رواية من انا الفصل التاسع والعشرون 29 - بقلم حليمة عدادي

 رواية من انا الفصل التاسع والعشرون 29 - بقلم حليمة عدادي 

من انا 

الفصل 29


وقف "أحمد" مذهولًا، وقد ارتسمت على وجهه علامات الدهشة والاستغراب مما حدث. واستمر شعوره بالحيرة كلما سأل أحدًا عن الأمر، فيفرّ هاربًا دون أن يجيبه. شعر بخيبة أمل، وبدأ الحزن يغزو ملامحه. لم يستطع العودة إلى السيارة، بل بقي واقفًا في مكانه، حائرًا في كيفية العثور على منزل تلك الساحرة قبل أن يحلّ الظلام. 


وبينما كان غارقًا في شروده، سمع خطوات تقترب من خلفه. التفت، فإذا بـ"يونس" يقف خلفه ينظر إليه بتساؤل. وما إن اقترب منه حتى قال: 

-بابا، في إيه؟ أنا شايف الناس بتجري منك، في إيه؟ 


تنهد "أحمد"، وأخذ ينظر حوله وكأنه يبحث عن شخص يساعدهم، ثم قال: 


- ماعرفش يا ابني، بس كلّ ما أقول اسمها لحد، يهرب! شكلهم بيخافوا منها! 


شعر "يونس" بالإحباط، وتسللت ملامح الحزن إلى وجهه. أخذ يدير بصره في كل اتجاه، باحثًا عن أمل جديد، علّه يجد مَن يدلّهم على الطريق. وبينما هما واقفان، خرجت سيدة عجوز من أحد المنازل القريبة، تستند على عصاها الخشبية وتمشي ببطء؛ يدلّ على كبر سنها. اقتربت منهما، ورفعت بصرها إليهما وقد بدا على وجهها التعجب من مظهرهما الغريب عن أهل القرية، ثم قالت: 


-بتدوروا على حد؟ شكلكم مش من هنا باين عليكم تايهين. 


ابتلع "يونس" ريقه، وكأنّه يبتلع قلقه، خائفًا من أن يسألها فتفرّ هاربة مثل الآخرين. لكنّ والده كان أسرع منه، فسألها قائلًا: 

-أيوه، إحنا فعلاً مش من هنا بندور على بيت (السحارة نيرة)... 

تبدلت ملامح العجوز سريعًا، وظهر الغضب ممزوجًا بالنفور في عينيها، مما زاد من توتر "يونس" ووالده، إذ كانت أملهما الأخير للوصول إلى تلك الساحرة.. لم يدم صمتها طويلًا، إذ صاحت بغضب: 

-يا أخي  حرام عليكم؟ جايين تأذوا مين؟ ما بتخافوش ربنا؟ 

بدت علامات الدهشة والحيرة على ملامحهما، إذ لم يدركا بادئ الأمر عن أي أذى تتحدث. غير أن "أحمد" خمّن سريعًا أنها تظن أنهما جاءا لأعمال السحر، فبادر بتوضيح مقصدهما: 

-بصي، إحنا مش جايين نأذي حد، إحنا جايين نعرف إزاي نفك السحر اللي هي عملته على ابني. 


نظرت إليهما في شك واستغراب، ثم تساءلت: 


-إزاي تفك سحر هي إللي عملته علشان تأذيه؟ هي لو أذت حد، معقول هترجع تساعده؟! 


تنهد "أحمد"، ثم قال بصوت هادئ وقد أدرك أنه لا مفر من قول الحقيقة: 

-أنا هقولك كل حاجة، وبتمنى تساعديني، علشان مش عايز أسأل حد تاني ويهرب مني. 


ارتسمت على وجهها ابتسامة باهتة ساخرة، تخفي خلفها قصصًا لا تُروى إلا لمن عاشها. ثم قالت بصوت خافت: 


-الناس بتخاف منها، ومفيش حد بيقدر حتى يجيب سيرتها أو يقرب من بيتها... تعالى، نتمشى واحكيلي جاي ليه عندها. 


تحركت العجوز ببطء، وقد أثقلها الزمن، تستند على عصاها التي كانت سندها الوحيد، بينما "أحمد ويونس" يسيران بجانبها على مهل. 

بدأ "أحمد" يسرد عليها حكاية "يونس" وما حل به، متجنبًا ذكر اسم والدته وبعض التفاصيل. 

أنصتت إليه العجوز بانتباه، حتى وصلوا إلى مكان تكسوه الأشجار الكثيفة، يخبئ في أعماقه منزلًا خشبيًّا مرتفعًا، تكاد الأشجار تحتضنه من كثافتها. توقفت العجوز أمامه، ونظرت إليه بعينين جامدتين، ثم قالت: 


–ده بيت "نيرة"... بس دخوله صعب، والخروج منه أصعب. 

