رواية من انا الفصل السابع والعشرون 27 - بقلم حليمة عدادي
من انا
الفصل 27
إذا كان تحطيمُ الصخورِ سيُمَهِّدُ لي طريقًا إليك، فلن أتردّد في تحطيمها.
وإنْ كانت نيرانُ العذابِ سبيلي إليك، فسأسيرُ فيها ولو احترق قلبي شوقًا.
وإنْ كان لقاؤك محفوفًا بالألم، فليكن؛ فذلك الألم بالنسبة إليّ شفاء.
حتى لو وقفت الدنيا بأكملها حائلًا بيننا، فلن أستسلم، وسأسعى جاهدًا لتحقيق لقاءٍ يرضاه الله.
لا أُؤمن بالمستحيل، وأعلم أنّ ما كتبه الله سيكون، ولا أحدَ قادرٌ على تفريق ما جمعه القدر.
انتظريني، فسأُناجي رياحَ الفُراقِ متحديًا كلَّ العقبات.
أما "مؤمن"، فكان قد ابتلع ريقَه بتوتّرٍ ظاهر، لا يعرف كيف يبوح لـ"أحمد" بما يعتمل بداخله.يحبّه ويقدّره، لكنه لا يريد أن يُفهمَ أنه يتقرّب طمعًا في شيء.نعم، يحمل في قلبه مشاعرَ صادقة، لكنه حريصٌ ألّا يتجاوز حدوده، خاصةً مع ابنته.
-عمي، هو أنا هكون عايز منها إيه؟! آسف بس ما تفهمنيش غلط، انت عارف إني مستحيل أعمل حاجة وحشة، انتوا بقيتوا عيلتي.
نظر له "أحمد" بنظرة هادئة، وقال:
-تعالى معايا يا "مؤمن" هنطلع نعد في الجنينه، عايز أتكلم معاك شوية.
سار "أحمد" نحو الخارج، و"مؤمن" يلحق به وهو يحمل توترًا واضحًا في ملامحه. أفكاراً كثيرة تتصارع في ذهنه، قلقٌ من حديث لا يعلم مضمونه، وخوفٌ من أن يُفهم كلام أحمد بطريقة تُثقل عليه قلبه. وعندما وصل إلى الحديقة، جلس "أحمد" وأشار له أن يجلس بجواره. عمّ الصمت برهة، ثم قال "أحمد" بهدوء:
-بص يا "مؤمن"، إنت زي ابني. وأنا عارف إنك اتغيّرت، وإنك إنسان قلبه نضيف ونيّتك سليمة. هسألك سؤال، ورد عليَّ بصراحة وانا زي أبوك.
تنفّس "مؤمن" بعمق، وكأن صدره مثقل، ثم قال:
-اتفضل يا عمي، أنا سامعك وهرد عليك بصراحة.
"أحمد" نظر له مباشرة، ونبرته اتسمت بالجدية:
-إنت بتحب "مريم"، وعايز تتجوزها، ولكن بس علشان ظروفك، مش قادر تفتح الموضوع معايا، وبتيجي تبص عليها كده من بعيد من غير ما تتكلم؟
انخفض رأس "مؤمن" خجلاً، وابتلع ريقه بصعوبة، ثم رد بتوتر:
-مش قصدي والله إني أبص عليها، ولا إن عيني تترفع على أهل بيتك... بس أنا فعلاً بحبها، ونفسي تبقى مراتي بالحلال. بس قررت إني أشتغل، وأبني نفسي، ولسه قدامي طريق طويل. بخاف أتجوزها وأظلمها، وأنا لا عندي شقة، ولا شغل ثابت. سامحني يا عمي.أنا، هخرج دلوقتي أدور على فرصتي، ولما أبقى راجل أقدر أفتح بيت، هرجعلك واطلبها منك رسمي.
أنهى "مؤمن" كلماته ثم رفع رأسه لينظر إلى تعابير "أحمد"، مترقبًا رده، متلهفًا لأي كلمة قد تبعث الطمأنينة في قلبه وتخفف من اضطرابه!
