رواية لم يبقى انا الا الوداع (كاملة جميع الفصول) حصريا عبر دليل الروايات بقلم منى احمد
رواية لم يبقى لنا الا الوداع الفصل الاول 1 - بقلم منى احمد
من رحم المعاناة وُلد الرجال.
وليت المعاناة خصت الرجال وحدهم ولكنها شملت النساء معهم فوقعوا جميعًا بين تروسها، فالكل وُلد من رحمها وعانى بشقاء.
وبقلب القاهرة عاش شُهدي الرجل المكافح البسيط برفقة زوجته وابنة عمه حنة التي سقط صريع هواها منذ الصغر، وسعى شُهدي للوفاء بعهد حبه وتحامل على نفسه وهو بالسابعة عشر من عمره وشارك البناءون عملهم يدًا بيد فجرًا ومساءً يراجع حسابات إحدى ورش دباغة الجلود، لقد حفر شُهدي الصخر بأنامله حتى وصل لمبتغاه وحقق حلمه وتزوج جنة فكانت نعم الزوجة والرفيقة والصديقة، وتحملت معه شظف الحياة ولم تشتكِ يومًا ولم تسأم من ضنكها بل اصطبرت وصبرت وأزرته، ولأنهما حُرما من نعمة الأخوة قررا إنشاء عائلة كبيرة فحملت جنة عامًا بعد عام حتى رزقت بخمس صبايا وفتى كانوا قرة عينها وعين شُهدي الذي أقسم يوم ميلاد ابنته رنا ألا يدخر شيئًا في وسعه إلا وفعله ليوفر لهم حياة آمنة بعيدة البعد كله عن الفقر والعوز.
وحملتهم الحياة على أكفها سنوات ليدرك شُهدي وجنة أن الحياة لا تعطي الإنسان كل شيء وإن هي أعطته شيئًا حرمته من آخر، فنعم هي أهدتهم العائلة الكبيرة ولكن شكلت كل فرد فيها ليكون مُختلفًا عن الآخر، فكانت عفاف الابنة الكبرى رُغم جمالها إلا أنها ولدت بلا طموح وكان أكبر أحلامها الزواج، في حين كانت منار على نقيضها منذ ولدت وكلما صقلتها الأيام تمسكت بحلمها بأن تكون مهندسة مرموقة ذات شأن، أما أحمد فلم يستطع تحديد هويته فتارة يسعى للعلم وتارة للهو، ولكن أشد ما أحزن شُهدي وسبب الألم لجنة توأمها نهلة وهالة اللاتي خيبَا أملها وأصابها بالمرض حسرة على فلذات كبدها التي أفسدتها الحياة وزرعت بداخلهم خصالًا لم ترها بأحد منهم مسبقًا، لتأت رنا صغيرتهم الرقيقة التي عافرت حتى ولدت وحبت بين خطى منار فتولت رعايتها منذ اليوم الأول لميلادها فكانت أشبه بالأم لها من الشقيقة.
ظن شُهدي أن الحياة اكتفت ولكنها خيبت ظنه لتكشف له ما خبأته بجعبتها، وذات ليلة وبعد شجارٍ حاد بين زوجته وابنتيها هالة ونهلة سقطت جنة أرضًا ونقلت إلى المشفى ليخبرهم الطبيب أنها تعاني فشلًا حادًا بعمل الكليتين وأنها بحاجة إلى استزراع واحدة بديلة وإلا باتت حياتها بخطر، وكما اعتاد شُهدي سعى بحثًا عن متبرع ولكنه عاد خالي الوفاض كسير الخاطر حاملًا حزنه بين جنبات صدره لتوقفه ابنته منار وأخبرته عن رغبتها في التبرع لوالدتها إنقاذًا لحياتها، فوقف شُهدي أمامها يبكي للمرة الأولى ضعفه وقلة حيلته بين ذراعيها واحتضنته منار وهونت عليه مصابه وأخبرته بأن الله لن يتخلى عنهم أبدًا ليُفاجأ بعفاف تخبره عن رغبتها في التبرع هي الأخرى فرافقهم إلى المشفى بوجه بشوش ليصدمه طبيبها بأن الله استرد أمانته.
