رواية من انا الفصل الرابع والعشرون 24 - بقلم حليمة عدادي
.من أنا
البارت 24
في صباح اليوم التالي، جلس الجميع بعد إفطارهم وسط نقاشٍ عائلي، بعدما طلبت الفتيات إقامة حفل زفافٍ صغير في منزلهم، حفلٍ عائلي بسيط يجمعهم، على أن يُوفَّر المال الذي كان يمكن أن يُنفق على الزفاف لتطوير مطعمهم الصغير كي ينمو. لكن "يونس" اعترض، وقاطع نقاشهم قائلًا:
-أنا مش موافق على ده. أنتم من حقكم تفرحوا ويتعمل ليكم فرح كبير.
ردت عليه "تقى" بهدوء قائلة:
-"يونس"، الفرح يوم ويعدي. إحنا عايزين حفل بسيط، وفلوس الفرح نكبر بيها شغلنا. لو سمحت، ده طلبي الوحيد.
نطقت "شهيرة" مؤكدة على كلامها قائلة:
-أنا كمان موافقه على كلام "تقى". مفيش داعي للفرح الكبير، إحنا هنعمل حفله صغير بس.
بعد نقاشٍ طويل بين الجميع، وسط اعتراض "يونس"، استطاعت الفتيات إقناعهم بصعوبة. وحين رأى "يونس" إصرارهم، وافق على كلامهم، ثم تحدث قائلًا:
-بابا، أنا أجرت البيت إللي جنب المطعم هناك، هعيش أنا و"تقى"، وجهزت كل حاجة، وبالليل نروح نشوفه بعد كتب الكتاب.
رد "أحمد" عليه بسعادة واضحة في نبرة صوته الممزوجة بالفرح:
-ألف مبروك يا حبايب قلبي، ربنا يبارك فيكم ويحفظكم. "زينب"، يلا ابدؤا تجهزوا لبليل، نكتب الكتاب ونعمل الحفلة.
قام الجميع، حيث خرج "يونس" وشقيقه لجلب كل ما ينقص الحفل، بينما هرعت الأمهات إلى المطبخ لإعداد طعام الاحتفال في بهجةٍ وسرور. أما الفتيات، فقد ذهبن لترتيب مكان الحفل في حديقة المنزل بكل سعادةٍ وحماس، لكي يتمكنَّ من العودة سريعًا لتجهيز أنفسهن.
أصبح العمل في أوجه، وكل واحد كان يركض في جهة، وامتلأ البيت بالسرور حتى حلَّ المساء. بعدها، توجهت الفتيات إلى غرفهن، وكل واحدة بدأت في تجهيز نفسها.
وقفت "تقى" أمام المرآة بفستانها الوردي، تنظر إلى نفسها بتأملٍ ورضا، وقد لمعت حبّات الدموع في جفونها، بينما ابتسمت ابتسامةً مليئةً بالفرح. دارت حول نفسها كالفراشة التي تحلِّق في السماء، وكأنها لا تستطيع أن تكبح فرحتها.
كانت الغرفة صغيرة، لكن لم يكن فيها ما يحدُّ من تحليقها، كانت تحسُّ بأنها في مكانٍ رحب، يليق بمشاعرها التي لا تكاد تسعها. أغمضت عينيها ببطء، مستشعرةً سكينةً هادئة تنساب في أعماقها، ثم فتحت صدرها لتستنشق هواءً عميقًا، وكأنها تستعدُّ لمغامرةٍ جديدة.
بعد لحظاتٍ قليلة من هذا الهدوء، توقفت فجأة، حين سمعت صوت "شهيرة" قائلةً بنبرةٍ متوترة:
- كفايه دوران يا "تقى"، أنا مش قادرة أتحمل! قلبي بيترعش ومش عارفة مالي؟!
حين سمعت "تقى" كلمات "شهيرة" المشبعة بالقلق، انتابها خوفٌ مفاجئ. اقتربت منها بسرعة، وقد تبدَّل وجهها من الفرح إلى الذعر. أمسكت بيدها كنوعٍ من الاطمئنان، وبدأت تربِّت على كتفها باليد الأخرى، ثم قالت بصوتٍ يحمل تساؤلًا:
-مالك يا "شهيرة"؟ قلقتيني عليكِ! ده يوم فرحك، إيه إللي مخوفك كده؟!
