رواية من انا الفصل السادس والعشرون 26 - بقلم حليمة عدادي
من أنا
الفصل 26
ألقى «يونس» كلماته بترقب شديد ليعرف الرد منهم، ونظر إليهم في صمت مشوب بالريبة، مما زاد من قلقه وازدادت ملامحه توتراً. فكلما كان يشعر بالخوف أو القلق، كانت حالته تزداد سوءًا، كما يحدث عندما يكون سعيدًا اقترب من «زينب»وأعاد طرح سؤاله عسى أن يحصل على إجابة مقنعة توضح سبب صمتهم وتوترهم الواضح على وجوههم.
-ماما ردي عليا في ايه؟ومين الست دي،و بتتكلم على ايه؟
تألقت الدموع في مقلتي «زينب»، وجفت حنجرتها خوفاً من فقدان «يونس»، إذا علم بأنه تم إخفاء الحقيقة عنه طوال هذه السنوات. ولكن لا مناص من الحقيقة، فمهما طالت الأيام، ستظهر عاجلاً أم أجلاً. نهضت من مكانها وتقدمت نحو «يونس»، ثم أخذت تشد وجنتيه بين كفيها، وقالت بصوت حزين يمزج بين الألم والتوتر:
-مش كنت عايزه أخبي عليك بس أنا عملت كل ده علشانك، علشان ما شوفش الحزن في عيونك،و لا تحس في يوم أنك وحيد… بس لازم تعرف الحقيقة دلوقتي.
تزايدت مشاعر الخوف والقلق لديه مع رؤية حال والدته، وراجت في خاطره العديد من التساؤلات حول وضعها، وتساءل عن طبيعة الحزن الذي يكتنفها. ثم انطلق لسانه بنبرة تعبر عن القلق، قائلاً:
-ماما بالله عليك قولي في إيه بلاش تخوفيني كده.
طلب «أحمد»من «يونس” الجلوس، ثم بدأ يسرد له كل التفاصيل منذ أن تخلت عنه والدته. استرسل في رواية القصة منذ بدء زواج والدته كلما سمع «يونس»كيف تخلت عنه والدته، كان يشعر بتمزق في قلبه وداخل روحه، كما لو أن نيران الحزن قد اشتعلت في أعماقه.تدفقت الدموع من عينيه، وأصبح لسانه معقوداً، فلم يستطع النطق. بينما استمر أحمد في حديثه، ظل «يونس» صامتاً، يراقب ما حوله وصدره يعلو ويهبط، كأنه في حالة من عدم التصديق لما سمعه لتوه. استمع إلى كل ما قاله «أحمد» وكأن كلماته تتردد في أذنه، لكن عقله كان في حالة من الاستياء يرفض تصديق ذلك. أصبحت كلمات «أحمد»تطارده كطيفٍ يتعنّت من تصديق الحقيقة. هزّ رأسه عدة مرات، كأنه يحاول التخلص من تلك العبارات التي أثقلت كاهله، وفجأة أصبح سؤال واحد يتكرر في ذهنه:
«هل أنا فعلاً ليس ابن هذه العائلة؟ هل كانت مشاعري حقيقية عندما كنت أسأل نفسي من أنا؟ الآن أدركت أنني طفل يتيم، تخلت عنه والدته مقابل المال».
نهض من مكانه ونظر إلى والدته، فهتف بصوت يملؤه الحزن والخذلان، وتحمل نبرة قهر تعكس مشاعره الجياشة قائلاً:
-ليه رجعتي ليه علشان تكملي اللي فاضل فيا…. زمان رجعتي علشان تشوفيني حزين، أنا مش زعلان علشان الناس دي طلعوا مش أهلي بالعكس أنا لو رجع بيا الزمن لورا هرجع اتمنى أفضل معاهم طول العمر،! بصي أنا أمي ماتت في اليوم إللي سابتني فيه! فاهمه ماتت بنسبة ليَّ،أمي إللي سهرت و أمي إللي طبخت و أمي إللي فرحت معايا و عيطت معايا و عاشت معايا حياتي لحظه بلحظة هي زينب (ماما زينب).