كان وقع الخبر عليه صاعقًا فظل أسابيع لا يعِي أنها رحلت وبات يُشبه الآلة يصحو فجرًا ويغادر مسكنه ويعود بعد منتصف الليل ويرتمي فوق فراشه لا يدري بشيء ولم يدرك أنه أهمل فلذة كبده حتى جرت الأسابيع أشهر وتفاقم الوضع حينها وقفت عفاف ومنار أمامه وطلبا منه العودة إليهم فلن تستطع أيًا منهم تحمل فقده هو الآخر، فبدت كلمات بناته تدور كجرس الإنذار دوت وعلت حتى أيقظت عقله من غفلته وأعادت إليه وعيه ورشده فعكف شُهدي على رعاية أبنائه وتولى من جديد مهامه وأصبح لهم الأب والأم، وحققت عفاف حلمها وتزوجت بالثامنة عشر من عمرها وسافرت إلى الخارج برفقة زوجها، وها هو يُأزر ابنته منار بأهم منعطفات حياتها...
(1) وجهان للحب.
توارت عن أعين زميلاتها وانتحت بإحدى الزوايا البعيدة ووقفت تتطلع إلى الطريق تارة وإلى ساعتها تارة أخرى، بعد مرور دقائق أخرى زفرت منار بوجه متجهم وخطت بطريق عودتها إلى المنزل وهي تعاتبه سرًا على حنث وعده لها، وقبيل منزلها ببضعة شوارع سمعت رنين هاتفها فَاختطفت نظرة سريعة لمعرفة هوية المتصل، تجمدت خطواتها لرؤيتها اسمه وتلفتت حولها فرأته على بعد خطوات حينها أشار أمجد بنظراته الصامتة للهاتف فخفضت بصرها نحوه وَقرأت رسالته بشيءٍ من الحرج لإحساسها بنظرات المارة تخبرها أنهم يعلمون سرها، ابتعد أمجد بشكل كاف عن محيط منزلهم وبأحد الشوارع الجانبية وقف وتطلع لملامحها التي خضبتها حمرة الخجل وأردف:
- حقك عليا يا منار أنا عارف أني اتأخرت عليكِ كتير بس صدقيني كان غصب عني أصل آخر محاضرة الدكتور فاجئنا وعمل لنا امتحان ويادوب خلصته وجيت لك جري.
زفرت منار وعيناها تلاحق ملامح وجهه المحببة إلى نفسها وأردفت بتفهم:
- ولا يهمك يا أمجد المهم أنك بخير، ها طمني عملت إيه في الامتحان؟
اتسعت ابتسامته وَشمخ برأسه مُردفًا بغرور:
- عيب عليكِ لما تسأليني سؤال زي دا يا حبيبتي دا أنا أمجد المُشير والأجر على الله.
شاركته الابتسامة بحرج وأردفت:
- ربنا يوفقك دايمًا يا أمجد.
