رواية لم يبقى لنا الا الوداع الفصل الثالث 3 - بقلم منى احمد

 رواية لم يبقى لنا الا الوداع الفصل الثالث 3 - بقلم منى احمد

(3) خذلان.

مع مرور الأيام انهمكت منار في مذاكرتها واشتد تمسكها بحلمها لتسير على درب أمجد، خاصة بعد اختلاف الوضع معها فمنذ وافقت على شروطه وهو يهاتفها ليلًا ولكنه وعلى خلاف عادته لا يطيل حديثه ويمضي معظمه بحثه لها على المذاكرة، ولِدهشتها لم يطلب منها ولو لمرة مقابلتها فَأزعجها الأمر ويومًا بعد يوم ازدادت ريبتها وظنونها وَنهشتها الغيرة كلما أتى على ذكر ليان فقررت المجازفة وَهاتفته على غير عادتها وسألته مباشرة قائلة:
- أمجد أنا عايزة أعرف أنت ليه مبقتش تطلب تشوفني زي الأول؟

بوغت بسؤالها ومع محاصرتها له لم يستطع التهرب فطلب منها مقابلته أعلى سطح البناية، استجابت منار لطلبه وتسللت لأعلى بعدما طمأنت نفسها بنوم الجميع، خطت منار بحذر ففاجأها أمجد بجذبه إياها واضعًا كفه فوق شفتيها ودفعها نحو إحدى الزوايا البعيدة عن العين ووقف يحدق بملامحها التي اشتاق إليها كثيرًا ولاحق تسارع أنفاسها التي نافست أنفاسه سرعة، بينما حاولت منار تهدئة روعها وهربت بعينيها منه وازدردت لعابها، فابعد أمجد يده عن ثغرها ومس ذقنها ورفع وجهها ونظر بعينها وأردف:
- عايزة تعرفي ليه بطلت أقولك نتقابل؟

أومأت منار بحرج ونظرت باتجاه أخر هربًا من نظراته فأمرها بالنظر إليه وهو يضع يدها فوق قلبه وأضاف:
- أول سبب حاولت اقنع نفسي بيه أني مشغول بمشاريع الكلية والمذاكرة علشان الامتحانات اللي قربت، لكن لو عايزة الحق فَأهم سبب هو أني حطيت نفسي مكانك وفكرت بدماغك فساعتها فهمت ليه مينفعش أكون معاكِ لوحدي؟ أولًا علشان لو حد شافك معايا هيتكلم والكلام هيوصل لعم شُهدي وطبعًا وقتها هَيعاند ويرفض ارتباطنا، ثانيًا خوفي من نفسي عليكِ لأضعف لما أشوفك زي ما أنا حاسس دلوقتي بضعفي وأنتِ واقفة قصادي وحاسس بأنفاسك وبقلبك اللي هَيجري من جواكِ من الخوف، عرفتي بقى ليه بطلت أشوفك؟

أحست منار أنها غرقت حد الثمالة بعشقه وودت لو تقفز من فرط سعادتها لِتفهمه سبب ترددها وخوفها، ولكن سرعان ما تلاشت فرحتها بتذكرها ليان فعقدت حاجبيها وسألته بغيرة:
- هي مين ليان دي يا أمجد؟

كان يعلم بأنها ستسأله عنها لا محالة لهذا رتب أفكاره وإجاباته فأجابها مُبتسمًا:
- ليان تبقى زميلتي فالكلية من فترة طلب مني دكتور عوض مني إني أضمها لفريقي فاستغربت ولما عرفت أنها بنت دكتور كبير وله مكانة ونفوذ، وقتها افتكرت إنها استغلت مركز والدها لكن بعد كده فهمت أنها كانت مع فريق زميل تاني معروف إن أسلوب تعامله مع البنات مش كويس وإنه تقريبًا تطاول عليها فطلبت تتنقل ودكتور عوض هو اللي قالها عليا.