قال كلماته وتقدم نحو «زينب» التي كانت تبكي في صمت، وعيونها معلقة به. جذبها إلى حضنه وقبّل رأسها، ثم أضاف قائلاً:
-دي ماما إللي عملت كل حاجة علشاني. ليه بتعيطي يا أمي؟ إنتي فاكرة أني هتألم لأنك خبيتي الحقيقة عني؟ لا، أنا سعيد لأني كنت عايز أعرف حقيقة واحدة بس وهي أنك أمي، وأنتي خليتيني أعيش الحقيقة دي.
رفعت «زينب» عينيها، ودفقات من الدموع تتساقط منها، ثم قالت بصوت يخالطه البكاء:
-أنت ابني، و نور عيني، ومفيش حاجه هتتغير ، هتفضل دايما ابني الغالي حبيبي.
ابتعد «يونس» قليلاً عنها ثم جفف دموعها بأنامله. بعد ذلك، ألقى نظرة على والدته وهرع بعيداً، تتبعه «تقى» التي بدت قلقة من صمته رغم الحزن الذي ارتسم على ملامحه. حتى وجدته واقفاً في الخارج، في حديقة المنزل، وقد اتخذ ظهره منحىً متجهاً بعيداً وتوتر جسده واضحاً.
اقتربت منه، وعندما نظرت إليه، فزعت وامتلأت عيناها بالدموع لرؤيتها تغيير ملامح وجهه ومعاناته الكبيرة. أمسكت بيده وسحبته خلفها إلى إحدى المقاعد الحديدية، ثم جلسا معاً.
نظرت بتأثر عميق إلى عينيه، التي كانت تعكس ألمًا وحزنًا لا يوصف. بينما كانت دموعه محبوسة، أمسكت بيده بين كفيها. نظر لها كأنه، استمد منها القوة التي يحتاجها. ثم مال برأسه على كتفها، تنهد بعمق، وكأن آهات النَفَس تحمل أعباء معاناته. تحدث بصوت مفعم بالألم:
-ليه عملت كده؟ ليه سبتني هنا وهجرتني؟ معقول بسبب الفلوس والميراث.. معقول أم تتخلى عن ابنها؟ ليه عانيت كل السنين اللي فاتت دي من التهميش، لما كان كل الناس بتخاف من شكلي ؟
توقفت «تقى» لحظة، تلمس قلبها الذي يعجز عن العثور على الكلمات المناسبة لتهدئته. كانت تشعر بما يمر به، وبالألم الذي يعصر قلبه. نظرت إليه بحب وحنان، ثم قالت بصوت منخفض، ملؤه الشفقة والاطمئنان:
-«يونس»، مهما كان الألم إللي حاسس بيه، ومهما كانت الجروح إللي ماخفتش واتقفلت لسه، فأنت مش لوحدك في العالم ده. ساعات بنمر بتجارب قاسية تخلينا نشك في كل حاجه فينا وفي الآخرين. لكن اوعى تفتكر أبدًا أن المعاناة التي عشتها هتحدد إنت مين؟. أنت شخص قوي، وقلبي شافك بكل جمالك الداخلي اللي ماشفهوش الناس التانيين.
إللي حصل، مهما كان إيه، مش ممكن أنه يقلل من قيمتك أو من حبنا ليك. المال، أو أي شيء مادي، عمره ما يكون سببًا لتغيير مشاعر الأم، لكن الحياة يمكن تكون قاسية أحيانًا، وإحنا مضطرين للتعامل مع ده. وأنا هنا معاك، وهكون دائمًا جنبك عمري ما هسيبك ابداً. أنت الأهم بالنسبة ليّ.
ثم أمسكت يده بقوة أكبر، وكأنها تؤكد له أنها لن تتركه مهما كانت الظروف، وأنه يمتلك القوة لتخطي أي شيء
.
نظر إليها، وكانت عيونه ككتاب مفتوح أمامها، تقرأ ما يختلج في قلبه وما يدور في خاطره من مشاعر وكلمات لا يستطيع أن يعبر عنها. ثم رفع يدها وقبّلها بحبٍ عميق، قائلاً:
-أنا محظوظ في الدنيا دي لأن الله رزقني بأجمل وأحن زوجة. أنتِ خيرُ دعائي واستجابة له، وأنتِ النور إللي أنار حياتي بعد فترة من الظلام.
تلونت وجنتاها بتلك الحمرة كلما شعرت بالخجل، وقد نبض قلبها استجابة لكلماته، بينما كانت تضغط على كف يده وتبتلع لعابها لتتحدث، إلا أن الكلمات لم تستطع الخروج من بين شفتيها.