راقب أمجد ملامحها الرقيقة وهدوئها المميز الذي أسرت به نفسه فتمنى لو تترك له فرصة الحديث مع والدها فهو يعرفه منذ سنوات وحتمًا لن يرفض طلبه بل سيُأزره، فوالدها دومًا يحث أبنائه على تحصيل العلم والمثابرة والاجتهاد وحين يوضح له ظروف دراسته ومعيشته ويخبره بحقيقة مشاعره ورغبته في الزواج بها سيوافق، نعم عليه المحاولة ليضمن وجودها الدائم معه فقد سئم لقاءات المراهقة المختلسة بينهما، زفر أمجد أمنيته مع أنفاسه الحارة التي أشعلتها منار بقربها منه دون أن تلحظ فمد يده بغفلة منها والتقط يدها فانتفض جسدها وارتجف بفعل الحرارة التي انتشرت داخله فأحست وكأنها تقف فوق جمرٍ ملتهب، بدت تائهة مشتتة تُصارع مئات المشاعر بعضها يهمس لها أن تدع أمر نفسها للحب لتعيش اللحظة معه وتتمتع بها فهي لن تعوض، والبعض أنذرها أنها لحظة عابرة سينتهي أثرها وستبقى نتيجتها أمرًا واقعًا ستحياه بمفردها، فهل تساوي لحظة الحب تلك أن تعيش فيما بعد مُنكسة الرأس خائنة لعهد والدها، فجأة لاحت أمامها عين والدها ولمحت بعمقهما خيبة أمله فيها فأغمضت عينيها هربًا وزفرت بتريث وشكرت نواقيس الخطر التي قرعت لتُعيدها لرُشدها، خفضت منار رأسها لتُخفي اضطرابها وجذبت يدها منه ولكنه منعها وتشبث بها ومد أنامل يده الحرة ولمس ذقنها ورفع وجهها نحوه في اللحظة نفسها التي رفع يدها نحو شفتيه وقبل راحتها ببطء وعينه تترقبها باهتمام، تجمدت لوهلة فما أن مست شفتيه يدها حتى سرت برودة قاسية بجسدها زادت رعشتها فجذبت يدها منه باضطراب فظنها أمجد تبادله مشاعره فابتسم ومال بوجهه نحوها وأردف بخشونة طفيفة:
- وحشتيني يا منار ووحشني وجودك معايا فكل وقت.
أفاقت من غفلتها حين لفحت أنفاسه وجنتها فاتسعت عيناها لرؤيتها مدى قرب وجهه منها وانتفضت من أمامه كمن لدغها عقرب وتراجعت بضع خطوات إلى الخلف ووضعت مسافة فاصلة بينهم وأدارت رأسها بقلق يمينًا ويسارًا تنشد طمأنة قلبها المذعور خزيًا بعدم وجود أعين تترقبها، بينما حدق أمجد بملامحها على نحوٍ غريب عاقدًا لحاجبيه فقد أشعلت بفعلتها التي أكدت رفضها اقترابه منها فتيل غضبه، لم تنتبه منار في أول الأمر لحالته فهي شحذت حواسها لمراقبة الجوار فَاصطدمت بِنظراته الغاضبة وازدردت لعابها وأردفت بصوت مضطرب بعدما توقعت سبب تبدله:
- أمجد أنا عارفة إنك مضايق مني بس أنا سبق واتفقت معاك إننا نحترم الحب اللي زرعه ربنا جوانا ونحافظ عليه علشان ربنا يبارك لنا في حياتنا سوا و...
لاحظت تبدل غضبه لبرود رمقها به من أعلاها وأسفلها وحين أزاح بصره عنها زفرت بأسف على إهماله حديثها وأضافت:
- أظن معدش في أي لزمه لِوقوفنا هنا ويلا بينا نمشي قبل ما حد ياخد باله مننا ويظن فينا السوء.
جاءت كلمتها الأخيرة كالقشة التي قصمت ظهر البعير، فَأحس أنه لم يعد يتحمل برود مشاعرها نحوه وتنصلهَا منه وعدم تجاوبها معه، فمد أصابعه وقبض على ساعدها وضغطه بقسوة رغبة منه في إيلامها وزام رافضًا موقفها المهين الذي أجج غضبه نحوها فأدناهَا منه وأردف بغضب مكتوم:
- أنا عايز أعرف أنتِ ليه مُصرة تقفلينِي منك؟
رأى أمجد خوفها واضحًا كالشمس بعينيها وَأحس بنشوة أرضت غروره لِتأثيره بها وزاده ضعفها ورجيفها تسلطًا فتمادى مُردفًا:
- ما تردي عليا وجاوبيني لما أنتِ مش حابة قربي منك ومش قابلة مشاعري كنتِ بتقوليلي ليه إنك بتحبيني، إيه كنتِ عايزة تجربي إحساس الحب وخلاص ومش مهم البني آدم اللي بيحبك مش قلبه ولا مشاعره اللي بتجرحِي فيها ببرودك ورفضك ليها.
