رواية من انا الفصل الثاني والعشرون 22 - بقلم حليمة عدادي

 رواية من انا الفصل الثاني والعشرون 22 - بقلم حليمة عدادي 

من أنا
البارت 22

استدار "أحمد" بذعر، ليجد زوجته "زينب" ملقاة على الأرض. تسارعت خطواته نحوها، وعيناه مليئتان بالقلق، وعقله غارق في أفكار مرعبة. في اللحظة الأولى، ظن أنها أصيبت برصاصة.
اقترب منها بسرعة، وقد ارتجف جسده من الخوف. هزّها بلطف، لكنها لم تستجب!
 تطلّع إلى وجهها، فلاحظ شحوبها وجسدها الثابت، ولا شيء يدل على الحياة سوى النفس الخافت الذي كان يصدر منها. تنفّس بعمق حين تأكد أنها لم تُصَب، بل سقطت من شدة خوفها.
-"زينب"! "زينب"، أنتِ كويسة؟

نادى بها بصوت مرتفع، وهو يمسك بكتفيها. في تلك اللحظة، شعر قلبه وكأنّه يختنق؛ ماذا لو كانت قد تعرضت لأذى شديد؟ بدأ يضغط على يديها بشدة، بينما قلبه ينبض بسرعة متسارعة.
ثم، وببطء، بدأت عيناها تتحرك. فتحت عينيها بهدوء، واستقامت واقفة، وقالت:

-"أحمد"... أنا كويسة. بس... الخوف هو إللي خلاني يغمى عليا واقع.

تنهد "أحمد" بارتياح عميق، وعيناه تغرقان في الدموع من شدة الفرح. تنفس بارتياح، ثم رفع بصره بسرعة عندما تذكر القناص، ليتأكد إذا كان لا يزال موجودًا. لكنه لم يجد له أي أثر.

أخذ نفسًا عميقًا وقال:
-الكل يدخل جوه، وحتى الولد ده شيلوه  دخلوه جوه. هنطلب له دكتور هنا، لأنه هو كان المقصود بالرصاصة دي . شكله  في حد عايز يقتله.

تقدّم الجميع إلى الداخل كما أمرهم "أحمد"، وسط أجواء مشحونة بالقلق. تبعه اثنان يحملان الشاب إلى داخل المنزل، بينما انطلق "أحمد" لإحضار أحد الأطباء للكشف عن حالة هذا الشاب.

احتدت ملامح "يونس" واشتعل غضبه وهو يشاهد شخصين أمام مطعمه يقومان بتحطيم المقاعد الخارجية ويهشّمون كل ما أمامهم بأقدامهم، مع ضحكاتهم المستفزة التي زادت من اشتعال غضبه.
 تقدّم نحوهم بخطوات متسرعة، غارقاً في غضبه حتى أنه لم يدرك ما يدور حوله. وعندما شعروا باقترابه، هربوا سريعاً، لكنه لم يتوقف، بل تبعهم!
 وقبل أن يتمكن من اللحاق بهم، استقلوا دراجة نارية وانطلقوا بسرعة كبيرة.

أدرك "يونس" أنه لن يستطيع اللحاق بهم، فوقف في مكانه ليتنفس بعمق، فقد كانت أنفاسه قد انقطعت.
 بعد لحظات، وصل إليه "حسام"، الذي لم يكن قادراً على الركض بسبب قدمه المصابة. 

وقف بجانبه، معبّراً عن غيظه بتنهيدة طويلة، لكنه حرص على أن يبقى هادئاً كي لا يدفع "يونس" للقيام بأي تصرف يندم عليه. ثم ربت على كتفه بلطف قائلاً:

-اهدى يا "يونس"، ربنا ينتقم منهم، مش عارف هما مين؟ وعايزين منا إيه؟!.

-أنا عارف كويس مين دول، وعارف مين إللي بعتهم.

قال "يونس" هذه الجملة بصوت غاضب، والشرر يتطاير من عينيه!.