تفهمت موقفه واوصته بالحذر في التعامل معها فابتسم لِبرائتها وأدرك من حُمرة وجنتها أنها تعاتب نفسها لريبتها به وأحس بالنشوة حين احنت رأسها واعتذرت لظنها السيئ به، فاقترب منها حد الالتصاق وقبل أن يميل بوجهه نحوها فوجئ بوالدها يتطلع إليهم بعيون مُتسعة من هول الصدمة وران ببصره إليها وحدق بها بحسرة، فانتفضت منار وشحب وجهها فَأسوأ كوابيسها تجسد نصب عينيها، لينتشلها من صدمتها قول شقيقتها هالة:
- شوفت يا بابا أهي الهانم اللي حضرتك فاكرها نايمة طلعت بِتغفلك وبتقابل الأستاذ من ورا ضهرك فوق السطوح ومش عاملة حساب لسمعتك ولا سمعتنا.

ودت منار لو تنشق الأرض وتبتلعها وانهمرت دموعها بعجز ولم تتحمل رؤية انكساره بسببها وفرت من أمامه، في حين واصلت هالة بخ سمومها فلوح أمجد بإصبعه أمام وجهها وحذرها قائلًا:
- ممكن تخرسي مش خلاص ولعتيها اتفضلي بقى انزلي وسيبيني اصطفل مع عمي لحالنا.

وقفت هالة ترمقه بحقد واستدارت نحو والدها وأردفت:
- بابا حضرتك سامع كلامه و...

أصاب شُهدي النفور منها فهي لم تكف عن الحديث منذ اقتحمت غرفته وايقظته وأخبرته بما تُخفيه منار عنه وزلزلت كيانه بإطلاعه على مكانها فتبعها وهو يبتهل إلى الله أن تكون كلماتها مجرد ظنون فارغة، ولكنه الآن وبعد صدمته لم يعد يطيق سماعها فطلب منها مغادرة المكان بغضب، فوقفت هالة تحدق به بدهشة وأسرعت إلى الأسفل حين رمقها أمجد بنظرة تحذيرية أخيرة وتابعها حتى اختفت وزفر بقوة وتطلع نحو شُهدي بحرج فهو لم يضع في حسبانه أن تكون المواجهة بينهما هكذا وخشى أن يتعنت معه ويثأر لكرامته ويرفض طلبه فَزم شفتيه وأردف:
- أنا عارف إن حضرتك شايفني أسوأ بني آدم عرفته وناكر للجميل وفاكرني بتسلى بمنار.

رفع شُهدي عينه ونظر إلى وجهه وود لو يصفعه لخيانته الأمانة ولكنه تراجع وأردف بما في نفسه:
- للأسف أنا مش شايف غير الخذلان وخيبة الأمل فِبنتي اللي وثقت فيها وأديتها الحرية والآخر ضربتني في ضهري وغدرت بيا.

هز أمجد رأسه بالنفي وسارع بقوله:
- لا يا عم شُهدي منار معملتش حاجة تخزيك ولو على طلوعها هنا فأنا اللي طلبت منها تطلع علشان أقدر أقنعها توافق تخليني أقابلك وأطلب أيدها منك.

اتسعت عينا شُهدي وحدق به بدهشة وسأله بريبة:
- وهو أنت كنت عايز تطلب أيدها وهي اللي رفضت! طب ليه؟

خفض أمجد رأسه وأجابه بحرج:
- علشان مش عايزة تزود الحِمل عليك، يا عمي منار بتحبك ودايمًا تقول نفسي أساعد بابا وأشيل الحِمل معاه، ولما كنت أقولها خليني أتكلم معاه تقولي أنا عارفة إن بابا مش هيرفض بس هو هيضغط على نفسه بزيادة ودا أنا مش هقدر أقبله.

رُغم قوله إلا أن شُهدي لم يشعر إلا بالخزي فأدار بصره حوله وأشار بيده قائلًا:
- عمومًا زي ما أنت شايف لا دا المكان ولا الوقت المناسب للكلام، ولو أنت فعلًا عند قولك وطلبك فأنا هستناك بكرة بعد صلاة المغرب عن إذنك.