أحست بكلماته تجلدها فهزت رأسها تنفي قوله وأشارت إلى صدرها ورددت بحزن:
- أنا يا أمجد معقول أنت شايفني كده؟!
تعالت وتيرة أنفاسه وازدادت عصبيته لِمحاولتها استعطافه بِنظراتها الحزينة فأردف:
- أيوه أنتِ ولعلمك أنا مش بتجنى عليكِ عارفة ليه؟ علشان أنتِ أتغيرتي وخلتيني أحس بالعجز ومبقتش عارف اتعامل معاكِ أزاي علشان ترضي عني، لدرجة أنك خلتيني أندم إني اعترفت لك بحبي علشان أحنا فالأول كنا نطلع نسهر فوق السطوح ونقعد بالساعات مع بعض ومكنتيش بِترفضي قربي منك وهزاري معاكِ، لكن بعد ما عرفتي إني بحبك بقيت بشحتك علشان تطلعي تقعدي معايا أو أشوفك ولما تحني عليا وتنزلي من برجك العاجي وتيجي كنتِ تفضلي تتلفتِ حوالين نفسك وأنتِ مرعوبة أحسن حد يشوفك وبتهربي مني قبل حتى ما أسألك عاملة إيه؟ وقتها التمست لك العذر وقلت خليها براحتها بردوا الوضع جديد عليها ومن حقها تقلق على نفسها، وفكرت فحل تاني علشان متقوليش إني أهملتك وَقلت لك خلينا نتكلم في الموبايل ونطمن على بعض وأسمع صوتك احتججتِ بأخواتك اللي بيضيقوكِ وبيحاولوا يسمعوا أنتِ بتتكلمي مع مين، طلبت منك تطلعي البلكونة بعد ما الكل ينام ولو خمس دقايق اترعبتِ وَحسستيني كَأني طلبت منك تقابليني في شقتي وقلتِ لا الجيران هَيشوفونَا وِيتكلموا علينا، وآخر ما فاض بيا قلت لك خلينا نتقابل بعيد عن البيت وأهو أديكِ واقفة تتلفتِ ومش عايزة حتى تبصِي لي.
ترك يدها ورماها بنظرة اشعرتها بالذنب فَزاده عليها بقوله:
- ممكن تقوليلي لما أنتِ رافضة قربي منك أنا هوصلك مشاعري وحبي ليكِ أزاي؟ إيه عايزاني أوصله بالتخاطر!
ألقى كلمته الأخيرة بتهكم وأشاح بوجهه عنها لِيمنعها من رؤيته واستطرد قوله بِعتاب:
- واضح أني كنت بوهم نفسي إنك بتحبيني وكان لازم أفهم كده لما قلت لك خليني اجي اطلب إيدك علشان متبقيش خايفة ورفضتِ وقُلتِ لي مينفعش علشان بابا مديون بسبب جواز أختك عفاف وسفرها ومصاريف المدارس والدروس وأنك مش عايزة تزودي الحِمل عليه.
