رواية حب في الدقيقة 90 الفصل الثامن 8 - بقلم نعمة حسن
_ ٨ _
~ غابة تملؤها الذئاب ~
_ عبدالله، تم القبض على عبدالله!
_ماذا؟ كيف حدث ذلك؟
_ لا أعرف، يقولون أنهم عثروا على مخدرات في المحل!
_ مخدرات!!! يا إلهي! سأتصل بأبي حالا.
قامت حياة بالاتصال بوالدها الذي أخبرها أنه قد وصل إليه الخبر وهو في طريقه الآن لمركز الشرطة، وبعدها اتصلت بعزيز وهو أيضا كان قد بلغهُ الخبر ويستعد للذهاب للمركز وبرفقته حنان.
_ الجميع يعرفون وهم الآن في طريقهم إليه، هيا استعدي سريعًا لنذهب.
أومأت عنبر ونزلت درجتين ولكن حياة استوقفتها وهي تقول:
_ ألن نخبر قاسم؟
تجمدت بمكانها للحظات ثم قالت:
_ لا داعي.
ونزلت لشقتها كي تستعد بينما ظلت حياة تفكر مع نفسها بتردد إلى أن حسمت أمرها وقامت بالاتصال بقاسم الذي أجابها على وجه السرعة وقال:
_ نعم حياة.
_ قاسم أين أنت؟ لقد قبضوا على عبدالله.
_ أعلم، عمي صالح أخبرني وأنا الآن في طريقي إلى المخفر.
_ حسنا. مع السلامة.
//////////
كان عبدالله يقف بمكتب الضابط يجز أسنانه بغيظ وهو يهمس بغل وشر:
_ أقسم لن أدعك تنجو بما فعلت يا قاسم.
في تلك اللحظة انفرج الباب ودخل رجل ذو هيبة ووقار وتحدث قائلا:
_ مساء الخير حضرة الضابط، أنا المحامي ظافر نور الدين حاضر مع المتهم.
طالعه عبدالله بضيق وهو يقول:
_ أجعلتموني متهمًا؟ لست متهمًا ولم أفعل شيئًا ولا أعرف شيئًا عن تلك المخدرات.
بدأ الضابط بسؤاله فقال:
_ أين كنت عندما تم القبض عليك؟
_ كنت في المحل.
_ وما علاقتك بالحِرز الذي عثرنا عليه وهو ثمانية عشر قطعة من مخدر الحشيش ؟
تأفأف الآخر بنفاذ صبر وقال:
_ ليست لي أي علاقة، ولا أعرف كيف وجدتموه في المحل؟ كل ما أعرفه أنه شَرك ونُصِب لي.
_ هل لديك أقوال أخرى؟
_ لا.
حينها نظر الضابط إلى الكاتب بجواره وقال:
_ أقفل المحضر في ساعته وتاريخه على أن يتم حبس المتهم خمسة عشر يوما على ذمة التحقيق.
صاح عبدالله مهللًا وهو يقول بعصبية والعسكري يسحبه للخارج:
_ قلت لا أعرف عنه شيئا، ليس لدي صلة بما عثرتم عليه..
كان الجميع ينتظرونه بالخارج ومنهم قاسم الذي بمجرد ما إن رآه عبدالله حتى باغته بلكمة قوية في أنفه جعلت الدماء تسيل منها وهو يقول كمن أصابه ضرب من الجنون:
_ هذا الحقير هو من فعلها، هذا الحقير هو المتهم الحقيقي، أنا لم أفعل شيئا.
سحبه العسكري للحجز بينما تحدث المحامي معهم بعملية قائلا:
_ سيتم حجزه خمسة عشر يوما على ذمة التحقيق ، لقد طلبت أن يخلى سبيله من سرايا النيابة بكفالة، سنرى ما يمكننا فعله، تفائلوا خيرًا.
بعد شد وجذب ومناوشات غادر المحامي وبرفقته عزيز واصطحب قاسم البقية بسيارته عائدين إلى البيت،ثم انصرف بعدها لأن موعد زيارة حبيب قد حان؛ فذهب إليها حيث كانت تنتظره وأخذها وذهبا لزيارة أبيها وهي تشعر بأنها تذهب للمجهول!
