رواية ليل و لعنة الزمن الفصل الحادي عشر 11 - بقلم فريدة عبدالرحمن
السكينة في القصر كانت خادعة.
ليل كانت نايمة، بس ملامح وشها مش مطمّنة، كأن قلبها بيصرخ من جوا وهي ساكنة من برّا.
في الحلم، كانت واقفة وسط أرض سودا، السما مش باينة، والريح بتعوي زي ناي مكسور.
ريح بردة، بس فيها صوت... مش بس هَوا، ده صوت حد بيتنفس معاها، بيقرب.
ظهر قدّامها.
طيف طويل، تاجه مكسور، عينه بتلمع بلون النار، وصوته يزلزل القلب.
– رجعتي ليّا، يا لعنة الزمن...
ليل رجعت خطوة، لكن رجليها اتقلّت. الأرض شبكتها، كأنها مش هتسمح لها تهرب.
هو قرب أكتر. مدّ إيده، وكل ما يقرب، الدنيا تلونها يغمق، والهوى يختنق.
– هتكوني ملكتي… حتى لو رفضتي.
– إنت مين؟!
ضحك.
– أنا ظل لا يموت.
صرخت، لكنها مقدرتش تطلع صوت.
وفي اللحظة اللي حسّت إنها بتغرق في الهوا نفسه… صحيت.
قامت مفزوعة، نفسها مقطوع، وإيدها على قلبها.
دخلت الجارية يُمنى بسرعة.
– في إيه؟ حلمتي تاني؟
ليل تمسّكت في طرف اللحاف.
– هو… رجع. شُفته.
يمنى سكتت لحظة، وبعدين قعدت جنبها بهدوء.
– في ناس بتقول إن ملك الظلام مات… بس اللي يعرفه كويس، يقول إنه محبوس.
محبوس جوه بُعد تاني، وبيحاول يرجع، عن طريق الأحلام، عن طريق الوعد القديم.
ليل بصّت لها بخوف.
– وعد؟ وعد مين؟
– وعده ليكي.
سكتوا لحظة، وبعدين يُمنى غيرت الموضوع فجأة.
– سيدي أويس… ناوي يعلن الجواز التاني النهاردة. قدام المملكة كلها.
– تاني؟!
– عشان يمحي صورة الجارية اللي دخلتي بيها، ويعلن إنك الملكة. رسمي.
ليل بصّت في الأرض، مشاعرها متلخبطة… خوف من الحلم، ودوخة من الواقع.
وفي جناح تاني من القصر…
ريان واقف قدام واحدة شعرها أسود زي ليل، وعيونها خضرا، فيها ذكاء وسحر.
ابتسمت وهي تقول:
– مش هتسلم على بنت عمك… زمردة؟
ريان ابتسم، لكن عينه كانت فيها توتر.
– نسيتك؟ مستحيل.
كان القصر بيتحوّل.
خَدَم بيلفّوا بسرعة، شموع بتتولع في كل الأركان، عطور بتتمشّى في الهوى، والستائر الحمراء بتتغيّر لدهبي وأبيض.
يُمنى بتسرّح شعر ليل، وبتلبّسها تاج بسيط من الفضة، محطوط فيه حجر بنفسجي.
– إنتي عارفة ده حجر إيه؟
– لأ.
– اسمه "عين الليل"... مش بيشعّ زي غيره، بس بيشوف الحقيقة.
ليل بصّت له في المراية، ووشها مش مرتاح.
– مش بحب أكون في الحفلات دي.
– دي مش حفلة، دي تتويج.
دخلت جارية تانية:
– القاعة قربت تِتملى، وسيدي أويس طالب يشوفك قبل ما تبدأ المراسم.
ليل سكتت، وبعدين قامت. فستانها طويل، أبيض بلمعة بسيطة، والدنيا حواليها ساكنة… إلا جواها.
خرجت من الجناح، ما بين نظرات الحاشية والجنود، لحد ما وصلت للحديقة الخلفية…
كان أويس واقف مستنيها.
