رواية من انا الفصل السابع عشر 17 - بقلم حليمة عدادي
من أنا
البارت 17
كانت سيارة "وليد" ورجاله تسير بسرعة على الطريق في محاولة للهروب من سيارة الشرطة.
في تلك الأثناء، كان "يونس" بين وعيٍ وإغماء، يسمع أصواتًا من حوله لكنه لم يكن قادرًا على تمييزها.
كانت آلام مبرحة تعتصر جسده كله، إلا أنه لم يكن يستطيع التحدث أو الحركة، وكأنه مقيد بحبال. تدور الأحداث في عقله، لكنه يشعر بأنه عاجز عن التحرك.
حاول تحريك شفتيه ونطق بكلمات هامسة غير مسموعة قائلاً:
-تقى.. تقى....
بدأ بإخراج بعض الكلمات بصوت منخفض، ثم حاول التركيز وإجماع قواه، ثم بدأ اتضاح الأصوات من حوله تدريجياً، بدأ ذاكرته تستعيد بعض الأحداث، وعاد إلى وعيه، لكن رؤيته ما زالت مشوشة.
ومع ذلك، بات قادرًا على سماع الحديث الذي يجري بين "وليد" ورجاله، لكن جسده لم يستجب بعد فجأة، انتفض قلبه بفزع حين سمع أحدهم يقول:
-"وليد" بيه هنقتل البنت دلوقتي، و لا نعمل فيها إيه دي عرفت عنك كل حاجه.
ضحك "وليد" بعمق ثم قال وسط ضحكاته:
-البنت هتموت بس لما تشوف موت "يونس" قدام عيونها، عارف ده راح يموتها ألف مرة.
استمع "يونس" إلى كل ما قيل، مما سبب له انقباضًا في قلبه، واندلع القلق في كيانه. أصبح يسعى جاهدًا لإجماع قواه والتفكير في كيفية إنقاذها، حتى لو كلفه ذلك حياته، فهو لن يسمح للأذى بالاقتراب منها مهما حدث.
جلس في مكانه محاولًا وضع خطة ما، لكن ما كان يثير قلقه هو أن حركة جسده أصبحت بطيئة وثقيلة، مما أعاقه عن التفكير بوضوح.
بينما كان غارقًا في تفكيره، شعر فجأة بشيء بارد يلامس جسده، وقبل أن يستوعب ما يحدث، انتفض بشدة وجحظت عيناه حين انسكب عليه ماء بارد؛ أعاده إلى وعيه وجعله يدرك محيطه.
فتح عينيه ليجد "وليد" أمامه مباشرة، برفقة عدد قليل من الرجال، حاول التحرك لكنه اكتشف أن يديه مقيدتان بحبل قوي.
زمجر بغضب، وامتلأ وجهه باللون الأحمر حتى أصبح مظهره مخيفًا، فيما برقت عيناه من مكانهما، ثم تحدث وهو يضغط على أسنانه قائلاً:
-أنت عايز مني إيه أنا زهقت منك، و من أعمالك الشيطانية مش كفايا إللي عملته في "تقى"، و دلوقتي خطفتها ليه عايز تعذبها مش دي بنت أخوك.
-دلوقتي هقولك أنا عايزك علشان تفتح لنا طريق كبير؛ هنبقى أغنياء بس أنت تموت، أما "حنين" بعد ما شافتني بقتل أبوها أكيد مصيرها الموت.
لم يدرك "يونس" مغزى كلمات "وليد"، ثم انفجر متسائلاً وعيناه تتألقان بغضب:
-تقصد إيه بطريق كبير؟ كلامك معايا و سيب "تقى" في حالها.
تجاهل "وليد" كلمات "يونس" وعاد إلى مكانه، مما ترك "يونس" في حالة من القلق والغضب، جراء جبروت "وليد" وشره المتواصل، حاول "يونس" مراراً فك وثاق يده، لكن جميع محاولاته باءت بالفشل.
**************
توقفت سيارة الشرطة على الفور بعد اصطدامها بالحائط، وتزايد انبعاث الدخان منها بشكل كثيف متزامنًا مع توقف أصوات إطلاق الرصاص.
نزل رجال الشرطة من السيارة بسرعة برفقة "أحمد"، وعندما بدأ الدخان يتصاعد، ابتعدوا عنها بسرعة خوفًا من احتمال حدوث انفجار.