نظر "حسام" إليه ثم رفع إحدى حاجبيه مندهشاً، ثم قال متسائلاً:
-مين طيب؟ ولو أنت عارف مين بعتهم تعالى نقدم بلاغ في القسم ؟
تنهد "يونس" بضيق، مدركاً أنه لن يستطيع التخلص من همومه ما لم يبتعد عن "وليد" ورجاله. 
فقد شعر أنه سيظل مطاردًا منهم في كل مكان، وأنهم سيؤذون كل من يقترب منه، مما أثر سلبًا على كل فرد في عائلته!
 بدا له وكأن الهواء من حوله قد انعدم، مما زاد من شعوره بالازدحام والضيق.
 -وليد، واللي معاه مفيش غيرهم، طول ما أنا معاكم، هيفضلوا يدايقوا فيكم ويمشوا ورايا!
أنهى حديثه، ثم توجه نحو المطعم وهو في حالة سيئة، حيث كان يواجه صراعًا داخليًا عنيفًا، لم يُترك منه سوى قلب مجروح. خلفه، كان "حسام" يشعر بالشفقة على حال شقيقه، فبدأ يرتب ما تشتت ويجمع ما انكسر.

ثم دخل ليواصل عمله في الطهي، عاقدًا العزم على أن يؤدي ذلك في صمت خارجي، رغم العاصفة الحزينة التي كانت تعصف بداخله.

**************                        
في منزل "أحمد"، اجتمع الجميع في حالة من الترقب والقلق، ينتظرون ما سيقرره الطبيب بشأن الشاب.
 كان التوتر يتسلل إلى قلوبهم بسبب الأحداث المقلقة التي وقعت في الخارج، وأصبحوا يدركون أنهم في خطر لا مفر منه.
 هذا الخطر سيستمر ما دام "يونس" موجودًا، لكنه وعائلته قد عاهدوا أنفسهم على حمايته مهما كلفهم الأمر. لن يكونوا هم سببًا في معاناته، لكن عليهم التزام الحذر.

بهدوء وتركيز، بدأ الطبيب في تحضير المحاليل اللازمة للمريض، يراقب حالته عن كثب. 
ومع مرور الوقت، قام بتوصيل المحلول عبر الوريد، مع مراعاة راحة المريض وطمأنته بعد الانتهاء من الفحص. ثم استدار وقال بجدية:

-باين  عليه ما أكلش  من كام يوم وده السبب في فقدان وعيه. ومن خلال الكشف والأعراض إللي عنده، ممكن يكون شاب مدمن. لازم نعمل تحاليل علشان نتأكد من ده، وبعد شوية هيفوق لما المحلول يخلص.

وقف "أحمد" ولم يظهر على وجهه أي تعبير مما يثير الانتباه، ثم نطق قائلاً:
-شكراً ليك يا دكتور، تعبناك معانا. إن شاء الله يفوق بس وساعتها نشوف هنعمل إيه في التحاليل.
خرج الطبيب، وجلس أفراد العائلة في صمت يترقبون عودة هذا الغريب إلى وعيه، علّهم يعرفون هويته!
 نظرت إليه "زينب"، وأحزنها مظهره؛ كانت ملابسه ممزقة، وحذاؤه بالياً، وملامحه شاحبة، وكأنها ملامح شخص من الموتى، مع هالات داكنة تحت عينيه. كان جسده نحيفاً، فنظرت إلى زوجها وقالت:

-زعلانه عليه بجد، شكله باين عليه  معندوش عيلة ، يمكن يكون صحيح من العيال المدمنين

 أخذ "أحمد" نفسًا عميقًا، ثم نظر إلى الشاب قائلاً:
-مش عارف يا "زينب"، بس اللي متأكد منه إن حد بعته، وكان عايز يخلص عليه، يفوق ونشوف إيه حكايته هو كمان؟!
ربّتت "زينب" على كتفه كنوع من الدعم النفسي، فهي تعرف جيدًا كم هو خائف على عائلته، وكيف أنه يخشى فقدان "يونس" بسبب هؤلاء الوحوش البشرية. 
الخطر أصبح محيطًا بهم من كل جانب، ولا أحد يعلم نوايا "وليد" الشيطانية أو متى سيقوم بما ينوي فعله.