لم يشعر بهذا الخوف من قبل، حتى في أقسى أيامه؛ حين كان يبيت في الشوارع وتطارده الكلاب الجائعة، لم يكن يعرف للخوف معنى.
حتى عندما واجه الموت وجهًا لوجه بصحبة "وليد"، لم يتملك الرعب قلبه كما فعل الآن. كان يخشى من رفض "أحمد"، أو أن يطلب منه مغادرة منزله، وتفاقم قلقه حين لمح "مريم" تقف خلف إحدى الشجيرات! تراقب بصمت كأنها تسترق السمع إلى حديثهما. همّ بالنهوض والانسحاب، لكن كلمات "أحمد" أوقفته:
-من بكرة، هتنزل الشغل، لقيتلك فرصة. وبعدها هشوفلك بيت بسيط تأجره. ولو شُفتك مصمم وبتجتهد وتثبت ، إنك تستاهل بنتي، وهي موافقة؛ هجوّزها لك بنفسي. علشان إنت زي ابني، وأنا معنديش حاجة أهم من سعادتكم... إنت واللي واقفة تسمع... تعالي يا "مريم".
خرجت "مريم" بخجل شديد، تكاد تكون كالجمر من الحياء بسبب ما حدث. لم تكن تقصد فعل ذلك، ولكن عندما مرّت بجوار الحديقة، سمعَت اسمها يتردد في حديثها! اقتربت لتستمع لمَ يقولونه عنها، ونبض قلبها بقوة بينما كانت تخطو بخطوات بطيئة نحو والدها. وعندما وقفت أمامه، لم تستطع رفع بصرها. أمسك "أحمد" بيدها ثم قال:
-يا مريم، الحب من غير الحلال والصراحة بيبقى وجع مش راحة.
بيبدأ بكلام حلو وضحك، بس بينتهي بخيبة وذنب.
اللي بيحب بجد بيدخل من الباب، مش من ورا الضهر.
الحب اللي من غير قيد وارتباط ، بيخليكم تتعلقوا ببعض وانتوا مش متملكين بعض، وكل يوم بيعدي في العلاقة دي بيزود الجرح.
وبعد كده؟ يا هو يبعد وتتحطمي، يا تفضلي تايهة بين شعور الذنب والندم.
فلو هو ناوي على الحلال، يبقى يستنى ويستعد، إنما لو مش قدها، يبعد لحد ما يبقى جاهز.
وافتكري دايمًا: البداية اللي مش فيها رضا ربنا، نهايتها عمرها ما هتفرّح قلبك.
رفعت "مريم" رأسها بسرعة بعد أن استمعت إلى كلمات والدها، وكأنها تبحث عن فرصة لتشرح له أنها لم تُحادث "مؤمن" يومًا، ولم يكن بينهما أي شيء من الأساس!كانت كلمات والدها ثقيلة على قلبها، لا لأنها ظنت أنه يلومها، بل لأنها شعرت أنها موضع شك، وهي بريئة.
في ذات اللحظة، كاد "مؤمن" أن يتكلم، أن يصرخ بالحقيقة، أن يُخبر "أحمد" بأنه لم يُحدث ابنته قط، ولم يقم بشيء يغضب الله أو يُحزن أهلها.
لكن وقبل أن ينطق أحدهما، وكأن "أحمد" قرأ ما يدور في صدريهما، كسر الصمت وقال بصوته الهادئ الحازم:
-عارف إنكم ولا مرة اتكلمتوا مع بعض، وكمان ولا مرة عملتوا حاجة غلط.
أنا بس بقول الكلام ده علشان تفضلوا على نفس الطريق، وما تمشوش ورا قلبكم وتضيعوا.
القلب وقع ناس كتير في الغلط، ناس كانت نيتها كويسة، بس مشيت ورا إحساسها وضيعت نفسها.
حافظوا على بعض... بس من بعيد.ابعدوا، لحد ما ربنا يكتبلكم تكونوا لبعض في الحلال،وساعتها؟ اتكلموا براحتكم... وحبوا وانتم متطمنين.
