رواية الجدران الناطقة الفصل الثاني 2 - بقلم مريم عثمان
في ظلام دامس، خانق كالكابوس، لا يمكن رؤية شيء حتى لو رفعت يدك أمام عينيك ظنت آنا لوهلة أنها مغمضة العينين، لكنها سرعان ما أدركت أن عينيها مفتوحتان على اتساعهما إذن، ما هذا الظلام الحالك؟ وأين هي؟
تسارعت أنفاسها، وأخذت تدور حول نفسها محاولة أن تجد مخرجًا، لكن الصوت الذي ملأ الأرجاء شلّ حركتها تمامًا هاعهاعهااااع صوت ضحكة مفزعة، لا تشبه ضحكات البشر، تتردد أصداؤها من كل اتجاه، تبعتها أصوات صراخ متألم، ليست مجرد صرخات، بل أنين معذبين يُنتزع الألم من أحبالهم الصوتية انتزاعًا وكأنها في دوامة جحيمية لا مخرج منها
بدأ جسدها ينتفض، شعرت ببرودة غريبة تزحف تحت جلدها
ثم ظهر من العدم لم يكن كائنًا بشريًا، ولا حتى وحشًا مألوفًا كان شيئًا، كيانًا غريبًا، بملامح مشوهة لا يمكن وصفها، كأن وجهه قد صيغ من الظلام ذاته، يتلوى، يتمدد، يتقلص، بلا أعين، بأذن واحدة ضخمة تملأ نصف رأسه، وبأنفين كالمناجل تمتد منهما فتحات سوداء كالعتمة التي تغرق المكان أما فمه فلم يكن له فم
تشنجت أطراف آنا عندما اندفع الكائن نحوها جسده المخيف كان يقترب ويتراجع بسرعة خاطفة، وكأنه يسخر منها، يختبر مدى صمودها ثم بدأ يدور حولها، ضحكاته تتعالى، صاخبة، هستيرية، تحاول تمزيق ثباتها كانت تريد أن تصرخ، لكن شيئًا أثقل صدرها، كأن يدًا خفية تعتصر رئتيها، تغرس مخالبها في لحمها، تخنقها بلا رحمة
بدأت تتراجع، قدماها تتحركان فوق شيء لزج، أصوات كائنات تزحف تحتها، ملمسها أشبه بالأفاعي لكن أكثر لزوجة وأكثر قرفًا التصقت تلك الكائنات بساقيها، تحركت فوق بطنها، أشواكها الدقيقة تغرس نفسها في جسدها حاولت إزاحتها، لكنها لم تستطع، كأنها أصبحت جزءًا منها، كأنها تتماهى مع جسدها
ارتعدت، اهتزت، شعرت بشيء ينهمر من فمها لم يكن سوى دمها كانت تنزف بغزارة، عيناها تشوشتا، وتحولت نظرتها إلى لون قرمزي حاد أشبه بعيون القطط في الظلام
ثم سطع ضوء نقطة من الأمل وسط العتمة ضوء يشق الأفق من خلف ذلك الكيان المرعب، فتوسعت عينا آنا فرحًا أخيرًا النجاة؟
لكن لا لم يكن ضوء الخلاص بل كان سيفًا سيفًا متوهجًا من حمم متقدة، اندفع نحوها كنيزك ساقط، يستهدفها مباشرة صرخت، وضمت يديها إلى عنقها كأنها تحاول حمايته من الموت القادم لكن قبل أن تصلها الضربة، أحست بشيء يشد يدها بقوة
طفلة تلك الطفلة ذات العيون الذئبية التي رأتها سابقًا
بثبات غريب لا يناسب عمرها، قالت بصوت صارم:
إنها معي
كان صوتها حازمًا، مرعبًا أكثر مما يجب كانت تنظر نحو السيف بشراسة لا تصدق، وكأنها تستطيع التحكم به بإرادتها
قلت إنها معي
في لحظة توقف السيف، وكأنه تجمد في الهواء
لكن من تكون هذه الطفلة؟ ولماذا أنقذتها؟ أم أن إنقاذها مجرد وهم آخر في هذا الجحيم؟
في اللحظة التي توقّف فيها السيف أمام عيني آنا، شعرت بأنفاسها تُسحب قسرًا، وكأن الهواء نفسه تخلّى عنها الطفلة الهاربة كانت لا تزال تمسك بيدها، لكن قبضتها الصغيرة لم تكن بريئة… كانت باردة، قاسية، أشبه بمخالب خفيّة تُحيط بمعصمها رفعت آنا رأسها ببطء، محاولة استيعاب ما يحدث، لكن الصدمة كانت أكبر من أن يتحمّلها عقلها المنهك
الطفلة الهاربة: قلت لك… إنها معي
