رواية من انا الفصل الثامن عشر 18 - بقلم حليمة عدادي

 رواية من انا الفصل الثامن عشر 18 - بقلم حليمة عدادي 

من أنا 

البارت 18

سقطت تلك الكلمة على مسامع "تقى" كالسهم الذي اخترق قلبها بلا رحمة؛ هزت رأسها غير مصدقة ما سمعت، ثم نظرت إلى "يونس" والدموع تتدفق من عينيها بشكل غير منتظم، وجسدها يرتعش حتى سقطت على ركبتيها عاجزة عن تحمل ثقل ما يجري!

 أما "يونس"، فلم يكن أقل صدمة منها حين طالب الكاهن دمه، مما يعني أنه مهدد بالخطر..
 لكن دموع "تقى" كانت بمثابة جرس إنذار أيقظه من ذهوله؛ فأدرك أن مصيره قد صار محتوماً، إلا أنه كان عليه أن ينقذ "تقى" قبل أن تؤول الأمور إلى ما لا يحمد عقباه. 
وقبل أن يتمكن الرجال من أخذه إلى الكاهن، التفت إلى "وليد" قائلاً:

-أنا مستعد دلوقتي أقدم كل إللي أنت عايزه  حتى  لو روحي مش دمي بس، لكن عندي آخر طلب سيب "تقى" تروح و أنا هبقى هنا؟ 

ألقى "وليد" نظرة ساخرة عليه، ثم اقترب منها، وتعابير وجهه لم تكن تحمل دلالات خيراً، وقال:

-ماكنتش عارف إنك بتحبها للدرجة دي؟ بس نعمل إيه هقتلك و آخذ إللي أنا عايزه، و بعدها أقتلها مفيش حل تاني و نقفل الحكاية هنا.

تتجلى مشاعر اليأس في دموعها وذعرها، مما يحرق قلبه، ويعكس عجزه أمام تلك الكائنات الشيطانية.. لا يملك القوة للوقوف في وجوههم، على الرغم من محاولاته المستميتة للهروب؛ إلا أن جهوده باءت بالفشل. 
وتمت الإطاحة به بالقوة أمام الكاهن، حيث أُسقط أرضًا وسط الدائرة الغامضة!
بدأ الكاهن يتلو طلاسم غامضة، مستخرجًا سكينًا كبيرة من إحدى الحقائب..
خارت قوى "تقى" بينما كانت تعاني في محاولة الفرار، لكن لم يعد بمقدورها التحمل، وفي لحظة غير متوقعة خرج صوتها، حادًا وقويًا؛ حين رفع الكاهن السكين عاليًا ليشرع في تنفيذ ما ينوي.
 صرخت بقوة، واستُلفت انتباه" يونس"، الذي نظر إليها بفرحة غامرة عندما سمع ندائها.
 كان صوتها مدويًا كالرعد، يخترق مسامعه وهو لا يزال يتأملها غير مصدق أن لسانها قد تحرر وأنها استطاعت أخيرًا الكلام!

لكن فرحته الممزوجة بالصدمة لم تدم طويلاً؛ إذ شعر فجأة بألم حاد في يده، فتغيرت ابتسامته إلى ملامح الألم، ونظر إلى يده التي كانت في قبضة قوية!

 لقد جرحه الكاهن في راحة يده، وبدأت الدماء تنزف بغزارة وبألم شديد..
 كان الكاهن يضغط على الجرح ليزيد من النزيف، بينما يقوم برسم علامات على الأرض بدمه!
 أما "تقى"، فقد كانت تصرخ حتى كادت أحبالها الصوتية تتمزق، غير مدركة أنها قد أطلقت صوتها، حيث كان كل ما يشغل بالها هو خوفها على "يونس"! 
لكن لم يهتم أي أحد من بينهم لصراخها سوى "يونس"، الذي ضعفت قواه وشعر برعشة في جسده ودوار في رأسه بعد أن فقد الكثير من الدم، حتى قال الكاهن: 
-خلصت أول خطوة بس علشان نحفر و نفتح مكان الكنز لازم بعد شوية  نقدم الشاب دا قربان للجن لازم يندبح  فوق المكان دا؟

لم تصدق "تقى" ما سمعت، و عينها متسعة، وكأنها تراقب الزمن يمر أمامها بسرعة جنونية، وكل لحظة تقترب أكثر من نهاية مرعبة.
 كان قلبها ينبض بشدة، يكاد يخرج من صدرها من شدة الرعب!