بصّ لها من فوق لتحت، ضحك بخفة:
– كنتِ حلوة… دلوقتي بقيتي سِحر.
هي ما ابتسمتش. قالت بهدوء:
– ليه الجواز ده؟
– عشان أنهي الحكايات اللي بتتقال… وعشان أبدأ حكاية جديدة، بيني وبينك.
سكتت لحظة، وبعدين قالت:
– طب ولو أنا مش جاهزة أبدأ؟
– أنا هستناكي، حتى بعد الجواز.
– وإنت مش خايف من اللي حلمت بيه؟ من ملك الظلام؟
– أنا خايف عليكي… مش منه.
قرب منها، خَد بإيدها، وبصّ في عنيها.
– وإنتِ؟ لسه خايفة مني؟
لحظة طويلة عدّت، قبل ما ترد.
– أنا خايفة… عليه.
في شرفة هادية من شرفات القصر، وقفت زمردة، لابسة فستان أخضر داكن، شعرها مربوط من ورا، وعنيها بتلمع بضوء الشموع اللي في القاعة تحت.
ريان دخل ووقف جنبها، وفضل ساكت.
– نفسك تقول كلام كتير، بس مش عارف تبدأ منين؟
ابتسم بخفة:
– دايمًا كنتِ بتعرفي تقريّني.
– مش بقرأك… إنت كتاب مفتوح، بس حروفه بتتقلّب بسرعة.
بصّت له، وقالت بهدوء:
– الجواز هيتم خلاص؟
– أيوه.
– وليل… بتحبها؟
ريان اتفاجئ بالسؤال، بس جاوبه من غير تفكير:
– مش أنا اللي هتجوزها.
ضحكت.
– ما سألتكش عن أويس. سألتك عنك.
سكت لحظة، وبعدين قال:
– ليل مختلفة… بتحرك اللي حوالينها.
زمردة بصّت تحت، على القاعة اللي بتجهز.
– بتحرك أكتر من كده، يا ريان.
بس مش كل اللي بيلمع… أمان.
بصّت له، وفي عنيها لمعة خوف مش غيرة.
– أنا مش بكرهها. بالعكس، فيها حاجة… بتشدّني. بس خايفة عليها، وعلى المملكة كلها.
في حاجات بتتحرك في الخلفية… وأنا حاسة بيها.
ريان قرب خطوة منها.
– تقصدي ملك الظلام؟
هزّت راسها.
– بحس إن في لعنة بتمشي حواليهم… وكل ما يقرّبوا من بعض، الدنيا بتتشق.
بس اللي يخوّفني أكتر… إنهم ما يبعدوش.
سكتت لحظة، وبعدين قالت بصوت واطي:
– لو الزمن هيرجع يلعب لعبته… لازم نكون جاهزين.
القاعة الكبرى كانت مليانة نور.
الشموع مضاءة، الموسيقى شغالة بنغمة هادية، والناس واقفة في صمت، مستنية اللحظة الملكية.
ليل ماشية بخطى ثابتة… فستانها الأبيض بيتحرك مع كل خطوة، كأنها ماشية وسط سُحب.
أويس واقف قدامها، عينيه عليها، وكل اللي حواليهم بيختفي.
وقفوا قدام بعض، والمساعد رفع صوته:
– أمام المملكة، وأمام السماء… هل تقبل أن تكون ليل زوجتك، للمرة الثانية، بعهد لا يُكسر؟
أويس قال بصوت واضح:
– أقبل.
المساعد التفت لليل.
– هل تقبلين؟
ليل فتحت شفايفها، وكانت هترد…
وفجأة.
كل الشموع… انطفأت.
ظلام تام، والصمت نزل على القاعة كأنه غطاها بلحاف تقيل.
صوت الريح زحف من الشبابيك المغلقة.
الناس بصّت حواليها، الأطفال اتشالوا، والحرس شدّوا سيوفهم…
بس مفيش حاجة ظهرت.
