رواية لم يبقى لنا الا الوداع الفصل الثاني 2 - بقلم منى احمد

 رواية لم يبقى لنا الا الوداع الفصل الثاني 2 - بقلم منى احمد

(2) أول الطريق.

ناقم عليها منذ تسلل إليه صوت ضحكاتها ووقف يستمع لحديثها بوجه متجهم وزاد غضبه اهتمامها المبالغ برنا، وأحس بالغيرة تشتعل بداخله فمن المفترض أن تبكي منار ندمًا على ما اقترفته بحقه بدًلا من تبادلها الحديث مع شقيقتها والضحك معها، زاد سخطه عليها وولج غرفته بعدما استقر رأيه على معاقبتها وجلس يفكر بما يمكنه أن يؤلمها ليثأر لنفسه، بعد دقيقة لمعت عينه بِتشف فهو يعلم نقطة ضعفها التي ستجعلها لا تكرر خطأها بحقه مُجددًا وابتسم بمكر وأردف:
- هنشوف يا منار هتبقي عاملة أزاي وقتها؟

انتشله صوت رنين هاتفه من ضجيج أفكاره فأجاب بضيق في بادئ الأمر وسرعان ما تبدلت لهجته من الفتور إلى الاهتمام لإدراكه هوية صاحبة الصوت، ووقف يستمع لكلماتها المرتبكة بشيء من السعادة ليُردف موضحًا:
- أزاي بس الكلام دا عمومًا أنا حتى لو مش فاضي فأنا افضيلك نفسي مخصوص.

أنصت إليها بِرضى فهو لم يتوقع أن تهاتفه وتطلب رؤيته بل وتؤكد ضرورة لقائهم اليوم فابتسم مُردفًا:
- تمام بعد نص ساعة لو يناسبك هتلاقيني منتظرك في الكافيه اللي جنب الكلية.

أنهى حديثه معها ووقف يحدق بهاتفه لا يصدق تلك الفرصة التي أتت إليه دون سعي، وسارع وبدل بنطاله ووقف يغدق على جسده بعطره المحبب إلى نفسه وتطلع إلى هيئته الأخيرة التي نالت استحسانه وغادر وهو يطلق صفيرًا عاليًا، وبعد نحو الساعة جلس أمام ليان بالمقهى وراقب نظراتها الخجولة نحوه فأدرك أنها تبحث عن مدخل لتُخبره بحاجتها فقرر انتظارها لتبدأ حديثها لتؤكد ظنه حين حمحمت قائلة:
- بصراحة يا أمجد أنا محرجة منك ومش عارفة أبدأ كلامي معاك أزاي خاصة أني عرفت من بعض الزملاء أنك اخترت الفريق اللي هيعمل معاك المشروع اللي دكتور ورداني كلفك بيه.

أدرك غايتها فالجميع ينشد الانضمام لِفريقه ولكن أن تطلب منه ليان الانضمام فهي فرصة ثمينة لن تأت كثيرًا وعليه اغتنامها بطريقة صحيحة والأهم ألا يُشعرها باهتمامه كي لا تتكبر لاحقًا، لذا أجابها بلا مبالاة:
- أنا فعلًا اخترت الفريق بس مش عارف إيه دا دخل الفريق بطلبك أنك تشوفيني؟

ازدردت ليان لعابها وفركت كفيها تستجمع شجاعتها لِتخبره بما تُريد ورفعت عينيها ونظرت نحوه مُجددًا وأردفت:
- بصراحة أنا حابة أنضم لفريقك يا أمجد وعلشان أكون واضحة أكتر أنا مش حابة فريق الشريف لأني بقلق منه ومن أسلوبه اللي بيتعامل بيه مع زميلاته و...

أومأ أمجد بتفهم قائلًا:
- متكمليش أنا فهمت عمومًا يا آنسة ليان أنا برحب بيكِ في الفريق لأنك مكسب حقيقي.