وفجأة، سمعوا صرخة مدوية من «زينب»، مما جعلهم ينتفضون من أماكنهم ويهرعون مسرعين، يتملّكهم الجزع والخوف. ولم يشعر «يونس»بنفسه إلا وهو يركض بكل قوته نحو الداخل، منادياً بلهفة وذعر.
-ماما ماما مالك أنت كويـ......
توقفت الكلمات في حلقه بينما كانت عيناه تراقبان تلك السيدة، أو ربما والدته، راقدة على الأرض، وحولها من يحاولون فهم ما يحدث. تقدم نحوهم بخطوات بطيئة، وكأن ثقل حزنه يعيق حركته، وكانت عيناها تتلألأ بالدموع. شاهدها ترفع يدها ببطء وتتحرك شفتيها تهمس:
يونس، ابني يونـ.....
لكن حروفها انقطعت في حلقها وسقطت جفونها، فاغمضت عينيها. في تلك اللحظة، دفعه شيء داخلي للشعور بالقلق، فقفز مسرعاً نحوها وأمسك بيدها يهزها، لعلها تستفيق. لم يستطع لسانه النطق في ذلك الحين. اقترب منه «أحمد» قائلاً:
-يونس ابني مش وقت الكلام شيلها بسرعه ناخدها للمستشفى حالتها مش كويسه.
حملها «يونس»بين ذراعيه دون تردد، وكأنه استشعر في داخله أن الوقت ليس وقت الحزن، بل يتوجب عليه إنقاذها. قرر أن يتجاوز العاصفة التي كانت تعصف بمشاعره، عازمًا على مواجهة ما قد تؤول إليه الأحداث، سواء بالصمود أو أن يكون مجرد ذكريات ممزقة.
بسرعة، خرج من المنزل حاملاً إياها، تبعه أحمد و زينب، اللذان طلبا من الآخرين البقاء في المنزل. انطلقوا جميعًا بسرعة، وفضلاً عن ذلك، وضعها يونس في المقعد الخلفي، بينما تواجدت والدته «زينب»بجانبها، و أحمد في المقدمة،ثم انطلقوا بسرعة
.
جلس الجميع في المنزل صامتين، كل فرد منهم غارق في أفكاره حول الأحداث التي وقعت والحقائق التي كانت مخفية. كان هناك من يشعر بالقلق على “يونس”، خشية أن تؤثر تلك الحقيقة الصعبة عليه. وبينما كانوا يجلسون، كان أحدهم يجاهد نفسه ليتجنب النظر إليها، لكنه كان يجد نفسه يرفع نظره كلما تحدثت، مما جعل نبض قلبه يتسارع. وعندما يدرك أنه على وشك الانزلاق وراء مشاعره، ويخشى من ارتكاب خطأ، قرر أن يستأذن ويغادر ليستعيد السيطرة على مشاعره ونبضات قلبه التي أصبحت كطبول حرب توشك على الانفجار. نهض من مكانه وقال:
-أخي حسام أنا هستأذن علشان اروح دلوقتي و لو مكنش عندي جلسة علاج هاجي اطمئن على يونس.
أدلى بكلماته وهو يلتقط النظرات الموجهة نحو «مريم»، التي لاحظت نظراته وقد شعرت بالخجل يتسلل إليها، لتجد نفسها طوال جلوسهم تسدد نظراتها إليه بين الحين والآخر أما «مؤمن»، فقد كانت مشاعره تكاد تُظهر ما يدور في داخله، لكنه وجد في «حسام» طوق نجاة ينقذه من دوامة مشاعره، حين قال:
-مؤمن مش هتروح لمكان، هتبات معانا انهارده علشان بكرى عندك آخر جلسة و ان شاء الله هتعيش حياة عادية من غير السم إللي كنت بتاخده.
لم يستطع «مؤمن»الاعتراض على الوضع، إذ كان يتمنى البقاء، حتى لو كان ذلك لمجرد مراقبتها من بعيد طوال فترة وجوده في المستشفى. كانت صورتها تراوده باستمرار، كطيف يلازمه؛ فكلما أغمض عينيه، كانت تظهر أمامه كأنها شبح، تلاحقه حتى في أحلامه. تنهد بعمق.
عاد مؤمن إلى مجلسه حيث كان يجلس مع حسام، بينما ذهبت «شهيرة» إلى غرفتها لتغيير ثيابها. قامت «مريم» من مكانها وبدأت تتحدث قائلة:
- هعمل ليكم قهوة يا حسام عايزين حاجه تانيه؟.