//////////
كان حبيب جالسًا وبيده صورة سارة عندما كانت طفلة في الخامسة من عمرها، يتطلع إليها بحنين وأبوة مكلومة، ثم تنهد بحرقة وهو يقرب الصورة من فمه ثم قبّلها وأخفاها أسفل وسادته من جديد.
انفرج الباب وبرز صوت حارس الزنزانة وهو يقول:
_ حبيب أبو المكارم.
نظر إليه حبيب متلهفًا وقال:
_ نعم، أنا.
_ لديك زيارة.
على الفور كان حبيب قد وقف وهو يعدّل من هيئته واتخذ سبيله نحو الخارج ركضًا حتى أنه كاد أن يتعثر ويسقط مرات عدة من فرط لهفته، فتلك أول مرة يزوره أحدًا منذ أن دخل السجن باستثناء مدير أعماله الذي يأتي في موعد محدد مرة من كل شهر، أما الآن فبالتأكيد هناك من تذكره وأتى لرؤيته.
خرج من زنزانته متجهًا إلى مكتب المأمور كما أخبره الحارس أن الزائر ينتظره هناك، فدخل وبمجرد أن رأى ابنته حتى تسمرت قدماه بالأرض وأجهش بالبكاء بشدة.
نهض المأمور وخرج من المكتب كي يسمح لهم ببعض من الخصوصية، أما قاسم فجلس وهو ينظر إليه بشفقة بالغة، ورق قلبه لحاله بعد أن رآه في حالة انهيار لم يسبق له أن رآه بها أبدا.
_ سارة! ابنتي؟
قالها حبيب متأثرًا بشدة وهو يخطو بخطىً ثقيلة صوب ابنته التي لازالت تقف بمكانها دون حراك. وفجأة قبض ذراعيه عليها وضمها لصدره بقوة وانخرط في بكاءٍ مرير.
شعرت سارة بأن الأرض تميد بها وتكاد تجزم أنها لولا ذراعي والدها اللذان يضمانها لكانت سقطت على الأرض من شدة الوهن الذي أصابها.
_سارة، حبيبتي ، ابنتي حبيبتي ، يا إلهي لا أصدق أبدا، وكأنني أحلم، لقد كنت أتأمل صورتك منذ دقائق فإذ بي أجدك أمامي! اللهم لك الحمد.
اقشعر بدنها وانتفض قلبها الصغير بين ضلوعها وهي تستمع لنحيب والدها وتشعر بدموعه تبلل كتفها، ولكن بالرغم من ذلك لم تستطع أن تبادله نفس المشاعر الجياشة التي تراها منه، لم تستطع ضمه أو التفاعل معه وهي تراه يبكي ويرتجف من شدة تأثره.
ابتعد حبيب عنها وهو يطالعها ويتفحص وجهها وتفاصيلها بدقة وهو يبتسم ويقول:
_ يا إلهي! هل مرت الأعوام سريعًا لتلك الدرجة؟ لقد كبرتِ حبيبتي ، كبرت وأصبحتِ جميلة جدًا.
رسمت ابتسامة على شفتيها وقالت بأسف:
_ أنت أيضا كبرت، لقد شاب شعرك!
مد يده وهو يمسح بها شعره ويقول بابتسامة:
_ ألا يعجبك الشيب بشعري؟ يمكنني صبغه إذا أردتِ
انفلتت منها ابتسامة وقالت:
_ والدتي هي من تقرر ذلك ولستُ أنا.
ضحك عاليًا وقال وهو يحيط وجنتيها بكفيه:
_ هل هي بخير؟ هل تضايقك؟ هل تزعجك؟
أومأت بنفي وقالت:
_ هي ليست موجودة أساسًا لتضايقني، نحن شبه منفصلتين عاطفيًا.
وضحكت وهي تعبث بشعرها بعشوائية وتقول:
_ يا إلهي!
مسح على شعرها بحنان وهو يقول:
_ لا بأس حبيبتي، سأعوضكِ عن كل ما اقتقدتِه أعدك بذلك، لقد مر ثمان سنوات ولم يتبقَ إلا القليل.
أومأت بسخرية وقالت:
_ نعم، مازال هناك سبع سنوات فقط
أومأ متأملا وقال:
_ سيمرون سريعًا لا تبتئسي.
