البعض، بعض الأعشاب التي يطحنها أرسلان ولا يعلم بها غيره، توضع على الجرح كفيلة بإعطاء السجين أبشع وجعٍ قد يحظى به رجل يومًا، وأرسلان لم يكن يمنح أحدهم سر هذا المسحوق خوفًا أن يستخدم بشكل خاطئ، وهو لم يكن يستخدمه إلا في حالات نادرة لاستخراج الاعترافات من مجرمين خطيرين حول خطط المنبوذين قديمًا، وربما لهذا كان يفلح طوال الوقت في دك كل حصن اختبئوا به، حتى أصبح كابوسًا قديمًا لهم، وأول هدف في قائمتهم .

_ أنا أنتظر ....

_ أوقفه ..فقط أوقفه .

_ سيتوقف حين تتحدث بما أريد.

تساقطت دموع أنمار بقوة وهو يرفض الحديث يشعر بروحه ستخرج، لن يريحهم، سيتركهم بقلوب محترقة بهذا الشكل ولن يريح أحد بموته، لكن وقبل أن يعاند فيما يريد صرخ صرخة شقت صدره وكاد يلفظ بها روحه خارج جسده حينما نثر نزار المزيد من الاعشاب على باقي جروح يده ليصرخ دون قدرة على التنفس :

_ بحيرة .....بحيرة سبز الجنوبية ...جوار البحيرة الجنوبية عند الشجرة العملاقة، أسفلها...دفنته أسفلها.

كان يصرخ وهو يبكي ويصرخ بصوت مرتفع :

_ والآن أوقفه ...أوقفه أرجوك.

نهض نزار ينظر له بهدوء، ومن ثم نظر للأعشاب بيده يتحدث بهدوء :

_ تعلم أن أرسلان لا يمنح هذه الأعشاب لأيٍ كان؟ يبدو أنك غالٍ عند الرجل كثيرًا .

توقف عن الحديث ومن ثم ابتسم بسمة واسعة :

_ واستغلالًا لكرمه واستخسارًا لباقي الاعشاب، أنا مضطر لهذا ..

ختم حديثه وقبل أن يتجرأ أنمار على التساؤل عما يتحدث عنه كانت باقي الاعشاب تتناثر على أجزاء جسده بالكامل ونزار يبتسم له بسمة سوداء يتذكر كل ما فعله بتوبة وولدها وما فعله ببارق، يراقبه يتلوى من الألم لينفض ثيابه بهدوء ويخرج من المكان يشير للحارس أمام الباب :

_ دعه هكذا عشر دقائق ومن ثم أوقف الأمر.

ومن بعدها تحرك في طريقه للبحيرة الجنوبية لأنتشار باقي رفات محمد ودفنه وتكريمه جوار ملوك وأمراء سبز ....

_ بالمناسبة لم تأتني الفرصة لشكرك بالشكل اللازم .

انزل نزار عيونه صوب توبة التي كانت تحدق فيه ببسمة صغيرة وحب، ليبتسم هو لها بسمة مشابهه :

_ هذا لأنك لا تحتاجين لشكري على أي شيء فكل ما أفعله معكِ، اقل من واجبي نحوكِ عزيزتي .

تنفست توبة بصوت مرتفع وهي تضمه بقوة تهمس بعشق :

_ لماذا لا يكون كل العالم نزار ؟؟

_ لأنه ليس كل العالم توبة .....

ــــــــــــــــــــــــــ

_ حسنًا زوجك مجنون وانا لا أصدق أنه رضي عني مؤخرًا ولم يعد يطالبهم بتعذيبي في التدريبات لذا لا .

_ هذا يعني أنك تتخلى عني لود صحيح ؟!

فكر خالد ثواني ودارت افكار عدة داخل رأسه وكأنه يبحث عن تعريف آخر أو كلمة أخرى يصف بها ما سيفعل، صفة لا تظهره بهذه القذارة، شيء يحسن من موقفه أمام أخته وفي النهاية تنهد يقول ببساطة :

_ نعم اتخلى عنكِ عزيزتي، إذا أردتي الرحيل من هنا افعليها وحدكِ، يمكنك أخذ موزي معكِ إن أردتِ فهو لا يحب زوجك على أية حال .

ختم حديثه يشير صوب موزي الذي كان يجلس على حافة الفراش يتناول الكثير من الفاكهة باستمتاع قبل أن يبصر إصبع خالد موجه له وكذلك الأنظار ليعتقد أن الهدف من هذا الإنتباه هو سلب فاكهته، لذا أصدر صرخة معترضة حانقة يتحرك صوب النافذة وهو يضم بين أحضانه الفاكهة بكل حب .

وخالد ابتسم يهز رأسه ببساطة :

_ أو ربما لا، هذا يوصلنا لنتيجة نهائية، أما أن تتوقفي عن حماقتك وتنزعي فكرة ترك القصر هذا قبل الزواج، أو تذهبي وحدكِ، وفي كل الحالات لا تتأخري فالزفاف بعد يومين وأبي سيصل قبل الزفاف بيوم .

هزت رأسها وهي تشعر بنيران داخل صدرها مما يحدث، طلبها كان بسيطًا ولم تبالغ فيما تريد، تريد أن يزفها أرسلان من منزل عمها، وهو يرفض خروجها من القصر وابتعادها عن عيونه .