لكن "أحمد" كان في عالم آخر، حيث كاد عقله يتوقف من شدة التفكير والذعر؛ فقد اختطف ابنه أمام عينيه ولم يستطع فعل شيء! كيف يمكنه أن يخبر زوجته حين يعود؟ هل سيعود إليها خائباً من غير فلذة كبده؟ قطع تفكيره أحد رجال الشرطة حين قال:
-استاذ "أحمد" تقدر ترجع لبيتك و احنا هنحاول نلحق العربية بتاعة المجرمين و لما نوصل لحاجة هنبلغك و ان شاء الله يكون خير.
استجمع "أحمد" قواه وأخذ نفسًا عميقًا، كأنه يصارع من أجل البقاء صامدًا، ثم قال، والحزن يكسو ملامح وجهه:
-هنتظر منكم أي خبر، و لو احتاجتوني في حاجة أنا موجود، المهم يرجع ابني بسلام مش هتحمل يجرا له حاجة.
أنهى "أحمد" كلماته، ثم تحرك ببطء، يغمره الحزن الذي احتله بالكامل، فلقد أصبح عاجزًا عن معرفة ما يفعل، ولم يعد يدرك أين يتجه أو كيف يتصرف!
كيف يمكنه العودة إلى منزله وقلبه يحترق؟ كانت خطواته كمن يسير على قطع زجاجية، تتمزق روحه مع كل خطوة.
كان يشعر بصوت داخلي يطالبه بالعودة والبحث عن ابنه في كل زاوية وكل شبر، لكنه كان تائهًا؛ لا يعرف من أين يبدأ أو أين يقيم ذلك الشخص اللعين المدعو "وليد"، الذي دخل حياتهم كالكابوس، يلاحقهم أينما كانوا كظلٍ لا يفارقهم!
ومع ذلك، لا يخفف من قلقه سوى الدعاء من أجل سلامة ابنه وعودته سالماً إليهم مع ابنة صديقه.
جلست "زينب" برفقة الفتيات في حالة من القلق، ينتظرن أي خبر قد يبدد هواجسهن. لقد مضى الوقت دون أن يصل أي معلومة حول "أحمد" أو "يونس"، وكأن الزمن قد توقف، وكأن عقارب الساعة قد جمدت في مكانها! كسر ذلك الصمت المطبق صوت أنفاس "حسام" المضطربة، الذي قال بقلق:
-قلبي مقبوض مش قادر أصبر و استنى أكتر من كده؟
جاهدت "زينب" لبلع لعابها بصعوبة، إذ كان الحزن يعتصرها بشدة؛ وكأنها تتألم تحت وطأة نار تحرقها مع مرور كل ثانية تمر دون أي خبر!
انزلقت دمعة خائنة من عينيها رغم محاولاتها لعدم السماح بذلك، ثم نظرت إلى الأفق وقالت:
-مافيش في ايدنا حاجة نعملها غير اننا نستنى أي خبر منهم أو عنهم و ربنا يرجعهم بالسلامه.
شعر بالإحباط وهو يتأمل بحزن ذلك الكرسي المتحرك الذي يجلس عليه، وقد تساقطت دموعه عاجزًا عن تحمل فكرة أي مكروه يصيب شقيقه..
بينما هو في حالة من الضعف لا يمكنه من تقديم أي مساعدة، لقد بذل "يونس" الكثير من أجل شقيقه، أما الآن فهو يجلس بلا حيلة، مما مزق قلبه إربًا، كتم غصته في صدره، ثم تحدث قائلا ً:
-"يونس" عمل عشاني كتير و أنا دلوقتي قاعد هنا عاجز مش قادر اعمله حاجة، أنا بسبب عجزي مش قادر أعمل حاجة!.
عاد الصمت ليخيّم من جديد، ولم يتبقَ سوى صوت شهقات "إيلول ومريم" وأنفاس "حسام" المضطربة التي تكاد تغادر جسده. وكأن المكان تحول إلى كتلة من الحزن، حتى انشلّ الجميع من لحظة حزنهم عندما فتح الباب ودخل "أحمد"!
الذي كان يميل برأسه كناية عن خيبة الأمل. انتفض الجميع من أماكنهم بلهفة وتوجهوا إليه، بينما نطقت "زينب" وعيناها مثبتتان على الباب في انتظار دخول "يونس"!
إلا أنها حين رأت حالة زوجها، أدركت أن الأخبار التي يحملها ليست مبشرة بالخير:
-فين "يونس" و "تقى" يا "أحمد" ليه ما رجعش حد معاك؟!.