أومأ أمجد ولكنه سرعان ما أحس بالخوف من ردة فعله نحوها فاعترض طريقه قائلًا:
- عمي أرجوك بلاش تعنف منار وصدقني اللي حضرتك شوفته كان لحظة طيش لا أنا ولا هي عملنا حسابها وأقسم لك إن منار عمرها ما سمحت لي ألمس أيدها علشان بتخاف من ربنا وحرصها على دينها وخوفها على حضرتك من أنها تخذلك.

لم يعقب شُهدي على حديثه واستدار عنه واتجه لأسفل وتبعه أمجد بقلق شابه الضيق وهو يلعن هالة لافسادها كل ترتيبه.
وبالأسفل أوصدت منار غرفتها ورفضت الاستجابة لطلب رنا ونهلة الدخول إليها وارتمت فوق فراشها تبكي حتى انتبهت لصوت والدها يأمرها باللحاق به لغرفته فَاعتدلت وكفكفت دموعها فَوقع بصرها على صورتها في المرآة فأشاحت بوجهها وهي تقول:
- بقيتي فنظر نفسك أسوأ واحدة يا منار بعد ما كسرتِ نفس بابا.

وقفت منار أمام والدها برأس منكس وعيون باكية بينما راقبها شُهدى بأسى للحظات فلم يتحمل رؤية انكسارها فأشاح بوجهه عنها وأردف:
- ليه عملتِ كده يا منار؟

ارتفع صوت نحيبها فَزاده غضبًا فاستدار إليها وأضاف:
- اوعي تفتكري أني هَصدق عياطك وأنسى اللي شوفته فوق وأقول عيلة وغلطت والمسامح كريم، أنتِ يا محترمة ضربتيني فِمقتل وأنا لا هسامحك ولا هنسى علشان أنتِ استغليتي ثقتي بيكِ وخدعتيني بتمثيلك وافتكرتِ أني مش هعرف بعلاقتك مع البيه.

حاولت منار أن تخبره بحقيقة الأمر ولكنه رفض قائلًا:
- مهما حاولتِ تقولي مش هقدر أنسى القلم اللي اخدته منك لأنه علم جوايا فيا ريت من هنا ورايح تحافظي على مكانك بعيد عني ومتحاوليش تتكلمي معايا إلا للضرورة وبس، ولو ينفع تخلي حد من أخواتك يتكلم بدل منك يبقى أحسن، وعلشان تبقي عارفة إن البيه اللي تعرفيه كتر خيره قال لي إنه عايز يرتبط بيكِ ما هو بعد اللي حصل أنا مجبر أوافق علشان أداري على أي حاجة حصلت بينك وبينه و...

شهقت منار لِجوره عليها بكلماته فارتمت أسفل قدميه وهتفت بتوسل:
- والله ما حصل بينا أي حاجة وأمجد عمره ما حاول يتجاوز حده معايا، صدقني أنا...

صرخ شُهدي بها ومنعها من الحديث ومد يده وقبض على خصلاتها ورج رأسها بقوة قائلًا:
- اخرسي أنا مش قادر أسمع صوتك ولا متحمل أشوف وشك، وبدل ما أنتِ قاعدة تتبجحي قصادي إنه محاولش يلمسك روحي استغفري وتوبي عن الذنوب اللي مغطياكِ بكلامك معاه، ولا يا أستاذة ياللي بتروحي دروس الفقه والدين متعرفيش إن كلامك معاه من البداية حرام.

دفعها عنه فارتطم رأسها بالطاولة ولكنها لم تهتم بألمها وتطلعت نحوه باكية وأمام نظراته المحتقنة بغضبه نكست رأسها فسمعته يضيف بحسرة:
- أنتِ لا عملتي حساب لِربنا ولا عملتي حساب لِسمعتي وشيبتي، وكنتِ لازقة فِحضنه على الملأ ومفكرتيش إن لو حد شافك من الجيران كان زمان سيرتك على كل لسان.