_ حسنًا إذن أنت من اختار .

تحركت عن الفراش وهي تحمل حقيبتها تتحرك للخارج، لكن فجأة توقفت وهي تحمل بعض الفاكهة المتناثرة في المكان تضرب بها موزي الذي أطلق صرخة فزعة، ومن ثم تحركت صوب خالد تلقيه بقطعة تفاح شبه ممضوغة بواسطة موزي سابقًا .

_ تبًا لكما سويًا .

خرجت من الغرفة غاضبة وهي تأكل الأرض أسفلها تتوعد لمن يقف في وجهها هذه المرة، الأمر في البداية كان مجرد فكرة، لكنها تحولت من بعدها لاصرار بسبب عناد أرسلان، تحداها وتقسم أن تجعله يندم .

_ إلى أين جلالة الملكة بهذه الحقيبة ؟؟

توقفت أقدامها وهي تبتسم ببرود مستديرة صوب أرسلان الذي كان يتحرك مع بعض رجاله في الممرات تتحدث ببساطة :

_ سأرحل عن هنا مولاي حتى وقت الزفاف، سأذهب لمنزل عمي كما اتفقنا .

اقترب منها أرسلان وهو ينظر لعيونها الظاهرة من اللثام :

_ أوه نعم اتفقنا؟؟ أحب رؤيتك تفعلين بالمناسبة .

_ هل تتحداني ؟!

_ لا أفعل

ابتسمت بتكبر وهي تتراجع برأسها تنظر له من علياها ولم تكد تنبث بكلمة واحدة تخبره أنه لن يستطيع حتى وإن أراد، فليست هي من ترضخ لأوامر من احدهم. 

لكن فجأة وهي تحلق في السماء بكل تكبر أطلق عليها هو سهمًا أطاح بها ارضًا وهو يبتسم ببساطة موضحًا :

_ أن اتحداكِ هذا يعني اعتراف صريح مني أنكِ ترتقين للمستوى الذي يؤهلك لتجابهيني، وأنا لن امنحك مثل هذا الشرف يا امرأة .

اتسعت عيون سلمى تهتف ببسمة مصدومة من طريقته وقد شعرت فجأة أنها تكلم النسخة التي قابلتها أول مرة لتنطق دون شعور : 

_ هل تمزح معي ؟!

_  في العادة لا امزح مع النساء إلا من يخصني منهن، وبما أنكِ كذلك، فلا لا أفعل في الحقيقة الآن .

ختم حديثه يتحرك من أمامها بكل بساطة وببسمة مستفزة يشير للجنود كي يلحقوا به وهو يكمل حديثه كما لو لم تكن موجودة :

_ إذن كما قلت سابقًا سوف ننتشر في ....

قاطعته هي مجددًا تتحدث في منتصف الممر وهي تقف بكل قوة وغضب من تجاهله لها :

_ شاكرة للطفك على موافقتك مولاي، عمي سيقدر هذا اللطف حقًا .

توقف عن سيره قبل أن يزفر بضيق وملل يشير لها بعدما مسح وجهه بغيظ :

_اذهبي لغرفتك سيدتي ودعيني انتهي من عملي .

_ لن أذهب لغرفتي، بل سأرحل من هنا .

هز رأسه دون اهتمام وهو يعود للحديث مع الجنود :

_ حسنًا، لكن لا تتأخري فلن نؤخر موعد العشاء لاجلك مرة أخرى .

ختم حديثه يتحرك بهدوء تحت أعين الجنود المصدومين منه، وقد على صوت أحدهم بتردد شديد لتدخله :

_ مولاي لقد....لقد تحركت الملكة بالفعل صوب بوابة القصر، ماذا إن رحلت ؟؟

توقف في سيره ينظر له ببسمة صوب ذلك الجندي يجيب ببساطة كبيرة كسابق حديثه :

_ ستكون المحاولة الرابعة والعشرين التي تفشل فيها لهذا الاسبوع، دعها تتمهم خمسة وعشرين.

أنهى حديثه يكمل عمله، بينما هي تحركت بالفعل صوب البوابة الخاصة بالقصر تتمسك بالحقيبة تردد كلمات عديدة غاضبة ولم تكد تبلغ البوابة حتى سمعت صوتًا في الخلف يناديها .

_ جلالة الملكة .

توقفت خطوات سلمى وهي تستدير ببطء صوب المتحدث والتي كان إحدى الفتيات اللواتي يقطن أسفل قصر مشكى لمساعدتهن في تخطي ما حدث .

تقدمت منها الفتاة تمسك بين يديها طفلها الصغير والذي تحرك صوب سلمى ببسمة واسعة يحمل زهرة جميلة اللون يهديها لها بحب شديد :

_ هذه لكِ مولاتي .

اتسعت بسمة سلمى بقوة وهي تنظر للصغير ومن ثم نظرة صوب حور وهي تداعب خصلات العزيز " عابد " تجلس أمامه تتلقف منه الزهرة وهي تبتسم له بحب شديد :

_ العزيز عابد، لو كان جميع الرجال بمثل لطفك ورقيك هذا لما عانت امرأة يومًا، محظوظة زوجتك عزيزي .