بلعت "شهيرة" ريقها، ولامست الدموع عينيها، بينما كان عقلها مشوشًا بالأفكار السلبية. شعرت وكأنها في دوَّامةٍ لا تعرف كيف تخرج منها. بدا الحزن واضحًا على ملامحها، وأجابت بصوتٍ يحمل نبرةَ خوف:
-"تقى" أنا خايفة، ومش عارفة من إيه... كل ما أفكر في إللي حصل قبل كده يوم ما هربت، بترعب... وخايفة يحصل حاجة تاني.
لم تتمالك دمعةً من عينيها، ففرت على خدها، معبِّرةً عن مدى الخوف الذي ينخر في قلبها وعقلها، كما لو كان سكينًا يقطع في داخلها. رقَّ قلب "تقى" لحال صديقتها حين رأتها تبكي، فرفعت يدها لتجفف دموعها بلطف، ثم حاولت الابتسام حتى ترفع عنها بعض الحزن، وقالت:
-بصي يا شوكي... تفائلي بالخير، متخافيش. الماضي انتهى، وده يوم جديد.. مفيش حاجة هتحصل غير اللي كتبه ربنا لينا. يلا، طلعي ابتسامتك خليني أشوف عروستنا القمر!
بينما كانوا يتحدَّثون، فُتح الباب، ودخلت "مريم" ووالدتها برفقة "منة" و"إيلول"، وانطلقت الزغاريد وتصفيق البنات، مما أضفى على الجو حماسًا وفرحة.
تقدَّمت "زينب" نحو "شهيرة" وابتسامة بشوشةٌ تزيِّن ثغرها، ثم رفعت يدها وأمسكت وجنتي "شهيرة" بحنانٍ بين كفّيها. تحدثت بفرحةٍ ممزوجةٍ بدموع الفرح، وقالت:
-أنتِ كنتِ بنتي قبل مرات ابني، ياما اتمنيت اللحظة دي، اللحظة إللي أشوفكم فيها مبسوطين مع بعض. ربنا يسعدكم ويتمم لكم على خير يا قلب ماما.
دمعت عيون "شهيرة" فرحًا، وهي تستمع إلى تلك الكلمات الدافئة التي بثَّت الطمأنينة في روحها وقلبها. لطالما تمنَّت أن تسمع هذه الكلمات من والدتها في هذا اليوم الجميل، ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يحدث في حياته. لم يُعوِّض مكان الأم أحد، لكن "زينب" فعلت ما بوسعها لكي تشعر "شهيرة" بوجود أمها إلى جانبها.
اندفعت "شهيرة" إلى حضن "زينب"، وعانقتها بقوة، كأنها تستمدُّ الحنان والدفء الذي حُرمت منه. بينما كانت "منة" تحضن ابنتها "تقى" من جانبها، ومن الجهة الأخرى "إيلول"، وكانت "مريم" تقف وسطهم، ضيَّقت عينيها وهي تنتظر دورها، ثم صاحت بصوتٍ مرح قائلة:
-أنا بنت البطة السودا! كل واحدة أخدت حضن، أنا فين؟! ماما، يلا بقى، بلاش نكد كده العريس هيطفش.
رَجَّت ضحكاتهم المكان عندما نطقت "مريم" بكلماتها، وكان العبوس واضحًا على وجهها وهي تقف وسطهم، واضعةً ساعديها أمام صدرها وتنظر إليهم في صمت.
اقتربت منها "زينب"، وأمسكت وجنتيها وهي تضحك، ثم قالت:
-عقبال لما أفرح بيكِ إنتِ كمان يا روحي، متزعليش، هي عروسة بقى ولازم تاخد حضن.
ردت" مريم"، وهي تضع يدها على خصرها وتحرك عينيها بعشوائية:
-أنا مش عايزة أتجوز، ولا إنتوا عايزين تخلصوا مني؟ وقتها شوفي مين هيملأ البيت عليكم فرحة وروحي الجميلة وحسي العالي د؟
قالت "زينب" مبتسمة:
-ماشي يا مريومة، نتكلم في موضوعك بعدين. أنا هروح أشوف إخواتك إذا كانوا جهزوا، وإنتِ و"أيلول " شوفوا زينة الحديقة إذا كانت خلصت، علشان الحفلة هتبدأ، والمأذون جاي.