أومأت بتأكيد وقالت بتهكم مبطن:
_ أجل، سيمرون سريعًا جدًا، ستخرج حينها وأنا شابة في ريعان شبابي أبلغ أربعة وعشرين عامًا ، ومن الممكن أن أكون قد ارتبطت حينها، ومن يدري ربما أكون قد تزوجت بالفعل وصار لدي أطفال.
ثم ضحكت وقد طفقت الدموع تسيل من عينيها وهي تقول:
_ يا للروعة، تتركني طفلة فتخرج لتجدني أصبحت أمًا ولدي أطفال.
تقوست شفتيها بطفولة وهي تبكي وترتجف فهمّ باحتضانها ولكنها وضعت كفيها أمامها كحاجز بينهما وهي تقول بضيق:
_ لو سمحت، أرجوك لا تقترب.
تعجب انفعالها المفاجئ ولكنه أمهلها الفرصة حتى تخرج كبتها وحقدها تجاهه فهو يعرف أنها امتنعت عن زيارته لأنها تحقد عليه لأنه كان سببا في حرمانها من حياة طبيعية كأي طفلة في سنها.
ولكنه تفاجأ أنها لم تعد طفلة!
_ أنا آسفة، ولكن دموعك تلك لم تؤثر بي، لم تهزني ولو بمقدار بسيط، لم أشعر بالشفقة تجاهك أبدا، وإن كان من المفترض أن يكون هناك أحدا يُشفق عليه فهو أنا!
أسقط ناظريه أرضًا وهو يهز رأسه بتأييد لكل ما تقول وهو يسمعها وقد انفجرت أخيرا وخرجت عن صمتها وهي تقول:
_ أنا من يتوجب أن يُشفق عليه، أنا من افتقدت وجود السند والأمان في حياتها في أهم أوقات حياتها وأكثرها خطورة، أنا من افتقدت للاستقرار بكل أشكاله، أنا من تعرضت للتنمر والسخرية والنبذ، أنا من خُضت سبلًا لم يكن علي أن أسلكها من الأساس. أنا الضحية وأنا من يستحق الشفقة ولست أنت.
كان قاسم يجلس دافنًا وجهه بين كفيه، يستمع لحديث سارة بحزن وهو يشعر بقلبه وقد انفطر من شدة الحزن على حال تلك الصغيرة التي عاثت بها الأيام فسادًا، ومن جهة أخرى يشعر بالشفقة الشديدة حِيال حبيب الذي كان يقف موقفًا لا يحسد عليه.
نظر حبيب إلى ابنته وعيناه تفيض بالدمع وقال:
_ أنا آسف. أعرف أن أسفي لن يغير شيئا ولكن حاليا لا أملك سواه، ولكني أعدك بعد أن تنقضي محكوميتي وأخرج من هنا سأسعى بأقصى جهدي كي أعوضكِ ولو جزءًا بسيط مما فاتك بسببي.
نظرت إليه وقد احتقنت عينيها الفيروزيتين من أثر البكاء وقالت:
_ حقا؟ هل أنت جاد؟ وكيف ستعوضني؟
أومأ بكل تأكيد وقال:
_ كما تحبين، بأي طريقة ترغبينها، سنصبح عائلة سعيدة من جديد، نسافر سويا ونلف كل بلاد العالم لو أردتِ ، حتى أنه من الممكن أن نقيم بأي بلد تفضلينه ونبدأ من جديد.
ابتسمت وهي ترفع حاجبيها باستنكار وتمط شفتيها بسخرية وتقول:
_ نبدأ؟ لقد انتهينا قبل أن نبدأ يا أبي.
نهض واقترب منها وهو يقول برجاء:
_ لا عزيزتي، لا تقولي هذا، أعدك أن نبدأ من جديد، صدقيني حبيبتي سأحاول قصارى جهدي حتى أصبح أبا تفخرين به، صدقيني سأنجح بالتأكيد.
هزت رأسها بسخرية مبطنة وهي تقول:
_ سنرى، سنرى في المستقبل البعيد للأسف، لأن سبعة أعوام لا يستهان بهم أبدا.
