رواية من انا الفصل الحادي والعشرون 21 - بقلم حليمة عدادي

 رواية من انا الفصل الحادي والعشرون 21 - بقلم حليمة عدادي 

من أنا 
البارت 21
أغمضت عينيها ثم فتحتهما عدة مرات، تحاول التأكد مما تراه. أهو حقيقة أم مجرد وهم نتج عن مشاهدتها المتكررة لأفلام الرعب؟ اقتربت بحذر من قدميه ولمستهما بيدين مرتجفتين. 
فجأة، تحركت القدمان وسُحبتا بسرعة إلى أسفل السرير! تجمدت مكانها للحظة قبل أن تدرك الحقيقة المُرعبة.
 هناك شخص يختبئ تحت سريرها. شعرت بصدمة هائلة تخترق كيانها، فاندفعت خارج الغرفة وهي تصرخ بأعلى صوتها، تبحث عن النجاة.
-"يونس"! ماما! بابا! إلحقوني! في حد في الأوضة تحت السرير! حد يلحقني!
لم يخرج أحد إليها، فقد اعتاد الجميع سماع صراخها في منتصف الليل بعد مشاهدتها للأفلام المرعبة، مما جعلها تعاني من الكوابيس التي تثيرها تلك الأفلام.
 لذا، لم يخرج إليها أحد سوى والديها. كان والدها غاضبًا من تصرفاتها، وقبل أن يتمكن من توجيه أي كلمة لها، ركضت نحوه واختبأت خلفه قائلةً بصوت مملوء بالذعر:
-تحت السرير... في حد تحت السرير! في راجل في الأوضة، نايم تحت السرير!
 التفت "أحمد" إليها ظنًا منه أنها قد شاهدت كابوسًا، وكان على وشك أن يوبخها لكي تبتعد عن الرعب، لكنه عندما لمح الرعب في عينيها، توقف وقال:
_ تعالي معايا نشوف في إيه، يمكن يكون كلامك صح وأشك طبعا؟ ولا دي كوابيس من الرعب إللي مش عايزه تبعدي عنه.
تحرك "أحمد" وزوجته نحو الغرفة، بينما كانت "مريم" تسير خلفهما، خائفة وقلقة. لم تفارق ذهنها صورة القدمين ذواتي الحذاء الممزق، وكانت تحاول جاهدة التركيز لتتذكر: هل كانت تلك الرؤية حقيقية أم مجرد خيال؟ لكن إحساسها بالواقع ازداد قوة عندما لمست قدميه وشعرت بحركته، مما أثار في نفسها تساؤلاً مرعبًا: "هل هو عفريت من الجن؟"
تسللت هذه الفكرة إلى عقلها وجعلتها ترتعش خوفًا، فتعلقت بذراع والدتها ووقفت خلفها. حينها، فتح والدها الباب بحذر وألقى نظرة دقيقة حول الغرفة، فلم يرَ شيئًا. ثم انحنى ليلقي نظرة تحت السرير، ولكن لم يكن هناك أي أثر لما وصفته "مريم".
أطلق "أحمد" زفرة مليئة بالضيق واستقام قائلًا:
_مريم، كفاية بقى! الموضوع زاد عن حده. كل ده من أفلام الرعب اللي بتتفرجي عليها.. نامي بقى وبلاش رعب تاني، عشان لو فضلتي كده هتشوفي حاجات أكتر. ومفيش حاجة في الأوضة.
 نظرت إليهم بنظرة خالية من أي تعبير، كأنها لم تعرف ماذا تفعل. جالت عيناها في الغرفة، لكنها لم تجد ما يلفت انتباهها. 
تنهدت بضيق وقررت أن تنسى ما حدث، مقنعةً نفسها بأنه مجرد خيال بسبب ما رأته. توجهت نحو سريرها وجلست على حافته، وقالت:
-آسفة يا ماما، مش هتكرر تاني. تصبحوا على خير.
-وإنت من أهله، نامي وارتاحي، بلاش تفكير.
خرج والداها وأغلقا الباب خلفهما. استلقت على سريرها وعيناها تحدقان في سقف الغرفة، حيث أبى النوم أن يأتي إلى جفنيها. كلما أغمضت عينيها، كانت صورة تلك القدمين تطفو في ذاكرتها، مما أثار قلقها وأرقها.
