رواية من نبض الوجع عشت غرامي (ج3) الفصل السادس 6 - بقلم فاطيما يوسف

  

 رواية من نبض الوجع عشت غرامي (ج3) الفصل السادس 6 - بقلم فاطيما يوسف


الفصل السادس من الجزء الثالث
          
                
ـ وانت كمان يا "آدم" مش بس جوزي ده انت سندي وضهري وكل تعب هيهون وانت جاري وكمان لازمن القناة تظهر للنور بقى لنا سنتين طالقين التردد واها بدأت من كذا شهر البرامج بتاعتنا تعمل صدى كويس جداً الحمدلله.



ثم وجهت أنظارها وبدأت تتابع عرض الأفكار على شاشة اللابتوب بينما انشغل "آدم" بقراءة تقرير تحليلي عن نسب المشاهدة،
فجأة انكمشت ملامح "مكة" قليلا وكأن شيئًا ما داخلها انفـ.ـجر في صمت حين رأت رسالة إلكترونية غريبة وصلتها للتو من مصدر غير معروف، فتبدلت تعابير وجهها من الهدوء إلى التوتر في لحظة واحدة،
مال "آدم" برأسه ناحيتها وقد لاحظ اضطرابها الواضح وقال بهدوء يشوبه القلق:
م



الك يا "مكة" وشك اتغير كده ليه في حاجة حصلت ولا ايه ؟
أغلقت الشاشة بسرعة كأنها تحاول إخفاء الألم الذي تسلل إلى داخلها لكنها لم تنجح فالحزن ظهر في عينيها رغمًا عنها ثم قالت بصوت منخفض:
ـ جالي ايميل غريب اكده مش مريحني واصل يا "آدم" فيه كلام عني وعن لبسي في المؤتمر اللي فات وفي صورة متفبركة مش بتاعتي خالص وهيقولوا عني إني لابسة النقاب رياء واني بعمل اكده علشان القناة تنجح وألم متابعين كَتير وأكسب تعاطف عامة الشعب معاي واني بتحددت عن انجازات القناة واني هتخذ الدين وسيلة للنجاح وجني المليارات .



نهض "آدم" من مكانه بسرعة دون أن ينبس ببنت شفة، ووقف خلفها ينظر إلى الشاشة التي فتحتها من جديد بتردد، وما إن رأى مضمون الرسالة حتى شعرت "مكة" بأن جسده قد تصلب بالكامل كأنه تمثال غضب بشري،
انكمش حاجباه وتصلبت شفتاه وكأن الدنيا اسودت فجأة أمامه، لكنه تمالك نفسه بعد لحظات ثم قال بنبرة حاول أن يجعلها هادئة :



ـ الناس دي لازم يتعرفوا ويتحاسبوا انا مش هسكت على اللي بيحصل ده يا "مكة" دي مش أول مرة يلمحوا لحاجات زي دي وانا حاسس إن في حد ورا الموضوع بيخطط بذكاء عشان يشوه صورتنا وتقريباً كدة استنتجت لأن الرسايل الكتيره اللي بتجيلي تهديدات وكمان التعليقات الهجومية على 



صفحة الانستجرام بتاع البرنامج تعليقات مجرمة جدا، بمعنى أصح ناس متأجرين لجان سوشيال ميديا علشان يهدوا اللي احنا تعبانين فيه بقى لنا سنتين وزيادة والحاجات دي ما حصلتش إلا من ساعة زفت سيف لما رجع من السفر. 



أطرقت "مكة" برأسها للأرض ثم تمتمت بصوت مرتجف لكنه مملوء بالثقة:



ـ بس احنا معمِلناش حاجة غلط يا "آدم" احنا بنقدم محتوى نَضيف ومحترم وكل اللي هنفكِر فيه يرضي ربنا واننا نوصل رسالة محترمة للناس فمهما يعملوا مش هيقدروا يثبطوا عزيمتنا ولا يخلونا نفشل لأن من كان الله معه فمن عليه اطمَن يا حبيبي .



تنهد "آدم" بعمق ثم جلس بجوارها من جديد وأمسك بيديها بين يديه ونظر في عينيها نظرة مباشرة وقال بقلق:
ـ طب وبالنسبه للفيديو اللي هم عملوه ليكي والكلام اللي قالوه عنك هنسكت عنه كده عادي ولا هنعمل ايه؟ ولا الصور المتفبركة اللي هم منزلينها بالذكاء الاصطناعي علشان الناس يتخيلوا شكلك على أساس ان انتِ اللي كنت منزلاها قبل كده! انا مش قادر اتحمل فكرة  ان حد يكون بيتخيلك بالشكل ده من الأساس، انا مش فاهم ليه القذارة اللي بتحصل دي ؟




        
          
                
طمئنته بعيناي يملؤها الرضا والقناعة بكل أقدار الله :
ـ ما يقولوا اللي يقولوه ويعملو اللي على كيفهم ولينا رب هيرد علينا ،وبعدين داي فتنة ووقت الفتنة بالذات اذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب  واني دايما حاطه في قلبي وعقلي وقناعاتي قوله سبحانه وتعالى "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لنزلنا عليهم بركات من السماء والأرض" واني ست مؤمنة وهاتقي ربنا في كل حاجه وعلشان اكده ربنا ما هيضرنيش واصل،وطالما ما التفتش للكلام دي وما ردتش عليه هيتنسي بسرعة واللي منزلينه عايزين إننا نرد وهم يردوا والموضوع هياخد اكبر من حجمه فالسكوت أفضل وكاننا ما شفناش حاجة وخلينا في شغلنا وهم في كيدهم اللي ربنا هيرده في نحرهم بإذن الله .



اطمئن من حديثها المقنع وهو ينظر إليها بمحبة نابعة من قلبه لتلك النقية البريئة والتي يعتبرها ملاكا أرسله الله إليه :



ـ طالما انتي جنبي انا مش هعمل حساب لأي حد يا "مكة" واحنا مع بعض نقدر نعدي أي حاجة ومهما حاولوا يفرقونا مش هيعرفوا ولا هيقدروا .
ث



م أشار بيده إلى الأوراق مرة أخرى واستعاد نبرته المهنية وكأنهما يتنقلان بين العاطفة والمسؤولية في توازن دقيق وكأن شيئاً لم يكن :
ـ يلا نكمل الاجتماع يا "مكة" لان كل دقيقة مهمة دلوقتي لازم ناخد قرارات جديدة تخص البرنامج الجديد ونسب التفاعل والموضوعات اللي هنتكلم فيها.