تنهد بضيق لرؤية ابنته وقد أصيبت باليأس قبل أن يدق الأمل بابها، ولكم مَقَت عجزه وقلة حيلته الآن أكثر من ذي قبل فقال:
_ أعدك أنني سأكون إلى جانبك كلما احتجتِني، حتى وأنا بين جدران السجن ستجديني بجوارك في كل وقت، أعدك أنني لن أخذلك ثانيةً أبدا، فقط لا تكرهيني…
قطبت جبينها باستغراب فأمسك بكفيها بين يديه وهو ينظر لعينيها مباشرةً ودموعه تسيل على خديه كشلالٍ جارف وقال:
_ أرجوكِ لا تكرهيني سارة، لا تقسي عليّ أرجوكِ، أنتِ الأمل الوحيد الذي أتمسك بحياتي لأجله فلا تحرميني ذلك الأمل ولا تكرهيني أرجوكِ.
احتضنته سارة بقوة وانفجرت ببكاء مدوّي فأخذ يربت فوق ظهرها وهو يحاول تهدأتها ويقول:
_ لا تبكِ حبيبتي، لا تبكِ يا صغيرتي، ستزول، هذه الغمة ستنقشع أثق بذلك.
ظلت متشبثة بعنقه لدقائق حتى سكنت تمامًا وهدأ قلبها، ثم ابتعدت عنه وهي تزيل آثار دمعاتها وتهندم شعرها متحاشيةً النظر بعينيه فقال:
_ ثقي أن والدك يحبك ويفتخر بكِ على أي حال تكونين عليه ويثق بكِ أكثر مما يثق بنفسه، ثقي أني أعرف أنني لا أليق أن أكون أبا لفتاة مثلك، وثقي أنني سأحاول كي أصبح ذلك الأب مهما كلفني الأمر.
أومأت بهدوء فضمها إليه أخيرًا وقال:
_ يمكنك أيضا الثقة بقاسم.
نظرت سارة لقاسم بابتسامة هادئة، بينما طالعهم هو مبتسمًا ونهض متقدمًا منهما وقال:
_ نعم، يمكنها الثقة بي عليها أن تتأكد أنني لن أخذلها أبدًا.
ربت حبيب فوق كتفه وطالعه مبتسما بامتنان وقال:
_ أشكرك كثيرا قاسم، لقد دبت في قلبي الحياة مرة أخرى يا رجل.
ابتسم قاسم وقال:
_ إن شاء الله في المرات القادمة ستكون آنسة سارة معي إن أردات ذلك.
نظر حبيب لابنته وقال:
_ أجل، إن أردتِ سأكون أكثر من سعيد.
هزت رأسها بموافقة وخرجت برفقة قاسم، بينما عاد حبيب إلى زنزانته راضيًا وهو يشعر بالراحة تغمره أخيرا.
///////////////
بعد خروجهما من السجن ركبت بجواره السيارة وانطلقا بصمت لم يقطعه أيًا منهما.
فهي كانت تشعر بتعب وإعياء شديد بعد مقابلتها مع والدها، وكأنها خرجت للتو من سباق بذلت فيه مجهودًا مضني، أغمضت عينيها وأراحت رأسها على ظهر المقعد من خلفها وهي تتذكر كل ما حدث منذ قليل.
كان قاسم ينظر إليها من فينةً لأخرى بأسف على الرغم من أنه كان يشعر براحة وسعادة كبيرة تملؤه لأنه أحرز هدفًا ظنه مستحيلا وهو أن يقنعها بزيارة والدها مما أشعرهُ بالتفاؤل والرضا وجعله يشعر أن فعلا ليس هناك مستحيلًا.
بعد قليل.. توقف بسيارته أمام البيت وقال:
_ ها قد وصلنا آنسة سارة، إذا أردتِ الذهاب لأي مكان يمكنكِ الاتصال بي.
أومأت بموافقة وقالت بهدوء:
_ شكرا لك على كل شيء.
اتسعت ابتسامته مردفًا:
_ هذا واجبي، ولا شكر على واجب.
ترجلت سارة ودخلت إلى البيت ومنه إلى غرفتها على الفور، فقامت فتون بالاتصال بقاسم وسألته عما حدث فطلب منها أن تترك سارة تستجمع شتاتها ولا تضغط عليها أبدا وطمأنها أن سارة ستسجيب ولكن مع مرور الوقت.