حاولت منار استجداء عفوه ولكنه تشبث برفضه وحكم عليها بِملازمة غرفتها وبِعدم مغادرتها المنزل حتى لِدروسها، ظل شُهدي بغرفته يسير بلا هوادة حتى تذكر أمر هالة فاتجه إلى غرفتها وولجها فهبت الفتاتان بخوف وحين أحكم شُهدي غلق الباب ونزع حزام بنطاله أصابهم الفزع فانهال عليهم ضربًا حتى أفرغ شحنة غضبه ووقف يتطلع إليهم باشمئزاز ونفور وأردف:
- من النهارده لو عرفت إن واحدة فيكم نقلت حرف ولا قالت كلمة عن حد مش هكتفي بضربها لا أنا هحلق لها شعرها وهكسرها لحد ما تعجز عن الحركة وهقطع لسانها طالما مش عايزين تحترموا نفسكم وتبطلوا نقل كلام وفتنة، واعملوا حسابكم أنا خلاص قاعد لكم وِهَربيكم من أول وجديد ويا تتعلموا الأدب يا هدفنكم وأخلص منكم قبل ما تفضحوني بين الناس.

لم يغمض لِشُهدي جفن طوال الليل، فكيف ينام وكرامته استباحت على يد ابنته وربيبه الذي ظنه سيصون معروفه معه؟ ألم أحتشى بقلبه ودمعة ألهبت عينه زفرة حارة غادرت حلقة صاحبها تأوه مكتوم والتفاتة نحو صورة جمعت بينه وبين زوجته الراحلة فخفض بصره بخزي وأردف:
- معرفتش أصون الأمانة يا حنة واتكسرت، بنتك اللي كنت حاطط عليها أمل كبير غدرت بيا.

ترك فراشه ووقف أمام الصورة واستطرد:
- أكيد أنتِ حاسة بيا وبوجيعتي لحظة ما شوفتها وهي... مش قادر أنطقها يا حنة ولا عارف أنسى صورتها وهي بالمنظر دا أنا كان عندي أموت ولا أشوف واحدة من بناتي بتدوس عليا بالشكل دا.

لم يدرك شُهدي أن دموعه انفرطت وسالت فوق وجنتيه وهو يردد بأسى:
- قوليلي أعمل إيه يا حنة أنا شيطاني بيوسوس لي أنها مرمغت شرفي فالطين ومصورلي عنها حاجات بشعة لدرجة أني حابس نفسي هنا علشان مروحش أقتلها وأخلص من عارها.

أغمض عينه مُستغفرًا وغادر غرفته واجه إلى المرحاض ليتوضأ بعدما أحس بنيران الظنون تنهشه وأسرع إلى غرفته يناجي ربه لعله يطفأ عنه فتنة ظنه ذاك.
وفي اليوم التالي تجنب شُهدي الحديث إلى بناته ولزم غرفته حتى أخبرته رنا بسؤال أمجد عنه، فتطلع لساعة يده وغادر دون أن ينبث بكلمة واتجه نحوه وأشار إليه بجمود أن يحلق به وجلس مكرهًا أمامه واستمع لطلبه المهتز لِيد ابنته، فوافقه دون جدال وأخبره بجمود أن يرتب أمره لِيعقد قرانه عليها فور انتهاء اختباراتها، وقبيل مغادرته طالبه بالالتزام بعدم رؤيته لابنته حتى موعد عقد القران، فوافقه أمجد ووعده كبادرة مِنه لِاستعادته ثقته به مجددًا.
واستمر الحال أسابيع طويلة فاتر وصامت بين منار ووالدها الذي لم يتقبل أيًا من محاولاتها بِطلب الصفح، بل وشمل أبنائه جميعًا بمعاملته الصارمة فباتوا يخشون غضبه عليهم وسعوا لإرضائه بتغيرهم في بادئ الأمر تجنبًا لعقاب الضرب الذي انتهجه معهم، ليتحول تغيرهم هربًا من العقاب إلى التغير حبًا بِصلاح النفس وسعيًا لكسب الاحترام، بدءً بجدية أحمد الذي استعاض بشرح مُعلمين بعض مواقع السوشيال ميديا عن الدروس الخصوصية توفيرًا للمال وشارك شقيقاته واجباتهم المنزلية، وتقرب من رنا التي وعلى العكس منهم انعزلت ولزمت الصمت وأصبحت كلما لمحت والدها تهرع إلى فراشها وتنكمش بخوف، في حين أصلحت نهلة ذات البين بينها وبين منار ولازمتها معظم الوقت وَواظبت على صلاتها وشغلت أوقات فراغها بتعلم أمور دينها الغافلة عنها، بينما تابعت هالة ما يدور بتمرد ورفضت محاولة نهلة لفت انتباهها لما تفعله من خطأ وأصرت على موقفها العدائي الغير مبرر منهم.
كل هذا ومنار تدور بفلك ندمها يأكلها الذنب فباتت تصلي وتستغفر ليل نهار ولكنها باتت على يقين أنها لم تُكفر عن ذنبها بحق والدها بعد وأن عقاب الله لها لم يحن موعده.