هزت "مكة" رأسها بالموافقة ومسحت دمعة صغيرة كادت تنزلق من عينيها من تحت نقابها وداخلها يغار عليها من تلك الصورة الموضوع على تلك المواقع والأغرب أنها تشبهها كثيراً بل تكاد تكون هي ولكن نفضت عن بالها ثم قالت بثبات جميل يليق بقوة قلبها:



ـ ماشي يا "آدم" نكمل وربنا يقوينا سوا ويبعد عنا الشر والناس الوحشة .



في ذات الوقت كان في مكان آخر بعيد عن هذا الجو المليء بالإيمان والحب يجلس رجل يملأ قلبه السواد ويأكل الحقد كل خلاياه، إنه "سيف" والذي بعد عودته من سفره محملاً بالثأر والغضب،
كان يجلس  في مكتب فاخر بجوار شقيقه "رامي" بينما يدخن سيجارًا فاخرًا وعيناه تشتعلان كأن فيهما نارًا لم تهدأ منذ أن طرده "آدم" وضربه أمام الناس،



ضحك "رامي" ضحكة باهتة وهو يسأله وهو يمد له كوب قهوة ساخن:
ـ انت فاكر حركة التعليقات والمنشورات المسيئة ليهم اللي انت عمال تنزلها ولا صورتها اللي انت عملتها بالذكاء الاصطناعي لما البنت اللي شغاله معاها بعتت لك صورتها وهي خالعة نقابها وهي بتتوضى ويدوب رحت جملتها بالذكاء الاصطناعي علشان تعمل الشوشرة دي عليهم هتعمل حاجة ؟



في حين إن هما ولا حياة لمن تناي ،الحاجات دي يا ابني اتهرست كتير والترندات كل ثانية بتطلع وكل ترند بيلغي اللي قبله .




        
          
                
هز "سيف" رأسه بعنف ثم ضرب الطاولة بيده وقال بصوت خافت لكنه مليء بالشر:



ـ انا عمري ما نسيت القلم اللي ضربني بيه "آدم" قدام الناس ولا نسيت خطيبتي وهي بتسيبني علشان شافتني قليل وما دافعتش عن نفسي ولا نسيت الفيديو اللي فضحني وخلى الناس تتريق عليا لازم اخد حقي تالت ومتلت والعيار اللي ما يصيبش يدوش ده انا مجهز لهم حبة حوارات مش هيعرفوا يفكوا منها .



اقترب منه "رامي" وقال بنبرة خافتة:



ـ بس يا "سيف" الوقت ده "آدم" بقى تريند وبيقدم حاجة محترمة والناس كلها بتحبه واللي هيلمس مراته الدنيا كلها هتقلب عليه وخصوصا ان ده كان مغني وبعد كده تاب وفتح قناه دينيه يعني له شعبية جماهيرية جامدة والناس اكترها بتحب الحاجات دي وبيعتبروا ان الشخص التايب من الذنوب في مرتبة تانية خالص، انا بقول لك انت كده بتضيع وقت وبتخسر فلوس على الفاضي، وانت مش مصمم على الخراب ده انت مصمم ان انت تنول مراته كمان.



ضحك "سيف" ضحكة شيطانية وهو يميل بظهره للكرسي وقال بثقة قاتلة:



ـ ومين قالك اني عايز ألمسها وبس ده  انا هكسرها واهز صورتها وصورته قدام الناس انا ناوي على حاجة كبيرة هتزله بيها هو وهي ومش هتعدي على خير ابدًا .



نظر له "رامي" بقلق بينما "سيف" كان يفتح حاسوبه ويعرض صورًا قديمة ومقاطع مركبة قال عنها بخبث:



ـ دي البداية بس وانا وعدت نفسي مش هسيبهم في حالهم ولازم اخليهم يعيشوا نفس اللي عشته وخليها تندم انها رفضت "سيف" وعمري ما انسى نظرتها ليا المنحطة وكاني حشرة وانا واقف قدامها بغازلها برقي وكنت بتعامل معاها زي هوانم جاردن سيتي كده وبكل جنتلة وهي صدتني بالطريقة الشديدة دي .



كانت نبرة صوته باردة إلى حد مرعب وكأن قلبه لم يعد فيه مكان لأي شيء غير الكراهية، بينما من بعيد كان هناك صوت هادئ ينبعث من غرفة اجتماعات القناة الدينية صوت "آدم" وهو يقرأ آية كريمة أمام "مكة" بكل سكينة، آية تختصر كل ما في قلبه من إيمان وصبر واحتساب وهو يتلو آيات الله 
"



الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) "



أما ذاك السيف اضطجع على كرسيه وهو يتأمل المدينة من خلف زجاج نافذة مكتبه يدخن بلا اكتراث مكملاً بنبرة تجمّد فيها كل ما تبقى من ضمير:



ــ انا رجعت مش علشان اقول له سامحني ولا علشان ارد اعتباري بس؛لااا انا راجع علشان اخد اللي بيحبها واكسر قلبه بيها اخد منه مراته واخليها تسيبه بإيديها واللي حصل زمان منهم كان بروفة دلوقتي العرض الحقيقي هيبدأ .




        
          
                
تناهى إلى مسامعهما طرق خافت على الباب فنهض "سيف" بخطوات رشيقة ليقابل رجله الخاص الذي سلّمه ظرفًا وثائقيا دسّه تحت سترته ثم عاد إلى الداخل وهو يتمتم:



ــ كل حاجه ماشية زي ما خططنا بالظبط وانا عندي صور وفيديوهات هتدمر بيها حياة "آدم" الداعية اللي عامل نفسه ملاك وهو أصلا كان بيرقص وبيغني من سنتين بس وهفضحه في كل حته وهخليه هو ومراته اضحوكة قدام الناس.



قاطعه شقيقه وهو ينفث دخان سيجارته الثقيلة بسخرية:



ــ بس يا سيف مرات "آدم" مش سهلة دي منتقبة وملتزمة قوي وشكلها مش هتضعف ولا هتميل لأي حد .



غمز "سيف" بعين لامعة بالحقد وهو يقترب ليضع هاتفه أمامه ويُشغل له مقطع فيديو صامت لــ"مكة" وهي تبتسم لعدسة الكاميرا في أحد لقاءاتها الإعلامية بينما ترتب أوراقها كإعداد حلقة دعوية:



ــ كل واحدة ليها نقطة ضعف وانا عرفت هي نقطة ضعفها ايه وهعرف ادخل منها كويس اوي وبعدين انا مش هدخل لوحدي ده انا مجهز خطة كاملة الناس كلها هتتفرج عليهم وهما بيقعوا خطوة بخطوة.