أنهت "زينب" كلماتها وخرجت مسرعة، بينما بقيت "مريم" واقفةً في مكانها لدقائق، ثم أمسكت يد "إيلول" وخرجت أيضًا تلحق بها. بقيت الفتيات يُكملن استعداداتهن.
في إحدى الغرف، وقف "يونس" أمام المرآة، وكانت بذلته السوداء قد أضفت عليه مظهرًا جذَّابًا، أكثر من مجرد قطعة ملابس؛ بل كانت تجسيدًا لأحلامه التي بدأت تلامس الواقع. بدأ بتمشيط شعره ببطء، حركاته مدروسة بعناية، وكأن كل خصلة شعر تحمل تفاصيل حياته. ثم وضع المشط جانبًا، وأخذ زجاجة العطر بين يديه، قلَّبها برفق، ورشَّ منها رشةً خفيفة، فانتشرت رائحتها في المكان كلمسةِ أمل.
كانت البسمة لا تفارق شفتيه، وعيناه مشعتان بأملٍ غريب، كأن السعادة نفسها قد تسلَّلت إليه. لم يكن هذا يومًا عاديًا، بل كان بمثابة يوم ميلاده الجديد. فبعد سنواتٍ من الحزن، هبَّت إليه "تقى" كقطرات المطر، فازدهر قلبه مجددًا، وكأن الزهور كانت تتفتح في أعماقه، معلنةً بداية فصلٍ جديد في حياته.
ولكن كانت هناك لمعةُ خوفٍ ممزوجةٌ بسعادته تُعكِّر صفو فرحته. استدار نحو شقيقه، الجالس خلفه على إحدى الأرائك، برفقة "مؤمن"، الذي جاء به والدهما ليحضر حفل زفافهما ثم يعود لإكمال علاجه في المصحَّة:
-"حسام"، إذا خلصت، يلا نطلع بسرعة، اتأخرنا عليهم كتير.
نظر "حسام" إليه ورفع حاجبه حين لاحظ قلقه وتوتره الظاهر من كلماته، ثم قام من مكانه وهتف بتساؤل:
-مالك يا "يونس"؟ مش على بعضك ليه؟، حاسس إنك قلقان رغم الفرحة، في حاجة مخاوفك؟!
تنهد "يونس" وأخفى قلقه ببراعة، ثم تحرك من أمامهم بظهره وقال:
-مفيش حاجة يا "حسام"، أنا كويس، يلا نطلع، اتأخرنا عليهم.
أنهى كلماته، ومدَّ يده ليفتح الباب، ولكن الباب فُتح قبل أن تمتدَّ يده إليه، ودخلت "زينب"، والفرحة تضيء وجهها. كانت البسمة تزيِّن ثغرها، وسعادةٌ لا توصف تلمع في عينيها.
تقدَّمت نحو "يونس"، وقالت بصوتٍ ممزوجٍ بالسرور:
-ألف مبروك يا قلبي! بجد مش مصدقة. اتمنيت اليوم ده من زمان، وربنا حققه الحمد لله. ربنا يتمم لكم على خير ويسعدكم ويرزقكم الذرية الصالحة، وتملوا البيت عليا عيال ..
نظراتها كانت كفيلة بأن يفعل من أجلها أي شيء. كانت نظرات والدته تحمل سعادةً كبيرة، تلك السعادة التي جعلته ينسى كل مخاوفه من المستقبل. ابتسامتها كانت كمرهمٍ لقلقه، ولا شيء في الدنيا يمكن أن يعادل سعادة الأم.
ابتسامتها وفرحتها بأبنائها كانتا بالنسبة لها بمثابة إنجازٍ عظيم، حلمٍ تحقَّق، وطموحٍ وصلت إليه. ما يُسعد الإنسان أكثر من رؤية فرحة أبنائه، فلذات كبده؟ يتنهَّد صدرها عندما ترى بهجتهم وسعادتهم.
اقترب منها "يونس"، أمسك برأسها بين يديه، وقبَّل جبهتها، ثم ابتعد عنها قليلًا، ونطق قائلًا:
-الله يبارك لنا في عمرك ويحفظك لينا. فرحتك دي تساوي الدنيا كلها يا نور عيني.
