رواية من انا الفصل التاسع عشر 19 - بقلم حليمة عدادي
من أنا
البارت 19
عمَّت الأجواء حالة من الذعر إثر صرخة "وليد" المؤلمة التي ملأت المكان، مما فاقم التوتر وألهب الأعصاب.
تمنَّى كبيرهم في سرِّه أن تتحسن الأمور، ثم تحرَّك مع عددٍ من الرجال صوب مصدر الصوت، تاركًا البقية مع "يونس"، الذي بدأ يستعيد روحه ويتنفَّس الصعداء.
تأكَّد أنَّ "تُقى" قد اتخذت خطوة لإنقاذ نفسها دون أن تستسلم، ونجحت في النجاة من الخطر.
ولكن قلقًا جديدًا اندلع في قلب "يونس"، خوفًا من أن يعيدوا القبض عليها!
حاول النهوض، إلا أنَّ دوارًا شديدًا أصابه، فسقط أرضًا عاجزًا، فيما كانت عيناه تتابعهم حتى اختفوا وراء الأشجار.
ظلَّ يراقب الأشجار، مترقِّبًا قدوم أي شخص يُطمئن قلبه على "تقى" أو يزوِّده بأي خبرٍ يبعث في نفسه الطمأنينة.
زاد قلقه مع مرور الوقت، وتشتدُّ آلام يده التي تكاد تفتك به، لكنَّ ألم قلبه كان أشد وطأة!
شعر كما لو أن الزمن قد توقَّف، وكأنَّ دقائق الانتظار تجثم على صدره.
كاد يفقد الأمل، لكن فجأةً، اقتطع صوتها من بين الرياح الآتية عبر الأشجار، كأنَّها تستغيث به.
بقي ينتظر في حالةٍ من القلق والقهر، حينما تأكَّد أنَّها في أيديهم.
لم يُخيِّب حدسه، إذ لمحهم يخرجون من خلف الأشجار، يساعدون "وليد" على المشي، بينما اثنان منهم يمسكان "بتقى"، التي كانت تكافح عكس تيارهم.
تدهورت حالته بصورةٍ ملحوظة، وراودته مخاوف عميقة وهو يتأمَّلهم حتى وصلوا إلى مكانه.
كان وجه "وليد" ويداه مغطاةً بالدماء؟! ثم ألقوا به في السيارة، واستدار زعيمهم نحو "تقى"، رافعًا المسدس في وجهها.
شهق "يونس" من الذعر وهو يشاهد فوهة المسدس مصوَّبة نحو رأسها، حيث لم تكن في عيون ذلك الكائن البشري أي بادرةٍ للرحمة، بينما كانت يده لا تزال على الزناد. نظر إلى الكاهن وقال:
-خلص شغلك بسرعه و أنا هخلص عليها هنا قدام عنيه.
انتفض جسده وكأنه قد أصيب بصاعقة، وانقبض قلبه وهو ينبض بعنف يكاد يحطم قفص صدره.
غلبت عليه حالة من الجزع والقلق، فتنفسه أصبح متسارعًا كأنه في سباق، يتوق لاحتضانها ليكون ذرعًا لحمايتها، تاركًا تلك الرصاصة تخترق جسده، إذ إن روحه من دونها تفتقد إلى المعنى!
لكن أولئك الذين يمسكون به يشعرون كما لو أن شوكة قد اختلست في حلقه، تمنعه من الصراخ.
في تلك الأثناء، كانت "تقى" ترمقه بنظرات مليئة بالمعاني، وكأن عينيها تسرد له أنها فعلت المستحيل، لكن يبدو أن القدر قد حدد مصيرها هنا، ولا مهرب منه.
أغلقت عينيها وانتظرت مصيرها، وقلبها يرتجف، بينما هطلت دموعها بلا انقطاع. انهمرت الدموع من عينيها بشدة، ليس خوفًا من الموت، وإنما حزنًا على معاناة "يونس" وأحبائها..