اتسعت بسمة عابد بقوة يخفي وجهه بخجل في قدم حور التي ضحكت وهي تضم رأسه لها بحب :

_ لا أعتقد أن عابد سيفعل ويخونك جلالة الملكة فهو وفي لكِ، أخبرني أن أطلب منكِ انتظاره لحين يكبر وهو سيتزوجك .

تشنجت ملامح أرسلان الذي كان يتحرك صوبهما يتأكد أنها لم تغادر بجدية هذه المرة، ليتجمد مكانه مما سمع، الفتى الصغير يتغزل بزوجته ويقدم لها زهورًا ويطالبها أن تنتظره لتصبح زوجته ؟!

_ حقًا الآن سينافسني طفل على زوجتي ؟؟ 

تحرك صوبهم وهو يهتف بجدية ونبرة هادئة يبعد عيونه عن حور بعدما ألقى السلام عليهم :

_ هل اقاطع شيئًا هامًا ؟!

ابتسمت حور تجيب باحترام شديد وهي تخفض عيونها ارضًا تحدق بعابد الذي ما يزال يناظر سلمى بإعجاب بعدما تعلق بها طوال فترة علاجه .

_ لا فقط عابد أراد اهداء الملكة زهرة والقاء التحية عليها .

ابتسم أرسلان بلطف وهو يراقب عابد بلطف ظاهري يمد كفه ليداعب خصلاته، ودون أن ينتبه أحدهم دفعه بخفة للخلف وهو يردد ببسمة :

_ لطيف هذا العابد .

انحنى على ركبتيه أمام عابد يتحدث ببسمة مريبة :

_ شكرًا لاسعادك زوجتي عابد، اقدر لك هذا، وعرفانًا بجميلك هذا، سأخصص لك مكانًا بالصفوف الأولى يوم زفافي بالملكة عزيزي .

كان يتحدث بنبرة جهلت حور ما يقبع خلفها وظنتها لطيفة مهتمة، لكن سلمى والتي تعلم زوجها جيدًا اتسعت عيونها تبتسم بعدم تصديق وهي تمد يدها بسرعة تجذب أرسلان لينهض ويبتعد عن الفتى وهي تردد :

_ اه صحيح، هذا عابد العزيز بالطبع سيكون أول الحاضرين ...

_ لزفافنا ...نعم سيكون أول الحضور بالطبع .

نظر له عابد وهو يخفي وجهه في قدم حور التي ابتسمت تستأذن بالرحيل وهي تجذبه بعيدًا عن الجميع وأرسلان ما يزال يوجه نظرات محذرة له جعلته يهرول أمام حور .

_ يا ويلي أرسلان ألا يوجد كائن حي ترحمه من نظراتك تلك، لقد اخفت الصغير للتو .

_ هذا الصغير قدم لكِ زهور منذ ثواني يطالبك بانتظاره ليتزوجك .

تحدث سلمى وهي لا تصدق ما يتحدث به :

_ هذا طفل أرسلان.

_ ذكر، طفل ذكر أي رجل مستقبلًا .

_ لا حالتك هذه خطيرة اقسم بالله أن عقلك هذا ليس طبيعيًا .

تحدث وهي تتحرك بعيدًا عنه وقبل أن تخطو خطوة واحدة في المكان أمسك بها بسرعة يبتسم وقد علم أنه وصل بها لحافة صبرها يضحك بملء فاهه :

_ إذن ما لكِ لا تشفقين عليّ جلالتك وتعالجيني، اعتبريني أحد مرضاكِ عزيزتي .

نظرت له بعدم فهم ليهمس لها بحب :

_ سلمى اشفقي عليّ وتوقفي عن اللعب على أوتار صبري فأنا لست من ذلك النوع، واجاهد لأكون لأجلك .

تنهدت سلمى بصوت مرتفع :

_ هذا كثير أرسلان، موزي والطفل .

_ تعلمين أنني امزح صحيح ؟!

_ لقد اخفت الطفل .

- اقسم أنني سأراضيه، لا أريد أن يخافني الاطفال، فقط ترفقي أنتِ بي .

تنهدت بصوت مرتفع وهي تنظر له تتحدث بقلة حيلة تهز رأسها له :

_ ما المطلوب مني جلالة الملك ...

_ أن تنسى كل شيء وتستعدي لزفافنا بعد يومين عزيزتي، يومين سلمى، يومين فقط ويدرك كل انسان وطفل وقرد في هذه المملكة أنك ملكية خاصة لرجلٍ واحد فقط وهذا الرجل هو " أرسلان بيجان " .....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

" موكــــــــب سفــــــيـــد افتحــــوا الابـــــــــواب "

فُتحت أبواب مشكى بسرعة ليتحرك للداخل موكب كبير يضم جميع رجال ونساء سفيد بلا استثناء، فبعيدًا عن علاقة النسب التي تربط المملكتين، إلا أن علاقة أرسلان لرجال سفيد كانت أعمق من مجرد صداقة، كانت علاقة إخوة نشأت منذ الطفولة .

والآن ذلك الطفل الذي أحب أن يلعب دور الشرير في جميع القصص ويتحمل كل اللوم عن الجميع، فقط كي لا يحزن أحد، الطفل الذي كان يجذبك دون إرادتك حتى لتصبح رفيقًا له طالما أنه أحبك، اليوم هذا الطفل والذي نضج وأصبح رجل حرب ذو بأس وتجبر، اليوم يتزوج هذا الرجل .