نهضت من مكانها وانحنت لتفقد ما تحت السرير، على أمل أن تعثر عليها مجددًا وتكشف الغموض، ولكن دون جدوى.
 شعرت بإرهاق شديد وألم في رأسها، فبدأت تتحرك عشوائيًا في أرجاء الغرفة، وهي تتنفس بعمق. أثناء تحركها، لمحت شيئًا يلمع على الأرض بالقرب من الباب.
اقتربت منه لتكتشف أنه قلادة غريبة الشكل، بدت وكأنها قديمة. نظرت إليها بدهشة، فقد أدركت أنها لم ترَ شيئًا مشابهًا لها من قبل. هنا، تأكدت أن ما رأته كان حقيقيًا، وهمست قائلة:
«إيه ده؟! ده مش ممكن يكون خيال! يعني اللي شفته كان صح، في حد دخل أوضتي، بس كان بيعمل إيه تحت السرير؟»
استلقت مجددًا على سريرها، غارقة في التفكير، حتى أسلمت نفسها للنوم من شدة الإرهاق.
*********** 
في صباح مشمس، اجتمع الجميع حول مائدة الإفطار في جو عائلي مليء بالبهجة والسرور. 
كانوا يتناولون وجبة الإفطار معًا لبدء يوم جديد، وفي تلك اللحظة، نظر "أحمد" إليهم وقال:
_"يونس" "حسام"، جهزوا نفسكم، هنروح على المطعم. بقالنا مدة غايبين عنه، والشغل قلّ، لازم نرجع ونكبر المطعم.
أجابه "يونس" ونظره متجه نحو "تقى" قائلاً:
_ تمام يا بابا، أنا كنت لسه هقولك نفس الكلام. بعد الفطار، إنت روح الأول ، وانا هحصلك علطول .. بس لو سمحت عايز أتكلم مع "تقى" شوية.
_ ماشي يا ابني، لو هي موافقه، كلمها وتبقى معاكم "إيلول"، ولما تخلص تعال ورايا.
ثم وجه حديثه إلى "تقى" قائلاً:
_ "تقى" يا بنتي، حابة تقعدي معاه ولا لأ؟ لو مش حابة، مفيش مشكلة، اتكلمي من غير كسوف؟
-مفيش مشكلة يا عمو، هقعد معاه شوية نتكلم.
بعد إتمامهم لوجبة الإفطار، انطلق كل فرد إلى عمله، بينما اختار البعض البقاء في المنزل. 
خرج "يونس" مع "تقى"، ومعهما "إيلول"، حتى تتمكن "تقى" من الحديث براحة.
 جلسوا في حديقة المنزل الصغيرة، حيث كانت الأشجار تظلل المكان بضوء الشمس الخفيف، والجو الهادئ يعزز شعورهم بالسكينة.
جلس "يونس" و"تقى" على المقعد الخشبي، والصمت يحيط بهما، بينما كان كل منهما يفكر فيما سيقوله الآخر!
كانت "تقى" قد أخبرت والده أنها تحتاج وقتًا للتفكير بعد طلبه يدها لابنه، بينما كان "يونس" يعرف أنها لم تكن متأكدة بعد من مشاعرها تجاهه.
كان هذا الأمر يشغل ذهنه، وكان يشعر أحيانًا بالحزن على نفسه، خاصة أن ملامحه لم تكن كما يتمنى، لكنه كان يعلم أن مشاعره تجاهها صادقة للغاية.
 وكان هذا اليوم هو اليوم الذي قرر فيه أن يعبر عن هذه المشاعر بشكل صريح.
نظر إليها بتردد واضح، ثم قال:
_ "تقى"، أنا عارف إنك كنتِ بتفكري في الموضوع ده بقالك فترة، وإنك محتاجة وقت علشان تقرري. وأنا مش جاي عشان أضغط عليكِ أو أطلب منكِ حاجة، بس عايز أقولك حاجة بقالها فترة كبيرة جوايا...
رفعت "تقى" رأسها لتلتقي عيناها بعينيه، وقالت بهدوء:
-اتكلم يا "يونس"، أنا سمعاك.