أثارت كلماتها قلقًا شديدًا في نفسيهما، وبثّت الخوف من المجهول. أدركا أن الرحلة لن تكون سهلة، وأن عليهما الاستعداد لكل الاحتمالات. 

أفاق كلاهما من شروده، واستدار "أحمد" ليشكر العجوز ويسألها، لكن الكلمات اختنقت في حلقه حينما لم يجد لها أثرًا. لقد اختفت تمامًا، واختفى معها كل أثر يدل على وجودها، وكأن الأشجار الكثيفة قد ابتلعتها. تنهد بقلق، ثم استدار نحو ابنه وقال: 


-"يونس"، ده مش وقت تفكير ولا خوف. يلا بينا ندخل. 


أنهى "أحمد" حديثه، وتقدّم هو و"يونس" داخل الغابة الكثيفة، يغوصان في عمقها دون أن يعلما ما الذي تخبئه خلف ظلالها، لكنهما كانا على يقين أن ما ينتظرهما هناك ليس إلا جحيمًا. 

فقد دخلا إلى وكر الشيطان، حيث تُعذَّب الأرواح وتُمارس الطقوس الشيطانية. دخولهم مغامرة خطرة، وخروجهم منها احتمال ضعيف... ولكن لم يكن أمامهم خيار آخر. 

تقدّما أكثر، تتعثر خطواتهما وسط الأشجار الكثيفة التي تعيق حركتهما. وبعد مشقة، وصلا أخيرًا إلى حديقة المنزل. 

كانت الحديقة تحوي شجيرات تحمل ثمارًا سوداء، تتوسطها طاولة خشبية صغيرة تحيط بها كراسٍ مهترئة، وعلى الطاولة تمثال أسود مخيف تحيط به شموع دائرية، تفوح منها رائحة كريهة تكاد تقلب المعدة. 

وعلى أحد المقاعد جلس قط أسود، عيناه مثبتتان عليهما بحدة. 

وما إن اقتربا من الطاولة، حتى قفز القط فجأة واختفى بين الظلال. فزع (أحمد ويونس) مما حدث، وتيقّنا أن المكان أخطر بكثير مما تخيلا. 

وقبل أن يكملا خطواتهما، شعرا بشيء يُصوَّب إلى رأسيهما من الخلف، مسدسان. وجاء صوت غليظ من خلفهما يقول: 


-إزاي عندكم الجرأة تدخلوا بيت ساحرة؟ مش خايفين على نفسكم ولا إيه؟! 


في منزل أحمد الهلالي، جلست "منة" وحيدة، شاردة الذهن، تضع يدها على خدها، متكئة بمرفقها على فخذها. كانت تفكّر فيما ستفعله. هي تعلم أن وجودها مع ابنتها لن يدوم، وتعلم جيدًا أن "أحمد" يحبهم ولن يطلب منهم الرحيل، لكن له عائلة كبيرة، وحالته المادية صعبة، وظروفه لا تقل قسوة عن حالها. 

وهي أيضًا تشتاق إلى الاستقرار في منزلها، تهتم بدراسة ابنتها، تحقق لها أحلامها، وتكون لها الأم والأب معًا. 

زفرت بحزن، متمنية في أعماقها لو أن زوجها مازال حيًا، يخفف عنها تعب الأيام. قطع لحظة صمتها جلوس "زينب" 

بجوارها، ثم تساءلت بلهجة قلقة: 


–مالك يا "منة"؟ شارده من الصبح وحالتك مش عجباني... إنتِ كويسة؟ 


أزاحت "منة" يدها عن خدها، واعتدلت في جلستها، ثم ابتسمت ابتسامة باهتة وقالت: 


-مفيش حاجة يا "زينب"... بس كنت بفكر أرجع بيتي وأستقر هناك، أحسن. 


ضيّقت "زينب" عينيها بدهشة، وقالت: 


-"منة"، هو في حد زعلك؟ أو حد قالك حاجة؟ البيت بيتك، ليه تروحي وتفضلي هناك لوحدِك؟ 


ربّتت "منة" على يدها بشكر وامتنان، ثم قالت: 


-مفيش حد قال حاجة، أنا ممتنة ليكم وبشكركم من قلبي، بس محتاجة أقعد في بيتي، البيت إللي اتقفل من يوم وفاة جوزي. 


أدركت "زينب" أن إقناعها لن يجدي نفعًا، فاختارت أن تترك لها القرار براحتها: 


-المهم راحتك يا حبيبتي،وبيتنا مفتوح لك دايمًا. 