انفرجت أساريرها وَزفرت بارتياح وأردفت:
- حقيقي أنا مش عارفة أشكرك أزاي على موافقتك دي ياه يا أمجد أنت متعرفش أنا فرحانة قد إيه علشان شلت عني حِمل تقيل وهم كبير، دا أنا لو فضلت أحكي لك قد إيه كنت خايفة ترفض مش هتصدقني.

راقبها أمجد ولم يفت منه ملاحظة نظراتها المرتبكة نحوه فمسح عن وجهه ابتسامته قائلًا:
- أسمحِ لي الأول أشيل اللقب وأقولك ليان، ثانيًا اعتذارك مني علشان كلمتيني وخوفك لتكوني بتطفلي أو ظنك أني أرفض طلبك مالوش أي أساس من الصحة، دا غير إنه بيخسك حقك لإنك مكسب لأي فريق واختيارك لفريقي دا شرف ليا، ثالثًا بما إننا هنبقى فريق واحد فيا ريت بلاش تتعاملي معايا بالشوكة والسكينة واعتبريني صديق أو أخ ليكِ دا طبعًا بعد إذنك، ولو يا ستي لقيتني مش قد ثقتك وقتها أتعاملي معايا بالطريقة اللي تحبيها، ها قولتِ إيه هنتعامل رسمي ولا أخوات؟

خضب الحرج وجهها بحمرة طفيفة فخفضت رأسها وأجابته:
- خلينا أصحاب أحسن ولا أنت شايف إيه؟

أخفى ابتهاجه لاختيارها واعتدل بجلسته مُردفًا:
- وهو في أفضل من الصداقة والاصحاب وعلشان أثبت لك أننا أصحاب وإن قلبنا على قلب بعض هقولك على شوية حاجات تاخدي بالك منها هتضيف لك وِهتنفعك والأهم أنها هَتميزك عن الباقي خصوصًا إن أنا لسه موزعتش المهام.

ابتسمت بحرج وسألته عن مقصده فَبادلها الابتسامة قائلًا:
- أولًا أنا حابب تخليني أرشح لك الناس اللي هَتتعاملي معاها في الفريق علشان تقدري تطلعي شغل يبين مجهودك زي مثلًا المنظور اللي هترسميه لازم يبقى احترافي وغير تقليدي علشان كده لازم تاخدي فكرة عن التصاميم من المراجع الأجنبية، وقبل ما تعترضي دا مش تحايل ولا غش لأن الدكاترة نفسهم طلبوا إننا ناخد فكرة من المراجع بس أحنا اللي بنكسل لأن في بعض المراجع بتعدي الألف صفحة.

وبعد نحو الساعة قضاها أمجد بتوضيح ما عليها إنجازه أصر على مرافقها إلى منزلها فوافقته وسارت بجواره إلى منزلها وأمام بنايتها تطلعت نحوه وأردفت وهي تُشير إلى أعلى:
- بما أنك وصلتني فَاتفضل اطلع معايا أعرفك على بابا وبالمرة تشرب قهوة من أيدي.

بوغت أمجد وحدق بها بعيون متسعة فانفجرت ليان ضاحكة وعقبت على ردة فعله بقولها:
- آسفة بس ملامحك وأنت مصدوم فكرتني بفيلم هاتولي راجل، عمومًا اطمن لما تطلع تشرب القهوة هتلاقي بابا منتظرك لأنه عارف إني نزلت أقابلك وقبل ما نمشي من الكافيه كلمته وقلت له إنك هَتوصلني فطلب مني اعزمك على القهوة.

بادلها الابتسام ورافقها لأعلى فاستقبله والدها بابتسامة هادئة، فسارعت ليان واحتضنته وقبلت وجنته مُردفة:
- أحب أعرفك يا أمجد على صديقي الصدوق بابا الدكتور ضياء علام.

أدارت ليان وجهها المشرق نحو أمجد وأردفت بارتباك حين لاحظت نظراته إليها:
- ودا زميلي أمجد المُشير اللي حكيت لك عنه يا بابا.