ربتت بيدها على ذراعه، والابتسامة لا تفارق وجهها، ثم قالت بحب وحنان:
-ربنا يسعدك يا قلبي. بجد، النهارده فرحتي كبيرة بيكم.
قاطع "حسام" حديثهم، كما اعتاد دائمًا، قائلاً بمرح:
-مفيش مبروك ليا يا ست الكل؟ ولا أنا مش باين عليا إني عريس؟ بصي على البدله، حلوة صح؟
ضحكت "زينب" بخفة على مرح ابنها الدائم، ثم تقدمت إليه وقالت:
-أجمل عريس يا حبيبي، مبروك. ربنا يحفظك ليا ويسعدكم.
ثم نظرت إلى "مؤمن"، واسترسلت في حديثها قائلة:
-وعقبالِك يا "مؤمن"، إن شاء الله. ربنا يشفيك ويرزقك بالزوجة الصالحة، وتبني بيت وعيلة. المهم إنك ما ترجعش للسم إللي كنت تأخذه تاني.
أحنَى "مؤمن" رأسه، يحاول إخفاء تلك الدموع التي خانته، والتي كادت أن تسقط من عينيه. اختنق صوته، وتمنَّى لو كان له أمٌّ تحتضنه، لو كانت له حياةٌ أفضل، لو كان لديه عائلةٌ تحتويه.
عاش طفولةً مليئةً بالألم، كبر وسط بيئةٍ سيئة، وتحمل سموم الحياة ووجوه البشر القاسية. لم يعرف معنى حنان الأم، ولا سند الأب. كلمة "ابني" لم تكن تعرف طريقها إلى حياته. كم تمنَّى أن يستيقظ يومًا على سريره، وأن يسمع صوت والدته بدلًا من أصوات الكلاب الضالة والقطط في الشوارع. كم تمنَّى لو كانت له عائلةٌ تحتضنه، بدلًا من أن ينام على الأرصفة، تحيط به قسوة الشوارع وبرودة الشتاء القارس.
مسح "مؤمن" تلك الدمعة الخائنة التي سالت على وجنتيه، ورفع رأسه في محاولةٍ لرسم ابتسامةٍ على شفتيه، محاولًا إخفاء الألم، لكنه لم يستطع، فالألم كالمرض، مهما أخفيته، يظهر تأثيره.
رغم تلك الابتسامة الكاذبة، إلا أنهم لاحظوا حزنه عندما بلع لعابه، ثم قال:
-إن شاء الله يا طنط، ادعيلي أتعالج بسرعة من السم ده.
نظرت إليه "زينب" بحزنٍ، وكأنها قرأت ما يدور في ذهنه، وأشفقت على طفولته الضائعة المؤلمة، لكن لا شيء يتغير. الماضي يبقى عالقًا في ذاكرة الإنسان.
-ربنا يشفيك منه، ويفتح لك أبواب الخير يا ابني، ويعوضك بإذن الله. "حسام".. "يونس" شوية وتعالوا علشان تاخدوا البنات.
أنهت كلماتها بسرعة، ثم خرجت مسرعة. بينما تقدم "يونس" نحو "مؤمن" وسأله قائلاً:
-مالك يا "مؤمن"؟ أنت تعبان، باين عليك الزعل، واتغيرت في الدقائق دي، وشكلك مهموم.
-مفيش يا أخي، بس افتكرت طفولتي وزعلت. بشجد حسيت إني وحيد، من غير أم، ولا أهل.
تكلم" يونس" بصوت محمل بالعتاب قائلاً:
-ليه بتقول كده يا "مؤمن"؟ هو إحنا مش أهلك؟ من يومها بابا اعتبرك واحد منا. إحنا إخواتك يا "مؤمن"، مش لازم تنسى ده. إحنا جنبك، لغاية لما تخف وتوقف على رجليك.
رفع "مؤمن" رأسه، وهو يشعر بالخجل. بعد كل المعاناة، يجد نفسه وسط عائلةٍ دخل منزلهم بنيَّةٍ سيئة، حاول قتل ابنتهم، لكنهم يقفون إلى جانبه.