وقف "مؤمن" فجأة، ثم انحنى وقبّل يد "أحمد" بعينين يملأها الإصرار والعزيمة، وقال بصوتٍ ثابت:
-بوعدك يا عمي، إني مش هبصلها غير لما تبقى معايا في الحلال.ووعد شرف... هعمل كل اللي أقدر عليه، لآخر نفس فيا، علشان أكون جاهز وأجي أطلبها منك.
هكون أعمى عن كل حاجة غير الطريق الصح، وهفتح من تاني بس لما نجتمع في الحلال.
ومن اللحظة دي، هعمل المستحيل علشانها... علشان نكون لبعض زي ما ربنا يحب.
أنهى "مؤمن" كلماته، وكانت "مريم" لا تزال واقفة، تكاد تختنق من نبضات قلبها التي اشتدت حتى شعرت أنها تسمعها بأذنيها.لم تستيع أن تتحمّل أكثر، فاستدارت مسرعة، تتعثر في خطواتها من شدّة خجلها، وهرعت إلى داخل البيت حتى اختفت عن أنظارهما.
أما "مؤمن"، فقد انحنى برأسه، احترامًا وثِقلاً لما نطق به قلبه قبل لسانه.وقف "أحمد"، وربّت على كتف "مؤمن" وقال بابتسامة هادئة:
-ربنا يجمعكم في الحلال يا ابني... وتكونوا سند لبعض،وأنا معاكم إن شاء الله، لحد ما أفرح بيكم، و أعمل لكم فرحكم
اغرقت عينا "مؤمن" بالدموع، وقد انشرح صدره فرحًا. لم يكن يتخيل يومًا أن يُصبح له عائلة، أو أن يحظى بهذا العِوَض الجميل. دخل هذا البيت غريبًا يحمل ألمه، فوجد فيه الدواء لجروحه، والدفء الذي افتقده، والحنان الذي لطالما تمناه. ما أجمل العِوض حين يأتي من عند الله، في هيئة أهل وقَبول وطمأنينة.نظر إلى "أحمد"، والدموع لا تزال تلمع في عينيه، وقال بصوتٍ متهدج من شدة التأثر:
-مش عارف أشكرك إزاي يا عم أحمد إنت فتحتلي بيتك، خليتني أتعالج، وقفت جنبي، وحتى بنتك... وافقت تجوزهالي لو عملتلك ألف حاجة، مش هقدر أوفيك حقك، حتى لو بجزء صغير.
ابتسم "أحمد" ابتسامةً دافئة، فيها حنان أبوي لا يُشترى، ثم قال وهو يربت على كتف "مؤمن":
-هقولك تشكرني إزاي يا ابني، تحافظ على صلاتك، وتفضل دايمًا قريب من ربنا.
أنا ساعدتك علشان شُفت فيك "مؤمن" الصغير... اللي محتاج حد يشده من وسط الدنيا الوحشة.
يلا يا ابني، علشان نتعشّى... وبُكره عندك شُغل!
************
في غرفة "شهيرة "و "حسام" حيث يغمرها الهدوء، تفوح منها رائحة السجاد النظيف، ومصحف موضوع بعناية على رف خشبي، جلس "حسام" إلى جوار "شهيرة" بعد صلاة العشاء. كانت سجادتاهما لا تزالان مفروشتين، والمكان مضاء بنور خافت يمنح الجو
أولى لياليهما بعد الزواج، وكانت تلك اللحظة أول مرة يجتمعان فيها على تلاوة كتاب الله معًا. إحساس جديد يملأ القلب بالرهبة والامتنان، وقلوبهما تنبض بخشوع صادق، وكأن كل آية تُفتح بها أبواب من الرحمة والسكينة.