اليوم يتزوج أرسلان بيجان ....

الخبر الذي جعل مشكى أشبه بساحة احتفال ضخمة، طوال الطريق صوب القصر أبصر الجميع موائد تُفرش في الطرقات وزينة معلقة على الابواب وأنوار تُنشر في الأجواء، اليوم كان كما لو أنه احتفال وطني لجميع قاطني مشكى .

ابتسم إيفان يهبط عن حصانه ليكون أول من يستقبل أرسلان بالاحضان والسعادة كادت تتسبب في خروج أجنحة له، يجذب أرسلان بقوة لأحضانه بسعادة كبيرة يردد بنبرة مبتهجة :

_ مبــــــــارك يا أخي، عسى الله يرزقك بسعادة العالم أجمع، والله لا أصدق ما ابصره، اليوم وزعت على سكان سفيد بأكملهم هدايا احتفالًا بهذا الحدث العظيم النادر .

أطلق أرسلان ضحكة مرتفعة وهو يضم له إيفان بحب شديد يربت على ظهره :

_ لا حرمني الله هذه اليد ولا وجودك إيفان، لا أراني بك سوءًا .

ابتسم إيفان براحة وهو يبتعد عنه تاركًا إياه يرحب بالباقيين، لينظر أرسلان صوب سالار الذي كان يقف جانبًا يراقبهم ببسمة سعيدة يرقيهم من كل عين ابصرتهم، أبصر أرسلان وهو يفتح له ذراعيه مرددًا بحب :

_ ألن تبارك لي يا قائد ؟!

تحرك سالار صوبه وهو يجذبه بقوة صوب أحضانه يربت عليه بسعادة غامرة، مطمئنًا وأخيرًا أن أرسلان لم يعد وحيدًا، أرسلان وجد له عائلة، عادت حياة أرسلان أفضل مما سبق .

_ مبارك عزيزي، الممالك أجمع تحتفل لأجلك أخبرني الملك آزار أن نزار يوزع الحلوى في آبى على الجميع احتفالًا بزفافك، يرد لك وليمة زفافه .

أطلق أرسلان ضحكات صاخبة وهو يهتف بجدية :

_ اقترح جعل يوم زفافي عيد وطني في جميع الممالك، لا أظن أن هناك مناسبة تفوق زفافي أهمية لتكون عيدًا للجميع .

حرك إيفان كتفه بهدوء مبتسمًا :

_ والله لا تُرد لك كلمة يا أخي، فقط ارسل لي كل عام بعض الأموال واقيم لك احتفالات لذكرى زفافك في ربوع سفيد .

_ حقير مادي.

ضحك إيفان بقوة ولم يكد يتحدث حتى سمع صوت من الخلف يردد :

_ هل سأبقى في الأعلى كثيرًا جلالة الملك .

التمعت عيون أرسلان يتجاوز الجميع بسرعة كبيرة صوب كهرمان التي أخرجت رأسها من العربة وهي تهمس :

_ كيف حال عريسنا ؟! 

_ يموت شوقًا لكِ حبيبتي .

ختم حديثه وهو يمد يده بسرعة يمسكها من خصرها وهو يساعدها لتهبط بحنان شديد، وبمجرد أن مست الأرض مالت برأسها تمسك طرف فستانها ولم تكد تمنحه تحية، حتى أمسك أرسلان يدها بسرعة يمنعها من الأمر يضمها لصدره :

_ لا تفعلي حبيبتي، العالم هو من ينحني لأجلك جوهرتي، اشتقت لكِ منذ آخر مرة أخذك ذلك اللص إيفان من هنا .

ابتسمت له كهرمان وهي تستمع بأحضان أخيها وقد شعرت بقلبها يرفرف من السعادة لدرجة كادت تبكي كالام التي تبصر بعيونها زفاف ولدها الحبيب ..

_ رحلنا اثنين وعدنا ثلاثة، اتمنى ألا تمانع في وجود ضيف اضافي في حفلك أخي.

وأرسلان لثواني لم يفهم وقد ظن أنها تتحدث عن إحضار ضيف معهم :

_ ما الذي تتحدثين عنه كهرمان، هذا منزلك تحضرين من تشاءين اخرج منه وتبقين وضيوفك عزيزتي، سأرسل لتجهيز غرفة له و....

قطعت كهرمان كلماته وهي تتحدث ببسمة تتوسط وجهها الباكي تمسك يده وهي تتحدث بصوت ضعيف من بين ضحكتها :

_ لا أخي لا تتعب نفسه هو لا يحتاج لغرفة إضافية، ربما في المستقبل نعم، سيحب صغيري أن يحصل على غرفة لطيفة جوار غرفة خاله .

_ حسنًا لا بأس إن كان هــــ...

فجأة تجمد أرسلان وهو يراقب كهرمان أمامه بصدمة لا يبصر وجهها بسبب الغطاء فلم يتبين إن كان ما تتحدث به حقيقة، هل فهم بشكل صحيح ؟؟

نظر صوب إيفان بوجه شاحب ليهز له إيفان رأسه رغم أنه لم يسمع الحوار بسبب تحدث كهرمان بصوت منخفض لكنه فهم من ملامح أرسلان.