تردد "يونس" للحظة، ثم تحدث بصوت خافت، محاولًا أن يكون صريحًا:
_ أنا... بحبك يا "تقى". وبجد مش قادر أستمر وأنا مش عارف إذا كنتِ بتحسي نفس الشعور ولا لأ. وأنا عارف إن ملامحي مش زي بقية الناس ، وإن الكل ممكن يخاف مني بسبب جلدي وشكلي،  وعلشان كدة  مش عايزك توافقي علشان ساعدتك، ولا علشان بابا وقف معاك، ماتقلقيش حتى لو مش موافقة يا "تقى" عليَّ ، مفيش حاجة هتتغير في علاقة العيلة بيكي وبأسرتك.
فوجئت "تقى" بكلامه، وتوقفت لحظة لتفكر في ما سمعته. كانت تحترم مشاعره بعمق، وتبادله نفس المشاعر، ولم تفكر يومًا في شكله أو ملامحه. حتى حين قالت إنها تحتاج للتفكير، كان ذلك بسبب الخجل الذي كانت تشعر به، ولم يكن في قلبها شك في مشاعرها تجاهه.
لحظات من الصمت مرّت، ثم تحدثت بمشاعر صادقة، وقالت:
-الجمال جمال روح يا "يونس"، وأنا عمري ما شفت ملامحك أن شكلها وحش. بالعكس أنا لما كنت بهرب من أقرب ناس ليَّ اللي أذوني، إنتَ كنت الملجأ إللي بحس فيه بالأمان. أنا موافقة يا "يونس"، وده آخر قراري.
_ "تقى"، عندك وقت تفكري كويس، مش عايزك تندمي بعد القرار ده
نهضت "تقى" من مكانها، ونظرت إليه بعينين مليئتين بالثقة، ثم تحدثت قائلة بجدية:
-انا هندم  لو ما وافقتش يا "يونس". أنا قلت آخر كلمة، أنا موافقة.
أنهت كلماتها بسرعة، ثم تحركت نحو الداخل بخطوات سريعة، وكان وجهها يعبّر عن سعادة كبيرة لا تسعها، وكأن قرارها قد منحها شعورًا بالراحة والاطمئنان.
شعر "يونس" بفرحة عارمة تغمر قلبه، وكأن الدنيا بأسرها قد اجتمعت في لحظة واحدة. حينما سمع منها تلك الكلمات التي طالما انتظرها، تأكد أن كل لحظة من الانتظار كانت تستحق. 
موافقتها كانت أكثر من مجرد كلمات، كانت وعدًا بالأمل، وأملًا بالحياة التي سيبنيها معها. لقد شعر بأن قلبه يرقص فرحًا، كما لو أن أقدار الكون قد التقت لتكتب له بداية جديدة، مليئة بالحب والتفاهم.
قام من مجلسه متوجهًا نحو مطعمهم، وكانت السعادة تملأ قلبه. وعندما وصل، لاحظ والده يعمل على إجراء بعض التعديلات في المطعم، إذ كان يرتب المكان برفقة أحد الشبان. 
بينما كان "حسام" في المطبخ مشغولًا بالتحضير لضمان أن يتمكن "يونس" من استئناف الطبخ بسرعة فور عودته.
ألقى عليهم التحية، ثم توجه إلى المطبخ حيث جلس على إحدى المقاعد، وابتسامة عريضة تعلو وجهه. نظر إليه "حسام" وقال:
_ نقول مبروك؟ شكل البنت وافقت.
تحدث بسعادة، بينما كانت البسمة تضيء وجهه، قائلاً:
_ وافقت يا "حسام"، بجد مش مصدق! بتمنى أقدر أسعدها وأكون سند ليها.
_ ربنا يسعدكم ويتمم لكم على خير، ويرزقكم الذرية الصالحة.
ثم أضاف مازحًا:
_ يلا قوم يا عريس، جهز نفسك! لازم تطبخ النهارده حاجات كتير عشان المطعم بدأت الناس تهل عليه..
قام "يونس" من مكانه وارتدى المئزر، ثم تقدم بحماس نحو ركن الطهي الخاص به ليبدأ في إعداد الأطباق بكل احترافية ومهارة عالية. 