تناول "حسام" المصحف، وبدأ يتلو بصوته العذب بخشوع، بينما كانت "شهيرة" تتبعه بتركيز، تحاول أن تضبط مخارج الحروف، وتستشعر المعاني. ومع كل آية، شعرت أن شيئًا بداخلها يُروى... كأن القرآن يهمس لقلبها مباشرة، يطمئنها، ويغسل عن صدرها أي أثر لتعب أو قلق.كلما زاد صوت "حسام" هدوءًا وخشوعًا، انهمرت دموع "شهيرة" بهدوء، كالمطر، رقراقًا على وجنتيها. شعرت أن قلبها امتلأ براحة لا تشبه أي شيء عرفته من قبل.
وحين انتهيا من التلاوة، أعاد "حسام" المصحف إلى مكانه، ثم اقترب منها، ومسح دموعها بلطف، وأمسك وجنتيها بين كفيه وسألها:
– إنتي كويسة يا شوكي؟ في حاجة؟ مالك بتعيطي كده؟
جففت شهيرة تلك الدموع المتساقطة على وجنتيها، ثم ارتسمت على وجهها ابتسامة جعلتها تبدو كقمرٍ مضيء في ليلةٍ حالكةٍ وقالت بصوت خافت:
-أنا كويسة يا "حسام"حسيت قلبي اتفتح كده
وارتحت لأول مرة. حسيت إني زي الفراشة، طايرة ماكنتش متوقعة إننا هنجتمع تاني يا "حسام"، كنت مرعوبة أرجع ألاقيك اتجوزت وحبيت حد تاني… كانت فكرة بتخوفني أوي.
أمسك بيديها بين راحتيه، وعيناه نطقتا بما يسبق الكلمات، ثم قال بحبٍ صادق:
-إنتي كان عندك شك إن قلبي ممكن يشوف غيرك؟ ده قلبي لو فكر ينبض لحد غيرك… أقتله، ومش هعيش تاني.
ضحكت بخفة، وقلبها يخفق كأن الفراشات تتراقص فيه، ثم قالت ممازحة:
-يا ذكي! لو قتلت قلبك… هتعيش إزاي بقى؟
ابتسم وهو ينظر إلى عينيها، ثم اقترب منها، وقبّل جبهتها برقة، وقال:
-أنا كنت ميت من غيرك… كنت جسد من غير روح.
أنهى كلماته، ثم ضمّها إلى صدره وهو يحمد الله أن جمع بينهما في الحلال، بعد تعبٍ طويل وعذاب فراقٍ مرير. مسح على رأسها بحنان، وهي ساكنة بجواره، يهدأ قلبها المضطرب حيث وجدت فيه وطنًا وسكنًا.
لكن ما لبثت أن انتفضت مبتعدة عنه فجأة، ثم قالت:
-يا نهار اسود! اتأخرنا! قوم بسرعة، ماما زينب قالتلي ننزل على العشا!
وقف مذهولًا، يحاول استيعاب ما حدث. انتفاضتها المفاجئة أقلقته، وظن أن مكروهًا قد أصابها. وقف بصمت، ثم قال بوجهٍ عبوس:
-ليه كده يا "شهيرة"؟ وقعتي قلبي، حرام عليكي، فكرت في حاجة!
اقتربت منه، وأمسكت بيده، ونظرت إليه بعينيها الواسعتين، تلك النظرات التي كانت تأخذه لعالم آخر، ثم قالت:
– معلش آسفة ، والله يا حوس، ما كنش قصدي أخضّك... بس افتكرت إننا اتأخرنا!
– ماشي يا ستي بس بلاش تبصيلي وإنتي بتتكلمي.
نظرت إليه متعجبة، ثم تساءلت:
–ليه يا حسام؟ هو أنا بصيتلك في حاجة؟
ابتسم، وقد ارتسمت علامات الحب على وجهه، وقال:
– علشان قدام عيونك بنهزم... ومش بقدر أقاوم سحرهم.
ضحكت بخجل، وتحركت أمامه نحو الخارج، وقد تلون وجهها بحمرة الخجل، بينما هو يتبعها مبتسمًا، كأن الدنيا لا تحتوي سواها.
وصلوا، حيث اجتمعت العائلة في سرور وسعادة. كل فرد منهم كانت السعادة تغمر قلبه. فقد اجتمع قلب المحبين، واجتمعت العائلة كاملة لأول مرة حول مائدة طعام واحدة، في هدوء وسكينة.