راقبته منار بحزن ولم تدر كيف تخبره بِتشتتها فرُغم محبتها له إلا أنها لا تستطيع مجاراته فيما يريد والسماح له بما لا يحق لهما دون رباط شرعي يرضاه الله فيكفيها ذنب لقائهم السري وخيانتها ثقة والدها بها، غصة توسطت حلقها بتذكرها والدها وكفاحه ونكرانه لذاته من أجلهم لهذا عليها الثبات فهي لن تتحمل أبدًا أن تراه مُنكس الرأس بخزي بسببها، تفرست ظهره بنظراتها ففهمت من تصلبه مبلغ استيائه منها وودت لو يعطها الفرصة لتخبره بمكنون صدرها وتصارحه بِمخاوفها وَهاجسها من فتور مشاعره وَتنصله منها إن تمادت معه وبادلته عبارات الغزل ودت لو يطمئنها ولكن كيف وهي تلزم الصمت، حثها عقلها على مصارحته لاتخاذ خطوتها الأولى نحوه فاستدارت ووقفت أمامه ونظرت إليه باستحياء وهمست باعتذارها ولكنه أعرض عنها بقوله الفاتر:
- وأنا مش قبل أسفك وخلينا نمشي بدل ما حد يعدي ويشوفنا ويفتكر إننا بنعمل حاجة كده ولا كده لا سمح الله.
تقدمها أمجد ولم يلتفت نحوها ولو لمرة وتبعته برأس مُنكس وملامح حزينة وعيون اختنقت بدموعها، دموع خافت أن تترك اثرًا يراه والدها فتزيده حِمله ثقلًا.
وقبيل منزلها رفعت منار رأسها تتبين مكانه منها فلم تجده فعلمت أنه تركها بمفردها وأكملت خطواتها إلى منزلهم باغتمام وصعدت إلى مسكنها ووقفت أمام بابه تجبر ملامحها على الابتسام لتُفاجأ بِشقيقتها رنا تفتح لها الباب وتشير إليها بإصبعها أن تلزم الصمت وهزت رأسها باتجاه إحدى الغرف وهمست:
- متعمليش صوت وِأدخلي بسرعة غيري هدومك قبل ما بابا يرجع من مشواره أو واحدة من الحلوين تشوفك وتفتن إنك رجعتِ متأخرة.
ربتت منار رأسها وسألتها بصوت خافت وهي تميل نحوها:
- مشوار إيه هو مش المفروض بابا فالشغل؟
هزت رنا رأسها بالنفي وأجابتها بهدوء:
- بابا النهاردة رجع بدري وقعد شوية وبعد كده قال إنه رايح مشوار، بعد ما نزل أحمد دخل اوضته قال هذاكر والحلوين قفلوا عليهم اوضتهم وِسابوني لوحدي، فضلت قاعدة اذاكر حبة وَأتفرج على التليفزيون حبه لحد ما أخدت بالي إنك أتأخرتِ فروحت وقفت في الشباك وأنا قلقانة لحد منهم يعرف وأنتِ عارفة لسانهم عامل أزاي.
أومأت منار وسارت على أطراف أصابعها لغرفتها وولجتها وأغلقت بابها خلفها واستندت إليه حينها نزعت ابتسامتها المزيفة وارتمت فوق فراشها ودفنت وجهها في وسادتها وأجهشت في البكاء.
بينما وقف أمجد بشرفة غرفته يُفرغ غضبه بتدخينه وعينه تختلس النظر نحو شرفة منار أنتظرها أمجد أن تظهر وتعتذر منه ولكنها لم تفعل فازداد غضبه عليها لعدم تقديرها إياه وسعيها للحديث معه لتزيل سوء الفهم ذاك، فأردف بسخط:
- براحتك يا منار اعملي اللي أنتِ عايزاه بس متبقيش تعيطي لما أعاملك بِاللي تستحقيه.
أنهى قوله وأغلق شرفته وغادر غرفته، وأمام غرفة والديه وقف ينظر إلى محتواها بحزن وأردف:
- كنت دايمًا بحلم أني لما اربيها على إيدي وأعودها على طبعي وتفهمني من نظرة هتديني الحب اللي كنت بحسه بينكم، بس الظاهر إن الحلم حاجة والواقع حاجة تانية ومنار بنت عم شُهدي حاجة تالتة بعيدة عن الحب اللي خلى ماما عايشة تحت رجل بابا وبِتسعى أنها ترضيه لدرجة أنها متحملتش وفاته وماتت بعده بأسبوع.