رحب ضياء بأمجد ورافقه إلى الداخل وطلب من ابنته أن تعد القهوة وحين ابتعدت التفت ضياء وتفحص أمجد بنظراته وأردف حين رأى مبلغ حرجُه:
- على فكرة أنا أعرفك من أول سنة ليك بالكلية واللي أتكلم عنك هو الدكتور غريب مدني وبصراحة من اللي قاله عنك أنا كنت حابب أتعرف على الشاب اللي حارب الظروف علشان يحقق حلمه، ولما ليان قالت لي على المشروع وإنها خايفة رشحتك ليها وقلت لها تتواصل معاك وإحقاقًا للحق أنت طلعت عند ظني بيك ومخيبتش نظرتي فيك لما طلبت أنك توصلها علشان كده صممت إني أتعرف عليك.

تطلع أمجد نحوه بدهشة فرأى نظر فخر به فأردف:
- بصراحة يا دكتور أنا مصدق نفسي وحاسس إني بحلم يعني أصل إن الدكتور ضياء علام بنفسه يقول فيا أنا الكلام دا فدا شرف ليا وكلام حضرتك وسام فوق صدري.

انتقل ضياء إلى المقعد القريب منه وربت كتفه قائلًا:
- الشرف ليا أنا يا أمجد لأنك بني آدم خلوق وطموح يا ابني اللي زيك لما بيلاقي الظروف ساءت معاه بيرفض يعافر وبِيعلق فشله فأي حاجة بتحصل له على شماعة ظروفه، علشان كده أنا من اللحظة دي هعتبرك ابني وبيتي مفتوح لك في أي وقت.

اقتربت ليان وعلى وجهها ابتسامة حالمة ووضعت القهوة فوق الطاولة واتجهت نحو مقعد والدها وجلست فوق مسنده وأحاطت كتف والدها بساعدها وأشرفت بعينها على مكان أمجد وحدقت بملامحه بوله وشردت للحظات فأعادها اعتدال والدها إلى الواقع فابتعد عنه وجلست بمقابل أمجد وغمزت إليه قائلة:
- عارف يا بابا لما عزمت على أمجد يطلع معايا البيت يشرب القهـ...

أوقفها أمجد بحرج بقوله:
- ليان خلاص بقى مش لازم تحكي حاجة للدكتور و...

منعه ضياء بطلبه منها إكمال حديثها فقصت على سمعه الموقف فابتسم مُردفًا:
- أهو كلامك بيأكد إن ثقتي فيه فمحلها لأنه إنسان محترم واللي زيه بقى عملة نادرة فِالزمن دا.

خفض أمجد وجهه حرجًا ومد يده والتقط فنجان قهوته وَاحتساه ببطء بينما انخرطت ليان بحديثها وحين لاحظت صمته أشركته في الحديث، فَتحولت جلسة التعارف إلى جلسة ودية تمنت ليان ألا تنتهي أبدًا.
وبطريقه إلى منزله تأكد أمجد أنه وضع قدمه على أول طريق نجاحه وعلاقته برجل بمركز ومكانة ضياء علام سَتفتح له الأبواب المغلقة، رسم عقله صورة لليان بنظراتها الحالمة وصوتها الرقيق واهتمامها الواضح بتوطيد علاقتها به، فجأة عنفه قلبه وذكره بمنار التي تمنى الارتباط بها وأحبها على مدار سنوات فزم شفتيه وأردف بحنق:
- طب بذمتك بقى ليان برقتها واهتمامها بيا وثقتها بنفسها ولا منار اللي بتفضل تبص حواليها وبتحسسني أننا بنسرق؟

لزم أمجد الصمت وولج مسكنه قائلًا:
- عمومًا هو مافيش أي وجه للمقارنة ما بينهم.

تجهم وجهه واتجه إلى غرفته مُتعكر المزاج حانق من نفسه لتذكره رفضها فزفر قائلًا:
- تبقى تخلي كسوفها ورفضها ينفعها لما أضيع منها و...