لم يتمكن "أحمد" من إخراج الكلمات من بين شفتيه، بسبب شدة حزنه، وكأن الأشواك قد علقَت في حلقه! رفع رأسه، وكان الحزن واضحًا على ملامح وجهه، كغيوم داكنة تغطي السماء.
تحرك من مكانه دون أن ينطق بكلمة، وجلس على أقرب مقعد إليه، مستنشقا نفسًا عميقًا كأنه يكافح ليبقى صامدًا، لكن صمته زاد من قلق من حوله، وبدأ الخوف يتسرب إلى قلوبهم، حتى انقطع "حسام" عن التفكير، قائلاً بقلق شديد:
-بابا بالله عليك اتكلم كفاية الخوف إللي احنا فيه، بلاش تخوفنا أكتر.
تنهد "أحمد" وبدأ بسرد ما حدث، بينما كانت الكلمات تخرج من لسانه بصعوبة. كان قلبه يعاني عبئاً ثقيلاً، وعند انتهاء حديثه، عمّ الحزن أرجاء المنزل، ساد الصمت بين الجميع وكأن الكلمات فقدت جدواها، حيث استغرق كل فرد في التفكير فيما سيفعله وما ينتظره في المستقبل.
**************
وصلت سيارة "وليد" إلى وجهتها، بينما كان "يونس" ما زال يكافح لتحرير نفسه من قيوده بصعوبة بالغة! عند توقف السيارة، نزل "وليد" منها، وألقى نظرة على "يونس" بابتسامة تحمل بين طياتها الشر والخداع، ثم قال:
-وفر جهدك لبعدين لسه قدامك شغل كتير وبعدها تودع الحياة، هاتوه بسرعه جوه عند القطة قبل ما يوصل البيه.
بمجرد أن أنهى "وليد" كلماته، اقترب رجالُه من "يونس"، وأمسكوا به بقوة، لم يُظهر "يونس" أي ردة فعل، بل ظل هادئاً عندما أدرك أنه سيلتقي "بتقى"؛ مما سيمكنه من الاطمئنان عليها بعينيه، ولتُخفف عن قلبه بعض الشيء.
وبعد ذلك، سيفكر في الطريقة المناسبة للهرب من هذا المكان، تقدموا به نحو منزل متهالك محاط بأشجار الغابة، حيث قام بتفحص المكان بدقة ليُحدد أسهل طرق الهرب الممكنة.
وصلوا أمام باب حديدي، فتحه "وليد"، ثم تقدم أمامهم، بينما كان "يونس" يرافقه في الخلف، وحينما خطا إلى الداخل، بدأ يبحث عنها بشغف في قلبه قبل أن تتاح له الفرصة لرؤيتها بعينيه.
حتى وقع نظره عليها وهي جالسة في زاوية منعزلة، تحتضن جسدها الصغير وكأنها تستمد القوة من ذاته!
كانت عيناها موجهتين نحو الأرض، تبدو شاردة الذهن، وهي في هيئتها تشبه طائرًا جريحًا، لم تلاحظ حتى وجودهم، مما زاد من ألمه وحزنه، وكأن قلبه تمزق إربًا جراء هذا المنظر المفجع!
تمنى لو أنه تمكن من الإمساك "بوليد" بين يديه ليقتله بلا تردد، وعندما لاحظ صمتها، نطق بصوت حزين قائلاً:
-تقى.. تق...
بلع "يونس" كلماته في حلقه عندما دفعه "وليد" من خلفه بقوة، مما أدى إلى سقوطه على ركبتيه واصطدامه بالأرض!
حيث أصدرت عظامه أصواتًا نتيجة الارتطام. عضّ على أسنانه بغضب، وتغير شكل نصف وجهه حتى أصبح يبدو مخيفًا! عندها انتبهت "تقى" لوجودهم، وبدت كأن صوت "يونس" بمثابة حبل نجاة أنشلها من دوامة أفكارها.
عادت أنفاسها إلى طبيعتها، ودب الاطمئنان في قلبها، فقامت من مكانها وركضت بكل فرح حتى وصلت إليه، وجلست على ركبتيها أمامه، نظرت إليه محاولةً الكلام، لكن لسانها كان عاجزًا!
استشعر "يونس" ما يجول في خاطرها، إلا أن الهدوء الذي يكسو ملامحها؛ أضفى عليه شعورًا بالسعادة، كطفل وجد ملاذه.