-لا هاتي معاك بس عصير ليك وشك شاحب و شكلك تعبانه!
************
جلس «يونس» ووالديه في رواق المستشفى المؤدي إلى غرفة «فاطمة»، حيث كانت تغمرهم مشاعر القلق الممزوج بالحزن. تملّكته تساؤلات عميقة حول مشاعره:
«هل هو خائف عليها أم يشعر بالشفقة؟ لكن كيف يشعر بالشفقة تجاهها، وهي والدته؟ لم تكن هي الأم التي عايش معها طفولته، بل كانت مصدراً للعذاب الذي عاشه، مما جعله يشعر بالاغتراب تجاهها. كيف يمكنه أن يحزن لأجلها وهي لم تكن أكثر من غريبة بالنسبة له؟»
أخذ يُنهي أنفاسه بعمق، بينما كانت مشاعره في حالة من الفوضى. بدا وكأنه عالق في حلم يرغب في الاستيقاظ منه أو الهروب بعيدًا عنه. كان يشعر بنيران تكوي داخله، وتخبطه في دوامة من المشاعر، كأنه في متاهة بلا مخرج. في لحظة صمت مؤلمة، قطع هذه الشرود، وكأن شعاع الأمل قد امتد لينقذه من هذا العذاب صوت أحمد قائلة:
-يونس بلاش ترهق نفسك في التفكير يا ابني و لا حتى تحس نفسك غريب مهما حصل هتفضل في حقيقه واحده أنك ابن أحمد و زينب.
بينما كان «يونس»يحاول جمع أفكاره واستجماع نفسه للرد على أبيه، وجدت الكلمات طريقها إلى صمته حين رأى الطبيب يقترب منهما بخطوات متسارعة قائلاً:
-حالة المريضة متأخرة، والعلاج ماعملش معاها نتيجه، هي دلوقتي بحاجة إلى دعائكم وعايزة أنها تشوفكم في أقرب وقت.
وبعد أن ألقى الطبيب كلماته، انصرف سريعًا، بينما تقدم «يونس» نحو الغرفة، يتصارع داخله شعور بالقلق. كان قلبه يشجعه على رؤيتها في حين أن عقله يعارض ذلك، مدركًا أن هذه المرأة ليست من أنجبته، بل هي التي سهرت ليلًا من أجله، وتمسكت به في كافة مراحل حياته. إنها من بكى على كتفها عندما كان صبيًا وتشاركت معه أحزانه.
هي الوحيدة التي أمسكت بيده عندما تعثر في خطواته، وهي من ساعدته على مواجهة مصاعب الحياة. كلما اشتدت قسوة الدنيا عليه، كيف يمكن لمن تدعي أنها والدته أن تنجبه وتلقي به إلى مصير مجهول دون أن يرف لها جفن؟!
تخلى عن كل تلك الأفكار وسار نحو غرفة والدته. نظر إليها بحزن، وهي ملقاة على سريرها، لا حول لها ولا قوة، رغم الألم الذي كان واضحًا في ملامح وجهها. اقترب منها ولا يزال صامتًا، ينتظر أن تتفوه بكلمة. حركت رأسها بصعوبة لتنظر إليه، وقد احمرت وجنتاها، ثم قالت بصوت ضعيف:
-أنا ديما كنت مش بحبك أنت و ابوك كنت بحس انكم سبب حزني في حياتي فكرت الفلوس هي مصدر سعادة بس طلعت غلطانه و عشت حياتي كلها مريضه، سبت حته مني علشان أعيش حياتي بس،أنا مش استاهل يكون ليا ابن زيك أنت اهلك الحقيقين دول يا يونس أمك زينب و أبوك أحمد.
حاول كبح دموعه، ليس بسبب حزنه على ما حدث له، فهو يعيش حياة رائعة مع عائلته، بل لأنه رأى تلك التي كرست حياتها من أجل المال. لكن ما كانت تعتقد أنه دواء، تحول إلى داء، ففقدت كل شيء ولم يعد لديها شيء. وقبل أن يتحدث «يونس»، لاحظ تغير ملامح وجهها التي غمرها الألم، ثم نطقت بصعوبة قائلة:
- يونس، أنا حطيت حقك من ميراث والدك باسمك، وهناك كمان فيلا وسيارة. سامحني يا يونس.