تنبه عقله لما لجنوح أفكاره فنبهه بقوله:
- بس أنت لازم تخلي بالك إن منار مهما زعلتك بترجع تصالحك ودايمًا فالجد بتسمع كلامك وتنفذ لك اللي أنت عايزه ولما تبقى في بيتك عمرها ما هَتعارضك عكس شخصية ليان اللي عايشة حياتها بالطول والعرض وبتفكر بدماغ والدها وما أظنش أنك هتقدر تفرض سيطرتك عليها لأنها هَتجادلك فكل قرار تاخده، علشان كده أنا عايزك تفكر كويس وبلاش تتسرع وتخسر منار.

جلس أمجد فوق فراشه يُفكر فأدرك أن عليه المحافظة على بقاء منار بحياته فهي كوالدته سَتسعى لإرضائه وَلراحته ولن تقف عائقًا أمام تحقيق طموحه ولكن عليه معاقبتها ليثأر لكرامته وليُعلمها درسًا لِتطيعه فيما بعد، فزفر بارتياح وتمدد فوق فراشه وأردف:
- وماله يا أمجد عاقبها وشوف هتعمل إيه وعلى أساسه أتصرف.

---

حاولت منار إلهاء نفسها بمذاكرتها حتى لا تستسلم لحزنها مُجددًا فيكفيها بكاؤها طيلة أسبوع لاختفائه كُليًا عنها، زفرت لتطرد غصتها وحدقت بكتابها وأجبرت عقلها على استيعاب ما تقرأ، بعد نحو الساعة أقرت منار أنها لا تعي أي معلومة لينتشلها من تيهها صوت طرقات أجفلتها فدفنت وجهها بكتابها باضطراب الذي ازداد حين حياها والدها فتركت كتابها بتوتر وسألته:
- محتاج حاجة أعملها لك يا بابا؟

ابتسم شُهدي وأجابها وهو يدنو منها:
- لا يا نور عيني تسلمي لي أنا قلت اطمن عليكِ وأشوفك لو كنتِ محتاجة لحاجة اعملهالك علشان عارف إن عندك امتحان بكرة وِمعتكفة من امبارح على مذكرتك.

أحست منار بالذنب لإهدار الوقت وتحركت نحوه واندست بين ذراعيه وأردفت:
- أنا خلصت وحليت أربع امتحانات وحليت كل المسائل اللي المستر بعتها أون لاين فإيه رأيك لو تسبقني على البلكونة على ما أروح أعمالنا كوبيتين شاي بالنعناع نعدل بيهم دماغنا.

قبل شُهدي رأسها وأردف:
- وماله يا حبيبتي وأهو تريحي لك شوية.

شبت منار على أطراف أصابع قدميها وقبلت وجنته فَربت شُهدي وجنتها وردد بعض الأدعية ورافقها للخارج فأسرعت منار تعد الشاي ولحقت به وجلست بجواره قائلة:
- عارف يا بابا أنا ساعات بحس حالي مرعوبة من كتر ما بسمع اللي حواليا بيقولوا إن الثانوي صعب وإن كتير بِيبذل مجهود بس مش بيوصل للي هو عايزه و...

أوقفها والدها عن إكمال حديثها قائلًا:
- لا يا منار اوعي يا بنتي تستسلمي لأي كلام المحبط ولا تفكري فيه، ولو حصل وحد قاله قصادك سدِ ودانك عنه وطلعيه برا دماغك وتوكلي على الله واعملي اللي عليكِ، وصدقيني يا بنتي ربنا مش هيضيع تعبك.

أومأت منار وأردفت بِتمن:
- نفسي أغمض عيني وأفتحها القيني خلصت ثانوي ودخلت هندسة لا وكمان لقيت شغل.