أطرق أمجد رأسه بأسف وغير وجهته إلى غرفته وبداخله تعاظم ضيقه منها واندس بِفراشه وأغمض عينه مستسلمًا للنوم.
بينما دفنت منار حزنها كما تعودت وَانهمكت باستذكار دروسها حتى رفعت وجهها بعيدًا بعدما ألمها ظهرها ولم تدر كم مر عليها من وقت وهي بغرفتها وتعجبت عدم تذكر أحد لها للآن فوقفت وتأوهت لثوان وغادرت غرفتها فوقع بصرها على شقيقتيها التوأم نهلة وهالة تتهامسان سرًا فَزمت شفتيها وَرمقتهم بأسف على عدم استجابتهم لنصحها لهما، أحست هالة أن هناك من ينظر إليها فنظرت نحوها بضيق وسرعان ما أشاحت وجهها وعادت إلى همسها مع توأمتها استاءت منار لابتعادهم عنها ومعاملتهم الفاترة لها ولِرنا، وحين يئست منهم أدارت ظهرها واتجهت نحو غرفة شقيقتها وفتحت بابها ببطء ووقفت تتطلع إليه فلاحظت شروده رُغم تمسكه بكتابه، اقتربت منار منه بشكل متأن وجذبت من بين يده كتابه فجأة فانتفض أحمد ووقف يرمقها بخوف وأصابعه تشبث بجزءٍ من كتابه، حدقت منار بأصابعه بشك ورفعت حاجبها عاليًا بتحد فَازدرد أحمد لعابه وتركه، حينها اكتشفت إخفاءه كتابًا هزليًا بين صفحات كتابه المدرسي فَابعدت عيناها عنه وَحدقت بوجهه بغضب وأردفت:
- تاني يا أحمد تاني أنت إيه يا أخي مش عايز تحرم وتبطل اللي بتعمله دا، يا أخي حرام عليك بابا مبقاش حمل مصاريف زيادة لو سيادتك سقطت زي السنة اللي فاتت، ولا أنت مش حاسس بالديون اللي عليه واللي مبينمش الليل من تفكيره أزاي هَيسدها، أنا مش عارفة أعمل معاك إيه علشان تتعدل وتبطل تقرَا الكتب دي وغيرها فوقت الدراسة واللي على العكس تمامًا لما تكون فالأجازة مش بتقرب منها ولا حتى بِتفكر إنك تبص لها.
حاول أحمد أن يسترضيها ولكنها رفضت قائلة:
- متحاولش أنا المرة دي هقول لبابا وهَخليه يتصرف معاك بطريقته علشان تتعظ وتبطل تضيع وقتك وتذاكر.
قبض أحمد على يدها وتشبث بها وأردف بصوت مهتز:
- ورحمة ماما عندك يا منار متقوليش لبابا المرة دي وأنا أوعدك إني هذاكر ومش هضيع الوقت تاني بس بلاش تقوليله علشان خاطري.
ترقرقت الدموع بعينيها وتنفست بقوة لتكبحها وأشاحت بوجهها عنه قائلة:
- يبقى تذاكر علشان مستقبلك صدقني السنة اللي بتعدي منك دلوقتي وأنت فاكر إنها عادي بكرة تتمنى أنها ترجع تاني وأنك كنت تبذل كل مابوسعك علشان ميضعش منك هدر، ويا ريت تدوس على نفسك شوية وتذاكر لأنك ذكي وبتفهم بسرعة فاستغل دا لمصلحتك وآه في حاجة كمان.
ترقبها قولها بقلق فَتابعت بجدية:
- يا ريت بعد كده متحلفنيش بماما الله يرحمها ولو عايز تحلف يبقى أحلف بالله والأفضل أنك متحلفش علشان لو حصلت حاجة منعتك تلتزم بِيمينك متبقاش ارتكبت اِثم.