نظرت إليه وقالت، محاولةً طمأنته:
-إحنا هنبقى تمام، ما تخافش، كل حاجه هتبقى تمام إن شاء الله.
بعد فترة من الانتظار، بدأ الشاب يفتح عينيه ببطء محاولاً التكيف مع إضاءة المكان. أحكم إغلاق جفونه وفتحها عدة مرات حتى اعتاد على الضوء، ثم نطق بصوت خافت قائلاً:
-أنا فين؟ انتوا مين؟!
هرع إليه "أحمد" حين سمع صوته ورد عليه قائلاً:
-انت اللي مين يا ابني؟ وإيه إللي دخلك بيتنا وطلعت في اوضة  بنتي إزاي؟ ومين بعتك؟

خفض الشاب بصره عندما استرجع كل ما حدث، وظهر عليه الخجل بوضوح.
 حاول النهوض، لكنه فَقَدَ توازنه وسقط في مكانه. أمسك به "أحمد" وساعده على الاسترخاء، ثم قال:
-اهدأ، إنت لسه تعبان، لو مش قادر تتكلم دلوقتي، ارتاح شوية وبعدين نتكلم وتحكيلنا كل حاجة؟

هز رأسه بنفي، وكان الألم واضح على ملامحه، والخوف جلي في عينيه، وقال بصوت متردد:
-أنا كويس... كويس... بالله عليك ما تطلبش  البوليس، وانا هقولك على  كل حاجة.

-اتكلم، أنا سامعك. اطمئن، مفيش بوليس، المهم تقولي الحقيقة.

 أغمض عينيه بإحكام، وكأنه يحاول الهروب من الألم الشديد الذي يعذب رأسه. ثم فتح عينيه وأخذ يسترجع ذكرياته الماضية، وقال بصوت منخفض:

-اسمي "مؤمن"، ده كل إللي أعرفه عن نفسي، كبرت في ملجأ، ولما وصل عمري اتناشر سنة، هربت من دار الأيتام.
 بدأت أسرق وأنام في الشوارع لحد ما في يوم جه إللي إسمه "وليد" وأخذني وقال لي هشتغل معاه، لكن للأسف كان أسوأ شغل ممكن أعمله!

توقف عن الحديث، وانعكس الألم على ملامح وجهه، بينما ابتلع ريقه الذي كان كأشواك تمزق حلقه. هنا تحدث "أحمد" قائلاً:
-شغل إيه اللي كنت بتشتغله مع "وليد"؟

-كنت باخد أنواع المخدرات وأوصلها لمكان تاني لناس شكلها بتشتري منه، وبعدين أرجع له بالفلوس، وأنا تحت مراقبة الرجالة بتوعه لو أخدت أي جنيه، كنت بتعذب ألف مرة. لدرجة إني بقيت مش قادر أتحملهم، وبقى ده شغلي، واللي بالنسبة لي كان جحيم.

توقف عن الكلام، فابتلع تلك الغصّة العالقة في حلقه كما لو كانت داءً يمزّقه، ودموع محبوسة خلف جفونه تتصاعد كلما استرجع ما مرّ به من مآسٍ في هذا الطريق المليء بالأشواك والشياطين البشرية التي قادته إلى هذه المساحة المرهقة. كان واضحًا، كوضوح الشمس، أن نهايته تلوح في الأفق.

ولما لمح "أحمد" صمته وحزنه الظاهر على ملامحه، سأله قائلاً:

-إيه إللي خلاك تفضل معاهم وانت مش طايقهم؟ كان ممكن تهرب وترجع للملجأ، ليه فضلت معاهم؟

أخذ نفسًا عميقًا، وظهرت غيمة من الحزن والإرهاق على عينيه، وقال:
-علشان بقيت مدمن على السم ده، وبقيت لو بعدت مش هقدر أعيش من غيره، وهرجع لهم تاني. وده إللي خلاني أجي هنا.

 تأملوا فيه، بينما كانت تدور في أذهانهم آلاف الأسئلة في انتظار أن يكمل حديثه ويكشف عن سبب قدومه لهم. كانوا يدركون تمامًا أن "وليد" هو الذي أرسله، لكنهم لم يعرفوا الدافع وراء قدومه.

قام "مؤمن" بمسح جبينه بيده ليجفف عرقه، رغم برودة الطقس، إذ كان يتعرق بسبب شدة الألم الذي يعانيه. لكنه تمالك نفسه، وأضاف قائلاً:
-"وليد" بعتني عشان أقتل بنت اسمها "حنين" هنا، عشان هي السبب في إنه خسر عينه. إداني صورتها وجابني لحد هنا، بس ما قدرتش أعملها. ما قدرتش أقتلها، مش قادر أؤذي حد. عشان كده استخبيت في الأوضه بتاعة البنت دي، ومش عارف أعمل إيه؟

مرر "أحمد" بيده على شعره محاولًا كبح غضبه الذي بدأ يتصاعد داخله كعاصفة. كان يعلم أن "وليد" لن يظل هادئًا إلا إذا حصل على ما يريد. طغى عليه طمعه وجشعه حتى أنه لم يعد يشعر بأنها إبنة شقيقه!. كيف لشخص أن يخون شقيقه ولا يحمل في قلبه رحمة؟ لقد أصبح كشيطان يتبع شهواته، وأعمى عن الحق.