فهي تدرك تمامًا مدى الألم الذي سيعانونه بعد رحيلها! ولكنها لم تجد وسيلة للتعبير عن ذلك سوى أن تستسلم لقدرها وتسلم أمرها إلى الله.
فجأة، كسر صمتهم، ارتفع صدى صوت سيارة الشرطة من بعيد، تقترب بسرعة ملحوظة.
كانت صيحات صفاراتها تتردد في الأجواء، مما أثار حالة من الذعر والارتباك بين الحاضرين!
ارتجف البعض في أماكنهم، بينما تسارع آخرون في خطواتهم بحثًا عن مكان للاختباء أو للفرار.
لم يكن أحد يتوقع أن يقطع صوت السيارة هذا الهدوء، مما أضفى مزيدًا من التوتر على الموقف.
في خضم الفوضى، دفع الرجل "تقى" بقوة، فسقطت على الأرض واصطدم رأسها بصخرة؛ أطلقت صرخة مدوية ارتجت أصداؤها في المكان، ثم أغمضت عينيها دون حراك.
أسرع الرجل نحو السيارة التي كان فيها "وليد"، واستقلها مُنفلتًا بسرعة جنونية، تاركًا "يونس" صريعًا على الأرض، بينما هرع الآخرون نحو الغابة.
زحف "يونس" على ركبتيه نحو "تقى"، وعيناه تذرفان الدموع، حتى وصل إليها. رفعها، وعندما وضع رأسها على فخذه، شعر بسخونة تلامس يده!
فاجأته المفاجأة حين وجد يده ملطخة بالدماء، فانطلقت منه صرخة حزن مدوية قائلاً:
_ "تقى! لا .. ماتسيبينيش، أرجوكِ! لا .. مش هعرف أعيش بدونكِ!"
ظل "يونس" يهز جسدها في يأس، آملاً أن تعود إليه بأي شكل، لكن صوت صفارات الشرطة كان يزداد قربًا، وكأنه يعلن نهاية المأساة أو ربما بدايتها.
كانت دموعه تفيض كشلال، تروي الأرض من حوله، بينما كان قلبه يتمزق ألمًا.
اقتربت سيارات الشرطة بسرعة وتوقفت، قفز رجال الأمن منها ليحيطوا بالمكان. صرخ أحدهم:
_ "ما تتحركش!"..
لكن "يونس" لم يستجب. بقي متشبثًا بجسد "تقى"، كأن العالم قد توقف بالنسبة له عند تلك اللحظة.
اندفع أحد الضباط نحوه ووضع يده على كتفه قائلاً بحزم، لكنه برفق:
_ قلنا حصل إيه هنا؟!
رفع "يونس" رأسه ببطء، وعيناه تغرقان بالدموع، وأجاب بصوت متهدج:
_ دي مش مجرد ضحية ... دي حياتي كلها.. أخذوها مني!"
عم الصمت المكان للحظة، ثم بدأ رجال الشرطة بفحص المنطقة، بينما بقي "يونس" ممسكًا بـ"تقى"، كأن روحه تأبى فراقها.
-"تقى"، "تقى" بالله ردي عليا لاماتعمليش كدة فيا ..انت سمعاني ردي عليا؟!
عندما شعر بالعجز للمرة الأولى، انهمرت الدموع من عينيه، و كانت " تقى" بين يديه جثة هامدة بلا حراك، ودماؤها تسيل على الأرض!
في تلك اللحظات العصيبة، وصلت الشرطة بسرعة وعمت الفوضى. عند رؤيتهم لحالة "تقى"، قاموا بحملها على الفور، بينما ساعدوا "يونس" على النهوض.
ثم استقلوا سيارة الشرطة متجهين نحو المستشفى، في حين توجه بعضهم لمتابعة "وليد" ورجاله.
بعدما أخبرهم "أحمد" بما حدث، تركهم في حالة من الصدمة؛ حيث كانوا يحاولون استيعاب ما يجري، أو بالأحرى ما قاله والدهم.