في الوقت ذاته كان "آدم" و"مكة" في غرفة الاجتماعات الخاصة بالقناة التي يديرونها كانت تجلس بجانبه تدقق في جدول الحلقات المقررة لشهر ربيع الأول بينما هو يراقبها بصمت تغشاه هيبة الحب الصامت من عينيه لم تكن تدري أنه يشعر بها كما لو كانت تحيا داخله نابضة لا تفارقه،
توقف "آدم" عن مراجعة الأوراق وتسلل صوته بهدوء يخفي ورائه شغفا عميقا:



ــ  مش كفاية بقى شغل يا بابا ونروح علشان "أنس" وحشني، 



ثم أكمل وهو يغمز بكلتا عينيه بعبث:
ـ ومش بس كده ده ام "أنس" كمان وحشاني قوي.



رفعت "مكة" بصرها نحوه بعينين تغشاهما سكينة العشق وخجله وردت بمشاغبة :



ــ  يا بكاش انت بقى هتشتغل في مكر الشيوخ اللي عندهم حب النساء غاية ووسيلة لرضا ربنا .



اقترب منها أكثر وهمس بجوار أذنها وهو يبتسم تلك الابتسامة التي يعشقها قلبها:



ــ على فكرة انا اسعد راجل في الدنيا علشان انتي في حياتي وكل يوم بيعدي عليا وانتي جنبي بحس اني عايش على طاعة وفرحة ومفيش ملل ولا لحظة ندم اني سبت كل حاجه كنت فاكرها اغلى حاجة علشان طلعت انت أغلى من اي ثمين .



رن هاتف "آدم" فقطع عليهما تلك اللحظة الساكنة أجاب ليرد عليه مدير القناة بصوت مضطرب يخبره أن صفحة إلكترونية مشبوهة بدأت تنشر مقاطع مجتزأة من حفلاته القديمة وأرفقتها بتعليقات ساخرة تطعن في مصداقيته وتحرض على مقاطعته ،
شهق "آدم" بذهول وهو يضغط على هاتفه ليفتح تلك الروابط واحدا تلو الآخر كانت المقاطع قديمة فعلا لكن الإخراج الماكر أظهرها وكأنها صور حديثة زادها تعليق يحمل تهكما فادحا:
ــ شوفوا شيخ القناة الديني طالع يغني في فرح شعبي ولسه بيقول ملتزم .




        
          
                
وضعت "مكة" يدها على فمها بدهشة وهي تقرأ ما يُكتب وشعرت بانقباض قلبها فهي تعرف من يقف خلف كل هذا دون أن يُقال،
همس "آدم" وهو يعتصر الهاتف بين يديه:
ـ



ـ "سيف" الزفت هو اللي عامل كده والله ما هعديها له بس والله ما هسكت له.



رفعت "مكة" نظرها إليه بعينين يملؤهما رجاء خافت:
ـ



ـ بس يا آدم استهدى بالله احنا في وقت لازم فيه نكون عقلانيين هو بيحاول يستفزك متقعش في فخه .



ابتلع "آدم" غضبه في صعوبة وكأن جمرة اشتعلت في حلقه لكنه أومأ برأسه في صمت وهو يردد في داخله أنه لن يدع تلك الحرب تمر دون رد وأن عاصفة الانتقام لن تشتعل إلا إن كان وقودها الحق،
في حين استلقى "سيف" على أريكته مجددا وهو يبتسم ابتسامة شيطانية ويقول بصوت منخفض:
ـ



ـ ده أول الغيث يا ابن عمي واللي جاي نار وقهر وخراب بيوت .



كان الليل شاهدا على البداية والموجة القادمة ستحمل في طياتها عاصفة لا تبقي ولا تذر .



                   ********
بعد مرور شهر على تلك الأحداث ،
كانت "نور" جالسة في طرف الإسطبل الخشبي ساكنة القسمات مستندة بيدها إلى خدها كأنها تحمل فوق راحة يدها أعمارًا من التعب والخوف :
ـ حاطة يدك على خدك ليه يا داكتورة "نور" وشايلة طاجن ستك على راسك لساتك ما اخدتيش على المكان حدانا اهنه عاد ؟



نظرت نحوه بنظرة خافتة باهتة تشبه لون الغروب في آخر النهار ثم ردت بصوت خافت كأنها تسرد حكاية معتادة:
ـ لا عادي انا هنا اهو داخلة على سنة الايام كلها زي بعضها اللي بنام فيه بصحى فيه في حياتي من زمان وانا كده ما فيش تغيير .



اقترب منها خطوة وكأنه يحاول كسر السكون الذي يلفها منذ وطأت المزرعة وكأن شيئًا في داخله يحثه أن يعرف ما وراء ذلك الحزن الساكن في ملامحها :
ـ مش ناويه تقولي لي على قصتك وحزنك الدايم دي وخوفك ورعبك من المجهول اللي هتحلمي بكوابيسه كل يوم والتاني وصوت فزعك اللي هتحكي عنيه اللي هتساعد امي في البيت وهتاجي تنام حداكي كل عشية حكاوي ؟



تحركت شفتاها بتردد ويداها تتشابكان في قلق طفولي مكبوت وقد بدا عليها الحرج والخجل لكنها لم تستطع الصمت :
ـ انا شغاله في مزرعة الخيل بتاعتك بقى لي مدة كبيرة يا باشمهندس "عمران" وكل يوم تسألني السؤال ده وانا ارد عليك واقول لك اللي عندي ما ينحكيش اتكسف احكي من كتر ما هو مخجل ومؤلم ومن كتر ما انا عيشته في مرار من وانا طفلة صغيرة لحد ما بقيت الدكتورة "نور جمال القاضي"



أطرق برأسه لحظة ثم رفعها بنظرة يملؤها صدق الرجاء ممزوجًا بحنو الأخ الأكبر أو ربما أكثر :
ـ طب مش احنا اتفقنا ان احنا هنكون صحاب وهتحكي لي في يوم من الأيام عن وجيعتك من الزمن ،لساتك ما هتأمنيش لـ.ـ"عمران" اللي آمنك على مزرعة الخيول حداه دونا عن دكاترة الصعيد كلاتهم ومعميلهاش مع حد واصل قبل سابق ؟!
اني رايد اساعدك واخرجك من الهم التَقيل اللي هتحلمي بيه كل يوم والتاني ومخليكي دبلانة ومش عايشة حياتك كيف البنتة ؟




        
          
