رواية احفاد المحمدي الفصل السابع عشر 17 - بقلم سارة ياسر
حلقة خاصة
كان صباح إسطنبول مختلفًا تمامًا عن أي صباح آخر في حياة "سلمى". النسيم العليل الذي يهب من البحر، رائحة الخبز التركي الطازج القادمة من المخبز القريب، وصوت الباعة المتجولين وهم ينادون على القهوة والسمسمية... كل شيء بدا وكأنه لوحة نابضة بالحياة.
لكن بالنسبة لسلمى، كان أجمل ما في صباحها اليوم هو الطفل الذي يركض أمامها، يضحك بصوتٍ ملائكي وكأنه لا يعرف التعب ولا الحدود.
– "نووووح! تعال هنا حالًا!"
ركض "نوح"، ذو الثلاث سنوات، وهو يضحك ضحكة بريئة جعلت كل من في الحديقة يلتفت إليه بابتسامة. كان شعره البني الكثيف يتطاير خلفه، وعيناه البندقيتان تلمعان تحت أشعة الشمس، وهو يحمل بيده لعبة خشبية صغيرة اشتراها له "ياسين" صباح اليوم من أحد البازارات.
"سلمى" كانت تركض وراءه بخطوات سريعة، فستانها الأبيض الخفيف يتحرك مع الريح، وشالها الوردي الصغير ينزلق قليلًا من على كتفها، لكنها لم تهتم. كل ما يهمها هو طفلها الذي يبدو كأنه يريد اكتشاف الحديقة كلها وحده.
– "نووووح، يا قلب ماما، هتقع يا حبيبي!"
لكن "نوح" لم يتوقف، بل استمر في الركض والضحك بصوت عالٍ، وكأنه يختبر صبرها عمدًا.
خلفها بخطوات هادئة، كان "ياسين" يسير مبتسمًا، يداه في جيبيه، يرتدي قميصًا أزرق مفتوح الأزرار عند الرقبة وبنطال جينز بسيط، وشعره الأسود أصبح أطول قليلًا عن أيام الزواج الأولى. بدا أكثر نضجًا وهدوءًا من ذي قبل، لكن نظرته لزوجته وابنه كانت مليئة بالفخر والحنان.
أوقف خطواته عند مقعد خشبي طويل، جلس عليه وهو يراقبهم، ثم قال بصوته العميق الذي اعتادت "سلمى" أن ترتجف له من أول يوم تعرفت عليه فيه:
– "سيبيه يا حبيبتي... يلعب شوية. خليه يفرّغ طاقته."
التفتت إليه "سلمى" بعينين ضيقتين من التعب، وقالت وهي تمسك بجانب خاصرتها:
– "طاقته؟ ده مولّد طاقة يا ياسين مش طفل!"
ضحك ياسين بخفة، وأشار إلى المقعد بجانبه:
– "تعالي ارتاحي شوية، أنا هجيبه."
– "لو سمحت بسرعة... قبل ما يطلع على الشجر!"
ابتسم ياسين ونهض، وسار بخطوات واسعة نحو "نوح"، الذي استمر بالركض حتى وصل إلى منطقة عشبية مفتوحة. فجأة رفع "نوح" رأسه ورأى أباه يقترب، فصرخ بضحكة بريئة:
– "بابا! الحقني!"
– "تعال يا شقي!"
أمسكه ياسين برفق من تحت ذراعيه ورفعه عاليًا في الهواء، مما جعل الطفل ينفجر بالضحك ويصرخ:
– "كمان! كمان يا بابا!"
أداره ياسين في الهواء مرتين، ثم ضمّه إلى صدره بقوة، وقبّله على جبينه:
– "خلاص كفاية يا بطل، ماما خلاص هتوقع من التعب."
عاد به نحو سلمى، التي كانت تبتسم رغم لهاثها:
– "إيه ده يا نوح؟ عايز تموت ماما من بدري؟"
رد نوح وهو يضحك ويخفي وجهه في رقبة والده:
– "ماما مش هتموت، ماما قوية!"
ابتسمت سلمى وربتت على شعره:
– "يا حبيبي."
جلسوا جميعًا على المقعد، ياسين وضع نوح في حضنه، بينما سلمى استندت برأسها على كتف زوجها. شعرت بهدوء غريب يملأ قلبها.
– "عارف يا ياسين... أوقات بحس إن حياتي بقت فيلم."