وبعالمه وبعدما اطمئن أمجد أنها أصبحت له أرسل إليها يخبرها أنه سَيلزم وعده لوالدها ويكف عن الحديث معها حتى موعد عقد قرانهم، وعليها تحمل فراقه ومساعدته لِيثبت جدارته بها وحثها على التحمل والجلد حتى تحين له الفرصة ويصلح ما فسد بينها وبين والدها ويستعيدا ثقته.
وعلى الجانب الآخر سعى لِترسيخ أقدامه بمنزل ليان فعمل على توطيد أواصر الصداقة بينه وبين والدها فشاركه ألعابه المُفضلة وسمح له في الكثير من الأحيان بالفوز عليه حتى بات أمجد بمثابة الأبن لِضياء وتردد صدى علاقته به بدائرة أصدقائه وأساتذته والمحيطين به فتبدلت معاملتهم له تقربًا لِضياء، أما ليان فانتهج أمجد معها نهج الأخ الأكبر وشاركها بعض اهتماماتها دون مبالغة ليدفع الظنة عن نفسه ويدرأ عنه شبهة وأسدى لها الكثير من النصائح التي ساعدتها على الصعيد الشخصي والاكاديمي، وبمرور الوقت الذي حرم منار منه أغدق به على ليان فازداد تعلقها به وتمنت لو تتخذ علاقتها به منحنى آخر، وباتت ليان لا تطيق مشاعرها التي تخطت الحب وأطلعت والدها بمشاعرها فَنصحها بالتريث حتى تتأكد من مشاعره نحوها ولا تتأذى.
وبأحد الأيام فاض بها الكيل وأعمتها غيرتها حين رأته يتحدث إلى إحداهن فأسرعت نحوه بوجه غائم ووقفت على مقربة منه وانتظرت حتى غادرت الفتاة فالتفت إليها مُبتسمًا ولكنها لم تبادله وعبست بوجهه فسألها بحيرة:
- مالك يا ليان مكشرة كده ومش بتردي عليا؟

ودت لو تصيح ليان بأعلى صوتٍ لها وتخبر الجميع أنه حبيبها وعلى من تود الموت الاقتراب منه ولكنها تمالكت اندفاعها ولجمت رغبتها ورفعت حاجبها سخطًا لِسؤاله وأجابته بهجوم غير مبرر:
- وأرد عليك ليه ما كفاية الحلوة اللي كانت عجباك وقفتها معاك ودلعها عليك، وعلشان سيادتك كنت بتاكلها بعينك وأنت بتبص لها مكنتش واخد بالك أني شيفاك فقلت تستهبل عليا وتقولي مالك ومكشرة علشان أقف أنا كمان وأهو يبقى بجملة اللمة حواليك علشان تبقى أنت الشاب الكول الجان اللي البنات بترمي نفسها عليك.