ليل وقفت مكانها، قلبها بيخبط، وصوت غريب دخل عقلها… صوت مش من هنا.
– كنتِ ليَّ… ولسّا.
الهروب مش بينقذك… بيأخرك.
عينيها اتوسّعت، وكأنها بتشوف حاجة محدش شايفها.
وفي وسط أرضية القاعة، تحت رجليهم، ظهر رمز غريب محفور بنور أحمر، كأنه وُلد من قلب البلاط نفسه.
رمز دائري… فيه ثلاث عيون، ولسان طويل ممتد ناحية ليل.
رجعت خطوة، والهوى برد فجأة.
لكن في لحظة، النور رجع، الشموع اشتعلت تاني، والرؤية اختفت.
كأنها ما حصلتش.
بس كل اللي في القاعة حسّوا… إن حاجة حصلت.
زمردة كانت أول واحدة تبص للرمز اللي اختفى، وتقول لنفسها:
– بدأ اللعب الحقيقي.
ليل رجعت لجناحها بعد المراسم، بس عقلها مش راجع معاها.
كانت قاعدة على طرف السرير، لابسة الفستان الأبيض، بس كأنها لسه في القاعة… لسه سامعة الصوت، ولسه شايفة الرمز.
مدّت إيدها على الأرض… بتفتكر الإحساس.
كان حقيقي.
خبط الباب خبطة هادية.
– ادخلي.
دخلت زمردة بهدوء، وشكلها مش ملكي… شكلها إنسانة جايه تطمن.
– ينفع أقعد؟
– طبعًا.
زمردة قعدت جنبها، وشافت الرعشة في إيد ليل.
– لسه بتفكري في اللي حصل؟
ليل هزت راسها.
– انتي شفتيه؟
– شُفت. حسّيت. وحتى لو اختفى… هو كان هنا.
ليل بصّت لها لأول مرة بعين فيها احتياج.
– أنا مش مجنونة، صح؟
ضحكت زمردة بخفة.
– لو كنتِ مجنونة… فإحنا الاتنين في نفس السفينة.
سكتوا لحظة.
– دا مش حلم، ولا توتر… دي رسالة.
– من مين؟
– من اللي بتكلمي عنه في الكوابيس.
ليل بصّت في الأرض.
– ملك الظلام.
زمردة وقفت، وراحت ناحيه الرف، خدت كتاب صغير، فتحته على صفحة معينة، ورجعته لها.
– شوفي الصفحة دي… دا نفس الرمز اللي ظهر تحت رجلك في القاعة.
الكتاب ده كان ملك جدتي… بتحكي فيه عن كائن اسمه "المُراقِب الليلي"، كان بيظهر قبل الكوارث الكبيرة.
ليل قرت الجملة المكتوبة تحت الرسم:
"حين يظهر الرمز، يبدأ الزمن في الانشقاق."
بصّت لزمردة، وهي بتتنفس بصعوبة.
– أنا خايفة.
زمردة خدت إيدها بين إيديها.
– متخافيش لوحدك.
ليل لسه ماسكة الكتاب، عينيها معلقة بالرمز… وزمردة جنبها، بتحاول تهديها.
فجأة… الباب اتفتح بسرعة.
يُمنى دخلت، ووشّها مصدوم، وفي إيدها لفافة قديمة، ملفوفة بخيط أحمر.
– لازم تشوفوا دي حالًا!
زمردة وقفت بسرعة.
– في إيه؟
– اللفافة دي لقيناها في جناح تحت الأرض… الجناح اللي كان مقفول من أيام جد أويس.
بس النهاردة… لقيناه مفتوح.
والغريب… إن الرمز اللي شفتوه في القاعة، محفور جوه الحيطان هناك.
ليل قامت ببطء، وكأنها بتسمع خبر من عالم تاني.
– إزاي؟ وإيه اللي في اللفافة؟
قبل ما يُمنى تفتحها… الباب اتفتح تاني.
أويس دخل، ومعاه ريان.