كان "يونس" يتمتع بمهارة فائقة في فن الطهي، بينما كان شقيقه يوفر له كل ما يحتاجه بكل سعادة. 
نتيجة لذلك، بدأ المطعم يستقبل أعدادًا متزايدة من الزبائن، وكلما أنهى "يونس" طبقًا، انتقل إلى العمل على الطبق التالي بحيوية ونشاط. وفي الوقت نفسه، تولى "حسام" وشاب آخر مهمة تقديم الأطباق لكل زائر يدخل المطعم.
---
جلست تفكر فيما شهدته البارحة، وقد غمرتها أفكار شاردة، حتى لفت انتباهها صوت أنين قادم من زاوية قريبة منها!
 انتفضت من مكانها وجالت بنظرها في أرجاء الغرفة، لكنها لم تلاحظ شيئًا غير عادي؟
 ظلت في مكانها، منصتة لمصدر الصوت عسى أن تكتشف مصدره. بعد لحظات من الصمت، أدركت أن الصوت يخرج من خزانة الملابس!
 تقدمت نحوها بحذر وقلق، حتى وقفت أمامها، وقد تسارعت أنفاسها. ثم أخذت نفسًا عميقًا قبل أن تفتح باب الخزانة بسرعة.
سرعان ما تجمدت في مكانها عندما رأت شابًا داخل الخزانة، مغمض العينين ويصدر أنينًا، وكان في حالة مزرية. تراجعت إلى الوراء وصاحت بقوة حتى كاد صوتها يختنق:
-ماما ماما الحقيتي! في حد في دولابي!
تراجعت "مريم" إلى الوراء وهي ما زالت تصرخ، حتى وصلت إلى الباب. فتحته بسرعة وانطلقت إلى الخارج كالعاصفة، تلهث بذعر!
 وجدت أهلها يتجمعون حولها، يتساءلون عن سبب صراخها، بينما تقدمت والدتها نحوها، وقد لاحظت رعبها الواضح. أمسكت بيدها برفق، محاولة تهدئتها، وابتسمت بلطف قائلة:
-"مريم"، في إيه؟ اهدي شوية، مالك؟ حصل إيه؟
 بلعت "مريم" ريقها بصعوبة، وما زالت تحت تأثير القلق، ثم قالت بصوت متردد:
-في راجل جوه دولاب الهدوم بتاعتي، مش عارفة هو ميت ولا إيه؟!
نظروا إليها بدهشة واستغراب، يتساءلون عن مدى صحة ما تقوله: هل هي حقيقة أم أنها تهذي نتيجة هوسها بالرعب؟ ومع ذلك، كانت حالة الخوف الظاهرة عليها تؤكد صحة حديثها.
اقتربت منها "تقى" وقالت:
-اهدي حبيبتي، تعالوا نشوف في إيه جوا.
توجه الجميع إلى الغرفة، بينما بقيت "مريم" في الخلف. كانت "تقى" في المقدمة، تنظر بحذر إلى كل زاوية. وعندما وصلت إلى خزانة الملابس، ألقت نظرة داخلها بعناية، لكنها لم تجد شيئًا. عاقدةً حاجبيها، بدأت تبحث بين الملابس، لكنها لم تعثر على أي شيء.
ثم استدارت إليهم وقالت:
-مفيش حاجة يا "مريم"، شكلك بتتوهمي!
مسكت "مريم" رأسها بين يديها، تكاد تجن من شدة القلق، وهي متأكدة أنها رأته، لكن أين ذهب؟!
 أصابها الجنون وهي تدور في مكانها. فجأة، تذكرت تلك القلادة، فأخرجتها بسرعة ورفعتها أمام أعينهم، وقالت:
-أنا متأكدة! إن في راجل هنا، ودي السلسلة  بتاعته وقعت منه! دورو، لازم نلاقيه! في حد هنا أنا شفته بقولكم..