أما عن أرسلان فأطلق صوتًا مصدومًا تبعه صرخة وهو يهتف بعدم تصديق وقد التمعت عيونه بدموع لا يصدق ما يسمع :

_ هل ....هل ...يا ويلي ...هل ....كهرمان سأكون خالًا ؟؟ 

كان قلب أرسلان يرتجف بقوة وهو يراقب شقيقته التي بكت بسعادة وهي تضم وجهه بين يديه ليجذبها أرسلان بقوة صوب صدره وهو يحمد ربه وقد كان جسده بأكمله يرتجف بسعادة، يشعر أنه امتلك العالم في هذه اللحظة وكأن طفله هو القادم، وفي الواقع لا يعتقد أن طفل صغيرته سيختلف عن طفله .

أبعدها عنه بسعادة وهو يهتف بصوت مرتجف :

_ سأذهب ...سأذهب لاخبر سلمى بهذا، سوف ...تسعد كثيرًا .

ختم كلماته وهو يهرول بسرعة يشير لجنوده بوجه باسم سعيد :

_ تيم أرشد الرجال صوب الغرف وتأكد أن لا شيء ينقصهم، سوف اعود بسرعة، سوف اعود ...

هرول بين الممرات بسعادة كبيرة ولا يستوعب ما يحدث، هو حتى لا يدرك ما يفعل، فهو بمجرد أن علم أول شخص فكر أن يشاركه سعادته كان سلمى .

وصل لغرفتها وفتحها بسرعة ولهفة شديدة وهو يصرخ باسمها:

_ سليمى...سليمى.

انتفضت سلمى والتي كانت تراقب الملابس أمامها تضع يدها على قلبها وهي تنظر له بعدم فهم :

_ أرسلان ما الذي.......

فجأة اتسعت عيونها وصرخت برعب وهي تراه يرفعها عن الأرض يدور بها بسعادة ويصرخ بعدم تصديق :

_ سأصبح خالًا سلمى ...سأصبح خالًا، كهرمان ...هي حامل ...لقد أخبرتني للتو يا ويلي جسدي يرتجف سعادة .

اشرق وجه سلمى ببسمة واسعة وهي تضم وجهه بين يديها تميل عليه تقبله :

_ مبارك لك حبيبي، ستكون اجمل واروع والطف خال في هذه الحياة، سعيدة كثيرًا لأجل كهرمان .

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

وصلت قوافل آبى وسبز للساحة ليكون أرسلان في استقبال الجميع، يرحب بهم بالاحضان، وقد كان أول من يهرول له هو نزار الذي عانقه بقوة .

_ لا حق لأحد أن يقيم زفاف بعد زفافك أرسلان .

أطلق أرسلان ضحكة مرتفعة :

_ أنرت مشكى أخي، أقدر ترك عش زوجيتك بعد اسبوع لحضور زفافي .

_ ماذا افعل وحقير هنا رفض أن يتحلى ببعض الصبر ريثما تنتهي أيام زفافي .

_ فقط احمد ربك أن ترتيبات ما افعل استغرقت اسبوعًا وإلا كنت أقمت زفافي بعدك بساعة .

تحرك صوب بارق وآزار يفتح أحضانه وهو يردد بسعادة :

_ عجائز الممالك المقربين لقلبي، ألا حلت البركة على مشكى بوجودكم ..

انكمشت ملامح بارق وآزار بغيظ خاصة بارق الذي كان ينظر له كما لو أنه عدو في هذه اللحظة ليطلق أرسلان ضحكة مرتفعة وهو يجذب بارق لاحضانه:

_ أنسى أيها العجوز ولا تدع سواد القلب يحيل بيني وبينك .

ابتسم له بارق وهو يبارك له وكذلك آزار الذي ربت عليه وهو يهمس :

_ مبارك لك زواجك بني، استعد لتعلم أن كلمة امرأة أشد حدة من السيف.

ختم كلماته وهو يبتعد عنه يغمز له ببسمة، ليضيق له أرسلان عيونه وقبل التحدث بكلمة وجد المعتصم يقترب منه ببسمة واسعة وهو يردد بحماس شديد واضح على وجهه :

_ جلالة الملك عليك رؤية هذا .

نظر له أرسلان بعدم فهم وقبل أن يتحدث بكلمة كان المعتصم يهتف بصوت جهوري مرتفع ملئ بالحماس :

_ افتـــــــحوا الابــــــــــواب .

في اللحظة نفسها خرج الجميع للساحة يبصرون ما يحدث بعدما ارسل لهم المعتصم .

وكذلك جميع النساء وقفن في الشرفات يراقبن ما يحدث بعدم فهم .

رددت تبارك وهي تراقب ما يحدث في الاسفل :

_ هل هذا مهر سلمى !!

نظرت لها سلمى بعدم معرفة وهي تحرك كتفها بجهل.

راقب الجميع البوابات التي بدأت تُفتح لتكشف خلفها عن جمع غفير من شعب مشكى يحملون الزهور والكثير من الصناديق المغلفة بأوراق ملونة، يقفون باكثر ثيابهم تألقًا وافواه مبتسمة وبمجرد أن فُتح الباب أخذ الجميع يهتف باسم الملك أرسلان ويدعون له بالكثير من الدعوات ..