انتهت من حديثها واشتد سعالها، وبدأ جسدها ينتفض. هرعت زينب لتنادي الطبيب، بينما اقترب «يونس» منها ممسكًا بيدها يهدئ من روعها. فجأة، استكان جسدها، واستراحت يدها بين يديه، وسقط رأسها جانبًا.
انتقلت روحها إلى خالقها، بينما وقف «يونس» مصدومًا، ودموعٌ متحجرة في عينيه. ثم نطق بصوت متألم:
-ما لها يا بابا؟! نادِ ماما تيجي بالدكتور بسرعة.
أنهى حديثه وفي اللحظات التالية حضر الطبيب وتأكد من أنها قد فارقت الحياة. رفع الغطاء عن وجهها وطلب من الجميع الخروج ليبدأ استعداداته للدفن.
ترك «يونس» الجميع، خرج تائهاً وباكياً، غير مدركٍ لما يحدث أو لما يشعر به. في وسط أيامه الجميلة، ظهرت له والدته ثم اختفت بسرعة. حتى دموعه التي لم ترغب بالسقوط، بقيت عالقة على جفونه، تعكس ألمه العميق حين ظهرت «فاطمة» فجأة في حياته، لم يكن مستعدًا لمثل هذا اللقاء، ولا لهذه الحقيقة التي نسفت ما كان يظنه يقينًا. عاش عمره كله معتقدًا أن العائلة التي احتضنته هي أهله، لم يشك لحظة في حبهم أو انتمائه إليهم. لم يشعر قط بالغربة بينهم، بل كانوا له السند والمأوى.وحين عرف أن «فاطمة»، المرأة الغريبة التي ظهرت فجأة، هي والدته التي تركته لأجل المال، شعر وكأن الأرض انسحبت من تحت قدميه. لم يعرف بماَ يشعر... أهو الغضب؟ أم الحزن؟ أم الفراغ؟ كانت مريضة، تحتضر، تطلب المغفرة، لكنه لم يعرفها، لم يعش معها، لم يسمع صوتها تناديه يومًا.ورغم كل شيء، حين رحلت، شعر بشيءٍ انكسر بداخله... لم يكن حبًا بقدر ما كان حزنًا على فرصة ضائعة، على أم لم يعرفها، وعلى أسئلة لن يُجاب عنها أبدًا.لكنه لم يستطع البكاء طويلًا، فقد كانت ذكراها عابرة، وظل قلبه مع أولئك الذين أحبوه بصدق دون أن تربطهم به صلة دم.تراجعت دمعة خفيفة عن عينيه، ثم عاد إلى الداخل ليبقى مع والديه حتى الانتهاء من دفن «فاطمة»، التي غادرت الحياة دون أن أتمكن من قضاء يوم واحد مع ابنها. رحلت بمفردها كما عاشَت، ولم يرافقها في رحيلها المال الذي أحبته، ولم تأخذ معها شيئًا من متاع الدنيا سوى أعمالها.
عندما انتهوا من دفنها، عاد «يونس» ووالديه إلى منزلهما، وما إن وصلوا حتى هرع إليهم الجميع بقلق. اقتربت منه «تقى» بلهفة وقلق، ثم سألته بصوت يحمل في طياته مشاعر الخوف:
-يونس أنت كويس أنت بخير طمني عليك.
أخذ بيدها ونظر إليها، وكان التعب واضحاً على ملامحه. ثم قال بتعب:
-عايز بس أستريح شوية يا تقى، انا هكون بخير.
أنهى كلماته وانصرف معها إلى غرفته، فلم يعد لديه طاقة للحديث أو لتوضيح ما حدث. لقد استنزفت قواه، وكان ذلك أصعب يوم في حياته، على الرغم من أنه كان يعتقد أنه سيكون أسعد يوم، إذ كان قد التقى محبوبته في إطار الحلال. لكن كل شيء قد تعكر بقدوم تلك السيدة التي هدمت سعادته. تحرك نحو الخزانة، وأخرج ثيابه، ثم دخل الحمام الملحق بالغرفة، حيث استحم بسرعة، غير ملابسه، وخرج ليجلس بجانب تقى. فمدت يدها لتأخذ بيده، وقالت بحزن من أجله:
-يونس بلاش تضغط على نفسك أكتر،تعالي ارتاح شوية أنا حاسه باللي أنت بتمر فيه بس بلاش توصل للحالة دي.