                
ابتسمت في مرارة خافتة ثم نظرت إليه نظرة طويلة كأنها تقيس صدقه وتحاول أن تضعه في خانة الأب أو الأخ أو الغريب أو ربما شئ آخر:
ـ تعرفي يا داكتورة ان عمرك كد عمري مرتين الا حاجة بسيطة ،
يعني اني دلوك حداي 41 سنة وانتِ حداكي ٣٠ سنة اعتبريني مش كيف اخوكِ الكبير يا ستي له كيف ابوكي ؟



هزّت رأسها ببطء كأنها لم تصدق الرقم ثم علت على وجهها ملامح دعابة خفيفة تحمل في طياتها شيئًا من التهرب :
ـ ياااه ابويا ازاي انت اللي يشوفك يقول عليك ابن 30 ولا هتخزي العين عنك يا باشمهندس وتخلي واحدة زيي طول بعرض بنتك يصح الكلام ده برده ؟



قطب حاجبيه قليلًا وهو يستشعر محاولتها الدائمة لتحويل كل نقاش إلى هزل للهروب من حقيقة تعبها :
ـ يوه هتقلبي الكلام لمزحة وهزار كالمعتاد وما هتحكيش ايه سبب رفضك انك تستقري زيك زي اي بنت وايه سبب موافقتك انك تاجي من مصر وتقضي شغلك اهنه في اخر بلاد المسلمين بعيد عن اهلك ؟



انخفض صوتها وكأنها تُفرغ بعضًا من شحنة الكتمان المتراكمة عبر السنين وهي تحدق في الأرض :
ـ أهلي ! هم فين اهلي دول انا اتولدت يتيمة الأم ، ماما ماتت وهي بتولدني وعشت بين اب صلب وجاف في مشاعره او نقدر نقول الدنيا لهيته علشان يربيني انا واخواتي الولدين اللي اول ما خلصوا جامعتهم سافروا على بره وبابا طبعا ما استحملش يعيش من غير زوجة فجاب لي مرات اب خلت حياتي جحيم وكان ليها ابن ما اقول لكش بقى .



تنفس ببطء وكأن مفاتيح الحكاية بدأت تُفتح أخيرًا بين يديه فهز رأسه مؤكدًا :
ـ آه .. قولي اكده بقى ان الحكاية فيها ابن مرات الأب ، طب ما تحكي لي حكايتك يا بت الناس يمكن ادلك على الطريق الصحيح اللي يخليكِ تعيشي مرتاحة بدل الكوابيس اللي هتحلمي بيها ليل ونهار داي عاد ؟



أغلقت عينيها لحظة كأنها تتنفس وجعًا لا يُقال ثم فتحتها والنظرة في عينيها تقول أكثر مما تنطق به :
ـ وقت ما احس ان انا عندي القدرة والاستطاعة ان انا احكي البلاوي اللي عندي واحس ان اللي قدامي مش هيمل من سماعها هحكي ،صدقني يا باشمهندس "عمران" طلع نفسك بره حواراتي ومشاكلي علشان انا همي تقيل فوق ما تتخيل والأكتر قوي ان قدامي وقت قليل والهم الكبير راجع لي من تاني بس مش عارفة ههرب منه اروح على فين تاني ؟



رن صوت أنثوي مألوف لدى "عمران" فقطع اللحظة الحزينة وهو يلتفت خلفه فقام من مكانه وذهب إليها بابتسامته التى تحيي قلب السكون :
ـ صحيتي يا "سكون" حمد لله على السلامة تعالى سلمي على الداكتورة "نور" .



جاء الرد بنبرة لا تخلو من غيرة دفينة وعتاب مكتوم كأنها تلوم وجود شخص غريب اقترب من زوجها :
ـ وهي الداكتورة "نور" بقت قدرنا ولا ايه يا سي "عمران" ؟!
اني ما بقتش مرتاحة لوجودها اهنه في مزرعة الخيل وطلبت منيك قبل سابق انك تشوف دكتور راجل هو اللي يراعي مزرعة الخيول .




        
          
                
ابتسم "عمران" في محاولة منه لتحويل النقاش إلى دعابة خفيفة كأنه يطفئ بها نيران الغيرة :
ـ كانك لساتك هتغيري على "عمران" يا"سكون"ـي وحبه هيشعلل في قلبك لدرجة هتغيري من داكتورة الاحصنة اللي هتشتغل حدانا ؟
رفعت حاجبيها بحدة وهي ترمقه بنظرة تحمل من الحدة ما يوقظ مشاعره دوماً تجاهها :
ـ وه وما هغيرش ليه يا "عمران" كانك انت اللي ما هتعرفش يعني ايه غيرة "سكون" لسه هتجربها عاد ؟



ساد صمت قصير ثم تكلّم "عمران" بنبرة فيها ألم دفين وعشق مهجور كأنها رسائل لم تجد طريقها إلى قلبها من قبل :
ـ ولما انتِ هتغيري علي فين اني من كل اهتماماتك ، من يومك ، من حياتك، انا ما بقتش موجود معاكي غير لما نتقابل صدفة،
يا "سكون" ريحتك وحشتني بقالك قد ايه ما جيتيش فرشتك جار عمرانك وهتقضي لياليكي مع ولادك اللي من ساعة آخر مرة جرحتيني بيها في كلامك واني عديت رغم صعوبة اللي حوصل.



أدارت وجهها عنه وكأنها تخشى أن يرى ما يختلج في ملامحها من حيرة وتعب :
ـ يوه يا "عمران" ما هتزهقش منيه الحوار دي عاد ؟
اني حابة اهتم بتفاصيل ولادي ومش حابة اهمل فيهم دول لساتهم اطفال لازم تتحمل وياي شوي هو انت هتفكِر إن الأمومة سهلة قوي اكده ؟



زفر بأنين خافت كأن كل كلماته الماضية لم تجد لها أرضًا لتُروى بها :
ـ كل اللي هتقوليه واي مبررات هسمعها من بقالي سنين منك مش هتاكل وياي يا "سكون" كنت قبل سابق هلتمس لك الاعذار واعدي واكبر دماغي لكن حابب اعرفك اني خلاص فقدت قدرتي على التحمل في بعادك عني واهمالك فيا بعد ما قضينا ويا بعض سنين ما كانش ليا غير حضنك وما كانش ليكي غير دفا "عمران" وقلبه وروحه وحياته .