ابتسم شُهدي لطيبتها وأردفت:
- كله بالصبر يا بنتي بيجي وحتى لو ربنا ما أردش ودخلتي حاجة غير هندسة متزعليش وارضي بقضاء الله وحبي الكلية اللي هتدخليها وخليها حلمك الجديد.

تجهم وجه منار وتساءلت هل يمكن ألا تحقق حلمها كما يقول والدها هزت رأسها بالنفي فهي حلمت منذ الصغر أن تصبح مهندسة وذات شأن، تابعها والدها بشفقة ومد يده والتقط يدها وأردف:
- أنا مش بقولك الكلام دا علشان تزعلي وتضايقي وتشيلي الهم أنا بس خايف عليكِ من خيبة الأمل ومش عايزك تشوفي الموضوع على أنه نهاية العالم، لا يا بنتي أنا عايزك تعودي نفسك أنك تتأقلمِي على أي مكان تلاقي نفسك فيه وتحبيه وِتبذلي مجهود أكبر علشان تنجحي فيه، يا منار مش المكان اللي بيعمل للبني آدم قيمة بالعكس الإنسان هو اللي بيعمل قيمة لكل حاجة فهماني.

أومأت بابتسامة خجولة وأردفت:
- فاهمة بس يمكن أضايقت علشان طول عمري شايفة نفسي مهندسة فمش متخيلة أبقى حاجة تانية، بس عمومًا كلام حضرتك صح وهحطه فِاعتباري.

وقفت شُهدي ورمقها بحنو وأردف:
- ربنا يكملك بعقلك يا بنتي.

وقفت منار بعد مغادرة والدها تحدق بالمارة وبين الحين والآخر تختلس النظر نحو شرفته وودت لو يظهر لتراه فهي اشتاقت إلى حديثه معها وفراقه لها عقابٍ قاسي، أحرقت الدموع عينيها ففركت عينيها حين تنبهت لصوته يحادث أحدهم ويقول:
- يا ليان طاهر قال إنه سلمك قياسات الموقع وأنتِ المفروض تحولِيها بالمعادلات وتطبقِيها مع نسب التصميم على الورق، فَأزاي النسب طلعت غلط؟

أشعل ذكره اسم فتاة غيرها غيرتها وتابعته وهو يصغي السمع ليعقب قائلًا:
- على فكرة الدكتور لو عرف بالكلام دا ممكن يفتكر إننا مش كفْ بالتكليف فيسحب المشروع مننا ويسلمه لِفريق تاني ودا أنا لا يمكن أسمح إنه يحصل أبدًا.

توارت منار كي لا ينتبه لوجودها وتابعت حركاته وسمعته يقول:
- يبقى ما فيش غير أني أروح الموقع بنفسي واخد القياسات أقارنها بِاللي سلمهالك طاهر ولو طلعت مظبوطه هكمل الشغل بدالك من غير ما حد يعرف، أما لو طلعت القياسات مختلفة يبقى طاهر بعت لك بيانات غلط علشان يوقعك، وفالحالة دي هبلغ الدكتور وهو يتصرف معاه بمعرفته.

استدار أمجد بعفوية فلمح منار تتوارى فاعتدل وأظهر نفسه ليخبرها بأنه رآها وحدق بها مليًا وشرد بملامحها ولم يدرك إنهائه اتصاله مع ليان واقترب من الحد الفاصل بينهما وكاد يتحدث إليها ولكنه تراجع بوجه متجهم وأولاها ظهره حينها نادته منار بصوت مُعذب:
- هتسيبني وتدخل يا أمجد من غير ما تتكلم معايا، إيه هو أسبوع خصام مكنش كفاية وعايز تزود عن كده؟

زفر بقوة واستدار لِيواجهها ورمقها لبعض الوقت فلاحظ شحوب بشرتها وعيونها الغائرة ولكنه تغاضى عن ملاحظته وَأجابها ببرود:
- أنا عملت اللي أنتِ عايزاه يا منار وبعدت وحطيت مسافة بيني وبينك فَزعلانة ليه دلوقتي؟

انهمرت دموعها بلوعة لِبروده معها واقتربت من الحاجز بدورها وقالت:
- بس أنا مش عايزاك تبعد ولا حتى طلبت منك أنك تبعد و...