أغضبته كلماتها وأهانته نظراتها الساخرة منه فعقد حاجبيه وأخبرها بصرامة:
- واضح يا آنسة ليان أني غلطت لما اتعاملت معاكِ كصديق واتساهلت فالكلام لدرجة أنك افتكرتِ أني ممكن أقبل على كرامتي الأهانة أو أنك تقللي مني وتتهميني فأخلاقي أني بلم البنات حواليا.

بهتت ملامحها ولم تدر كيف تفوهت بتلك الاتهامات الخاطئة؟ وأدركت من نظراته الغاضبة وكلماته أنها أخطأت بحقه وتجاوزت بِما لا يقبل، فحاولت الاعتذار منه ولكنه انسحب ورفض الرد عليها وأغلق هاتفه حتى لا تتمكن من الوصول إليه، بل وامتنع عن الذهاب إلى الجامعة لعدة أيام وحجب نفسه عنها كُليًا، فظهر جليًا عليها تأثرها بِهجره لها بحزنها وبكائها والتزامها الصمت فسألها والدها عما ألم بها؟ فقصت عليه فعاتبها بهدوء رُغم رفضه لافتراها عليه وطلب منها ترك الأمر له.
باليوم التالي فوجئ أمجد بِضياء يقف أمام باب مسكنه فاتسعت عينه بقلق وحين لاحظ نظرات ضياء نحوه ابتسم باضطراب ورحب به وعينه تختلس النظر نحو مسكن شُهدي قبل أن يغلق الباب خلفه وجلس أمامه بتوتر فَسارع ضياء وأردف ما أن لاحظ ارتباكه:
- أنا عارف أنك واخد على خاطرك وزعلان بسبب اللي حصل بس أنا كمان زعلان منك.

بدى أمجد شارد الزهن فعقله يُفكر بظهور ضياء أمام بابه وهو الأمر الذي عليه معالجته لاحقًا فهو بغنى عن تلك الصدف التي من شأنها إفساد حياته، ولم يدرك بتيه أفكاره أن ضياء ظنه لا يتقبل زيارته وبالتالي يرفض اعتذاره إلا حين وقف قائلًا بتجهم:
- الظاهر إن بنتي زعلتك جامد لدرجة أنك محروج تقول لي إن اعتذاري مرفـ...

هب أمجد ما أن وعى عقله الأمر وأردف بجدية:
- لا طبعًا يا دكتور أنا بس للحظة حسيت إني مش فاهم أي حاجة علشان كده معرفتش أرد على حضرتك أقول إيه.

تدارك ضياء الموقف وتفهمه وأشار إليه بالجلوس قائلًا:
- أنت عارف يا أمجد أنا بحترمك قد إيه وبعزك والحقيقة لولا إحساسي أنك زي ابني أنا مكنتش فكرت أبدًا أني أجيلك لحد عندك علشان أراضيك واعتذر لك بنفسي.

جلس أمجد بارتباك ولاحظ ضياء اضطرابه فأرجح الأمر لحرجه لِبساطة مسكنه وإجهاده فأردف:
- على فكرة أنا فاهم أنك محرج مني علشان طبيت عليك من غير ميعاد، بس أنا قلت لك أني بعتبرك ابني وأظن مافيش ابن يتكسف من والده.

أومأ أمجد بحرج ورسم ابتسامة واهية فوق شفتيه وأردف:
- يا دكتور زيارتك ليا شرف وبعدين حضرتك تيجي فأي وقت وبدون أسباب ولو على اللي حصل فأنا خلاص نسيت كل حاجة ومش زعلان.

استحسن ضياء إجابته ورجولة موقفه من ابنته فأردف:
- بص يا أمجد أنا مش هخبي عليك أنا من يوم شوفتك وحاسس إن ربنا بعتك ليا نجدة.