خفضت عينيها للحظة كأنها تستشعر الذنب ولكنها أرادت أن تسمع منه أكثر :
ـ يعني انت دلوك يا "عمران" ما هتحبش "سكون" وشايفني وحشة في نظرك ؟



اقترب منها وكأن في خطواته كل حنين العالم وصوته يحمل خفقة قلب قديم لم يبرُد يومًا وهو يحتضن كف يدها ويقبل باطنهم برغبة في احتضانها بل واختلافها إلى عالمهم الخاص الفريد من نوعه والذي حرم من لذته :



ـ وكيف ما هحبش السكون يا سكني وروحي ودنيتي الحلوة كلاتها ؟
كيف "عمران" اول ما هيقف قدامك ويمسك يدك لمستك ما تزلزلش كيانه ويوبقى وقتها عايز ياخدك ويطير بيكي على عش الحب ويقضي وياكي أجمل وقت هيعيشه في دنيته؟
ضغطت بيدها بكفه ببطء كأنها ترد لمسة الشعور القديم وكلماتها تمضي إليه بنفَسٍ من عهد الحنين :
ـ وانت لازم تعرِف يا "عمران" إن "سكون" مهتحبش ولا هترتاح غير في حضنك بس اديني حبة وقت كمان وصبر وبعدها هتلاقي عشق الـ"سكون" للـ"عمران" بين يدك وأحسن من الاول كمان.



مال بوجهه نحو الأرض وكأن صبره أثقل من طاقته وسنينه تهرب من بين يديه :
ـ وه هنعيدوه ونزيدوه الحديت الماسخ دي هصبر أكتر من السنين دي كلاتها يا "سكون" واني هشوفك وهخـ.ـطف لحظات هقضيها وياكي كيف ما نكون بنسرق ؟!
له بزياداكي عاد يابنت الناس هجر لفرشتك ولحضن جوزك مانتيش أول ست تخلَف ولا أخر ست اتأخرت كام سنة على ما خلَفت ، ماتضيعيش شبابنا وأجمل لحظات عمرنا وتهملي احتياجي لحضنك بزياداكي عاد يا "سكون" كل يوم  كانك اكتفيتي بيهم عن الدنيا بحالها ! اتحددت وياكي وقلت لك ارجع الاقيكي في فرشتك وبرده هملتي كلامي وقلت سيبها تأهل حالها وتلملم شتاتها وانتي بردو كيف مانتي بس خلاص دي آخر أمر مني ليكي أرجع الاقيكي في فرشتك وبزيادانا عاد حديت ماسخ ودلع منك .




        
          
                
ثم اقترب منها وأردف بتحذير قاطع نهائي لا رجعة فيه تلك المرة :
ـ اوعاكي المرة دي تقولي "عمران" طيب ومش هيغضب مني ولا تقولي اني هطنش ، يمين بعظيم يا "سكون" لو رجعت ما لقيتك لا هيكون تصرفي وياكي بأني هروح للخالة "ماجدة" وهشتكيكي ليها ، اظن اني عمري ما عملتها ولا أحب إن اللي بينا يخرج برة ، 



واسترسل بنبرة حزينة وعيناي متألمة :
ـ ولو انها صعيبة قوي على راجل زيي يروح يشتكي مرته لأمها انها هاملاه ، صعيبة قوي يا بت الناس .



جاء صوت الطفل يحمل وجعه الصغير وكأن القدر قرر أن ينهي المشهد بنداء بريء :
ـ مامي "سليم" ضربني وأخد مني اللعبة بتاعتي ومعايزش يدهالي وخلى لي صباعي واوا حتى شوفي .



ثم تبعه صوت آخر لا يقل ألمًا كأن الصغار صاروا جزءًا من الحكاية كلها :
ـ مامي اعااااا ، "سيف" خربشني وضربني جامد بالرجل في بطني وأخد مني اللعبة بتاعتي ؟



تحرك "عمران" بخطوات بطيئة نحو الخارج وصوته يحمل نهاية خافتة لما تبقّى من الحديث وكأنه اعتاد على هذا المشهد وفقد الأمل :
ـ أمممم... روحي شوفي ولادك يا "سكون" اني رايح المزرعة  وارجع بالليل ألقى مرتي في فرشتي .
                *********
في تلك الليلة الخافتة الأضواء، وبين جدران غرفة النوم التي كثيرًا ما شهدت لحظات الود والبعد، وقف "فارس" يتأمل وجه "فريدة" بصمتٍ ثقيلٍ، يتقلب في داخله بين مشاعر الندم والخوف، كأن قلبه يطرق الأبواب المغلقة بحثًا عن نافذة صغيرة للغفران. عينيه كانتا تحكيان حكاية رجل أدرك متأخرًا أنه أخطأ، وأن من أمامه لم تكن مجرد زوجة بل وطنًا كاملًا هددته رعونة لحظة:



ـ ليه يا "فريدة" حاسس منك انك ما سامحتنيش زي ما قلتي لي؟ ليه حاسس ان انتِ دايمًا حزينة وشاردة بالرغم من اني وفيت بوعدي معاكي؟ وحتى التليفون كسرته قدامك واللاب توب عملت له ضبط مصنع وكل اللي عليه اتحذف يعني أثبت لك حسن نيتي إزاي بس علشان ترجعي لي؟ ليه لما تكوني في حضني بحس إنك مش زي ما كنتِ زمان؟ مش بحس بلهفتك عليا وكأنك بتقضي واجب زوجي وخلاص ليا، أنا عايز همستك ولمستك ليا تكون بإحساس احتياج واشتياق زي إحساسي ناحيتك بالظبط.



كان صوته يحمل مزيجًا من الحنين والتوسل، كأنه يحاول إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل الجرح، إلى تلك اللحظة التي انكسر فيها شيء ما داخل قلب "فريدة"، شيء لم تعد تستطيع ترميمه بسهولة، كانت عيناه تتوسلان إليها، لكن جرحها كان لا يزال نازفًا:



ـ غصب عني يا "فارس" اني اسمعك وانت هتتحدت ويا واحدة غيري حتى لو كانت نزوة منك وانت اعترفت بغلطك اني ارجع زي ما كنت بالسُهولة دي، في حاجة كبيرة قوي انكسرت جواي منك، حسستني اني قليلة قوي، حسستني ان اني مش مكفياك وان اني مش غنياك عن كل الستات، حسستني اني ناقصني حاجات كتيرة قوي علشان تشوفني في عينيك بألف ست.