قاطعها أمجد بحدة مُتناسيًا مكان تواجدهم:
- وأنا تعبت وزهقت من كوني الطرف اللي بيحاول يقرب ويدي والآخر يترفض، علشان كده قررت أبعد وأسيبلك الحرية تتصرفي بحياتك زي ما أنتِ عايزة وبدون أي ضغط مني لأني مش هقبل على نفسي ولا على كرامتي إني أشحت الحب منك.

تجمدت لوهلة وأحست بعقلها عاجز عن الفهم فسألته بخوف:
- أنت أنت قصدك إيه أوعى تكون عايز...!

لم تستطع إكمال الكلمة ولا التلفظ بها وانهمرت دموعها فزم أمجد شفتيه وأردف بعصبية:
- منار أنتِ عايزة إيه دلوقتي ممكن أعرف؟

أجابته بلهفة ودون تفكير:
- مش عايزاك تبعد ولا تسيبني وتفضل تحبني زي ما كنت.

ازدادت ملامح وجهه قساوة ورمقها بغموض لثوان وهم بالحديث إليها ولكنه توقف حين ارتفع رنين هاتفه فأشاح بعينه عنها وحدق بشاشته وزفر بضيق وضغط إنهاء الاتصال وأردف:
- لو عايزة تحافظي عليا يا منار فَالحل كله بأيدك أنتِ لوحدك وأظن أنتِ عارفة أنا عايز إيه!

تغضنت جبهتها واستولى عليها القلق فسألته بريبة وهي تبعد عينيها عنه:
- حل إيه اللي فايدي؟

رمقها بضيق لإبعادها عينيها عنه فأردف بحدة:
- أولًا لما أكون واقف وبتكلم معاكِ متبعديش عينك عني لأني بعتبرها إهانة منك ليا وعدم احترام، ثانيًا لو عايزاني فحياتك يبقى توافقي على أي حاجة أقولك تعمليها بدون ما تجدليني ولا تتناقشِي معايا، وحطي فِدماغك يا منار إني لا ندل ولا جبان ولا هتخلى عنك زي ما عقلك بِيصور لك ويوهمك أنك لما تخليني أمسك إيدك هشوفك بنت مش كويسة.

زادتها كلماته حيرة وتجسد قلقها فوق ملامحها فرفع أمجد حاجبه وأردف:
- مسمعتش رأيك يا منار عايزاني ولا مش عايزاني.

أحسته منار يسحب من أسفل قدميها بساط توازنها ويضعها وسط صراعها مُجددًا ويُخيرها بين بقاءه أو رحيله، رجف قلبها وارتعب من فكرة رحيله خاصة بعد سماعها حديثه مع زميلته، راقب أمجد شرودها واستدار عنها حين طال صمتها وأحس أنها لا تريده فانتبهت وَصاحت توقفه:
- أمجد متسبنيش أنت عارف أني بحبك ومقدرش أتخيل حياتي من غيرك.

لمعت عينه لنيله مُراده وزفر لِيتمالك انفعاله واستدار نحوها بنفس عبوسه قائلًا بجدية:
- تمام يا منار.

انتظرته منار بتوتر أن يُكمل حديثه وعينيها تترقبه وحين طال صمته سألته باستجداء:
- أمجد أنت مش عايز تقول حاجة تانية؟

هز رأسه بالنفي فَزمت شفتيها بحنق وقالت:
- طيب أنا هدخل أذاكر علشان عندي امتحان بكرة.

زاد ضيقها بقوله:
- طيب ربنا يوفقك عن إذنك.

تركها وغادر ووقفت منار تحدق بأثره بدهشة لتنتبه لِرنين هاتفها فأجابت بضيق دون النظر إلى صاحب الرقم فأتاها صوته يقول:
- أدخلي ذاكري يا هانم واعملي حسابك إنك لو نقصتِ ربع درجة هعاقبك.