أويس عينيه كانت فيها توتر واضح، وريان ماسك سيفه في إيده، كأنهم جايين من حالة طوارئ.
– في حاجة غلط، لازم أعرفها دلوقتي.
فيه طيف ظهر في ساحة الحرس… وشافوه أكتر من واحد.
رمزك، يا ليل… بيتكرر في كل ركن.
ريان بصّ على اللفافة.
– دي إيه؟
يُمنى فتحتها أخيرًا، وظهرت ورقة قديمة، عليها رسم دقيق… لبوابة حجرية ضخمة، وعليها نفس الرمز، لكن تحته مكتوب بلغة قديمة.
زمردة قرّبت وبصّت في الكلام، وقالت:
– دي مش كتابة عادية… دي من لغة "السُّرّى"، لغة ما بين الزمان والمكان.
ليل سألت بهمس:
– ومكتوب فيها إيه؟
زمردة ترجمت بهدوء:
– "حين تُكسر دائرة الزمن… سيعود السيد القديم. ولعنة الأبواب السبعة… ستُفتح من جديد."
الكل سكت.
أويس بصّ لليل.
– انتي مش جايه من زمن تاني…
الزمن نفسه هو اللي جاي معاكي.
زمردة حطّت اللفافة بهدوء، وقالت:
– لو الجناح اتفتح من نفسه، يبقى في حاجة عايزانا نشوفها.
أويس وافق بنظرة، وقال لرايان:
– جهّز الشعلة. إحنا نازلين دلوقتي.
ليل وقفت، صوتها واطي بس ثابت:
– أنا جاية معاكم.
– لأ، انتي لسه خارجة من...
– أنا جاية.
بصّ لها، ولما شاف نظرة التحدي في عينيها، سكت ووافق بإيماءة صغيرة.
---
الممر القديم – الجناح الممنوع
كانوا ماشيين في صمت، الشعلة بتلمع على الحيطان القديمة، كلها محفورة بنقوش باهتة. كل خطوة كانت بتقربهم من حاجة… مش مفهومة.
رايان قال وهو بيبص حواليه:
– الريحة دي… كأنها قديمة ومكتمة من سنين.
يمنى ردت:
– الجناح ده كان مسموحش لحد يقربله، حتى مش مذكور في خرائط القصر.
زمردة مرّت إيدها على الحيطان وقالت:
– هنا بداية الحكاية.
وصلوا لباب حجري كبير، محفور عليه نفس الرمز، بس المرة دي… العين اللي في النص مفتوحة.
ليل حطت إيدها على الباب…
وهو اتفتح لوحده، من غير ما حد يلمسه.
ورا الباب، غرفة واسعة، وفي نصّها مرآة ضخمة، من غير انعكاس.
كلهم وقفوا قدامها.
زمردة همست:
– دي مش مرآة… دي بوابة.
ليل حسّت بشيء بيشدها ناحيتها…
بس قبل ما تتحرك، ظهر ظل وراهم، من بعيد، كأنه بيتكوّن من الدخان.
ريان رفع سيفه فورًا.
أويس بصّ له وقال:
– لا تتحرك.
ده مش كائن حي… ده تحذير.
الصوت رجع… نفس الصوت اللي سمعته ليل في القاعة.
– البوابة الأولى… انفتحت.
واحدة من سبعة.
كل بوابة تُفتح، يموت زمن.
ليل رجعت خطوة، وقالت:
– لازم نعرف نوقفه.
زمردة قالت:
– ومين قال إننا نقدر؟
يمنى ردت بسرعة:
– لازم نعرف ليه انتي بالذات، يا ليل.
الكل بصّ لها.
أويس قال ببطء:
– فعلاً… ليه انتي؟
ليل بصّت في المرآة، وقالت:
– يمكن… أنا مش اللي اختار الزمن.
يمكن… الزمن هو اللي اختارني.
- يتبع الفصل التالي اضغط على (ليل و لعنة الزمن) اسم الرواية