مرت لحظة صمت بعدها، وكأن كل حرف من كلماتها كان خنجرًا يقترب أكثر فأكثر من قلب "فارس"، لكن رغم الألم، لم يكن في قلبه إلا حبها، فاقترب منها خطوة وكأنه يقرب ما تبعثر بينهما، صوته كان متوسلًا، يائسًا، عاشقًا يتشبث بحلمه الوحيد:




        
          
                
ـ ومين قال بس ان انتِ قليلة ولا مش مكفياني، ولا اني مش شايفك بمليون ست؟ انتِ أحلى من كل اللي أنا عرفتهم وقابلتهم، وأنقى من كل إنسان اتعاملت معاه، وأقرب لقلبي وعقلي وروحي من نفسي حتى يا "فريدة"، اديني الأمان صدقيني وأنا مش هخذلك، وارجعي لي بقلبك وروحك، عايز أحس معاكي اني حبيبك اللي ما تقدريش تستغني عنه واللي بتشتاقي ليه زي ما أنا بكون معاكي بكل اشتياقي.



تأملت "فريدة" ملامحه التي تغيرت كثيرًا، لم يكن كما كان يومًا خذلها فيه، بل صار رجلًا يحاول جاهدًا أن يُصلح ما تهدّم، لكنها لم تكن مستعدة لترك جرحها يندمل بهذه السرعة، رغم ارتجافة قلبها أمام صدقه، فكانت حروفها تخرج مختلطة بالعقل والقلب معًا:



ـ طب اوعدني ان انت مش هتخذلني تاني ولا انك هتخليني اسمع اللي سمعته دي تاني، لأن المرة الجاية ساعتها مش عارفة هويحصل إيه لو جرحتني؟ صدقني هتوبقى حالتي صعيبة قوي ومش هقدر اسامح ولا أدي فرصة تانية يا "فارس".



شعر "فارس" وكأن العالم كله قد توقف عند وعدها، وكأن قلبه لن ينبض مجددًا إن خذلها مرة أخرى؛ رفع يده ليضعها على قلبه، كأنه يقدمه قربانًا بين يديها، وكان صوته ممتلئًا بحبٍ لا يُحتمل، صادقٍ حد الوجع:



ـ ده أنا أوعدك بروحي وقلبي وعمري يا كل عمري صدقيني أنا ما حبيتش ولا هحب ولا عشقت ولا هعشق ولا قلبي ده حب بصدق غير ليكِ انتِ يا "فريدة"، والله العظيم ويمين وقسم خديه على عهد إن قلبي عمره ما يعشق ست غيرك ولا عشق ست غيرك.



أحنت "فريدة" رأسها لثانية، وكأنها تخفي دمعة تأبى السقوط، قلبها المرتبك كأنما يخوض معركة بين الغفران والخذلان، لكنها في النهاية كانت امرأة عشقت بكل ما فيها، فسمحت لقلبها أن يتكلم، للحب أن يأخذ الكلمة:



ـ وانت كمان ما تتصورش اني هحبك كد إيه؟ بجد انت كل حاجة ليا في الدنيا، انت وبنتنا ومش عايزة أي حاجة من الدنيا غير اننا نكون مستقرين مع بعض نفسيًا وما حدش فينا يآذي التاني بأي شكل من الأشكال واصل.



تهللت ملامح "فارس"، كأنه التقط أنفاس الحياة بعد اختناق، فمد ذراعيه نحوها، كمن يبحث عن أمانه الأخير، عينيه امتلأت بندى الرجاء، وصوته خرج متلهفًا، يشبه ارتجافة طفل في حضن أمه:



ـ هو في برده حد يقدر يأذي روحه وقلبه عمره؟ تعالي في حضني، وحشتيني قوي ونفسي في حضنك وانتِ بتضميني قوي زي ما كنتِ بتحضنيني بحب واشتياق قبل كده، احضنيني يا "فريدة" أنا محتاجك.



وقفت "فريدة" لحظة تنظر له، ثم تقدمت نحوه ببطء، ووضعت رأسها على صدره، وكأنها تعلن هدنة بعد حرب، وبين ذراعيه وجدت نفسها من جديد، وتكلمت بكلماتٍ صادقة من عمق قلبها:



ـ تعالى يا قلب وعقل "فريدة"، ما تتصورش انت كمان حضنك ده بالنسبة لي إيه، وما تتصورش إني هحبك كد إيه، ربنا يخليك ليا ويبعد عننا الشيطان يا رب.




        
          