أنهى أمجد الاتصال دون أن يترك لها الفرصة لتعقب بشيء ووقفت لثوان تبتسم ببلاهة قبل أن تسرع إلى الداخل بقلب ينبض بسعادة، ولم تنتبه منار في خضم سعادتها بتلك التي أسرعت إلى غرفتها المشتركة مع شقيقتها واندست بجوارها قائلة:
- عندي ليكِ خبر بمليون جنيه يا نهلة، خبر هيخلينا نعمل أي حاجة احنا عايزينها من غير ما منار تقف لنا زي عسكري المرور.

بعدما قصت هالة ما سمعته تطلعت نهلة نحوها وأردفت:
- بس أنا خايفة يا هالة اللي عايزة تعمليه هَيسبب مشكلة كبيرة بين بابا ومنار وكمان معانا.

عقدت هالة حاجبيها وَسألتها باستغراب:
- واحنا مالنا وهو الموضوع يخصنا احنا كل اللي هنعمله نستنى الفرصة ونقول لبابا.

هزت نهلة رأسها وأردفت بقلق:
- لا يا هالة الموضوع هَيخصنا ولو بابا عاقب منار احنا كمان هنتعاقب معاها دا غير أنه هيشك فينا وهَيخاف لتكون واحدة فينا بتعمل زيها من ورا ضهره وهيراقبنا وممكن يحبسنا معاها ولا أنتِ فاكرة إنه لما يعرف هيخليها تخرج عادي، بصي بلاش أحسن وخلينا نتكلم معاها و...

قاطعتها هالة بحدة بقولها:
- حيلك حيلك هي مين اللي نتكلم معاها الشيخة منار اللي دايمًا تقول حلال وحرام، وبعدين هو من أمته بتقولي على حاجة بنتفق عليها لا ومش عايزة تشاركيني فيها؟

تجهم وجه نهلة وَتطلعت لعين شقيقتها وأجابت:
- من بعد اللي عملناه فالمدرسة يا هالة ولا أنتِ مش حاسة بالذنب بعد اللي حصل لمها بسببنا؟

زفرت هالة بحنق ولوحت بيدها بتذمر وأردفت:
- مها زي منار هما اللي غلطوا مش احنا وكل واحدة فيهم تتحمل نتيجة غلطها.

ازداد إحساس نهلة بالذنب وانهمرت دموعها وأردفت:
- لا يا نهلة بلاش تكابري في الغلط احنا كمان غلطنا لما كشفنا سر مها أنها بتقابل ولد وخلينا المديرة هزئتها والكلام وصل لوالدها وعرفنا أنه ضربها ودخلت المستشفى ولحد دلوقتي مبتجيش المدرسة، ولعلمك ميس رجاء لما اتكلمت عن الستر وِاللي بِيفضح الستر في الطابور كانت تقصدنا ورغم غلطنا محبتش تفضحنا زي ما عملنا، ومن وقتها مش عارفة أنام وِبحلم بكوابيس وخايفة من ربنا وحاسة إنه هيعاقبني علشان كده أنا مش هعمل حاجة تاني وهبطل.

تبرمت هالة لحديث شقيقتها وزفرت بضيق وأردفت وهي تتطلع إليها بغيظ:
- أفهم من كلامك إنك مش عايزة تبقي معايا وناوية تسمعي لكلام ميس رجاء.

صمتت هالة لثوان ورفعت حاجبها بتحد وأضافت:
- تمام يا نهلة براحتك بس خليكِ فاكرة إنك أنتِ اللي بتخلفي بوعدك معايا وبتبعدي عني وبعد كده لما أتغير فِمعاملتي معاكِ متبقيش تزعلي. عرض أقل

•تابع الفصل التالي "رواية لم يبقى لنا الا الوداع" اضغط على اسم الرواية

تعليقات