لم يمنحهم "وليد" وقتًا كافيًا للتعبير عن فرحتهم بلقائهم، فأشار إلى رجاله بأن يحملوا "يونس" ليقف على قدميه!
وبسرعة، نفذوا أوامره واقتربوا من يونس، حيث حملوه من ذراعيه حتى استقام واقفًا. في هذه الأثناء، نهضت "تقى" أيضًا، وقد بدأ القلق في عينيها، لاحظ "يونس" قلقها، فهتف ليطمئنها قائلاً:
-ماتخافيش يا "تقى" أنا جنبك مش هيحصل حاجة ليكِ.
بادرتُه بابتسامة وأومأت برأسها، مما أكّد له أنها لا تشعر بالخوف.
فجأة، ساد الفوضى وركض رجال "وليد"، إلى الخارج و صدى صوت زئير سيارة قادمة! دخل رجل مسرعًا نحو "وليد" وقال:
-البية الكبير وصل لازم نستعد و يكون كل حاجة جاهزه.
عندما سمع "وليد" كلمات الرجل، اندفع مسرعًا، تاركًا القلق يتملكهم!
بينما كان "يونس" ينظر إلى القيود التي في يده بعمق اليأس، أدرك أن الخطر بات قريبًا، و لا مفر منه.
لم يكن لديه خيار سوى الهرب، ولكن كانت أولويته هي حماية" تقى" من شرورهم قبل أن يحدث ما لا يحمد عقباه.
نظر إليها فوجدها تراقبه بعينيها اللتين تتلألأ فيهما الدموع، وقد بدا وجهها شاحبًا مثل الأموات، بينما استحوذ عليها الخوف رغم شجاعتها المعتادة، وعندما سمعت أن هناك رجلًا قادمًا، أدركت أن "وليد" سيفعل ما قاله لها.
أخذ نفسًا عميقًا، وهو يشعر بالحيرة إزاء كيفية مواساتها! كان خوفها يفتك به ببطء، لكنه لم يجد بديلًا عن تركها في هذه الحالة. بلع لعابه ثم قال:
-"تقى" ليه كل الخوف ده؟ أنا مستحيل اسمح لحاجة تحصل لك حتى لو دفعت حياتي ثمن لأمانك وحمايتك.. طول ما أنا جنبك هكون درع ليكِ يحميك من كل خطر.
أحسنت كلماته إليها، لكن قلقًا يمزق قلبها، فهي لا تعتقد أنها تخشى على نفسها، بل تخشى عليه من المكروه!
إن مجرد التفكير في ما قاله "وليد" ينزع من روحها السكينة، ويترك عقلها في حالة من التشتت.
شعرت بدمعة تترقرق في عينيها كما أحست بروحها تبتعد عنها، حتى أصبح الهواء الذي تستنشقه ثقيلاً. بكت في صمت، تُناجي نفسها بقولها:
-"يا ريت اقدر اتكلم أنا مش خايفه على نفسي طول ما انت معايا؛ اللي راعبني انه يحصلك حاجة مش هقدر اتحمل ده"
استفاقت من دوامة أفكارها عندما دخل "وليد"، يرافقه رجل شرير تظهر ملامحه بوضوح!
ألقى نظرة عليهم دون أن يتفوه بكلمة، ثم أصدر أمراً "لوليد" بإخراج "يونس" و"تقى" إلى الخارج بسرعة.
نفذوا الأمر على الفور، وأخذوهم إلى الخارج، حيث شعرت "تقى" بمرارة ابتلاع لعابها الذي امتزج بدموعها.
أدركت أن ما كانت تخشاه قد بات قريباً. نظرت حولها، فرأتهم يتجهون نحو أعماق الغابة حتى وصلوا إلى مكان ينبعث منه دخان ورائحة احتراق، حيث النيران المشتعلة على شكل دائرة مستديرة !
و وجود علامات ورموز غريبة مرسومة على الأحجار. كان هناك رجل مخيف الشكل يجلس على الأرض، وعندما وصلوا أمامه، رفع رأسه ووجه نظره إليهم، ثم قال بصوت عميق ومخيف:
- هو وصل الشاب المطلوب علشان المهمة؟ عايز اطلع الحاجة دلوقتي منه
نطق الرجل بصوت غليظ قائلاً:
-انت عايز إيه؟ وايه طلباتك علشان نبدأ بسرعة؟
أجابه قائلاً:
-أنا عايز دمه!
•تابع الفصل التالي "رواية من انا" اضغط على اسم الرواية