                
ظل الاثنان في حضن طويل، تلوّن بالدموع والحنين والاعتراف، بينما الليل بالخارج يراقب بصمت حكاية حب تنقذ نفسها من تحت الركام، كانت هذه اللحظة بداية جديدة لقلبين اختارا أن يكونا لبعض، رغم كل شيء ولكن ماذا يخبئ لهم القدر ،
وفي تلك اللحظة، كانت الذراعان تلتفان حولها بشراسة الحنين، كأنّ "فارس" يعيدها من منفى طويل إلى صدره، احتضنها بكل ما في الشوق من جنون، وكل ما في الحب من لهفة، وكأنه يخشى أن تهرب منه مرة أخرى، أن تضيع كما ضاعت الأيام التي لم تكن فيها بين ذراعيه، كان يقبّلها بحرارة لا تعرف الهدوء، كأن فمه يبحث عن وطنه الضائع فوق عنقها وجبينها، وكأنّه يُعيد اكتشافها بكل خلية فيه، ينهل من ملامحها كمن يروي ظمأ سنين، لم تكن مجرد قبلة أو مجرد حضن، بل كانت طقس تملّك، طقس عودة رجلٍ إلى معبده المقدس، أنفاسه تختلط بأنفاسها، وقلبه يضرب في صدره بقوة العاشق الذي ظن أنه فقد معشوقته إلى الأبد، وما بين ذراعيه، بدت له كأنها العالم بأكمله، وكأنها الشيء الوحيد الذي خُلق من أجله.
                 *********
بعد ذاك الأمر الذي فرضه "عمران" بتشبس لم تستطيع "سكون" عدم تنفيذه ومرت أيام وأيام كثيرة وحال "سكون" تطور للأصعب في علاقتها بـ"عمران" حيث كانت تنام كل ليلة بجواره وهي تترك قطعاً من قلبها
رغما عنها بعدما وضعها عمران في خانة اليك ولم تستطيع الإفلات من حكمه عليها،
كل ليلة من تلك الليالي الكثيرة التي تنام ليلها بعيداً عن أبنائها تزرف دموعاً طيلة الليل وتلك الليلة حالها كمثل حال الليالي المنصرمة بعد ان تعمق عمران في نومه جلست على التخت بجواره نصف جلسه وهي تتكور برأسها على قدميها وتحدث حالها وهي تتألم بصمت على تلك الحالة التي لم تستطيع الخروج منها مهما مرت الأيام:
ـ لما تبكين "سكون" الست في أحضان الـ"عمران" تلك الأحضان التي تعشقيها كما تعشقين أحضان أطفالك؟!
فهذا "عمرانك" "سكون" عشق كل الليالي نبض قلبك الاول والثاني والاخير
لكنك رغم قربك منه، تشعرين ببعد شاسع لا تُدركين حدوده،أين ذهبتِ وأنتِ هنا؟ وكيف اختنقتِ وأنتِ في أمان حضنه؟
أتراكِ تحبين الجميع حد أنك نسيتِ أن تحبي نفسك و"عمران" هو نفسك ونفَسُك وجل كيانك ،
أتراكِ تنزفين من كثرة العطاء لهم وقلة الاحتواء له ،حتى جف فيكِ النبض؟
تشتاقين إليهم في كل لحظة، تشتاقين إليه في اللحظة ذاتها  ولا تستطيعين جمع القلوب في قلب واحد، لأنك تقفين بينهم لا معهم،
أكنتِ تظنين أن الحب وحده يكفي؟ أم أن الأمومة ستبقى أقوى من كل شيء؟
أين "سكون" التي كانت تضحك من أعماقها؟ هل ماتت في زحام الواجب؟ أم نُفيت إلى آخر زاوية في الحياة؟
ثم ارتعشت أنفاسها، واغرورقت عيناها من جديد، وابتلّت راحتيها وهي تمسح دمعًا لا يُشبه سواه، دمع الممزقة ما بين قلبين، ونداءين لا يمكن أن تُلبيهما معًا دون أن تخسر نفسها على عتبة أحدهما،
لماذا أشعر وكأنني أنقسم إلى نصفين؟
لماذا كل قرار بسيط، يتحول في صدري إلى حـ.ـرب؟
أيعقل أن حضن أطفالي يسرقني من حضن زوجي؟
أيعقل أنني أُرضيهم فأخذله؟
أُمسك بيد هذا فأترك يد ذاك،
هل أنا أمّ أنانية؟ أم زوجة مقصّرة؟ أم امرأة لم تَعُد تعرف مَن تكون؟
كلما أوشكت على النوم في حُضنه، سمعت أنفاس أولادي فاشتاقت روحي إليهم،
وكلما اقتربت منهم، شعرتُ أنني أبتعد عنه، فأخونه دون أن أقصد،
أنا لا أريد أن أخسرهم ولا أريده أن يخسرني
لكني أخاف أنني بخوفي من الخسارة، سأخسر كل شيء فعلًا،
كانت الليلة ثقيلة كما ألفتها الأرواح الموجوعة، ساكنة سكونًا يشبه البرك الراكدة حيث لا حركة تُنبئ بالحياة، إلا أن بين جنبات الغرفة الصغيرة كان هناك قلبان يضجان بصراخٍ صامت لا يسمعه سواهما،
"عمران" لم يكن نائمًا كما كانت تعتقد "سكون"، بل كان ممددًا بجسدٍ ساكن وعينين نصف مغمضتين وقلبٍ يقظ، يترقب اللحظة التي تظنه غفا فيها، ثم تبدأ هي في طقوس بكائها المعتادة، تلك الطقوس التي أصبحت لعنة تسكن وسادته وتحرمه لذة الاحتواء،
تناهى إلى سمعه صوت أنفاسها المتقطعة، لم تكن تبكي بصوت، بل كانت تهتز بصمتٍ موجع، جسدها يرتجف كما لو كانت تتلقى طعنات متتالية لا تُرى، وحين رفعت يدها تمسح دمعة على خدها المبلل، لم يعد بمقدوره أن يصبر أكثر،
تحرك بجسده فجأة، جلس في الفراش يرمقها بنظراتٍ مثقلة بالخذلان والغضب والحزن، كان يرى في عينيها شيئًا يُشبه الهزيمة، لكنه لم يشأ أن يواسيها، بل أراد أن يوقظها:




        
          
                
ـ انتي فاكرة إني هنام جارك يا "سكون" واني سامعك وحاسك وانت هتبكي كل ليلة؟!
فاكرة إني هغيب عنك في الليل زي ما إنتي بتغيبيني عن حضنك بعد ما انام وكاني طوق هيخـ.ـنقك ولما تصدقي اني نمت تبكي كل ليلة والتانية؟ انتي مش حاسه بيا واصل ولا عاملة حساب إن في راجل بينك وبينه عشرة وبيت وسنين وعشق وأزمات عديناها سوا وانتِ بعمايلك داي هتهدي كل الحلو اللي بيناتنا؟
انتي فاكرة دموعك داي بتعدي من جنبي اكده عادي ؟ لاه يا "سكون"، دي كل دمعة فيهم هتنزل على قلبي زي النـ.ـار، بتكوي قلبي وكبريائي وكرامتي كراجل هتحسسيه أنه هيغصب مرته على حضنه .



اتسعت عينا "سكون" بدهشةٍ مشوبة بالخجل، رفعت نظرها إليه بعينين دامعتين، شفتاها ترتجفان، لم تكن تظن أنه يعلم، كانت تبكي بصمت، تعتقد أن الظلام يخفي وجعها، لكنها نسيت أن الظلام لا يعمي القلوب فتابع لومه :



ـ كنت هقول لنفسي اصبر عليها، هتتعوَد، هتتعالَج من التعلق المرضي اللي مسيطِر عليها، بس واضح إنك ما بتتعلَميش، انتي مصرة تعيشي نص واحدة، لا قدرتي تسيبي أولادك ولا عرفتي تصوني جوزك، واني اللي دفعت التمن كل ليلة في حضنك وإنتي بتبكي كأني سجان مش جوزك .



تكسرت الكلمات في صدر "سكون"، لم تجد ما تقوله، سوى أن تُنزل رأسها، أن تخبئ وجهها من قسوة عتابه التي كانت صادقة حد الألم، أرادت أن ترد، لكن صدرها كان ممتلئًا باعترافات ووجع، فرفعت رأسها ببطء وتكلمت بصوتٍ حنون مشوب بالانكسار :



ـ  اني ما بكرهش  نومتي جارك صدِقني يا "عمران"، اني هحبك، هحبك حب كبير قوي، بس قلبي مش عارف يقسم نفسه بينك وبينهم، مش قادرة أتخلى عنهم لحظة، حاسة إني لو بعدت عنهم لحظة هيفوتني عمر، اني بحاول أرضيك، والله بحاول، بس مش بقدر، مش عارفة أختار ما بين حضنك وحضنهم، كل واحد فيكم ليه وجعه وليه حنيني ، فخلينا نتقابل كزوج وزوجة بحب وحنان وهديك وهاخد منك الحب كله بس اروح انام في حضنهم حاسة إني أنفاسي هتتسحب مني واني بَعيدة عنيهم .