أومأ بحرج ونكس رأسه فَربتت منار كتفه وتركته وغادرت فجأة فَاصطدم بصرها بشقيقتها هالة وهي تسرع بالابتعاد عن الباب فَزمت شفتيها وَرمقتها بحدة وهي تقترب منها وقبضت على ساعدها وأبعدتها عن غرفة شقيقها وأردفت بغلظة:
- هو أنتِ مش هتبطلي العادة السيئة اللي فيكِ دي، يا بنتي افهمي اللي بتعمليه دا حرام ولو مش مصدقة كلامي روحي دوري على النت اللي بتقعدي بالساعات عليه بتلعبي واقرئي عن التجسس والنميمة وشوفي عقابهم عند ربنا إيه؟
تذمرت هالة لِحديثها المتكرر عن الحلال والحرام وأشاحت بوجهها بفتور فزفرت منار لِعنادها وتمردها الخاطئ وسألتها بضيق:
- ممكن أعرف سيادتك أنتِ وأختك معملتوش الأكل ليه؟ هو مش المفروض إن شغل البيت عليكم النهاردة.
امتعضت ملامح هالة وجذبت يدها منها وأجابتها بتذمر:
- مكنش ليا مزاج أعمل حاجة ومكنتش فاضية وبعدين ما أنتِ خلصتِ مذاكرة يبقى مفيهاش حاجة لو روحتِ عملتِ الأكل.
زمت منار شفتيها وأردفت:
- أظن يا هالة أننا اتفقنا قبل ما أبدأ دروسي على الجدول اللي هيمشي بيه البيت وأنا أمبارح عملت الغدا ورتبت البيت مكانكم بِحجة إن عندكم امتحان، علشان كده أنا مش هعمل أَي حاجة النهاردة ولا همد إِيدي لأنه دورك، ولو فاكرة إن لما تطنشي إني هعمل بدالكم تبقي بتحلمِي وأبقي وريني هتتصرفي أزاي أنتِ وأختك لما يقرصكم الجوع؟
أشاحت هالة بوجهها ونظرت إلى توأمها وقلدتها ساخرة فأخفت نهلة ضحكتها مما أثار استياء منار فَبادلت نظراتها بينهما بأسف وأردفت:
- وماله يا هالة أنتِ ونهلة اتريقوا عليا حلو واعملوا اللي أنتم عايزينه براحتكم بس يا ريت بقى يا حلوة منك ليها تشوفوا هتقولوا لبابا إيه لما يسأل معملتوش أكل النهارده ليه عن إذنكم.
أنهت منار قولها وولجت غرفتها وأغلقت بابها خلفها فَتبادلت نهلة وهالة النظرات الساخطة لرفض منار تقديم يد المساعدة وما أن أدركت هالة أنه لم يعد أمامها أي خيار ضربت الأرض بقدمها وأردفت:
- طب وبعدين يا نهلة أحنا هنعمل إيه وواضح إن أختك داخله معانا فدور عند وإلا مكنتش دخلت اوضتها ولا همها إن بابا ممكن يجي فأي وقت وِميلاقيش أكل.
زمت نهلة شفتيها ودفعتها لِتتقدمها نحو المطبخ وهي تُجيبها بضيق:
- ولا قبلين هندخل أنا وأنتِ المطبخ وهنعمل أي حاجة على السريع قبل ما بابا يوصل، وإلا بابا لو رجع وملقاش أكل هيزعق فينا زي عادته وطبعًا أسها ما عليه يحرمنا من المصروف، فمن سكات كده مدي إيدك وِساعديني علشان نخلص بسرعة.
عكفت الفتيات على إعداد الطعام بينما تسللت رنا إلى غرفة شقيقتها فابتسمت منار وفتحت ذراعيها فاندست رنا بينهما بمحبة فقبلت منار رأسها وسألتها مازحة:
- ألا يا رنوش أنتِ ليه محسساني أنك عميل سري مستخبى فالبيت هنا.
جلست رنا فوق ساقيها وأمعنت النظر بملامحها ومدت يدها ومسحت دمعتها العالقة بين رموشها وأردفت:
- أنتِ بتقولي فيها ما أنا فعلًا عايزة أبقى عميل سري.