تنهد بضيق، ثم نظر إلى "مؤمن" وقال:

-إنت هتروح مصحة علشان تتعالج من السم ده، وقبل ما أخدك هبلغ البوليس بكل حاجة، و أنت قولهم عن مكان "وليد" واللي معاه علشان نخلص منهم.

انتفض "مؤمن" من مكانه بفزع، حتى أن آهة من شدة الألم انطلقت من شفتيه. أصبحت علامات الخوف واضحة على ملامحه، فصاح برجاء قائلاً:

-بالله عليك ما تبلغش للبوليس، هياخدوني أتسجن وأنا ماليش ذنب، "وليد" هو السبب!

-اهدأ، إنت مالكش ذنب. إنت هتساعد البوليس عشان يقبضوا على "وليد"، هما بيدوروا عليه من زمان. أنا معاك ماتخفش مش هسيبك غير لما تدخل المصحة وتخف.
بعد انتهاء عملهم وحلول المساء، جلس "يونس" على أقرب مقعد أمامه، ممسكًا بفنجان من القهوة ليأخذ قسطًا من الراحة بعد يوم طويل شاق قضاه في الطهي والتنقل من مكان لآخر، حتى بدأ يشعر بتعب قدميه.

جلس "حسام" أمامه في صمت استمر لثوانٍ، حتى كسر "يونس" هذا الصمت قائلاً:
-أنا تعبت النهارده أوي، لازم نروح البيت ونشوف بابا عمل إيه مع إللي حصل هناك.

-يلا نروح علشان ترتاح، اليوم كان طويل.

نهض "يونس" ببطء، وتظهر على وجهه علامات التعب والهم. كان خلفه حزن عميق، رغم محاولته إخفاءه، لكن ملامحه لم تستطع إخفاءه!
 أغلق المطعم ثم انطلق هو وشقيقه في طريقهما إلى منزلهما، سارا معًا في صمت، وكأن الحديث أصبح ثقيلاً على ألسنتهما. 
في تلك اللحظات، كان الكلام مثل الملح على الجراح، مؤلمًا للغاية في حالة الإرهاق التي كانا يشعران بها.

عندما اقتربا من المنزل، لمحا عناصر الشرطة تخرج من مدخلهم، بالإضافة إلى سيارة الإسعاف.
 انقبضت قلوبهما وأصابهما شعور بالذعر، راودتهما أفكار سلبية متعددة. ركض "يونس" بأقصى ما يستطيع، بينما كان "حسام" يسير خلفه بصعوبة حتى وصلا بسرعة. 
وما إن بلغا المكان حتى وجدا "أحمد" يقف أمامهم مع رجال الشرطة الذين كانوا يغادرون.
تقدم "يونس" نحو "أحمد" وسأله بلهفة::
-بابا في إيه؟ البوليس هنا بيعمل إيه؟انتوا بخير؟

ربت "أحمد" على كتف "يونس" برفق، متحدثًا بكلمات تهدئ من روعهم، فقال:
-اطمنوا، الكل تمام. تعالوا جوا وهقولكم كل حاجة.

 تقدموا إلى الداخل، حيث كان الجميع واقفين، بينما كان الأطباء يصطحبون "مؤمن" معهم، توقف "مؤمن" لحظة، ونظر إلى "أحمد" قائلاً:
-شكراً ليك جداً يا "أحمد" بيه، بتمنى أتعافى، وإن شاء الله ييجي يوم أعيش حياة زي ما كنت بحلم بيها. سامحوني لو سببت لكم أي إزعاج.

-على إيه يا ابني، بتمنى لك كل الخير وإن شاء الله تتعافى من السم ده وتبني حياة جميلة. هاجي أزورك وأطمن عليك.