وأرسلان الذي لم يكن يفهم ما يحدث نظر حوله للمعتصم الذي ابتسم بسمة واسعة :

_ أصر شعب مشكى على أن يباركوا لك بأنفسهم، الشعب بأكمله كبار وأطفال وشباب، نساء ورجال الجميع هنا، فرصة رائعة ليحتل أحدهم مشكى ...

ختم حديثه بمزاح وأرسلان لا يعي ما يحدث فقط نطق بأنشداه :

_ لماذا ؟؟ 

_ لماذا هذا ما سيخبرونك به هم، أنا فقط ساعدتهم لترتيب وصولهم حتى بوابة القصر .

رفع أرسلان عيونه صوب شعبه وهو يراقبهم وذكرى بعيدة ترن بأذنه " ارحل"، نفس الموقف ونفس المكان، مع وجوه مختلة وبسمات متناثرة وكلمات أخرى رنانة جعلت صدر أرسلان يرتجف وهو يسمع أحدهم يهتف بصوت جهوري .

" أطــــــال الله بعمـــــــر الملك أرسلان، الملك الاعظم في تاريخ مشكى بأكملها" 

ومن بعد كلمته ضجت " آمين" بينهم، وأرسلان يراقبهم بعدم تصديق وعيونه امتلئت دموعًا وقد شعر أن....حياته لم تكن عبثًا، أنه حتى وإن قصر يومًا فهو أدى أمانته أمام الله وأمام الجميع .

نظر صوب المعتصم بأعين ملتمعة من الدموع التي أبى أن تهبط أمام الجميع، ثم عاد بنظراته للجميع وهو يبصرهم كلٌ يحمل ما استطاع من هدايا، وأرسلان فقط يراقبهم ببسمة ممتنة .

وفجأة من بين الجمع تحدث شيخ مشكى ذلك الرجل ذو النبرة الهادئة، الرجل الذي لم يتراخى يومًا ولم يسقط بعدما فقد عائلته واحدًا تلو الآخر، وآخرهم حفيده وعكازه في هذه الحياة .

_ أنا يا مولاي عشت في مشكى سنوات وعقود طويلة، عاصرت بها الكثيرين من الملوك، وأبي عاصر أجدادك وكان يقص لي حكايات عن الأسرة الحاكمة، عاصرت جدك ووالدك وأخيرًا أنت، وأقسم بالله وليشهد الله  على كل كلمة انطقها، ما رزق الله مشكى خير منك ليحكمنا، الله يا مولاي ارسلك رحمة لنا وبنا، الحياة ضاقت علينا والله برحمته ارسلك سببًا للفرج، أنا شيخ ولم يتبقى لي في هذه الحياة الكثير لأقلق بشأنه، والله أراد لي الموت مرتاحًا أن شعب مشكى في مأمن من غدر الحياة طالما أنك تحكمنا.

مال أرسلان يمسك كف الشيخ يقبله باحترام :

_ أطال الله بعمرك يا عم .

ربت الشيخ على رأس أرسلان الذي استقام يسمع صوت الشيخ يردد بهدوء :

_ لذا نحن قررنا جميعًا ألا يذكر تاريخ ولا كتاب اسمك إلا ورافقه " أعظم ملوك مشكى " ليمنحك الأمر جزء من حقك يا ولدي .......

ارتجف أرسلان من الكلمة وهو يرفع عيونه للشعب الذي أخذ يهتف بإسمه بصوت مرتفع، وهو فقط يقف بينهم لا يصدق ما يبصر، يقف بينهم ولم يكن حتى يرتدي معطفه الملكي أو غيره، كان بثوب من اللون الابيض عادي، بدا وكأنه جزء من الشعب ..

وهكذا كان طوال الوقت، أرسلان الذي سلب الحكم من والده بالقوة لأجل شعب مشكى، ها هو اليوم يحصد ما زرع قديمًا، حب شعبه وتقديره .

كانت لحظة واحدة اغمض بها أرسلان عيونه بسلام يتنفس وأخيرًا براحة وهو يهتف داخل نفسه :

_ فاللهم إني أشهدك أني أديت رسالتي، فأعني على ما تبقى منها حتى تقبض روحي .

فتح عيونه يبتسم لهم بسعادة كبيرة يتنفس بصوت مرتفع  :

_ شعب مشكى الحبيب، اليوم جميع أفراد الشعب مدعوون لزفافي، الجميع لساحة القلعة، ووالله لن أقبل عذرًا لأحدِ، ستشاركونني سعادتي، ومن يرفض أن يشرفني ببقاءه، فسجون مشكى موجودة ليقضي بها ليلته .

ختم حديثه ليطلق إيفان ضحكة صاخبة وهو ينظر لسالار المتشنج جواره مما يفعل أرسلان :

_ يجبرهم على أن يكونوا ضيوفه، هذا الرجل لا يعلم معنى السلام .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والاحتفالات عند النساء كانت تختلف عن الجميع، إذ أجلس الجميع سلمى في المنتصف وبدأوا ينتشرون حولها منهم من يضع بعض الخلطات على شعرها، والبعض يساعدها في تعطير جسدها بالزهور .

وكهرمان تدور بين الجميع بنشاط وسعادة وهي تتأكد أن كل شيء جاهز للزفاف وفرحتها بأخيها انستها الإرهاق الذي تعاني منه منذ أيام طويلة..