مشهد "يونس" الرجل الذي أحبته بكل كيانها، كان يُسحب أمامها إلى الحافة.
 يديه مشدودتان، وجهه مغطى بالألم، وعيونه تبحث عن مخرج لا وجود له.

الدموع كانت تغرق وجهها، لكنها لم تستطع حتى أن تلمسها، كأن يديها مشلولة، كان كل جزء في جسدها يرتجف، كل شبر في جسدها يناديه، يحاول أن يتشبث به بأي طريقة، لكن يده كانت بعيدة، بعيدة جدًا.

 شعرت وكأن الأرض تسحبها من تحت قدميها، وأصوات ضجيج المكان تغرق عقلها

حملوا "يونس" أمام عينيها، بينما كانت تراقبه بدموع مؤلمة، حتى اقترب منها "وليد" وقال: 

- جيت علشان انتقم منك على إللي عملتيه في عيني، و بعدها أقتلك بعد موته.

أطلقت نظرة معبّرة عن الغضب، كان الشرر يتطاير من عينيها، ثم بصقت على وجهه وخرجت كلماتها كالعواصف القوية، قائلة: 
-عارفه إنك جبان بتستقوى على الستات أو أي حد ضعيف متكتف ومربوط ما عندكش الشجاعة تواجه الرجالة.. زي الشيطان إللي وراك و بيحركك زي اللعبة في ايده.

وصل غضب "وليد" إلى ذروته، ولم يستطع تحمل تصرفاتها وكلماتها، اقترب منها بغضب، ثم رفع يده في الهواء وصفعها بقوة.
 وقبل أن تتمكن من استيعاب ما حدث، تلقّت صفعة أخرى، مما جعلها تسقط على الأرض. ثم التفت نحو الرجال الذين كانوا يمسكون بها وقال:

-إبعدوا عنها هتصرف أنا معها و هربيها من جديد هخليها تندم..

تسارعت دقات قلب "يونس" بشكلٍ قوي تكاد تخرج من قفص صدره، حيث استبد به غضب عارم استوطن أعماق روحه. 
وعلى الرغم من استنزاف قواه وافتقاره إلى القدرة على الوقوف، كان غضبه يدفعه نحو التحرر من قبضتهم وكسر يد الشخص الذي صفع "تقى". 
حاول "يونس" جاهدًا، لكن محاولته باءت بالفشل، وعندما أدرك ذلك، تفوه بغضب قائلاً:
-ايدك هكسرها لك يا "وليد" لو لمستها تاني، سيبها احسن لك أنا قدامك أعمل إللي إنت عايزه فيا هي لا لا.

 ضحك "وليد" بسخرية و هو يترقب ذعر "يونس"، بينما كان هو يستمتع بالمشهد. ثم اقترب من "تقى" التي كانت تحاول النهوض على قدميها. 
وعلى الرغم من الألم الذي شعرت به جراء الصفعة، إلا أنها أبت إلا أن تقاوم، حتى استقامت في وقفتها
وقالت:
-لو فاكر هخاف منك تبقى غلطان حتى لو مش فاكره حاجه بس شايفه إنك شيطان.

أنهت كلماتها، بينما تبادلا النظرات كصقر يتأهب للانقضاض على فريسته، دون أي شعور بالخوف، في حين كانت أنفاسها تتسارع وجسدها يرتعش.

 لم يتبق في المكان سوى صوت أنفاسها، الذي كان يشبه عواصف هائجة، حتى قطع اللحظة المليئة بالتوتر صوت السيد الكبير الذي أصدر أمره "لوليد" قائلا ً:
-"وليد" خلص عليها مفيش وقت ليها دلوقتي لازم نأخذ الكنز بسرعه، خدها من هنا لمكان بعيد علشان ما تعملش لنا جثتها مشكله.