خرج الأطباء مع "مؤمن"، بينما بقيت العائلة في الغرفة جلست أسرة "أحمد" وأبناؤه في انتظار أي خبر عما يحدث داخل المنزل.
 كانت الأجواء مشحونة بالتوتر والقلق، وكل شخص منهم كان في حالة ترقب أخذ والدهم نفسًا عميقًا، محاولا أن يستجمع شجاعته ليروي لهم تفاصيل ما جرى، لكن كان واضحًا في عينيه القلق الشديد الذي لا يستطيع إخفاءه.
 ثم أخذ يقص عليهم كل ما حدث حتى انتهى.

أما "يونس"، فكان جالسا يستمع إلى والده، وقلبه يدق بسرعة لدرجة أنه شعر وكأن صدره سينفجر. كان عقله مشوشا تماما، غير قادر على استيعاب ما حدث.
اللحظة التي اكتشف فيها أن من هاجموا المنزل كانوا يستهدفون محبوبته وأنهم كانوا يخططون لقتلها بسببه، كانت وكأنها صاعقة أصابته. شعور الذنب كان يثقل صدره، ظنا منه أنه السبب، وألمه كان لا يُطاق.
 كان يحاول أن يظهر ثابتًا، لكن كان واضحًا على وجهه الخوف الشديد بلع لعابه بصعوبة وهو يحاول أن يهدئ نفسه، ثم نظر إلى والده وقال بصوت مختنق عينيه مليئة بالقلق:

-طيب، البوليس مسكت "وليد" ولا لسه؟ هو ممكن يهرب في أي لحظة؟

_ اطمن يا ابني، البوليس عرف من "مؤمن" المكان وإن شاء الله هيمسكوه ونرتاح منه. بلاش تفكر كتير، روح ارتاح شوية.

تنفس بعمق وكأن ثقلًا يجثم على صدره، ثم تحدث قائلاً:
-أنا السبب في كل إللي بيحصل، "تقى" كانت هتموت بسببي، و"وليد" بيلاحقني. وأنا في الأول كنت سبب موت والد "تقى" لأنه كان بيحميني، والنهارده عيلته كانت هتموت، أنا السبب، أنا السبب.

أنهى كلماته ثم خرج مسرعًا دون أن يلتفت إلى ندائهم، وكأن أذنه قد صُمت ولم يعد يسمع شيئًا سوى صوت حزنه الذي يعصف داخله.
**********                     
بعد يومين من التقلبات بين السعادة والحزن، ورد خبر القبض على "وليد" ورجاله في المكان الذي كانوا يختبئون فيه.
 وقد ساهم "مؤمن" بشكل كبير في هذا الإنجاز، حيث قدّم للشرطة كافة المعلومات التي كان يمتلكها عنهم، مما سهل مهمتهم.
 أثار هذا الخبر فرحة عائلة "الهلالي"، ولكن سرعان ما تحولت هذه الفرحة إلى قلق عميق بسبب اختفاء ابنهم "يونس"، الذي خرج من المنزل في حالة من الحزن ولم يعد!
 لم يتلقوا أي أخبار عنه، حتى أن هاتفه كان مغلقًا، مما زاد من توترهم وقلقهم مع مرور كل دقيقة.
في الصباح، توجه "حسام" إلى المطعم وعقله مشغول بشقيقه، رغم أن والده أكد له أنه يعرف مكان "يونس"!
 أما "تقى"، فقد كانت منعزلة، تبكي بمفردها، عاجزة عن معرفة ما يجب أن تفعله؟
 كانت تشعر بالحزن الشديد بسبب ما يحدث لهم منذ اللقاء الأول. "يونس" يتعذب، وهو الآن مختفٍ، يلوم نفسه ويشعر بالمسؤولية عن كافة الأحداث التي حدثت.
خرجت من غرفتها، وملامحها شاحبة نتيجة قلة النوم وعمق الحزن الذي يعتريها. تقدمت نحو "أحمد" وهتفت قائلة:

-عمي، ممكن طلب؟ بتمنى ما ترفضش طلبي.

-قولي يا بنتي، إذا قدرت أنفذه ليك، مش هتأخر عليك.
عيونها مليئة بالقلق والدموع تكاد تلمع في عينيها. تنهدت بعمق، ثم قالت بصوت مكسور وكأنها تكبح دموعها:

-أرجوك، عمي، أنا لازم أتكلم مع "يونس". لو سمحت، خدني عنده، أنا مش قادره أستنى أكتر من كده. عايزه أعرف هو فين؟، وأشوفه قبل ما يعمل حاجه في نفسه.