اهتز قلب "مؤمن" في داخله بمشاعر مختلطة، بين الحزن الموجع والسعادة المفاجئة. لم يحلم يوماً أن تكون له عائلة، لم يتخيل أن يمتلك بيتاً دافئاً وطعاماً نظيفاً. فقد عاش الألم، وتوقع أن يموت في قلب المعاناة، بلا عائلة، بلا أحد يحبه.
لكن ها هو الآن، وسط عائلة تحبه، تدعمه، وتقدم له كل شيء. لم يشعر بهذا الدفء من قبل، فقد كان يعيش ليله ساهراً على الألم، وينام نهاره على خيبة الأمل، يتجرع السم بدلاً من الحلم.
بعد انتهاء الطعام، جلس الجميع يتحدثون في شتى المواضيع، حتى قاطعهم صوت طرقات متتالية على الباب. تبادلوا النظرات، متسائلين من القادم في هذا الوقت المتأخر.نهض "حسام" من مكانه، وهو يقول:
-أنا هشوف مين جاي في الوقت ده، إن شاء الله خير.
فتح الباب، فوجد أمامه رجلاً غريباً لم يره من قبل. نظر إليه وسأله:
–حضرتك بتسأل عن حد؟ أو محتاج حد من هنا؟
رد الرجل بجديّة، قائلاً:
– ده بيت "يونس الهلالي"؟ بدوّر عليه من بدري هو موجود.
-اتفضل "يونس" جوه.
تقدّم "حسام"، وخلفه رجل بدا عليه الوقار. وما إن دخل حتى تعرف عليه" يونس وأحمد"؛ إذ لم يكن سوى الطبيب الذي كان المشرف على حالة "فاطمة". ألقى التحية على الجميع، ثم أردف قائلاً:
-آسف على الزيارة في الوقت ده، بس معنديش وقت، علشان مسافر بكره. وكان لازم أوصلك الأمانة دي.
نظر إليه "يونس" بتعجب وشيء من التوتر، ثم قال:
-أمانة إيه اللي تخليك تيجي في الوقت ده؟
فتح الطبيب محفظته وأخرج منها ظرفًا كبيرًا، ثم قدمه "ليونس" قائلاً:
-والدتك قبل ما تموت، سلّمتني الظرف ده، وطلبت مني أديهولك. وأنا بصراحة كنت خايف أسافر قبل ما أوصله ليك.
تحدث "يونس " بامتنان:
-شكرًا ليك بجد يا دكتور، اتفضل اقعد، تحب تشرب إيه؟
-لا، شكرًا يا "يونس". هستأذن، لازم أروّح دلوقتي علشان عندي سفر بكرا الصبح.
أنهى كلماته وغادر، بينما جلس الجميع في ترقّب، تملاهم الرغبة في معرفة محتوى الظرف الذي وصل في هذا التوقيت المتأخر.
فتح "يونس" الظرف، وبدأ يقرأ ما بداخله بصوتٍ عالٍ. كانت هناك أوراق ملكية لمنزل وعدة ممتلكات أخرى باسمه. وبعدها، وجد رسالة صغيرة كتب عليها:
«ابني الغالي،
لو بتقرأ المكتوب ده، يبقى أكيد أنا مش موجودة.
زي ما كنت سبب اللي حصل لك، وكنت سبب حزنك، هبقى كمان سبب علاجك.
ماقدرتش أقولك يومها، وقلتلك علاجك في القرآن بس، علشان ماكنتش متأكدة من اللي هقوله.
بس دلوقتي لازم تدور علشان تتخلص من اللعنة دي.