عاد قاسم إلى البيت بعد يوم طويل، مضني مليئ بالأحداث، دخل وأثناء صعوده السلم انفرج باب شقة عنبر فجأة واستوقفته وهي تقول:
_ قاسم، مساء الخير.
أخفى توتره ونظر أمامه بثبات مكملا طريقه وقال:
_ مساء الخير.
وقفت أمامه تمنعه من صعود الدرج وهي تنظر إليه بتفحص وتقول:
_ وددتُ أن أشكرك لأنك لم تتركنا وحدنا اليوم بالمخفر، كان هذا نبلًا منك.
أجابها بايجاز:
_ نعم أعلم، عن إذنك.
همّ بالابتعاد ولكنها وقفت أمامه مرة أخرى وهي تنظر داخل عينيه بقوة علها تستطيع أن تلقي عليه تعويذتها كما كانت تفعل سابقا وهي تقول بصوتها ذو النبرة الأنثوية المغوية:
_ وددتُ أيضا أن أعتذر لك عما فعلهُ عبدالله، لقد انفعل عليك واتهمك أنك من دبرت له ذلك ولم يكن يعلم أنك من أحضرت المحامي.
نظر كثيرا بداخل عينيها وأطال النظر وابتسم فابتسمت وهي تلمس أثر تلك الكدمة بوجهه وتقول:
_ هل تؤلم؟
أومأ مؤكدًا وقال:
_ قليلا، ولكن هل تعرفين عنبر ما هو المؤلم بحق؟
هزت رأسها بتساؤل وهي لا زالت تدور بعينيها على قسمات وجهه باشتياق فقال وهو يطبق بأنامله فوق يدها التي تتلمس بشرتها:
_ المؤلم أن أشعر بالنفور والقرف من إنسانة ظننتُ يومًا ما أنني واقع بحبها.
وأبعد يدها عن وجهه بحدة وعنف وتركها مصدومة وصعد إلى شقته.
دخلت عنبر شقتها وهي لازالت تحت تأثير الصدمة، اتجهت لغرفتها ودخلت وأغلقت خلفها الباب ثم ارتمت على فراشها وانفجرت باكية.
////////////////
_ وهل تصدق أنه لا يد له فيما حدث؟ هل جننت يا رجل؟ أم أنك هرمت وأصبحت تفكر بنصف عقل؟
نظر صالح إلى زوجته بتحذير وقال:
_ أقسم بالله إن لم تتأدبي وتحسنين أسلوبك يا صفية فلن أُبقيكِ على ذمتي يوما آخر، ما بكِ؟ أصبحتِ تتواقحين كما يحلو لكِ.
تلون وجهها بخوف ونهضت من مكانها لتجلس بجواره وهي تقول:
_ اعذرني صالح، ما حدث ليس منطقيا، نحن نعرف أن عبدالله مستحيل أن يتاجر في المخدرات ، ولو افترضنا أنه يتعاطى حتى فلن يتعاطى كل تلك الكمية، أنا متأكدة أن أحدهم هو من أوقع به في تلك المكيدة، ومتأكدة أيضا أن ذلك الشخص هو قاسم.
زفر متأففًا بنفاذ صبر وقال:
_ لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، وما الذي أكد لكِ أنه قاسم؟ هل أنتِ مكشوف عنكِ الحجاب؟
_ لا، ولكن أفكر بالعقل، مَن الذي بينه وبين عبدالله عداء غير قاسم؟ من الذي له مصلحة أن يسجن عبدالله وينتقم منه سوى قاسم؟
_ ولو كان قاسم هو من أوقع به في ذلك الشَرك كما تقولين، هل سيحضر له محامي ليدافع عنه؟
_ نعم، كي يبعد الشبهة عنه.
تنهد بقلة حيلة ولم يتحدث، هو يعلم في قرارة نفسه أنها محقة، ويعرف كل هذا قبل أن تخبره به ولكنه يحاول تشتيتها وثنيها عن تفكيرها في ذلك الأمر.
_ لمَ صمتّ؟ لا تجد ما تقوله، أليس كذلك ؟ ولكنني أجد الكثير لأقوله يا صالح، ولكني لن أتحدث الآن، في الوقت المناسب سأذكرك، سأقول لك أرأيت؟ هذا ما أخبرتك به ولم تصدقني، وسيحدث قريبا، قريبا جدا يا صالح.