ربما تؤجل كل ذلك حينما ترى إيفان فتخبره أنها متعبة، وفي الحقيقة إيفان لا يقصر منذ علم خبر حملها، بمجرد أن سمع الخبر كاد يبكي سعادة وهو يدور في القصر يصرخ أن يوزعوا الهدايا على الجميع فرحة بها .

أما عن زمرد فكانت تجلس في أحد الأركان وهي تقلب الفساتين بين أناملها تختار لنفسها واحدًا مع برلنت التي قالت :

_ فساتين من هذه زمرد، متى احضرتي كل هذا ؟؟ 

ابتسمت زمرد بسخرية :

_ كل هذا ماذا يا ابنتي هذه كلها فساتين العروس اشترتهم، سوف ابحث عن واحد مناسب منهم فأنا أحب هذه الفساتين الخاصة بمشكى .

راقبتها برلنت بصدمة ..

في اللحظة التي أعلن الحارس في الخارج أن كسوة العروس وصلت ..

نظرت سلمى صوب كهرمان بعدم فهم تنتظر منها أن تخبرها ما يحدث، لكن كهرمان كانت مشغولة وهي تتحرك صوب البوابة تبلغ النساء بتغطية وجوههن..

وبالفعل بدأ الجميع يغطي الوجوه وتحركت كهرمان مع ديلارا و امرأتين للباب يأخذن ما احضر الملك من كسوة الزوجة، وقد كانت فتحة الباب صغيرة بالكاد تسمع بمرور الصناديق الصغيرة، أخذت ترصها جوار الباب، ومن ثم أغلقته وهي تتحرك صوب سلمى تشير لها ببسمة :

_ هيا سلمى تعالي لتبصري ما احضر لكِ أخي.

رمشت سلمى بعدم فهم :

- أخوكِ فعل ماذا ؟؟

_ أحضر لكِ كسوة العروس، هذه إحدى طقوس الزواج هنا في مشكى العريس ملزم بإحضار الكسوة وفستان العرس .

نظرت سلمى صوب فاطمة بتعجب :

_ لكن ...لم ...فاطمة لم أرى ذلك في زفافها .

ابتسمت فاطمة وهي تجيبها ببساطة :

_ المعتصم ارسلهم لي قبل الزفاف بأيام.

أضافت كهرمان وهي تزيح غلاف الصناديق :

_ نعم تأخر أخي بسبب فستان الزفاف، أوصى عليه خصيصًا لأجلك .

ختمت حديثها وهي تخرج فستان من اللون الاخضر المرصع بقطع صغيرة لامعة كالألماس يضيق حتى الخصر ومن ثم يتسع للأقدام، شهقت سلمى بانهبار وهي تراقب الفستان، حتى كهرمان نفسها لم تكن تستوعب ما ترى وشكت للحظات أن من احضر هذه الثياب هو شقيقها .

_ أرسلان هو ...من احضر لي هذا ؟؟

_ لا أعلم حقيقة .

كانت تلك إجابة كهرمان لتتحرك لها سلمى تتلقف الفستان بين أناملها بعدم تصديق وبسمة واسعة ارتسمت على فمها .

_ هذا رائع للغاية، هذا ...

فجأة توقفت وهي تبصر زمرد تمسك ذيل الفستان تضيق عيونها بتفكير ومن ثم أشارت لبرلنت التي كانت ما تزال تنتقي فستان لزمرد بأمر من الأخيرة :

_ حسنًا برلنت لا ترهقي نفسك لقد وجدت الفستان الذي سأرتديه للزفاف .

ختمت حديثها وهي تنتزع الفستان من بين أنامل سلمى التي كانت ما تزال يدها معلقة في الهواء وكأنها تحمل الفستان، تراقب ما تفعل زمرد وهي تردد بحنق :

_ لماذا كل ثيابك بهذا الطول هل أصاب زوجك العمى يا ترى ؟؟

وقبل إضافة كلمة أخرى كانت سلمى تنتزع منها الفستان بقوة وهي تضمه لصدرها بحماية أم لطفلها :

_ هذا فستاني أنا...ملكي، أحضره لي زوجي، اذهبي وجدي لكِ واحدًا، ثم أوليست ثيابي حمقاء غبية لا تعجبك .

_ نعم هذه حقيقة لم اغيرها، لكن هذا اعجبني لأنه ليس ذوقك ربما .

ولم تكد تتلمسه لتستفز سلمى، لتضمه الأخيرة وهي تصرخ راكضة به صوب المرحاض تهتف بصوت رج المكان :

- أبدًا هذا فستاني أنا وحدي .

أغلقت الباب خلفها بقوة لتطلق زمرد ضحكات مستمتعة على ما تفعل وهي تراقب الجميع ينظر لها بقلة حيلة من أفعالها لتردد بعدم فهم :

_ ماذا ؟!

_ لن تتغيري زمرد، هيا ساعدنني يا فتيات في تجهيز الحذاء المناسب والحجاب والغطاء، تبقى القليل قبل أن يأتي أخي ليأخذ العروس ...

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ساعات قليلة حتى كان أرسلان يتحرك صوب غرفة زوجته وهو يشعر بضربات تسابقه صوب بابها يشعر بقلبه سيتوقف وجواره أنورين وجلال الذي حضر لأجل الزفاف .