تسارعت دقات قلب "تقى"، وأحست أنها وصلت إلى نهاية طريقها على يد هذا الشيطان، ولم يعد هناك مجال للهروب. فتدفقت دموعها حزناً شديداً، ثم نظرت إلى "يونس" نظرة وداع أخيرة و أجهشت في البكاء قائلة:

-يمكن دا آخر نفس ليا في الدنيا يا "يونس" هنا، سامحني إذا كنت أذيتك في يوم، ماما و أختي أمانة عندك خلي بالك عليهم يا "يونس".

- لا .. ماتقوليش كده يا "تقى" هنطلع من هنا مع بعض إن شاء الله و إنت هتخلي بالك على أهلك.

تبادلوا نظرات تحمل في طياتها معانٍ لم يدركها الجميع، وانفطر قلبها حزنًا حين رأت الدموع في عينيه.
 وقد قطعت تلك اللحظة حين سحبها "وليد" من يدها بعيدًا قليلاً، تحت صرخات "يونس" الذي كان كطائر جريح، لا يملك سوى أن يُعبر عن ألمه بالصراخ وهو ينادي باسمها، حتى اختفت عن أنظاره!

 في تلك اللحظة، لم يستطع "يونس" تحمل الموقف أكثر، فسقط على الأرض باكيًا، قلبه يمزقه الحزن، وحل صمت على المكان لا يكسره سوى صوت أنفاس "يونس". ثم قال ذلك الرجل:  
-يا كاهن ابدأ شغلك ما عندناش وقت خلص يالا.. الوقت بيمر بسرعه.

نظر الكاهن إلى الرجال الذين يمسكون "بيونس" وقال: 

-هاتوه فوق المكان دا علشان نقدمه قربان لهم و يفتح الكنز.

 سحب "يونس" إلى المكان الذي أشار إليه الكاهن دون أن يصدر عنه أي رد، إذ كان مستسلماً بين أيديهم بلا حراك، باستثناء صوت أنفاسه القوية ودموعه التي انهمرت رغماً عنه.

 وعندما وضعوه أمام الكاهن، جعلوه يستلقي على الأرض، وكان بإمكانه رؤية الكاهن وهو يقترب منه بسكينه لقتله، بينما كان يقرأ بعض الكلمات. 
لكن "يونس" كان جسداً بلا روح، استسلم لما يحدث حوله حتى فاجأه صراخ "وليد" الذي دوى في المكان. !
عندها توقف الكاهن وانتفض "يونس" من مكانه حين سمع صراخ "وليد"!
****************                       
جلس "أحمد" مع عائلته في جوٍّ من الحزن العميق الذي خيَّم على المكان.
 لم يعد لدي أيٍّ منهم القدرة على الكلام أو التفكير، حيث غابت كل الأفكار عنهم. كل فردٍ منهم كان شارد الذهن، منهمكًا في آلامه الداخلية، حتى كسر "حسام" صمتهم قائلاً:
-بابا أنا بقيت مش فاهم  حاجه، دايما أخويا "يونس" يهرب و الناس دي عايزه تخطفه من وهو عيل صغير؟  أنت مخبي عنا اية قول لينا بيحصل إيه؟

تنهد "أحمد" بعمق، كأن الهواء قد انحبس في صدره وثقله. ثم ألقى نظرة إلى زوجته، نظرة تحمل معنى لا يدركه سواهما، ثم قال: 

-هقول ليكم الحقيقة اللي بقالي سنين مخبيها علشان "يونس"!

تبادل الجميع النظرات مليئة بالتساؤلات والحيرة، ثم التفتوا بصمت نحو "أحمد" في انتظار ما سيقوله عن هذا السر الذي يخفيه.
 اعتدل "أحمد" في جلسته، ثم بدأ بالحديث قائلاً:
-قبل سنين كنت عايش أنا و والدتكم بس وهي كانت حامل و تعبانه و كان الدكتور مانعها تعمل أي شغل  أو حركة لغاية ما  يكتمل حملها ..