رآها تستعد للخروج فقال:
_ إلى أين؟
_ سأذهب للمبيت برفقة عنبر، لقد أوصاني عبدالله ألا أتركها تبيت وحدها، لأننا أصبحنا نعيش في غابة تملؤها الذئاب!
//////////////
في تلك اللحظة أسرعت حياة إلى غرفتها بعد أن كانت تمر بغرفة والديها قاصدةً المطبخ ولكنها توقفت عندما استمعت إليهم يذكران قاسم ووقفت تتنصت إلى حوارهما.
دخلت غرفتها وهي لا تزال على صدمتها وتردد بغير تصديق:
_ قاسم! قاسم هو من نصب لعبدالله ذلك الشَرك؟ لذلك قام عبدالله بلكمهُ؟ معنى ذلك أن عبدالله كان له يد في سجن قاسم أيضا! لذلك سعى للانتقام منه، ولكن.. ولكن المحامي جاء عن طريق قاسم! هل فعل ذلك لإبعاد الشبهة كما قالت أمي؟ يا إلهي رأسي سينفجر! هيا يا حياة توقفي عن التفكير، لا بد أن أذهب لأختي وأمي وألتهي معهما بدلا من الجلوس هنا والتفكير في همومي وهموم الجيران.
وضعت شالا على كتفيها وخرجت قاصدة شقة أختها وبعد أن نزلت درجتين عادت أدراجها وهي تنظر للأعلى وقالت:
_ ماذا سيحدث إن صعدت وسألته؟ ماذا سيفعل؟ بالتأكيد لن يفعل شيئا.
ركضت فوق السلم بخفة حتى توقفت أمام شقة قاسم، ثم سمت بسم الله وطرقت الباب طرقتين، دقائق طويلة حتى انفرج الباب وظهر قاسم بهيئته الناعسة وشعره المشعث، ابتسمت وقالت:
_ مساء الخير قاسم.
صفق قاسم الباب أمامها بقوة مما أجفلها وجعلها تتراجع خطوتين للوراء وهي تحدث نفسها وتقول:
_ ما قلة الذوق هذة؟
عادت تطرق الباب مرة أخرى بإصرار أكبر ففتح قاسم الباب وهو ينظر إليها بعينين غاضبتين فدخلت وهي تقول:
_ هل أنت قليل الذوق؟ كيف تصفق الباب بوجه ابنة عمك بتلك الفظاظة؟
مسح وجهه بغضب وقال:
_ ماذا هناك الليلة آنسة حياة؟ بالأمس جئتِ لتتهميني أنني مصاب باضطراب الميل للأطفال، واليوم مصاب باضطراب الميل للضفادع أم ماذا؟
ضحكت وقالت:
_ لا ليس كذلك، جئت لأسألك عما إذا كان لك يد في سجن عبدالله أم لا؟
زفر بضيق وهو يمسح وجهه ويقول:
_ يا صبر.
وقفت أمامه ولمعت عينيها برجاء وهي تقول:
_ قاسم ، لقد أخبرتك سابقا أنك لن تسقط من نظري مهما فعلت، فقط أخبرني بالحقيقة أرجوك. هل أنت من تسببت في دخول عبدالله السجن ؟
_ نعم أنا.
جحظت عيناها بصدمة ولكنها لم تكن لتتراجع فقالت:
_ ولمَ فعلت ذلك؟
_ لأنه تسبب في دخولي السجن قبل عشر سنوات.
خفق قلبها بشدة وقالت :
_ ولكنك لفقت موضوع المخدرات، هذا ظلمًا!
_ وهو أيضا لفق لي تهمًا أكثر بشاعة، أليس هذا ظلما؟
نظرت أرضا فهدر بها قائلا:
_ تكلمي، أليس ظلمًا؟
انتفضت إثر صرخته وقالت:
_ بلى، ظلم.
_ حسنًا، والمساواة في الظلم عدل آنسة حياة.
تنهدت بضعف وسألته بلهجة مترددة:
_ هل عنبر طرفًا في ما حدث؟
عند سماع اسمها اضطربت مشاعره وهوى بجسده على المقعد من خلفه وأسند جبهته على قبضته وهو يقول:
_ نعم.