– "فيلم حلو ولا فيلم رعب؟" (قالها بابتسامة جانبية ساخرة)
– "فيلم حب." (قالتها بصوتٍ منخفض وهي تنظر له بعينين يلمع فيهما الحب)
مد ياسين يده وأمسك يدها:
– "وإحنا لسه في أول الفيلم... لسه جاي مشاهد حلوة كتير."
بعد فترة راحة قصيرة، قررت العائلة الصغيرة الذهاب إلى السوق المصري الشهير. كانت ألوان البهارات والورود والمشغولات اليدوية تلفت انتباه نوح، الذي ظل يصرخ:
– "ماما، شوفّي!"
– "بابا، عايز دي!"
ياسين، رغم أنه دائمًا شخص جاد وهادئ، أصبح نسخة مختلفة مع ابنه... صار صبورًا على صراخه وأسئلته التي لا تنتهي. بينما سلمى شعرت بالفخر وهي ترى علاقتهم.
عند أحد المتاجر، توقف نوح أمام طائر صغير في قفص:
– "ماما، ده عصفور؟"
– "أيوه يا حبيبي."
– "نشتريه؟"
ابتسمت سلمى:
– "لأ يا نوح، العصفور ليه بيت هنا... وإحنا مالناش مكان نحطه فيه."
هنا انحنى ياسين بجوار ابنه وقال:
– "اسمع يا بطل، كل الكائنات ليها بيوت... زي ما إحنا لينا بيت. لو أخدنا العصفور من بيته هيزعل."
نوح فكر قليلًا، ثم قال:
– "ما نزعّلوش."
ياسين ابتسم وقبّله:
– "شاطر يا نوح."
**
في المساء
جلس الثلاثة على طاولة صغيرة تطل مباشرة على البوسفور، الأضواء تعكس على سطح المياه، والموسيقى الهادئة تعزف خلفهم.
سلمى كانت تحدق في زوجها وهي تفكر كيف تغيرت حياتهما من مجرد زواج تقليدي إلى حياة مليئة بالحب والضحك. نوح كان منشغلًا بأكل البطاطس المقلية، بينما ياسين أمسك بكأس عصيره وقال:
– "تعرفي يا سلمى... أنا كنت فاكر نفسي عمري ما هعرف أضحك بالشكل ده."
– "وأنا كنت فاكرة نفسي مش هعرف أحب بالشكل ده."
– "لكن الحب جه... وجاب لنا نوح."
ابتسمت سلمى ومسحت على شعر ابنها:
– "الحب جه... وبقى ليه شكل وصوت وريحة، اسمه نوح."
نوح، رغم أنه لا يفهم عمق كلامهما، رفع رأسه وقال:
– "أنا بحبكم."
ياسين ضم الاثنين معًا، وقبّل رأس سلمى:
– "وأنا بحبكم أكتر."
عادوا إلى البيت بعد يوم طويل، نوح نام في السيارة قبل أن يصلوا. ياسين حمله برفق وصعد به إلى الغرفة، بينما سلمى تمشي بجانبه، تبتسم وهي تشعر أن قلبها ممتلئ تمامًا.
وضعت سلمى الغطاء على ابنها، ثم جلست بجوار ياسين على الشرفة، تنظر إلى أضواء المدينة الساحرة. أمسك يدها وقال:
– "لسه مصرة إن حياتنا فيلم؟"
– "أيوه... وفيلم ناجح كمان."
– "وأنا مبسوط إني البطل فيه."
ابتسمت سلمى، وأسندت رأسها على كتفه:
– "وأنا البطلة... ومعانا نوح، أحلى دور في حياتي."
انتهى اليوم بصمت مريح... فقط صوت قلبين يعترفان لبعضهما أن الحب، أحيانًا، يبدأ بزواج، لكنه ينضج بوجود عائلة.
****
"مش كل حاجة بنشوفها أو نسمعها ليها وجه واحد... أوقات الحقيقة ليها وشوش كتير، وأوقات بتتغير لمجرد إن حد قرر يخفي جزء منها أو يظهرها بشكل تاني.
في حياتنا... وفي حكاياتنا... مش دايمًا كل المكتوب ليه اتجاه واحد أو معنى واضح. أوقات النهاية نفسها ممكن تكون بداية... وأوقات البداية تبقى خدعة كبيرة للنهاية."
****
- يتبع الفصل التالي اضغط على (احفاد المحمدي) اسم الرواية