وساعتها جبت لها ست تساعدها و الست دي كان عندها طفل صغير بس كان شكلها مخبيه سر لغاية ما في يوم جت عندي...

«فلاش باك»
جلس "أحمد" مع "زينب"  يتبادلان الحديث حول موعد زيارتهم  للطبيب، حتى دخلت تلك السيدة وهي تلهث، ممسكة بابنها الذي كان يصرخ، ودموعها تبلل وجنتيها، حيث بدت علامات الذعر واضحة على ملامحها. نهض "أحمد" بسرعة ثم هتف قائلاً: 

-في اية مالك خايفه كده مش كنتي روحتي علشان تزوري حد من أهلك؟.

حاولت السيدة استعادة أنفاسها المفقودة، بينما كان جسدها يرتجف من الخوف. ثم نظرت إلى ابنها، الذي كانت تتجمع الدموع في عينيه، وقالت له: 

-لازم أقول لكم كل حاجه قبل ما أروح، أنا من ساعة ما خلفت ابني "يونس"  و هو كده بالشكل الغريب ده؛  شكل جلده زي جلد ثعبان نص وشه مخيف و في ناس كتير عايزه  تاخده مني علشان مصلحتهم الشيطانية، أنا عايزه أسيب ابني أمانه عندكم لحد ما أرجع.؟

أنهت كلماتها، ثم مدت يدها بابنها، الذي حمله "أحمد" بين ذراعيه.
 نظر "أحمد" إلى وجهه بدهشة وتعجب، ثم ألقى نظرة على يديه، وكانت كما وصفت والدته. 
في تلك الأثناء، كانت "زينب" تراقبه بحب، فاستقبلته من زوجها، ومسحت دموعه بيدها. وعندما جاءت لتتحدث، رفعت نظرها، لكنها لم تجد تلك السيدة التي بدت كأنها شبح، واختفت في غمضة عين.

 ثم نظرت إلى "أحمد"، الذي بدا مصدومًا كما هي، وسألته بتساؤل:
-"أحمد" دي إختفت فين من شوية كانت هنا؟!

-مش عارف يا "زينب" نعمل اية دلوقتي في العيل دا؟

أطلت "زينب" بنظرة مليئة بالحب نحو الطفل، وضمتْه إلى حضنها، بينما ارتسَمَت على شفتيها ابتسامة دافئة. اجتاحها شعور جميل يتناغم مع السعادة، وهي تعانقه، ثم قالت:

-"أحمد" سيبه يبقى معانا لحد ما ترجع أمه  بص شوف دا حلو إزاي... أنا فرحانه به أوي أوي.

لم يتمكن "أحمد" من رفض طلب زوجته عندما لاحظ مشاعرها اتجاه الصغير.
 وهكذا، استمر "يونس" في البقاء معهما يومًا بعد يوم، ينتظر عودة والدته التي لم تأتِ!
 ومع مرور الأيام ازداد حبهم "ليونس"، حتى أصبحوا لا يستطيعون الاستغناء عنه، رغم إنجابهم لأولادهم..
 على الرغم من المخاطر التي كانت تطارد "يونس"، إلا أن حبهم له كان عظيمًا، إذ أصبح نور عيني "زينب" وولدها العزيز. 

«باك»

أكمل "أحمد" رواية كل ما حدث، وسط صدمة الحاضرين الذين اتسعت أعينهم وعجزت عقولهم عن تصديق ما سمعوه. وكان أكثرهم تأثراً "حسام"، الذي حاول جاهدًا استيعاب ما قاله والده، لكن عقله كان يرفض تصديق ذلك بشدة. ثم قال: 
-بابا أنت بتقول أية يعني "يونس" مش ابنك؟

-"يونس" مش ابني بالدم بس هو ابني بالروح مهما حصل هيبقى ابني.
..............


 •تابع الفصل التالي "رواية من انا"  اضغط على اسم الرواية 

تعليقات