جثت أمامه وهو يجلس صامتًا بحزن وأمسكت بيده وهي تقول بخوف مما سيخبرها به:
_ ماذا فعلت؟ علامَ أجبروها؟
أغمض عينيه وهو يضم قبضتيه بقوة ويضرب بهما فوق ذراعي المقعد وقال بنبرة مرتجفة:
_ فعلت أسوأ شيء على الإطلاق ، اتهمتني أني اغتصبتها.
شهقت حياة بصدمة ووضعت يدها فوق فمها الفاغر وهي تتطلع نحوه بذهول بينما استطرد هو وهو يزيل تلك العَبرات التي تسيل على جانبي خديه بقهر:
_ كنا نستعد لزواجنا، لم يكن متبقي على موعد زفافنا سوى أسبوعين، عبدالله كان مهووسًا بعشق عنبر، كان يحبها واعترف لي بذلك ذات مرة وهو ثمل، ظننته ثملًا ويهذي بأي خرافات، لم أتوقع أن يكون ما أخبرني به حقيقة، وفي اليوم الذي كنا سنعقد قراننا فيه قام عبدالله بخطف عنبر واغتصابها.
تجمدت الدماء بعروقها وشحب وجهها، توسعت حدقتيها وأخذت تلهث بشدة وهي تحاول استيعاب ما تفوه به، بينما هو كان ساكنًا، لا يزال مغمضًا عينيه ودموعه تسيل وهو يسترجع ما حدث وكأنه مشهدا يتجسد أمامه الآن وقال:
_ بعد أن فعل فعلته لاذ بالفرار كأي مجرم حقير، بحثت عنه حتى أزهق روحه وأجعله يتمنى الموت بعد أن أذيقه من العذاب ألوانا ولكني لم أجده، كنت على وشك الجنون! لم أجد أمامي ما يطفيء تلك النيران المستعرة بقلبي سوى أن أشعل النار بالمحل الخاص به، كان يملك محلا لبيع الملابس حينها.. أضرمت النيران به، ولم أكن أعلم أن عشيقته تختبئ بالداخل.
تتوالى الصدمات وهي لا زالت تجلس أمامه كالمغيبه وتستمع إليه وكأنه يسرد تفاصيل فيلما خياليا لا يمت للواقع بِصلة!
_ كان على علاقة بشابة وقتها، وما اتضح أنهما كانا يلتقيان بالمحل ولسببٍ ما غفت بالمحل ليلتها على أن تغادر قبيل الصباح لكي لا يراها أحدًا.
مسح وجهه بكفيه وتنهد ثم قال بحسرة:
_ وبدلا من أن أنتقم لشرفي الذي انتهك بخسة وجدت نفسي وقد أصبحتُ قاتلا ووجدت نفسي في ليلة وضحاها بين أربع جدران في غرفة مظلمة لا يتسرب إليها سوى ضوء النافذة الصغيرة.
أطبقت حياة بكفها فوق يد قاسم بشفقة وهي تبكي بحرقة وتستمع إليه وهو يسهب في سرد ما حدث تلك الليلة المشؤومة ويقول:
_ عندما علم أنه تم القبض علي، ظهر فجأة وهدد والدتك أنها إن لم تقنع عنبر بالذهاب وتحرير محضر بواقعة الاغتصاب وتوجيه الاتهام نحوي سيقوم بقلب الحقائق واتهامها أنها كانت على علاقة بي وأنه من اكتشف أمرنا وهددنا أنه سيقوم بفضحنا لذلك قمت بحرق المحل ظنًا مني أنه بالداخل رغبةً مني في إخفاء الأمر.
وتابع قائلا:
_ أقنعها أنني سأسجن لا محالة، حتى وإن لم تتهمني عنبر أني اغتصبتها، سأسجن على ذمة قضية قتل الفتاة حتى ولو بالخطأ، وستبقى عنبر في انتظاري ولن تنال سوى الفضيحة، وبالطبع لن يتقدم أحد للزواج منها بعد أن يتدنس شرفها بعد أن يخبر الجميع عن علاقتها بي، أما إذا ذهبت واتهمتني باغتصابها وساعدت في زيادة عدد سنين سجني سيتزوجها هو ويكون قد أنقذ شرفها من أن تناله الألسن.