حدق أمجد نحوه بحيرة فاستطرد ضياء موضحًا:
- أنت عارف إن ليان بنتي الوحيدة اللي طلعت بيها من الدنيا، واللي للأسف وقعت وسط عيلة اللي مكنش فيها طمعان فيا طمع لما رصيدي زاد فالبنك لملايين، وفترة اكتشفت إن في صراع بين قرايبي على مين يتجوز ليان الوريثة الوحيدة للملايين.

استحوذ ضياء على حواس أمجد الذي بدأ عقله يحلل كل حركة تأت من ضياء ورُغم توقعه التالي، إلا أنه لم يشأ استباق الحدث ونظر نحوه وسأله عن معزى حديثه، فزفر ضياء وأجابه بحرج:
- بصراحة أنا مش عارف أقولك اللي عندي أزاي؟ ويمكن علشان دي المرة الأولى اللي بكون فيها فالموقف دا.

حاول أمجد أن يخفف عنه الأمر فأردف:
- يا دكتور احنا مافيش بينا أحراج وحضرتك لسه قايل أني زي ابنك فاتكلم براحتك وبدون حرج.

ابتسم ضياء برضى لموقفه منه وأردف:
- أهو كلامك وأخلاقك هما اللي سبب أختياري ليك خصوصًا بعد ما لاحظت إعجاب ليان بيك واتأكدت إن في إعجاب متبادل من ناحيتك ليها.

ازدرد أمجد لعابه وخفض بصره مُتعمدًا فأضاف ضياء بجدية:
- أمجد من غير لف ودوران أنا حابب أنك تطلب إيد بنتي ليان مني علشان أنا عمري ما هلاقي شاب فأخلاقك وأمانتك استأمنه عليها قبل ما استأمنه على مالي، والطب التاني أني عايزك تتجوزها فأسرع وقت وتيجي تعيش معانا، علشان أمنع قرايبي اللي اتحدوا ومن أنهم يحطوا إيدهم على بنتي ومالي وأنا على وش الدنيا.

أجاد أمجد صدمته حين رفع رأسه فجأة وحدق بوجه ضياء وسرعان ما خفض عينه وأردف بتردد:
- بس يا دكتور أنا أنا...

بتر أمجد حديثه متعمدًا وهز رأسه بحيرة ووقف عن مكانه وأضاف:
- أنا منكرش أني اعجبت بليان وغصب عني مشاعري تجاوزت الاعجاب من غير ما أحس، وبعد موقفها الأخير مني أنا عدت تفكير فمشاعري وفهمت إن حبي ليها حب محكوم عليه بالفشل بسبب ظروفي وفقري وحياتي اللي حضرتك شوفتها دلوقتي، واللي أكيد الكل هيظن فيا الطمع والجشع وأني أتقدمت لها علشان فلوسها وهي نفسها لو عرفت إن حضرتك جيت لي هنا و...

قاطعه ضياء بخوف ليوقف استرساله:
- تعرف إيه لا ليان مستحيل تعرف بالكلام اللي دار بينا.

أومأ أمجد وعقب بقوله:
- يا دكتور أنا عمري ما هقول حرف واحد ولو فيها موتي وأوعدك وعد راجل حر إن ليان مش هتعرف إن حضرتك جيت لي واللي دار بينا هيفضل سر ليوم ما أموت.

وقف ضياء واختطفه بين ذراعيه واحتضنه مُرتبًا ظهره بمحبة قائلًا:
- يعني بعد كلامك دا مش عايزني امسك فيك بأيدي واسناني واجوزك بنتي.

لمعت عينا أمجد قبل أن يغمضها وهو يخبره بموافقته وأدرك أنه حظى بأكثر مما تمنى، حظى بمنار الطيعة لأمره والتي تشبه إلى حدٍ كبير والدته وحتمًا ستتفانى وتبذل قصار جهدها من أجل إسعاده كما تفانت والدته لإسعاد والده، وليان صاحبة المال والنفوذ والسلطة التي سترفع شأنه وتضعه في مكانته ومكانه الذي يستحق. عرض أقل

•تابع الفصل التالي "رواية لم يبقى لنا الا الوداع" اضغط على اسم الرواية

تعليقات