وفي أثناء حديثهما، نزلت "تُقى" مع الفتيات، وكان القلق واضحًا على وجهها. كانت تمسك بهاتفها، تنظر إليه كل حين، وتزفر بضيق. جلست بجوار والدتها، وهتفت بقلق: 


-ليهم كام ساعة ماشيين يا ماما، ومفيش حد رن ولا بعت رسالة ندمت إني سبتّه يروح من غيري. 


-اهدي يا بنتي أكيد مشغولين في حاجة، وأول ما يلاقي وقت هيتّصل بيكي. 


زفرت "تُقى" بضيق، وداخلها شعور بانقباض يملأ صدرها، وثقل يجتاح قلبها. لم تعد تحتمل الانتظار، وكأن الوقت جمر يحرقها. 

كانت تشعر أن هناك أمرًا ما، شيء لا يبدو طبيعيًا.انتفضت من مكانها، وبدأت تتحرك بتوتر، تدور حول نفسها، والقلق ينهشها كوحشٍ خفيّ من الداخل. 


استدار كلٌّ من (أحمد ويونس) ببطء، حين شعرا ببرودة فُوَّهة سلاحٍ خلف رأسيهما! 

التفتا ليجدا خلفهما ثلاثة رجالٍ ضخام البنية، طوال القامة، يرتدون ثيابًا سوداء بالكامل، وعلى وجوههم أقنعة سوداء مخيفة تفوح منها رائحة تشبه الدخان! 

لم يظهر منهم شيء سوى أعينهم اللامعة، وهيئة كلٍّ منهم تبعث في النفس رهبة لا توصف. 

نظر إليهم "أحمد" بترقّب وحذر، ثم قال: 


-إحنا عايزين نقابل الساحرة "نيرة" هي فين؟ 


لم ينطق أيٌّ من الرجال الثلاثة بكلمة. تحرّك أحدهم إلى الداخل، غاب لبضع ثوانٍ، ثم عاد مسرعًا وقال بصوتٍ أجش: 

-هي جوه يلا بسرعة قبل ما الشمس تغرب. 


تحرك الرجال الثلاثة بخطوات ثابتة، وتبعهما (أحمد ويونس)، حتى وصلوا إلى بوابة ضخمة سوداء، محفورٌ عليها رموز غريبة كأنها مكتوبة بالدم، وعلى جانبيها جمجمتان معلّقتان بطريقةٍ مُروّعة، يقف أمامها قط أسود بعيون تلمع كالجمر. 

وما إن وقفوا أمام الباب، حتى انفتح بقوة، وانبعثت منه رائحة كريهة ممزوجة بدخان خانق! 

تقدموا إلى الداخل، يمشون في ممرٍّ طويل تضيئه شموع على الجدران، وكان الظلام يزداد كلما تعمّقوا، يصاحبه صوت همهمات غريبة تُشبه التعاويذ القديمة. 


وصلوا إلى غرفة صغيرة، فانحنى أحد الرجال وسحب زربية قديمة، كاشفًا عن بابٍ خشبيّ في الأرض. فتحه بسرعة، وظهر من تحته سلّم خشبيّ ينزل إلى الأسفل. بدأ الرجال النزول واحدًا تلو الآخر، وتبعهم (أحمد ويونس)، وقلب أحمد ينبض بعنف.! 

كان يشعر وكأنه يقترب من هوةٍ سحيقة، وكان يدعو في داخله أن تمرّ تلك اللحظة دون أذى. 

هبطوا إلى غرفة واسعة، يغمرها الظلام، لا يُضيئها سوى بعض الشموع المتناثرة هنا وهناك، وعلى أطرافها هياكل عظمية بشرية، وفي المنتصف، كانت تجلس امرأة، مُنحنية الرأس، تلبس السواد كأنها سحابة مظلمة تهبط على المكان. 

أمامها إناء من المعدن، تتصاعد منه أدخنة كثيفة وشرر جمرٍ متّقد. 

وقف الجميع في صمتٍ رهيب، والجو مشحون برائحةٍ كريهة تُقزز الأنوف. 

أشعلت المرأة عددًا من الشموع أمامها، ثم رفعت رأسها ببطء. 

كانت عجوزًا، ملامحها غائرة، عيناها غائرتان وسط تجاعيد كثيفة، وبشرتها باهتة كأنها من عالم الأموات!. 

أنفها معقوف وفمها بلا شفتين تقريبًا، وأسنانها صفراء متآكلة... كأنها مخلوق خرج لتوّه من كابوسٍ دفين حركت فمها في حركة بطيئة و قالت: 


-انتوا مين و ليه جايين و مين ضحيتكم. 

