رواية الجدران الناطقة الفصل الثاني عشر 12 - بقلم مريم عثمان
واصلت الأيام في الانسياق بوتيرة بطيئة ثقيلة، وكأن الزمن قد توقف في هذه الزمان المظلم لم يكن هناك ضوء يبدد الظلام الذي غمر حياتي، فكلما نظرت إلى جدران المنزل، كان قلبي يزداد ثقلاً، وكأنها أصبحت شاهدًا صامتًا على وحدتي وآلامي كما لو أن والدتي كانت هي آخر ما يربطني بالعالم، وكلما غادرت، تجسدت فكرة النهاية بشكل أكثر قسوة
وفي تلك الأيام، أصبح الليل هو الوقت الذي لا أهرب منه، بل الذي يسحبني إليه بكل قوة كان الظلام يعم المكان، وعيناي تنتقلان بين أركان المنزل كما لو أنني أبحث عن شيء مفقود لم أكن أستطيع النوم؛ كانت الكوابيس تلاحقني بشكل لا يُحتمل كنت أستيقظ في منتصف الليل، أشعر بشيء غريب في الغرفة لا شيء يمكن أن يفسر شعوري هذا، لكنني كنت أسمع همسات ضعيفة تأتي من الزوايا المظلمة شيء كان يراقبني كنت أغلق عينيّ وأحاول إقناع نفسي أن الأمر ليس سوى خيال، لكن عندما أفتحها، أجد الظلال تقترب أكثر فأكثر، وكأنها تتسلل إليّ في كل زاوية
في إحدى الليالي، وبينما كنت جالسة على الأريكة، سمعت ضجة غريبة قادمة من المطبخ ارتجف جسدي، لكنني كنت مصممة على مواجهة هذا الشعور الغريب تقدمت بحذر، وإذا بي أرى شيئًا غريبًا على الطاولة كان هناك ورقة قديمة، مكتوبة بخط غير مألوف، يغطّيها غبار الزمن اقتربت منها، وقلبي يكاد يقفز من مكانه قرأت الكلمات التي كانت تحمل تهديدًا غامضًا: إنه ليس النهاية بعد، بل البداية كانت الكلمات كالصاعقة، وكأنها تُنبئ بشيء أكبر من الحريق نفسه، وكأن والدتي لم تكن مجرد ضحية، بل كانت جزءًا من لعبة أكبر
كانت اللحظة تعبيرًا عن شيء بدأ يخرج من الظلال ويأخذ شكلًا أكثر وحشية لم أكن في أمان، ولا حتى داخل جدران هذا المنزل شعرت بشيء يكسرني داخلي، وكأن الحياة نفسها أصبحت عبئًا لا أستطيع تحمله أغلقت الورقة وعدت إلى الغرفة، غير قادرة على تحديد ما إذا كان عقلي قد أضرب عن الواقع أم أن هناك قوة خارقة تحاول فرض سيطرتها علي
ومع كل ليلة كانت تزداد حدة الصراع الداخلي، كانت الكوابيس أكثر وحشية، والظلال أكثر وضوحًا في كل لحظة كان يزداد شعوري بالعجز والضياع كان هناك شيء قادم، لا أستطيع التهرب منه كلما زادت ملاحقتي للمجهول، كلما تذكرني الماضي، وما تسببت فيه تلك الحادثة الغامضة من دمار، وكأنها لم تترك لي مكانًا للشفاء
وفي اليوم الذي تلاه، وبينما كنت أتمشى في المنزل باحثة عن شيء يملأ الفراغ، وقع نظري على صورة قديمة لوالدتي، كانت تبتسم في وجه الكاميرا بحب، ولكن عينيها كانتا تحملان شيئًا غريبًا، شيئًا كنت قد غفلته من قبل كان هناك في عيونها ظل غامض، كأنها كانت تعرف أن هذا اليوم سيأتي شعرت بأنني على وشك الانهيار، وكأن جسدي لن يتحمل هذه الآلام أكثر من ذلك
في الأيام التي تلت ذلك اليوم المظلم، كنت أعيش في حالة من الانهيار العميق شعرت كأنني فقدت كل شيء، كأن الحياة قد سلبت مني كل فرصة للراحة أو الشفاء لم أعد أعرف كيف أواجه هذا العالم الذي أصبح كابوسًا لا ينتهي كل زاوية في المنزل تذكرني بوالدتي، وكل شيء حولي يبدو فارغًا من أي معنى
وفي تلك اللحظات، حين كنت أغرق في أعماق اليأس، ظهرت روز أمامي مجددًا كانت خطواتها ثابتة، وعينيها مليئة بالحزن، لكنها كانت تحمل في عيونها شيئًا لم أستطع تحديده في البداية اقتربت مني بحذر، وجلست إلى جانبي بهدوء، متجنبة أن تقول أي كلمة قد تثير المزيد من الألم في قلبي كانت تعرف تمامًا ما أشعر به، لأنها كانت تعرف أن الألم الذي أحمله أكبر من أن يختصره أي كلام
لم أتمكن من إخفاء دموعي، كانت تنساب بلا توقف، وكأنني لا أستطيع أن أوقفها بكيت بحرقة، حتى كدت أشعر أنني سأغرق في هذا البحر من الحزن روز لم تحاول أن توقفني، بل جلست بجانبي، ووضعت يدها على كتفي برقة كان ذلك فقط، لا كلمات، لكن حضورها كان هو كل ما كنت أحتاجه في تلك اللحظة
ثم، وبعد لحظة صمت طويلة، قالت بصوت منخفض، لكن مليء بالقوة:
آنا، أنا عارفة إنك متحسّة إن الحياة خدعتك، وإنك مش قادرة تكملي بس حبيبة قلبي، في اللحظات دي بس، لما تحسّي إن الدنيا كلها ضديكي، ده وقتك تقدري تكتشفي قوتك الحقيقية مش لأنك متحطمة، بس لأنك لسه عايشة، ولأن في حاجة جواكي بتقول إنك هتنهضي من تاني الموت مش النهاية ولا حتى الألم ده هو النهاية
نظرت إليها، ولم أستطع الرد، لكن حديثها كان يتسرب إلى أعماق روحي، وكأن كل كلمة كانت تلامس جزءًا مهدمًا في داخلي لم أكن أستطيع أن أراها فقط، بل كنت أراها وكأنها تمثل الأمل، حتى وإن كنت قد فقدت القدرة على تصديقه
قالت روز بحنان:
الناس في حياتنا يرحلون، بس هيبقى فينا أثرهم ما تنسيش إنك كنتِ حاجة مهمة في حياتها، وإنه مهما كان شعورك دلوقتي، ما فيش حاجة هتقدر تمحي ذكرياتك مع والدتك ولا الهزيمة هتكون النهاية ليكي لو فكرتي في الحزن كأنك بتغسليه عن قلبك، هتلاقي إنك حتى لو انهرتِ، هتنهضي من جديد بس علشان تنهضي، لازم تعرفي إنك أقوى من ده كله
كانت كلماتها تدور حولي مثل عاصفة هادئة، تلامس كل جرح في قلبي، وتُعِيد ترتيب الأفكار المبعثرة في عقلي لم أكن أستطيع أن أقول لها إنني شعرت أنني بلا قوة، أو أنني على حافة السقوط، لأن حديثها كان يزرع في داخلي شعورًا جديدًا، شعورًا بالكفاح الذي كنت أعتقد أنني قد فقدته
بينما كنت في حالة من الانكسار التام، جلست على الأرض في غرفة والدتي، أضغط يدي على رأسي وأحاول أن أقاوم الدموع التي كانت تتساقط بغزارة شعرت بكل جزء في جسدي ينفصل عن الآخر، كأنني كنت أعيش في حالة من الهلوسة كانت تلك اللحظة هي أقرب ما شعرت فيه بأنني لن أتمكن من العودة إلى نفسي أبدًا
كلما تذكرت الحريق، وكلما تذكرت كيف اختفت والدتي في غمضة عين، كلما ازداد الألم في قلبي كانت لحظة انهيار بكل معنى الكلمة كانت أحشائي تتقلص، وكأنني أغرق في بحر من الحزن واليأس بدا لي أن الحياة قد خذلتني، وأنني أصبحت مجرد ظلٍ من الماضي
كان البيت هادئًا بشكل غير طبيعي، وكأن الكون كله قد قرر أن يشارك في حزني جلست وحدي في تلك الغرفة، غير قادرة على الوقوف أو التفكير، وكأن كل قوة في داخلي قد سحبتها تلك المأساة فكرت في أنه ربما كان من الأفضل لو كنت أنا من ماتت في الحريق، بدلًا من والدتي التي كانت تعتبر كل شيء بالنسبة لي
في تلك اللحظة، شعرت بجسدي يهتز من الداخل، وعينيّ تغلقان رغماً عني شعرت بالاختناق، كما لو أن العالم بأسره كان يضغط على صدري كنت أريد الهروب، ولكنني لم أكن أجد مخرجًا من هذا الكابوس الذي أعيشه
في تلك اللحظات المظلمة، شعرت بشيء غريب يدخل إلى الغرفة كانت صديقتي روز قد جاءت، دخلت دون أن تنطق بكلمة واحدة كانت عيونها تحمل الحزن، ولكنها كانت مشبعة بالأمل الذي كنت قد فقدته اقتربت مني، وجلست بجانبي بهدوء كانت تعرف أنني في أسوأ حالاتي، لكنها كانت تتجنب أن تقول شيئًا لتخفيف الألم، فكانت موجودة فقط
مرت لحظات طويلة ونحن صامتتان، لكنني شعرت بدفء حضورها ثم، أخيرًا، نظرت إليّ وابتسمت ابتسامة حانية، وقالت بصوت خافت:
آنا، أعلم أنك تشعرين الآن بأن كل شيء قد انتهى، لكن صدقيني، هذا ليس كل شيء لا تظني أن الظلام سيستمر إلى الأبد الحياة تحتاج منك بعض الصبر، وأنت أقوى مما تظنين لن تتركي هذه الآلام تسيطر عليك
لم أكن أستطيع أن أجيب، لأن الكلمات كانت بعيدة عني، لكن تلك الكلمات أضاءت شيئًا في داخلي كانت كلماتها كأنها شعاع ضوء يلامس الظلام الذي كنت أغرق فيه لم يكن لدي القدرة على الرد، لكنني كنت بحاجة إلى هذا الدعم، إلى تلك اليد التي تمد إليّ في وقت الضياع
احتضنتني روز بكل قوتها، وكأنها كانت هي التي تحارب الظلال التي كانت تلتهمني تلك اللحظة كانت لحظة انهيار حقيقي، لكنها كانت أيضًا لحظة تجدد الأمل كنت بحاجة إليها في هذا الوقت، وقد كانت هناك لتشع لي طريقًا ضيئلاً، في عالمٍ مظلم عرض أقل
•تابع الفصل التالي "رواية الجدران الناطقة" اضغط على اسم الرواية