رواية حب في الدقيقة 90 الفصل الحادي عشر 11 - بقلم نعمة حسن
_ ١١ _
~ جعلوني مجرمة! ~
______________
وصل للتو أمام مدخل الفيلا فقام للاتصال بها وأخبرها أنه سيدخل للاطمئنان على حال والدتها ريثما تستعد..
دخل فاستقبلته الخادمة ورافقته للصالون ، ثم ذهبت لإخبار السيدة فتون.
جلس قاسم يتأمل صورة حبيب المعلقة على الحائط أمامه وابتسم فدخلت فتون في تلك اللحظة وهي تقول:
_ مرحبا أيها الوسيم.
تنحنح بحرج ووقف بتهذيب وقال:
_ مساء الخير سيدة فتون، جئت لأطمن على حالكما وأرى إذا ما كنتِ تحتاجين لشيء.
جلست وأشارت له بالجلوس، ثم وضعت قدمًا فوق الأخرى فانحسر ثوبها أكثر وظهر جزءًا لا بأس به من فخذيها إثر وضعية جلوسها الغير متحفظة مما أشعر قاسم بالضيق والحرج في آن واحد وهمس مستغفرا ثم قال وهو ينظر بعيدا:
_ اتصلت بي آنسة سارة لأنها تريد الذهاب لصديقتها ورأيت أنه سيكون من غير اللائق أن أكون بالجوار ولا أطمئن عليكِ.
ابتسمت بتألق وقالت:
_ شكرا لك قاسم، أقدر ذلك كثيرا، أنا عن نفسي لا أحتاج شيئا، وقتي يمضي بين النادي وصالون التجميل وزيارة رفاقي، لا أحتاج شيئا.. سارة هي من تحتاجك.
أومأ بهدوء وقال:
ولكنها في المقام الأول تحتاجك سيدتي..
_ أعلم ذلك، ولكني حاولت معها وباءت كل المحاولات بالفشل، هي ترفضني وترفض الاعتراف بي كأم.. ماذا سأفعل؟
_ وكانت ترفض والدها أيضا! ولكنها استجابت لمشاعرها وحاجتها له في النهاية وقابلته، حسنا .. أنا لا أقول أنها قد سامحته أو استقرت علاقتهما ولكنها تحاول وأنا واثق أنها ستنجح .. كذلك علاقتك بها، هي تحتاجك لا شك في ذلك.. ولكنها لا ترى إصرارك في التقرب إليها .. لذلك هي ترفضك لأنها تريد أن تشعر بأنكِ تحتاجين إليها أكثر مما تحتاجك هي، حتى وإن كان العكس صحيحًا.
وكعادتها على الفور عندما تصاب بالتوتر وتشعل سيجارة تقوم بتدخينها فورا ثم قالت بإيجاز:
_ حسنا، أعدك أنني سأحاول مجددا.
نهض واقفا وقال:
_ ممتاز، أثق بحضرتك كثيرا.. عن إذنك.
وخرج تتبعه سارة التي ابتسمت وقالت بحرج:
_ مساء الخير.
_ مساء النور آنستي.
ركب بمقعده فجاورته فنظر إليها وقال:
_ هل صديقتك چاسي تلك التي ذهبتِ إليها سابقًا؟
رمشت بعينيها مرتين كعادة ملازمة لها عندما تكذب وأجابت :
_ أجل.
أومأ بهدوء فقالت:
_ صراحةً كان بإمكاني أن أطلب من حسين أن يوصلني، لكني أردت أن أتحدث معك قليلا
_ وأنا سعيد بذلك جدا، تفضلي كلي آذانٌ صاغية.
ابتسمت بحرج وقالت:
_ كنت أود أن أطلب منك أن تحدثني عنه.
تصنع التعجب وقال:
_ تقصدين من؟
ترددت وقالت بخفوت:
_ أقصد والدي.
أومأ بابتسامة وقال:
_ ولكن الحديث عن والدك قد يطول وقد تفوتين موعد صديقتك.
_ حسنا، لا بأس.
أومأ موافقا وقال:
_ إذا ما رأيك أن نذهب لمكانٍ ما ونشرب شيئا ونتحدث كما يحلو لكِ.
أومأت بموافقة وقالت:
_ حسنا.
انطلق في طريقه نحو مقهى يعرفه، في تلك الأثناء رن هاتف سارة. تجاهلت المكالمة مرتين ولكنها أجابت في المرة الثالثة وقالت:
_ نعم.. سأتأخر قليلا، لا حتمًا سآتي ولكن لدي موعدا طارئا الآن لذا سأتأخر قليلا .. حسنا. مع السلامة.