لكن كان أول من اقترب من باب الغرفة هو خالد والذي تعهدت له سلمى أن يكون هو من يزفها، فلا شخص عاش معها وعلمها بقدر أخيها الحبيب خالد، خالد الذي أصبح رجل آخر رغم احتفاظه بجزء صغير من لود القديم إلا أنها تفتخر أن الكثير من صفاته الغبية بدأت تتلاشى .

طرق خالد الباب يستأذن بهدوء قبل أن يُفتح الباب ويتحرك للداخل يبصر أخته تقف في منتصف الغرفة ليتنفس بعنف وهو يرتدي بذلة سوداء راقية للغاية وعلى كتفه موزي يرتدي بذلة نفس الشكل وقد أوصى بها خالد والده في رسالته قبل أسابيع له والتي ارسلها مع صامد وصمود في رحلتهما الأخيرة لعالمه...

تنفس وهو يردد بانبهار :

_ انظر يا موزي سول الحبيبة كبرت وأصبحت أكثر النساء روعة وجمالًا، وأكثر عروس مبهرة في هذه الحياة .

مسح دمعة كادت تهبط منه وهو يتحرك صوبها يمد يده لها يردد بصوت مختنق من التأثر:

_ شكرًا لانكِ منحتني هذه اللحظة الرائعة سلمى ...

_ لا أحد يستحقها سواك خالد .

ختمت حديثها وهي ترفع يدها تربت على خده بحنان لينهار خالد باكيًا وهو يضمها له بحب شديد :

_ مبارك حبيبتي مبارك سلمى، أنا اليوم أكثر رجال الأرض سعادة، واكثرهم حظًا بكِ، والله لا أتخيل أنني كنت لأعيش حياة تخلو منك .

_ لا تقلق عزيزي فأنا لا اخطط لتركك ترحل، سأزوجك حور لتثبت جذورك بمشكى وتبقى جواري .

ضحك خالد من بين ضحكاته:

_ فقط ليني قلبها تجاهي هي وابن شقيقتها، والله لن تجد في هذه المملكة رجل بمثل وسامتي وأناقتي، اخبريها أنني اوصيت أبي وأحضر لي بذلة الزفاف .

ضحكت سلمى وهي تراه يبتعد يمسح دموعه، ومن ثم مد يده لها يردد ببسمة واسعة :

_ لنتحرك إذن قبل أن يقتحم زوجك المكان ويحطمه فوق رؤوس الجميع .

ابتسمت له تنزل غطاء الوجه وهي تتحرك مع خالد للخارج وخلفها الجميع يراقب ببسمة وتبارك دون شعور اطلقت زغرودة مرتفعة بسعادة كبيرة .

وزمرد تتابع ما يحدث ببسمة واسعة، وكهرمان ركضت بسرعة كي تبصر وجه أخيها وتشهد معه هذه اللحظة ..

وأرسلان كان يقف مع الرجال في الخارج يحاول تمالك نفسه، قبل أن يسمع صوت خلفه يستدير ببطء، ليحبس أنفاسه دون شعور منه حين أبصرها تتحرك ببطء مع خالد صوبه، تراجع الباقيين للخلف تاركين له الفرصة ليستقبل زوجته .

ابتسم وهو يراها تقترب منه خطوة تلو الأخرى، يقسم أن هذه الثواني كانت عمرًا له، تنفس بصوت مرتفع أخيرًا وكأنه يلتقط أولى أنفاسه خارج محيطٍ غرق به لأيام .

يمد يده لها ينتظر الشعور بملمس كفها بين كفه القوي، وبمجرد أن شعر بها بين كفيه ضغط عليه بقوة رغم لينه، وهو يقربها منها ببطء ينظر لها وكأنها الشيء الوحيد في المكان وفي الحقيقة قد كانت له.

مد يده يرفع غطاء الوجه ببطء يكشف عن وجهها يبصر اجمل شيء ابصره في حياته، ويقسم بالله أنه لن يبصر افضل من هذا المشهد يومًا .

ابتسم بسمة وهو يتنفس بصعوبة، وهي فقط تنتظر أي ردة فعل له قبل أن ترفع عيونها له تهمس ببسمة ممازحة :

_ أراك وقد صمت الآن مولاي، هل تفكر في التراجع؟؟ صدقني بمجرد أن تخطو لهذه الحياة فلا فرار لك مني، أجبني طالما مازلت امتلك قلبي وتمتلك روحك .

ابتسم أرسلان وهو يخرج شيء من ثوبه والذي تميز باللون الاسود مع ثوب علوي من اللون الابيض المختلط بالاسود ...

يمسك كفها يضع به خنجره وهو يبتسم لها بسمة واسعة يفتح الخنجر وهو ما يزال بكفها، يوجهه صوب صدره يهمس بعشق :

_ فقط امنحيني قلبكِ، أو خذي روحي .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قَد كُنتُ غَريبًا أَبحَثُ عن وَطَنٍ، وَكانَت غَريبَةً مِثلِي.. وَالتَقَينا؛ فَأنِستُ بِها أُنسَ الغَريبِ بِالغَريبِ.

-المَنَفلُوطِي.

دمتم سالمين .
رحمة نبيل .

  •تابع الفصل التالي "رواية اسد مشكي" اضغط على اسم الرواية 

تعليقات