سحبت والدتها منها القلادة، بينما كانت تنظر إليها بدهشة، ثم تحدثت بتساؤل:
-حد منكم عنده السلسلة دي ؟ أو ممكن تكون وقعت من حد منكم هنا؟
هز الجميع رؤوسهم نفياً، وما زالت الدهشة تملأ ملامحهم مما يحدث. قطعت حالة الصمت "منة" قائلة:
-جماعة، مفيش وقت للتخمينات، يلا بينا ندور. لو في حد غريب هنا بجد، هتلاقوه لسه مستخبي، مفيش مكان يهرب له. بس خلي بالكم.
 تفرَّق الجميع في الغرفة للبحث عن ما ذكرته "تقى"، لكنهم كانوا يتحركون بحذر، خشية أن يكون أحد رجال "وليد" قد اقتحم المنزل بنية خبيثة.
اقتربت "تقى" من مكتبة صغيرة للكتب، فوجدت خلفها ركنًا ضيقًا. قامت بتحريك المكتبة بعناية، وعندما اقتربت من الركن، اتسعت عيناها بدهشة وصدمة حين رأت شخصًا منكمشًا في الزاوية، ينزف من جانبه، وحالته تبعث على الرعب.
 كانت ملامحه شاحبة، وتحت عينيه هالات سوداء، وملابسه ممزقة. كان ينظر إلى "تقى" دون أي رد فعل.
بلعت "تقى" ريقها وقالت بسرعة:
-تعالوا يا جماعة بسرعة ، الراجل هنا بسرعة!
أنهت كلماتها وتراجعت إلى الوراء بينما هرع الجميع صوبها. تقدمت منه "زينب" بحذر وقالت بتسائل:
-انت مين و بتعمل إيه هنا؟! مين بعتك لينا! اتكلم بسرعة رد؟
نظر إليها، وكان في حالة تمنعه عن الكلام. وعندما حاول تحريك شفتيه، بدا وكأنه يواجه صعوبة شديدة، وبعد محاولات مضنية، تمكن أخيرًا من نطق كلمتين بصعوبة:
_ ساعدوني، أنا في عرضكم.
وبمجرد أن نطق بتلك الكلمات، سقط مغشيًا عليه. نظر الجميع إليه بحيرة وشفقة، متسائلين إذا كان يجب عليهم تركه كما هو أو تقديم المساعدة له؟
 كان شخصًا مجهولًا في وسط بيتهم، مما خلق حالة من الخوف والارتباك جعلتهم عاجزين عن التفكير في تلك اللحظة الصعبة.
فقالت "زينب":
-"مريم"، إنزلي خلي اتنين من الجيران يطلعوا يشيلوه ، نوديه  المستشفى. وانتِ يا "شهيرة"، رني على عمك "أحمد"  يجي بسرعة على البيت أو يحصلنا بسرعة على  هناك؟
 انطلقت "مريم" مسرعة نحو الخارج، في حين توجهت "شهيرة" للاتصال بـ"أحمد". أما الآخرون، فقد ظلوا في أماكنهم يراقبون المشهد، محاطين بالعديد من التساؤلات حول هوية هذا الشاب، وأسباب حالته الراهنة، والدوافع التي جعلته يتواجد في منزلهم.
---
بعد أن انتهى "يونس" من إعداد الطعام وبدأ عدد الزبائن في التناقص، جلس مع شقيقه ووالده لتناول إحدى الوجبات استعدادًا للذهاب إلى المسجد، حيث اقترب وقت الأذان. 
وأثناء حديثهم معًا، رن هاتف "أحمد" الذي أخرجه من سترته. وعندما رأى اسم "شهيرة" على الشاشة، بدا عليه الاستغراب.
تواصل معها ليسألها إن كانت هناك مشكلة. فتح الخط وفعّل مكبر الصوت، وقبل أن يرد، سمع صوتها تقول:
-عمي، تعالى بسرعة على البيت، لقينا في شاب عندنا في البيت وحالته مش كويسة، بسرعة!
-اهدي، أنا جاي، ما تعملوش حاجة لحد ما أجي، ماشي؟
أنهى "أحمد" حديثه ثم أغلق الهاتف ونظر إلى أبنائه بعجل، وهو يركض نحو الخارج قائلاً:
_ هروح البيت بسرعة لازم أشوف في إيه، وانتم كملوا شغلكم لما أرجع، هقولكم على كل حاجة.