مرر يده على وجهه ثم نظر إليها قائلاً:
-أنا مش زعلان علشان حاجه أنا زعلان علشانك أنتِ
نظرت إليه بدهشة واستفهام وقالت:
-ليه زعلان علشاني يا يونس؟ أنا بخير.
تنهد بعمق، وكان ينظر إلى عينيها كما لو كانت ملاذاً يمنحه الراحة. وعندما يغوص فيهما، يشعر وكأنه قد نسي العالم كله، وكأنها عالم سحري يجذبه إليه، إذ يتمنى أن يغمر نفسه في أعماقه. ثم أضاف:
-علشان اليوم اللي تتمناه أي بنت اليوم السعيد إللي حرمتك فيه حتى من الفرح و بعدها انحرمتي حتى من سعادتك فيه في الأول كسرت فرحتك وبعدها إللي حصل ما لحقتيش تفرحي من أول يوم شفتيني فيه و أنتِ في مشاكل!
.
ابتسمت تلك الابتسامة التي كانت بالنسبة له ملاذًا من جميع آلامه، ونورًا في ظلمات حياته. كان بريق عينيها يمثل شعاع أمل له. ثم قالت، وهي تحمل في قلبها حبًا كبيرًا:
-أنا مش زعلانه أبداً علشان سعادتي أنت و حياتي أنت المشاكل المره و أنا جنبك تبقى حلوه مش عايزه حاجه في الدنيا غير إني أشوفك مبتسم و فرحان
كأن كلماتها قد خففت عن قلبه أحزانه، وداوت جروحه، وأسكنت آلامه. كم هو رائع أن يأتي العوض في شكل شخص يكون لك الملجأ والأمان ودواء في أوقات الشدة.أمسك يديها بين كفيه، وقال بحب:
-انتِ الحياة اللي كنت مستنيها أنت الحياة اللي كنت اتمنها سكنتي في القلب و استوطنتي روحي و بكِ قلبي اكتفى...
***********
في صحن المنزل، اجتمع الجميع بعد أن علموا بما حدث، ثم توجه كل واحد منهم إلى غرفته لينال قسطًا من الراحة. بينما قاد “أحمد” “مؤمن” إلى إحدى الغرف ليتمكن من الاستراحة حتى موعد العشاء.
تمدد «مؤمن» على سريره، وكانت مشاعر متخبطة تعصف به، فهو يرغب في الهروب منها، لكن تلك المشاعر تلازمه ولا يستطيع الفرار. «مريم» قد استحوذت على قلبه، ولا يجد سبيلًا لتحرير نفسه منها. يفكر بها في كل لحظة، وكأن كل أفكاره الأخرى قد تلاشت. «مريم»بالنسبة له حلم بعيد المنال، جوهرة لا سبيل له للوصول إليها. يشعر بأن الفارق بينها وبين متناول يده كالفارق بين السماء والأرض. نهض بضيق يخنقه في صدره، ثم قال مُحدثًا نفسه بصوت مسموع نسبياً:
-حصلك إيه يا مؤمن فاكر هتتزوج مريم؟! بينكم فرق كبير حتى لو كانت بتحبك مستحيل تفكر تظلمها معاك… أنا مش ليا بيت و.لا ليا شغل و لسه مستقبلي مجهول مستحيل اظلمها معايا.
لم يلاحظ «مؤمن» الشخص الذي كان واقفًا عند الباب المفتوح، واستمع إلى كل ما قاله. نهض من مكانه وهو يتنفس بعمق من الضيق، وعندما رفع رأسه، صُدِم برؤية «أحمد» الذي جاء ليحضر له بعض الملابس ليستريح. لكن عندما سمع كلمات توقف مكانه، انتابت «مؤمن» حالة من التوتر جراء نظرات «أحمد»، فتحدث بارتباك محاولًا ترتيب أفكاره قائلاً:
-عمي في حاجه عايزني اساعدك في حاجه
ابتلع «مؤمن» ريقه بقلق بعد أن تأكد من أن «أحمد» قد سمع حديثه، فاستشعر التوتر وأحنى رأسه. ولكنه عندما سمع سؤال «أحمد»، رفع رأسه بسرعة:
-عايز إيه من مريم؟!
•تابع الفصل التالي "رواية من انا" اضغط على اسم الرواية