كم هي غريبةٌ الدنيا! من نظنُّ بهم خيرًا لنا قد يكونون سبب عذابنا، ومن نحاول إيذاءهم، هم شفاءٌ لجروحنا، ونحن لا ندري.
-مش عارف أقولكم إيه، أنا دخلت بيتكم علشان أؤذي آنسة "تقى"، لكن القدر كان له رأي آخر. ماكنتش عارف إنها هتكون بداية لحياتي، وانتو بصيص الأمل اللي كان وسط عتمة حي
اقترب" يونس" من "مؤمن"، وربت على كتفه مبتسمًا، ثم قال:
-إحنا أهلك من اليوم ده، وإن شاء الله أول ما تكمل علاجك هتشتغل معانا.
ابتسم "مؤمن"، وعانق "يونس"، وكاد يبكي من فرط سعادته. فقد منحته هذه العائلة الأمان والسعادة، وشعورًا بالأخوَّة. لأول مرة، يشعر بأنه وسط أشخاصٍ يحبونه بصدق، يعاملونه كإنسانٍ بكل لطفٍ وطيبة. أحيانًا، يأتي العوض على شكل أشخاصٍ يقدِّمون لك ما حُرمتَ منه.
فصل "مؤمن" العناق عن "يونس"، ثم تقدَّما إلى الخارج. وعندما خرجا، شعر "يونس" بإحساسٍ غريبٍ وألمٍ في جسده، وبدأت يده تتحوَّل إلى اللون الأزرق. شعر بصداعٍ يجتاح رأسه وألمٍ يسري في جسده، لكنه تجاهل الأمر كي لا يُفسد سعادة الجميع، وأخفى ما يشعر به، داس على أوجاعه وكأنها شيءٌ يمكن طيُّه في جيب سرواله، حتى وصلا أمام غرفة الفتيات.
وقبل أن يطرقوا الباب، سمعوا صوت "أحمد" من خلفهم وهو يقول:
-يلا روحوا على الجنينه، مكان الحفلة. أنا هجيب بناتي. يلا بسرعة، "مؤمن"، خدهم، المأذون وصل.
رفع" حسام "إحدى حاجبيه كعادته، ثم قال مستغربًا:
-مش كان المفروض العريس ينزل هو والعروسة مع بعض؟ ولا دي عادة جديدة اخترعها بابا؟
مسك "مؤمن" يد "حسام" وسحبه خلفه إلى الخارج قائلاً:
-تعالَ يا ابني، سيب أبوك يعمل اللي قال عليه. إحنا ننزل عند الضيوف تحت.
خرجوا معًا إلى مكان الاحتفال في حديقة المنزل الصغيرة، التي كانت تبدو وكأنها تحفةٌ فنيةٌ بزينتها وترتيبها، وسط شجيرات الورد وخضرة المكان. هناك، كان عددٌ قليلٌ من ضيوف الجيران والأصدقاء يجلسون في راحة. وفي الجانب الآخر، كانت هناك منصةٌ صغيرةٌ للعروسين، وأمامها "المأذون".
جلس كل واحدٍ منهم في مكانه في انتظار العروس، بينما جلس "مؤمن" على إحدى المقاعد يستنشق الهواء، وكأنها المرَّة الأولى. شعر بسكينةٍ وطمأنينة، وكان الهدوء يسكن قلبه لأول مرةٍ في حياته.
بعد دقائق قليلة، دخل "أحمد" ومعه "تقى" و"شهيرة"، كل واحدةٍ منهما في جهة، وخلفهم الباقي، وسط تصفيقٍ حارٍّ وجوٍّ مليءٍ بالفرح. جلست كل واحدةٍ منهما بجانب زوجها استعدادًا لعقد القران.
لم ترفع "تقى" رأسها من شدَّة خجلها، وكانت تشعر أن دقَّات قلبها أصبحت مسموعةً من شدَّة نبضه. لأول مرة، تشعر بهذا الإحساس بين التوتر والسعادة، وتتساءل كيف ستكون حياتها الجديدة. هي تعرف "يونس" منذ فترةٍ طويلة، ولكنها الآن تشعر وكأنها لأول مرةٍ تجلس بالقرب منه.
لم يمر وقتٌ طويلٌ حتى تمَّ عقد قران كليهما، وقال "المأذون" جملته الشهيرة:
"بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في الخير بالرفاء والبنين إن شاء الله."