اقترب "أحمد" منها بلطف، ورفع يده ليربت على كتفها بحنان أبوي، ثم قال:

-اهدي يا "تقى"، متقلقيش، "يونس" هيكون بخير. هو في بيت الغابة، وأنا متأكد، يلا نروح له، تعالي يا "مريم" معانا.

أنهى "أحمد" حديثه ثم توجه إلى الخارج، وتبعته "تقى" و"مريم".
 استقلوا السيارة وانطلقوا نحو وجهتهم، في جو من الترقب والقلق، كان "أحمد" يشعر بقلق عميق بشأن غياب "يونس"، وكان قلبه مشدودًا بالهموم، تفكيره يتنقل بين الأمل واليأس.
 أما "تقى"، فكانت تكبح دموعها بصعوبة، وقد استحوذ عليها الخوف والقلق العميق.
 مرَّ يومان كاملان دون أن تذوق طعم النوم، وكلما راودتها فكرة تعرضه للأذى، كانت تلك الفكرة تعصر قلبها وتجد صعوبة في التنفس. في كل سجدة، كانت تدعو له أن يكون بخير وألا يمسه سوء، فهي تعاني من ألم الفراق الذي يكاد يفتك بها.
 نظراتها كانت مشدودة إلى الغابة طوال الرحلة، وعقلها شارد في المجهول، تتمنى لو كانت قادرة على الطيران للوصول إليه بسرعة؛ لتطمئن عليه. كانت تتمنى أن يكون بعيدًا عن الخطر، وأن تعود الأمور إلى مجاريها كما كانت.

بعد فترة من الصمت والقلق، توقفت السيارة فجأة، ليحل التوتر مكانه. ترجلوا من السيارة وتوجهوا نحو المنزل الصغير الذي بدا وكأنه يحمل بين جدرانه ذكريات أليمة.
 توقفت "تقى" لوهلة، تأملته بحزن عميق، وكأنها تسترجع تلك اللحظات التي بدأ فيها كل شيء.
 هنا بدأت قصتها، وهنا وجدته منقذًا لها، وهنا أيضًا اختطف معها. كان هذا المكان هو نقطة الانطلاق لحكاية مليئة بالهموم والمآسي، ومن هنا انطلقت كل تلك الآلام التي طاردتها. 
كل شيء كان قد بدأ من هذا المكان البسيط، لكن الذاكرة لا تُنسى، ولا يمر الزمن دون أن تعيدها إلى حيث الألم.

طرق "أحمد" الباب، ومع كل ضربة، كان التوتر يتصاعد في قلوبهم، وكأن الصوت نفسه يعبّر عن قلقهم الشديد!
كانت "تقى" في حالة يرثى لها، عيونها مغرقة بالدموع، وتمسك موضع قلبها بيدها وكأنها تمنع نفسها من الانهيار. 
أنفاسها كانت تتسارع بشكل غير طبيعي، وكأن الخوف قد استولى على كل خلايا جسدها، يختصر حياتها في لحظة واحدة.
 لو كان الخوف يقتل، لكانت قد فارقت الحياة من شدة الألم.

مرَّ الوقت بطيئًا، وكل شيء كان يسير على أعصابهم، وعندما لم يتلقوا أي رد، اقترب "أحمد" من الباب وقرر أن يضربه بكتفه ليفتحه، لكنه فوجئ عندما اكتشف أن الباب لم يكن مؤصّدًا من الداخل!
 دفعه برفق، ففتح الباب بسهولة. وعندما دخلوا، ارتجف الجميع من شدة القلق، وعندما وطأت أقدامهم الأرض داخل المكان، وجدت عيونهم ما كانوا يخشونه!
اتسعت أعينهم بشكل غير طبيعي، وتجمّدت الكلمات في أفواههم. كانت الصدمة أقوى من أن تتحملها نفوسهم. وفي تلك اللحظة، شقّت صرخة "تقى" هدوء المكان وكأنها صرخة ألم تنبع من أعماق قلبها.

-يوووووونس... يوووونسس!


 •تابع الفصل التالي "رواية من انا"  اضغط على اسم الرواية

تعليقات