تأملها "عمران" لحظة طويلة، رأى في عينيها الطفلة التي تخاف أن تفقد، والمرأة التي تاهت في زحام الأمومة، لكنه لم يكن بمقدوره أن يصفح بسهولة، لم يكن ضعيفًا لدرجة القبول بالمجتزأ من الحب ، أحس بالخذلان والوجع من كلماتها بألم وانكسار مالم تتحمله الجبال ولا أعتى الرجال فامراته تصرح أمامه بل وتستعطفه أن يتركها تبتعد عن أحضانه :



ـ بقى عايزاني أأجر حضنك يا "سكون" أخد من حنانك وارتوي منك وترتوي مني دقايق هتمني عليا بيهم من وقتك وبعد اكده تهمَليني وأني وهبتك كل عشق الــ"عمران"؟
انتي فاهمة يعني إيه راجل ينام وهو حاسس إن مرته نايمة جاره ودموعها هتغرق هدومه هيحس بايه؟ فاهمة يعني إيه كل يوم أحس إني عبء عليكي وأقول فترة وهتعدي ألقاها هتزيد وتزيد معاها الفجوة في قلبي ناحيتك؟ إنك هتبصي لولادك بحنية وهتبصي لي كأني حد لازم تصبري عليه؟ دا اسمه إيه؟ دا اسمه جواز؟ دا اسمه حب؟ انتي نسيتيني يا "سكون"، وأنا موجود، عايش جنبك، بتألم كل لحظة .




        
          
                
جرت "سكون" نفسها من فراشها كأنما لم تعد تحتمل قسوة الاعتراف، جلست على الأرض عند قدمه، رفعت وجهها إليه وقد بللته الدموع، أمسكت بيديه المرتجفتين من شدة الغضب وقالت بصوتٍ لا يكاد يُسمع وهي ترى قهر العاشقين في عينيه يصرخ ألماً شديداً منها:



ـ متزعلش مني، والله ما أقصد أوجعك، اني تايهة، تايهة بين أمومتي وحبي ليك، حاسة إني محتاجة حد يفهمني ويفهم مشاعري اللي هتغصبني على اكده، بس خايفة، اني مش قاصدة أجرحك، بس وجعي بيغلبني، اني لسه بحبك زي أول يوم، بس مشكلتي إني حبيت ولادي من نفس القلب، وحبي ليك اتكسر ما بين المسؤولية وإحساس أمومتي ناحيتهم واني انام في حضنهم.



سكت "عمران" للحظات، كانت يداه في يدها، وعيناه تشي بالغضب والخذلان، لكنه لم يسحب يده، كأنما لا يزال فيها بقية من ود، أو بقية من أمل في إصلاح كل شيء:



ـ انتي محتاجة تتعالجي من ده، لازم ترفعي عنك الغشاوة، لو كل أم فضلت متعلقة بأولادها بالشكل دي، هتخسر نفسها، وتخسر جوزها، وهتخسر ولادها كمان، التعلق دي مش حب، ده احتياج مرضي بيهدّك كل يوم، وأني كل يوم بحاول أبنيكي تاني وانتي تهدي كل الحلو اللي هبنيه ليكي جوايا .



رفعت "سكون" وجهها فجأة، وكأنما ضربتها كلماته في أعماق وجعها، أرادت أن تصرخ، لكنها لم تفعل، اكتفت بأن تغمض عينيها، وأن تسند رأسها على ركبتيه، كان حضنه ما يزال وطنها، رغم كل شيء:



ـ سامحني يا "عمران"، سامحني إنك بتحاول تصلح بينا ومش بتلاقي فيا جزء يساعدك، سامحني إني اتعودت أكون أم أكتر ما أكون مراتك، سامحني على بكايا اللي كسر كبريائك، وسامحني إنك لسه شايف فيا حاجة تستاهل بس صدقني غصب عني والله غصب عني حتى دموعي اللي هتنزل مني كل ليلة بحاول امنعها وهتنزل من عيني غصب عني .



ضاقت عينا "عمران" بتعب دفين، مدّ يده ووضعها على رأسها بفقدان أمل لا يخلو من العتاب، قال بصوتٍ خافت لكنه كان كالسيف :



ـ أني مش هسامحك، إلا لما ترجعي لي "سكون" اللي حبيتها، اللي كانت هبتبص لي بعشق وعيون هتلمع كل لما تشوفني،  اللي حضني كان بالنسبالها أمان، مش فرض، مش حكم، وقتها هسامحك، وهسامح دموعك، وهسامح الأيام اللي اخدتك مني. 



ظلت "سكون" ساكنة، لا تبكي هذه المرة، بل كانت تشعر بأن جدارًا من التشتت قد انهار داخلها، لم تكن بحاجة إلى بكاء آخر، بل إلى أن تواجه ذاتها، أن تختار من تكون، أو على الأقل، أن تتصالح مع ما تبقى منها
وخارج الغرفة كانت الحياة ساكنة كما الليل، لكن في قلب "سكون" كانت العاصفة قد بدأت تهدأ، لأول مرة، منذ سنوات لينطق "عمران" بوجع وخذلان وقلب جُرِح من امرأته التي يعشقها وهو يتمدد على التخت ويعطيها صدره ناطقاً بخزي :
ـ روحي نامي جار ولادك "عمران" مبقاش رايد حضنك ولا رايد منِّتِك وتفضلك عليه ، ولا هيشحت منك حقه تاني .
في تلك اللحظة التي خيم فيها الصمت بين "عمران" و"سكون"، لم يكن مجرد صمت عادي بل كان كفيلاً بهدم جدران الثقة التي شيّدوها معاً طيلة سنوات من العشق والمحن. كان قلب "عمران" ينزف بصمت، كأن نظراتها الحزينة تطعن كبرياءه في مقتل، بينما قلب "سكون" يتشرخ ببطء تحت وطأة العتاب الذي لم تكن تملك له رداً إلا وجعاً، نظرت إليه بعينٍ يائسة ثم أسندت ظهرها إلى الحائط وانكمشت على نفسها، وكأن الأرض وحدها باتت مأواها، أما "عمران"، فظل جامداً في مكانه، عاجزاً عن لملمة ما تبعثر من حبها في تلك اللحظة التي سال فيها العتاب مرّاً في العروق، وهكذا بدأ العشق بينهما ، ذلك العشق الذي تحدى كل شيء في الانهيار بصمت مخيف، كأن القدر قرر أن يختبر ما تبقّى من قلوبهما المنهكة.


 

تعليقات