صوتها لم يكن مجرد كلمات، بل كان كأنها تتحدث عبر صدى عتيق، صوتٌ ينتمي لعالمٍ آخر، يتردد في الأفق كصوت الرياح الهامسة بين أطلال مدينة مهجورة نظرت آنا إلى عينيها، فوجدتهما تتوهّجان ببريق فضيّ غريب، لم يكن يشبه عيون البشر، بل كان كأنهما نافذتان إلى شيء أعمق… أظلم
وفجأة، بدأ المكان يهتزّ، الأرض تتصدّع تحت قدميها، وصرخات الألم عادت تتردد في الأرجاء، لكنها هذه المرة لم تكن مجرد صرخات… كانت أصوات نداءات وكأن الأرواح المعلقة في هذا الفراغ الموحش تستغيث، تتوسّل، تحاول التحرر من شيء أفظع من الموت ذاته
آنا (بهمس مرتجف): ماذا… ماذا يحدث؟
لكن الطفلة لم تُجب فقط رفعت يدها للأعلى، وشيء ما بدأ يظهر خلفها… بوابة من العدم، سوداء كالفجوة، تدور حولها دوامة من الرماد واللهب الأزرق لم يكن مجرد مخرج… بل كان بابًا يؤدي إلى شيءٍ لم يسبق أن لمسته البشرية
أرادت آنا أن تسأل، أن ترفض، أن تهرب، لكن جسدها لم يطاوعها الطفلة كانت لا تزال تمسك بها، سحبَتها بقوة نحو البوابة… وعندما عبرتا العتمة، شعرت وكأن الزمن نفسه قد تمزّق من حولها
الضوء الوحيد الذي رأته كان من انعكاس عيونٍ كثيرة… آلاف العيون تحدّق فيها من الظلام، تنتظر… تترقّب… تبتسم بوجوه لا ملامح لها
ثم… همسٌ، أقرب إلى نبوءة:
مرحبًا بعودتك… كنا ننتظرك منذ زمن طويل
ترى… أين وصلت آنا؟ وما الذي ينتظرها خلف هذه البوابة؟ وهل الطفلة الهاربة حقًا تريد إنقاذها… أم أنها كانت فقط تقودها إلى مصير أكثر ظلمة؟
إذ لم يكن هناك مجال للهرب، ولا حتى للنجاة عندما تخطّت آنا عتبة البوابة، شعرت وكأن الزمن تمزّق حولها، وكأنها تُسحب إلى بعدٍ آخر، بعدٌ لا يخضع لقوانين الحياة أو الموت
الهواء كان ثقيلاً، سامًّا، وكأنها تتنفس رماد الجثث المحترقة كانت العتمة من حولها نابضة… حيّة… لم تكن مجرد ظلام، بل كيانٌ يُراقب، يبتلع كل شيء في طريقه
فجأة، دوت ضحكة شيطانية، قادمة من أعماق الفراغ، لم تكن مجرد صوت… بل كانت صدى متكررًا لآلاف الكائنات التي لم ترى النور قط
آنا (بصوت مرتجف): أين أنا؟ ماذا يحدث؟
لكنها لم تتلقَّ جوابًا، بل أحاطت بها أيدٍ سوداء، خرجت من العدم، أصابع طويلة، عظمية، لكنها لم تكن بشرية… كانت تتحرك وكأنها تمتلك وعيًا خاصًا بها
بدأت تلك الأيادي تتلمّس جسدها، تتسلل إلى عنقها، تتشبث بثيابها، تخترق جلدها شعرت بوخزات كالإبر الحادة تزرع شيئًا داخلها، شيئًا يتحرك… يكبر… ينبض داخلها
الطفلة الهاربة كانت تراقب بصمت، عيناها تلمعان ببريق بارد… مخيف
ثم، ولأول مرة، تحدثت مجددًا:
لقد تأخرتِ كثيرًا… كان يجب أن تأتي منذ زمن…
لم تفهم آنا شيئًا، لكن الألم في صدرها كان يزداد، وكأن شيئًا ما ينمو داخلها، يتمدد، يلتهمها من الداخل
ثم… حدث ما لم يكن في الحسبان
بدأ جلدها يتشقق… لم تكن جروحًا عادية، بل كانت خطوط سوداء تشق طريقها من الداخل، كأن هناك كيانًا آخر يحاول أن يخرج منها كانت تشعر به يتحرك تحت جلدها، يضغط على ضلوعها، يحاول تمزيقها من الداخل
وفجأة… همسٌ بارد يتردد في عقلها…
كنا بأنتظارك
ثم دوّى صرخة شيطانية، وارتجفت الأرض، وبدأت الجدران العدمية تتكسر، كأن شيئًا أفظع من كل ما رأته حتى الآن على وشك أن يظهر… شيء لا يمكن حتى للكوابيس أن تصفه
ترى… هل ستكون آنا قادرة على النجاة؟ أم أنها أصبحت الآن جزءًا من هذا المنزل الملعون؟ عرض أقل
•تابع الفصل التالي "رواية الجدران الناطقة" اضغط على اسم الرواية