أغلق "المأذون" دفتره، لملم متعلقاته، ثم نهض وبارك لهما مجددًا، وألقى عليهما تحيةً قبل أن يغادر. جمع أشيائه ثم خرج.
نظر "يونس" إلى "تقى"، وسعادةٌ كبيرةٌ تغمره. نظر إلى عينيها طويلًا، وكأنها لأول مرة. كانت نظراتٌ متبادلةٌ بينهما، وكأن عيونهما تبوح بما في قلوبهما. كانت نظراتٌ تحمل كلَّ ما في قلبه.
رفع يديه، وأمسك رأسها بين كفَّيه، ثم قبَّل جفنها قبل أن يبتعد عنها، وقال:
-عشت كل حياتي أهرب وسط الضلمه، ومكنش في مخرجً لغاية ما لقيتك ، وكنتِ بصيص نور وسط عتمتي. وكل ما أقرب منكِ، أشوف النور. كنت بدور علشان أعرف أنا مين وعن نفسي لغاية ما لقيتك، ساعتها لقيت نفسي معاكُ.
رفعت "تقى" رأسها، واحمرَّ وجهها خجلًا، وغطَّت وجنتيها حمرةٌ زادت ملامحها رقةً. شعرت أن لسانها قد أصبح ثقيلًا، ولم تجد كلماتٍ تعبِّر بها عمَّا تشعر به، أو كيف تصف ما تحسُّ به في قلبها. فهم "يونس" ما يدور في ذهنها من خجلٍ أمام الجميع.
تقدَّم الجميع، وانهالت عليهما التهاني من الحضور.
أما "حسام"، فلم يكن يقلُّ سعادةً عن الجميع، فقد احتضنها بين ذراعيه وهي تكاد تذوب خجلًا، ثم ابتعد عنها، وقال:
-يمكن اتوجعت كتير علشان أوصل للحظة دي، بس انتي تستاهلي أكتر. واجهنا صعاب كتير، بس كل حاجة حلوة مش بنوصل لها بسهولة، وحبك مكنش سهل.
احمر وجهها خجلًا، وتلعثمت قبل أن ترد وهي تهرب من عينيه:
-م.. م.. مش سهل، بس ربنا سهل اليوم وخلانا نلتقي مع بعض.
بدأ الاحتفال، وتم تقديم المأكولات والعصائر للمدعوين. وفي وسط هذا الجو المليء بالفرح، شعر "يونس" بحرقةٍ في جسده، واشتدَّت ملامحه، وأصبح لونه يتغيَّر، وكأنما مزيجٌ بين الأسود والأزرق، وعيناه احمرَّت كالنيران.
أصبح لا يرى أمامه شيئًا، ولا يسمع سوى أصواتٍ غريبةٍ تشبه عاصفةً تكاد تأكل عقله. حاول أن يسيطر على نفسه، لكن فجأة، دون أن يشعر، أمسك بالمائدة التي أمامه، ورفعها ثم دفعها! سقطت على الأرض، وبدأ في تحطيم كلِّ شيءٍ أمامه، وسط صدمة الجميع.
اقتربت منه "تقى" بهلع، وقالت:
-"يونس"! مالك؟ إيه اللي حصل؟ أنت كويس؟ "يونس"!
لكن "يونس" لم يكن يسمع أو يرى شيئًا مما حوله، وراح يكسِّر كلَّ شيءٍ في طريقه. فجأة، سقط على ركبتيه، وانهمرت دموعه، وأصبح نصف وجهه مخيفًا! ثم انهار على الأرض فاقدًا للوعي.
تدافع الجميع حوله في هلعٍ وبكاء، وقد تحوَّلت فرحتهم إلى حزنٍ وذعر. أمسكت "تقى" رأسه بين يديها، وصاحت ببكاء:
-"يونس"! "يونس"! رد عليّ! ماله؟ ماما! حصله إيه؟ ردي عليّ!
فور أن انتهت "تقى" من كلماتها الممزوجة بالبكاء، جاء الرد من شخص خلفها قائلاً:
-أنا عارفة السبب اللي خلا" يونس" كده.
•تابع الفصل التالي "رواية من انا" اضغط على اسم الرواية