واستطرد بامتعاض:
_ ورضخت والدتك لتهديداته بكل بساطة وأقنعت عنبر، وبينما والدك غارقا في همومه أخذتها وذهبت للمشفى وقامت بالفحص الذي أثبت تعرضها للاغتصاب فعلا وبعدها اتهمتني أني من قمت بذلك. ولم يكفهم ما فعلوه، بل كانوا من الخسة والحقارة بحيث أجبر شقيقه أن يساوم حنان على زواجه منها إن لم تشهد أنها رأتني وأنا أستدرج عنبر إلى شقتي وأنها سمعت صراخها واستغاثاتها فقامت بإبلاغ والديكِ بحيث تظهر وكأنها ضحية تم الاعتداء عليها فعلا.
بكت، بكت بقهر لأجله، بكت بقلة حيلة وعجز، وظلت جالسة تضم ركبتيها إليها وتشهق بين بكائها وهي تستمع لكم الظلم والقهر الذي تعرض إليه على يد عائلته.
الآن، والآن فقط أدركت لمَ يستفزه لقب عائلة! ولمَ يستفزه وهم العائلة الذي يملؤها كما أخبرها سابقًا.
لأنها ليست عائلة، بل مجموعة ذئاب بشرية خسيسة تفتقر كل شيء يمت للإنسانية بِصلة.
نظر إليها مبتسمًا بحزن وهو يقول بدموع مقهورة لأول مرة تراها:
_ لا تحقدي على حنان أرجوكِ، كانت مراهقة طائشة في السابعة عشر من عمرها، لم تعِ وقتها حجم الكارثه التي فعلتها.
وأخذ يبكي بقوة ويشهق بأسى وهو يردد بهيستيرية:
_ نعم،كانت طفلة، كانت تجري خلف وهم زائف اسمه الحب، كانت طفلة بريئة تمكن منها الشيطان وشقيقه وساوموها على قلبها، صغيرتي كانت طفلة لم تتعمد إيذائي.
نهضت حياة واقتربت منه واحتضنته بقوة فضمها إليه وهو يبكي مقهورًا ودفن رأسه في عنقها وبكى بشدة، بكى بعد أن انبجست جروحه مجددا وانفطر قلبه من فرط القسوة التي نالها على أيديهم.
كانت حياة متشبثة به وهي تبكي بقوة، تضمه بقوة وهي تتمنى لو أنها تأخذ بعضا من آلامه ويتشاركاها سويًا، تتمنى لو أنها تستطيع مواساته ومؤازرته، أما هو فشعر بسكينة لم يشعر بها من قبل، سكينة أثلجت قلبه المحترق.
بعد ثوانٍ أبعدها عنه وهو يحاول رسم ابتسامة مزيفة على شفتيه وهو يمسح دمعاتها بأنامله ويقول:
_ هيا يا صغيرة، لقد تحدثت أكثر مما ينبغي وسرقنا الوقت، أرجو أن تستطيعي العودة لفراشك قبل أن يلاحظ أحدا غيابك، هيا انهضي.
وقف عن مقعده وأمسك بكتفيها وهو يساعدها كي تنهض وقال:
_ هيا واحترسي لئلا تنزلق قدماكِ فتسقطين على رأسك وتصابي بفقدان ذاكرة ينسيكِ أني أسكن معكم بنفس البيت حتى لا تترددي على شقتي في أنصاف الليالي كلما خطر لكِ.
ابتسمت من بين دمعاتها وأومأت بموافقة وتحركت خطوتين للأمام ثم عادت تنظر إليه وتقول:
_ قاسم، يمكنك الثقة بي.
_ أعرف ذلك.
ابتسمت وأكملت طريقها وهمت بفتح الباب ولكنه استوقفها قائلا:
_ حياة..
نظرت إليه بانتباه فقال:
_ شكرا لكِ.
______________
ملحوظة: يوجد تفاصيل بخصوص واقعة الاغتصاب لم يكن منطقيا ذكرها على لسان قاسم وسيتم ذكرها على لسان عنبر لاحقا.
يتبع…
حب_في_الدقيقة_التسعين!
•تابع الفصل التالي "حب في الدقيقة 90" اضغط على اسم الرواية