كان كل واحد منهم مشغولاً بأفكاره الخاصة؛ "حسام" يحاول إقناع نفسه بأنه مجرد حلم، وربما سيستفيق منه، في حين كانت "مريم" في حالة من الذهول، لا تستطيع النطق بكلمة واحدة. كسر "أحمد" صمتهم المريب قائلاً:
_ عايزكم تعرفوا أنه مهما حصل "يونس" هيبقى أخوكم، مش لازم يعرف حاجه من إللي قلته ليكم عليه، علشان ما يحسش أنه وحيد؟
جففت "زينب" دمعة انهمرت من عينيها، فهي تعيش في حالة من القلق المستمر منذ سنوات؛ تخشى فقدان "يونس".
أصبح "يونس" جزءاً لا يتجزأ من روحها، وطفلها الأول، مهما جرى، تبقى صورته في عينيها كما لو كان فلذة كبدها!
لا ترغب في أن يتغير أي شيء في هذه الحقيقة. أخذت نفساً عميقاً وقالت:
-"يونس" ابني ومفيش حاجه هتتغير مهما حصل، و مش عايزه حد يقوله حاجه. و هيفضل ابني طول العمر.
-دا اللي بقوله، المهم دلوقتي هروح لغاية قسم البوليس يمكن يكونوا وصلوا لحاجه؟!
انتهى "أحمد" من حديثه ثم غادر، بينما أخذت "زينب" "إيلول" لتستريح قبل أن تتجه إلى غرفتها.. تليها ذهبت "مريم".
انتظر "حسام" صامتًا في مكانه، وكانت "شهيرة" أمامه! عمّ الصمت المكان حتى نطقت "شهيرة" بحزن معبرة عن حالة "حسام"، قائلةً:
-أنت ليه حزين كده، "يونس" أخوك و هيفضل كده أدعي له بس يرجع بالسلامه.
تنهد بينما كان يشعر بضيق في صدره، قلقاً من ما قد يحمله المستقبل إن اكتشف "يونس" الحقيقة، ثم قال:
_ خايف على "يونس" لما يعرف، هو ديما بيسأل نفسه ليه مختلف؟ ليه شكله كده و اذا عرف أنه مش أخويا الحقيقي هيحس إنه وحيد!
-ماتقولشي ليه حاجة، سيب الأمور كده متخبيه؛ علشان سعادته.
_ المهم يرجعوا لينا بالسلامة هو و "تقى"، أنا خايف عليهم جداً.
حاولت تهدئته ببعض الكلمات، لكن القلق ما زال ينخر في أعماق قلبه.
-اطمن إن شاء الله خير، و يرجعوا بالسلامه.
***********
وصل "أحمد" إلى قسم الشرطة، قلبه مليء بالقلق والخوف على ابنه.
دخل القسم وهو يضغط على قلبه، متمنيًا أن تكون هناك أخبار طيبة. توجه إلى مكتب الضابط الجالس خلف الطاولة، حيث طلب منه الجلوس.
جلس "أحمد" أمام الضابط، ولم يتوقف عن النظر في عينيه، كأنما يبحث عن أي بصيص أمل.
قال الضابط بصوت هادئ:
-في أخبار كويسة أوي لك يا أستاذ "أحمد" اطمن
هتف أحمد بصوت مرتجف:
_ إيه ..انتم وصلتوا لحاجة ؟ هو في أخبار عن ابني ؟!
أجاب الضابط بهدوء قائلاً:
-إطمن وصلنا لمكان ابنك هو بخير، بس العصابة قدرت تهرب و أحنا وراهم بنتعقب اثرهم من يوم الحادثة ، كنا ورا الآثار بتاعتهم وسمعنا اطلاق الرصاص و عرفنا المكان.