تقدّم "أحمد" نحوها بخطوتين، ثم قال بنبرة نفي حازمة: 


–إحنا مش جايين علشان نأذي حد، إحنا جايين علشان تفكي اللعنة اللي عملتيها لابني من سنين طويلة. 


رفعت رأسها تنظر إليه، تحاول استدعاء أي ذكرى من الماضي، لكن دون جدوى. 

تناولت شمعة كبيرة بيدها ورفعتها أمامها ثم قالت: 


–قرّب انتث اللي اتعملك السحر، علشان أفتكر، واقعد قدّامي. 


تقدّم "يونس" نحوها بحذر، ثم جثا على ركبتيه أمامها، وسط التراب، مختنقًا من الرائحة الكريهة التي ملأت المكان. 

رفعت الشمعة أمام وجهه، ويدها ترتجف، تحدّق فيه بدقة، تحاول أن تتذكّره. ثم نظرت إلى ذراعه وقالت: 


–شيل هدومك من فوق، وريني دراعك، عايزه أشوف الجلد علشان أتأكد. 


رفع يونس كمّ قميصه ليكشف عن ذراعه. وما إن وقعت عيناها عليه، حتى صرخت بغضب، صوتها مخيف تردّد صداه في المكان، ثم صاحت: 


–إنت ابن فاطمة وماجد! إنت اللي اتعملتلك اللعنة وانت لسه في اللفة  صغير! 


وقبل أن ينطق "يونس" بكلمة، تدخّل "أحمد" برجاء: 


–هو ملوش ذنب في اللي عملته أمه بالله عليكِ، فكي اللعنة دي عنه. 


أمسكت الساحرة شيئًا أسود اللون، وألقته في الجمر المشتعل. اشتعلت النار بقوة، وتصاعدت ألسنتها عاليًا، حتى أضاء المكان بالكامل، وانكشف الوسط بوضوح. 

ثم رفعت يدها، وقد برزت عروقها وتحولت يدها إلى ما يشبه هيكلًا عظميًا، وقالت: 

–فين "فاطمة" دلوقتي؟ تيجي تشوف عملت إيه في ابنها! 

تنهد "أحمد"، كأنما يُخرج ضيقه وقلقه مع كل زفير، وأدرك أن الأمور لن تكون سهلة، وأن عليه التحلي بالهدوء للحصول على ما يريد. 


جلس إلى جوار "يونس"، وبدأ يقص عليها كيف تخلّت "فاطمة" عن ابنها. لكنه لم يذكر عودتها، ولم يفصح عن كل التفاصيل. وحين انتهى، قال متوسلًا: 


– "يونس" ضحية ومالوش ذنب، وانتي كمان ضحية "فاطمة"، ساعديه بالله عليك. 


سادت لحظة من الصمت المشحون بالخوف والقلق، قبل أن ترد الساحرة بنبرة حاسمة: 


–مفيش حاجة من غير مقابل. علشان تفك اللعنة، عايزه فلوسي الأول، المبلغ اللي هطلبه، وبعدها، لازم دم من مراتك. 

لو مش متجوز، تتجوز، وتيجي ومعاك خصلة من شعرها، وحته من فستانها، وبدلة  الفرح بتاعتك. تجيبهم معاك، هنحتاجهم. 


وقف "يونس" منفعلاً، خوفًا على زوجته، وقال: 


–مينفعش مراتي تدخل في الموضوع! اطلبي أي حاجة تانيه غير مراتي. 


وقف "أحمد" هو الآخر، وأمسك بذراعه ليهدّئه، ثم توجّه بالكلام إلى الساحرة: 


–ممكن توضحي إزاي نجيب الدم من غير ما تتأذي؟ 


– مش هتتأذي بس هي سر فك اللعنة. لو مش موجودة، هيفضل كده طول حياته. 


قالت كلماتها وتركت "يونس" في حيرة قاتلة بين حياة طبيعية وفك اللعنة، وبين أن يعرّض زوجته للخطر. هزّ رأسه وكأنه يريد طرد تلك الأفكار، ثم قال بحزم: 


– مستحيل أكون سبب أذى لمراتي يلا يا بابا، نروح. 


استدار الاثنان لينصرفا، لكن كلماتها أوقفتهما: 


– مش هتخرجوا كده يا شباب اعملوا اللي بنعمله. 


وما إن أنهت عبارتها، وقبل أن يستوعب (يونس وأحمد) ما يحدث، حتى ألقى عليهما أحد رجالها سائلًا غريبًا على وجهيهما وسقطا أرضًا، فاقدين الوعي.


 •تابع الفصل التالي "رواية من انا"  اضغط على اسم الرواية

تعليقات