روح على قرية اسمها (قرية زهور)، واسأل هناك عن ست اسمها "نيرة". هي اللي هتقولك إزاي تفك اللعنة. يا ابني... سامحني»»
بعدما انتهى" يونس" من قراءة رسالة والدته، وضعها أمامه ثم تنهد بضيق، وكأن هذه الرسالة قد فتحت له أبوابًا أخرى من المتاعب، وتحديًا جديدًا في حياته، من أجل البحث والتقصي، ليتخلص من لعنة لازمته ثلاثين عامًا، وسبّبت له ألوانًا من العذاب ربت "أحمد" على كتفه، ثم قال مطمئنًا:
–اطمن يا ابني، وافرح علشان أخيرًا هتتخلص من اللعنة دي وتعيش حياتك زي الناس.
رد "يونس" بصوت متردد:
–إن شاء الله يكون خير يا بابا... بس قبل ما نبتدي ندور على الست دي، عايز أقول حاجة..... البيت اللي سابتهولي... أنا مش عايزه.
أنهى كلماته منتظرًا ردّهم، فقد كان لا يرغب بشيء يربطه بالماضي. أراد أن يبقى في منزله الذي وجد فيه سكينته وراحته، فهو، مهما طال به العمر، لن يجد منزلًا يشبهه. قاطع تفكيره صوت "زينب"، قائلة:
–بس يا ابني ده بتاعك دلوقتي، مين هيخده؟ ولو مش عايزه، سيبه لحد يعيش فيه.
جالت كلمات والدته في ذهنه، وبعد لحظة تفكير، نظر إلى "مؤمن" وابتسم قائلاً:
–البيت ده يا ماما، هسيبه لمؤمن... هو يستاهل كل خير، وأكيد محتاجه أكتر من أي حد. يبدأ فيه حياته من أول وجديد.
انتفض "مؤمن" واقفًا، وهتف معترضًا:
– لا يا "يونس"! ده بتاعك، ومستحيل آخده منك. وحتى لو عايز أعيش فيه، لازم أدفع حقه.
اقترب منه "يونس" وربت على كتفه، وقال بنبرة حازمة ومليئة بالمحبة:
–أنت أخويا يا "مؤمن"، والبيت ده هيبقى ليك... يا إما هيفضل مقفول طول عمره. عيش فيه، ومش عايز أي مقابل، ماشي؟ وبلاش تعمل كأننا مش إخوات.
بعد محاولات عدة، استطاع "يونس" إقناع "مؤمن" بأخذ المنزل، بعد إصرار كبير وجهد متكرر. ثم اتفق "يونس" مع والده على الذهاب صباحًا إلى القرية للبحث عن منزل تلك الساحرة، لعلهم يجدون فيه أملًا ودواءً من ماضيه المؤلم إلى مستقبله الغامض.
انصرف كل واحد منهم إلى غرفته للراحة، بينما بقي "أحمد ومؤمن" وحدهما. نهض "أحمد" من مكانه، ثم جلس بجانب "مؤمن" وقال:
-اتكلم عايز تقول حاجة من أول ما قعدنا، وأنا حاسس إنك عايز تفتح موضوع."
بلع "مؤمن" ريقه بحرج، ثم قال بنبرة متوترة:
-في الحقيقة كلامك صح. كنت عايز أتكلم وأسألك عن الشغل إللي قلتلي عليه، علشان أروح من بكرة.
ربّت "أحمد" على يد "مؤمن" بلطف، ثم قال:
-هتشتغل مع "حسام" في المطعم. هو بدأ يكبر ومحتاج حد يساعده، وأنا هظبطلك مرتب كويس.
أحنَى "مؤمن "رأسه، وهتف بشكر وامتنان:
- بجد شكرًا ليك، جدًا يا عم "أحمد". إن شاء الله أكون عند حسن ظنك، وهشوف كمان شغل بالليل، علشان أكون جاهز أفتح بيت.
رد "أحمد "بابتسامة:
-ماشي يا ابني، اللي تشوفه. ولما نرجع، هنروح لبيتك علشان تشوفه وتتعود عليه بقي بس تشتغل و ربنا يسر لك
كان "مؤمن" على وشك الرد، لكن الكلمات توقفت في حلقه، وانتفض "أحمد" فزعًا حين سمعا صراخ "يونس" يدوّي في المكان.
•تابع الفصل التالي "رواية من انا" اضغط على اسم الرواية