استعادت البهجة والحماس مكانهما في قلب "أحمد"، فنهض واقفًا، تعكس ملامحه سعادة غامرة، وهو يتفقد المكان بعينيه بحثًا عن ابنه قائلاً:
-فين ابني عايز اشوفه، طيب و "تقى" هي معاه خليني أشوفهم؟
-ابنك في المستشفى هو كويس عنده جرح بسيط، بس البنت لسه مش عارفين حالتها إيه، تقدر تروح تشوفهم هناك في مستشفى(*****).
عاد القلق ليتسلل إلى قلب "أحمد" ثم شكر، الضابط و هرع مسرعًا إلى المستشفى، خطواته تسابق نبض قلبه المفعم بالقلق.
ولم يمضِ وقت طويل حتى وصل إلى هناك، فسأل عن الغرفة التي يتواجد فيها ابنه وركض إليها بشغف!
وفور وصوله، وقبل أن يدخل، فُتِح الباب ليظهر "يونس" أمامه، مائل الرأس وخطواته غير متزنة. اقترب "أحمد" منه بسرعة، ونطق لسانه قائلًا:
-"يونس"،.. "يونس" حبيبي .
عندما سمع" يونس" صوت والده، رفع رأسه بسرعة، وتجلى على وجهه الحزن الشديد، مما جعل ملامحه تتسم بالشحوب!
دون أن يتفوه بكلمة واحدة، ارتمى في حضن والده، معانقًا إياه بقوة كالغريق الذي يحتاج إلى طوق النجاة.
لقد كان "أحمد" بمثابة المنقذ الذي انتشله من حالة اليأس، إذ كان "يونس" في أمس الحاجة إلى ذلك العناق الذي يلم شتات جروحه ويخفف ألمه.
شعر "أحمد" بالقلق من صمت "يونس"، فتراجع قليلاً وأمسك بيده، ثم جلسا معاً على أحد المقاعد، بينما ظل "يونس" غارقاً في حزنه وصمته.
أمسك "أحمد" بيده برفق، متحدثًا بنبرة أبوية حانية قائلاً:
-ابني أنت كويس في حاجه بتوجعك أنادي على دكتور؟!
نظر "يونس" إلى والده، و يده على صدره كما لو كان يحاول تخفيف الألم الذي يشعر به في قلبه!
قلبه ينبض بسرعة، والألم فيه كان أشبه بقبضة حديدية تضغط عليه بشدة.
لم يكن الألم الجسدي هو ما يعذبه، بل القلق الشديد الذي كان يعتصره بشأن "تقى".
كان يتخيلها في كل لحظة، يتساءل عن حالها، كيف هي الآن؟ هل هي بخير؟
شعر وكأن دقات قلبه تتناغم مع قلقه، وكلما فكر في "تقى"، زادت المخاوف في قلبه.
كان يخشى فقدانها أكثر من أي شيء آخر. كان يعلم أن الحياة قد تكون قاسية أحياناً! تنهد و كأن أشواك عالقة في حلقه و قال بحزن شديد:
-مفيش حاجه بتوجعني غير قلبي يا بابا، "تقى" كل مرة تتأذي و مش قادر اعمل لها حاجة، مش هقدر أتحمل تحصل لها حاجه المرة دي؟!
شعر" أحمد" بقلق متزايد حيال ابنة صديقه، وتألم في أعماقه لحزن ابنه؛ إلا أنه تمالك أعصابه وربت على كتف ابنه قائلاً:
-ماتخافش "تقى" هتكون كويسه و مش هيحصل لها حاجة ادعي لها بس.
لم يرغب "أحمد" في أن يستفسر من ابنه عن ما حدث "لتقى"؛ حرصاً منه على عدم زيادة حزنه.
وقد قُطع حوارهما بخروج الطبيب من غرفة "تقى"، حيث انتفضا من أماكنهما بلهفة واقتربوا منه بخطوات مسرعة، وهتف يونس في حالة من الذعر قائلاً:
_ طمني يا دكتور "تقى" كويسه هي بخير؟
•تابع الفصل التالي "رواية من انا" اضغط على اسم الرواية