شعر الأبناء بالقلق مما قالته "شهيرة"، فنطق "يونس" بقلق قائلاً:
_ بابا استنى، نروح معاك يمكن يكون الراجل ده من طرف "وليد".
رد "أحمد" بسرعة:
_ لا  يا ابني ما اظنش، اطمن وكملوا شغلكم، أنا هشوفه وهعرف ده مين ؟.
فور أن أنهى كلامه، اختفى عن أنظارهم مسرعاً.
أسرع "أحمد" نحو منزله بقلق وبخطوات سريعة؛ فالمطعم لم يكن بعيدًا كثيرًا عن بيته. وبعد لحظات، وصل ليجد سيارة الإسعاف متوقفة أمام المنزل، وبعض الجيران يحملون شابًا إلى داخلها. كانت عائلته واقفة، فاقترب من زوجته وسألها بقلق:
_ انتوا بخير؟ الكل كويس؟
-الحمد لله، مفيش حاجة، عدت على خير.
استدار "أحمد" لينضم إلى سيارة الإسعاف ليتعرف على الشخص المجهول الذي كان في منزله وسبب وجوده هناك.
 خطا خطوتين إلى الأمام، لكن فجأة توقف بصدمة، حينما كسرت رصاصة سكون المكان واخترقت عجلة سيارة الإسعاف برقت عيناه وهو يرى قناصا فوق إحدى البنايات، يوجه سلاحه نحوهم، وكان يبدو أن هدفه أحدهم!
 وقبل أن يصرخ "أحمد" ليحذرهم، انطلقت رصاصة أخرى. آخر ما سمعه كان صراخ أفراد عائلته!
 استدار ببطء، وقلبه يكاد يتوقف من الرعب، لكنه عندما رأى زوجته ساقطة على الأرض، تجمد في مكانه.
""""""
خرج هو وشقيقه من المسجد، وكان شارد الذهن، ويغلب عليه شعور الضيق الذي كان واضحًا على ملامحه، مما جعله يبدو غير مرتاح. نظر إليه "حسام" في حيرة وقال:
_ مالك يا "يونس"؟ في حاجة؟ لسه قلقان من الكلام اللي قالته "شهيرة"؟
_ أيوة يا "حسام"، حاسس إني السبب في الخطر إللي حوالينا. "وليد" والراجل اللي معاه عايزيني أنا..  وعيلتي بتتأذي عشان أنا معاكم . أكيد الشاب ده واحد من رجالته؟.
نظر إليه "حسام" وقال بهدوء مع بعض العتاب:
_ "يونس"، كفاية لوم في نفسك، إنت مش السبب في حاجة. وإحنا عيلتك، معاك على  الحلوة والوحشة.
تنفس "يونس" بعمق، متأثراً بشعور من الضيق والحزن، ثم قال بصوت منخفض، وكأن الكلمات ثقيلة على قلبه:
_ إنت مش شايف الناس كانت بتبصلي إزاي؟ مش كنت حاسس بخوف الناس مني؟ حتى في المطعم، كنت دايمًا قاعد في الزاوية علشان ما أزعجش حد، ولا شوف الخوف في عيونهم. أنا تعبت يا "حسام"، مش عارف أنا مين، وليه كل ده بيحصل؟!
_ "يونس" الناس دول لسه مش عارفينك، لو كانوا عارفينك عمرهم ما كانوا حكموا عليك كده؟ هما مش فاهمين إنك أطيب وأحن واحد. المظاهر خداعة، والناس دايمًا بيحكموا على اللي شايفينه بس.
 "يونس"، مفيش لزوم تهتم بنظراتهم، علتك جنبك، والبنت إللي بتحبها جنبك وبتحبك وراضية ومقدراك..
تنهد "يونس"، وعمَّ الصمت لحظات حتى وصلوا أمام المطعم. توقف فجأة، وتغيرت ملامحه بشكل ملحوظ بسبب ما رآه، مما جعل الدماء تغلي في عروقه. امتلأ قلبه بالغضب حتى أن عينيه كادتا أن تظلم، وأصبحت أنفاسه تتسارع بقوة كما لو أنه بركان على وشك الانفجار.

 •تابع الفصل التالي "رواية من انا"  اضغط على اسم الرواية

تعليقات