تطلعت منار نحوها بدهشة فابتسمت رنا وأخبرتها بلهجة حالمة:
- أنا قررت أقدم ورقي تبع الشرطة بعد ما أخلص الثانوية العامة، وهتعب على نفسي لحد ما أبقى أشطر ظابط بنت ومع أول ترقية هقدم طلب علشان اتعين فجهاز المخابرات.
ازدادت دهشة منار من حديثها عن هدفها وهي بهذا السن المُبكر وأمعنت النظر إليها فرأت بملامحها الكثير من ملامح والدتها فابتسمت وأحاطت وجهها بكفيها وأردفت:
- لو على الشرطة فأمرها سهل وأكيد بطموحك هتقدري تحققي اللي أنتِ عايزاه، لكن المخابرات حاجة تانية يا رنوش دا جهاز حيوي وسري والغلطة فيه بفورة وعلشان تثبتِ جدارة إنك تستحقي تشتغلي فيه لازم تتعبي على نفسك.
أحست منار بسلبية حديثها وإحباطها عزيمة شقيقتها من تبدل ملامحها فَوبخت نفسها وسارعت إلى تصحيح خطئهَا بقولها:
- وبعدين هو في بنوتة قمر ورقيقة زيك ينفع تبقى عميل سري وتضرب وتصارع ويطلع لها عضلات.
اعتدلت رنا بثقة وأردفت بجدية تسبق سنوات عمرها التسع:
- بكرة لما تشوفيني من أخطر العملاء اللي شغالين فالجهاز هتعرفي إن الحلم مش كبير عليا ولا حاجة، وعلى فكرة أنا من وقت ما حطيت هدف للي عايزة أحققه وأنا بدرب نفسي وبجيب فيديوهات وبتفرج عليها علشان يبقى عندي حصيلة معلومات كبيرة وبعدين لو على الرقة فعندك منى توفيق رقيقة وجميلة واشتغلت مع أدهم صبري.
ضحكت منار على حديثها وضمتها إليها وربتت رأسها قائلة:
- تصدقي إن معاكِ حق عمومًا يا ستي أنا آسفة إني شككت فِقدراتك وبسحب كلامي ومش كده وبس لا أنا هَدعمك وهَشجعك لحد ما توصلي لهدفك.
قبلتها رنا بسعادة وأردفت:
- أنا بحبك أوي يا منار علشان أنتِ عمرك ما عاملتيني بقسوة ولا رفضتي تلعبي معايا فأي وقت، حتى فِوقت تعبك بتهتمي بيا مش زي نهلة وهالة معندهمش غير بعض ورافضين وجودي ومش بيرضوا يتكلموا معايا ودايمًا سيبني لوحدي، أما أحمد فكل مرة أطلب منه إنه يقعد معايا يتحجج إنه بيذاكر.
أوقفت رنا استرسالها البائس وترقرقت عيناها بالدموع أسفًا على حالها فزفرت منار سخطها من تصرفات شقيقتيها وَاحتوتها بين ذراعيها مُردفة لتُبعد عنها شبح الحزن المخيم عليهما:
- إيه يا أخطر عميل بذمتك عمرك شوفتي عميل سري بيعيط من أول قلم؟
ابتسمت رنا رغم حزنها فهي تواجه الكثير من المضايقات منهما وكثيرًا ما أرادت البوح بمعاناتها ولكنها تتراجع مُذكرة نفسها بتهديدهم لها وتلزم الصمت، لاحظت منار شرود رنا عنها فربتت ظهرها وأردفت:
- اطمني يا رنوش أنا عمري ما هسيبك مهما كنت مشغولة ولا تعبانة، ولازم تتأكدي إن أنتِ بالذات ليكِ الأولوية فقلبي ووقتي. عرض أقل
•تابع الفصل التالي "رواية لم يبقى لنا الا الوداع" اضغط على اسم الرواية