أنهت المكالمة وفعّلت الوضع الصامت، ثم وضعت الهاتف بحقيبتها فقال قاسم:
_ إن كانت صديقتك تستعجلك يمكننا أن نأجل حديثنا لمرة أخرى.
_ لا لا، ليس مهما بهذا القدر.
_ حسنا.
بعد دقائق توقف بسيارته أمام المقهى ونزلا متجهان للداخل، جلسا حول طاولةً نائية ثم قال:
_ ماذا تشربين؟
_ قهوة.
قطب جبينه متعجبا وقال:
_ ألستِ صغيرة قليلا لتعتادين شرب القهوة؟
تنهدت بابتسامة وقالت:
_ لقد اعتدت أشياء كثيرة لا تليق بعمري أبدا.
_ حسنا، ولكن الإفراط في تناول القهوة قد يصيبك بالإرهاق والتوتر ويجعلكِ أكثر عصبية ويسبب لك الأرق كذلك.. ما رأيك أن نستبدلها بعصير مثلا؟
ابتسمت وقالت:
_ ممكن..
_ عصير مانجو؟
أومأت بابتسامة وقالت:
_ وهو كذلك.
طلب كوبين من عصير المانجو، ثم بدأ بالحديث قائلا:
_ في يومي الأول في السجن، دخلت الزنزانة وأنا أتطلع حولي برهبة،كنت فتى أبلغ حوالي الواحد والعشرين عاما، كنت من سوء حظي أصغر سجين بين سجناء الزنزانة، وكعادة أي زنزانة يكون بها مجموعة من المجرمين العتاة، تلك المجموعة لها زعيمًا واحدًا، فيقوم زعيمهم بضرب النزيل الجديد وإهانته كي يخضعه لسلطته وسيطرته من أول يوم .. وبهذا لا يجرؤ أي نزيل بالزنزانة على تجاهل مطالبه، أو الاساءة إليه بأي شكل.
ثم حك أنفه وأضاف مبتسما وقال:
_ بالمناسبة، يسمون هذا احتفالا بالنزيل الجديد.
وتنهد ثم أضاف بأسلوبه الساخر:
_ في الحقيقة استقبلوني استقبالًا بارعًا، واحتفلوا بي احتفالًا مشرفًا للغاية لدرجة أني فقدت وعيي.. بعد أن استعدت وعيي بعد مدة لا أعلمها أخذتني الحمية ونفرت عروقي بغضب وأردت أن أنتقم لكرامتي المهدورة، فوقفت أمام زعيمهم هذا بكل جرأة وبصقت بوجهه.
ابتسمت سارة بإعجاب وحماس فضحك قائلا:
_ لا تتحمسي بشدة، ما حدث لم يكن لطيفا أبدا، قام أحد أفراد تلك المجموعة بطعني بجانبي على الفور وسقطت فاقدا وعيي للمرة الثانية.
تقوس حاجباها بحزن وتأثر بينما استطرد الآخر قائلا:
_ على الفور نقلوني لمشفى السجن وبعد يومين قاموا بنقلي من تلك الزنزانة لزنزانة أخرى. تلك الزنزانة هي جنة السجن كما كنت ألقبها، أتعرفين سبب تسميتي لها بذلك الاسم؟
أومأت باستفهام فقال مبتسما:
_ لأن بها السيد حبيب، والدك.
تفاجئت بشدة، وتحمست أكثر فقالت:
_ سيد حبيب كان من أنبل وأطيب الشخصيات بالسجن، انتقلت إلى تلك الزنزانة وأنا بحالة سيئة، كنت أصاب بالكوابيس دائما، لا أنام نومةً هنيئة أبدا، تارة أهذي وتارة أصرخ وتارة أنتفض، كنت أتصبب عرقا من شدة إجهادي وقلقي والكوابيس التي تلاحقني، وفي ذلك الحين والدك هو من كان يجلس بجواري يراقبني باهتمام ويزيل عن جبهتي العرق.
وصمت للحظات حتى يتبين انطباعها فوجدها صامتةً بوجه متجرد من الانفعالات فاستكمل قائلاً:
_ شعرت أنه أبي، أذكر أنه في إحدى المرات التي كنت فيها أصارع كابوسا جاء إلي صوت والدي يواسيني ويحاول إنقاذي، وعندما استيقظت وجدت والدكِ يجلس بجواري ويربت على يدي بحنوٍ بالغ.
قضيت أيامًا بائسةً وأنا أحاول التأقلم ولكني كنت أفشل دائما، كنت أعاني من صدمة، صدمة شديدة جعلتني أمتنع عن الطعام والشراب لأيام، فقط كنت أصلي وأناجي ربي كي يظهر لي أي بصيص أمل يساعدني ، أن تظهر الحقيقة وأغادر ذلك السجن اللعين، وفجأة بلغني خبر وفاة أمي، أظلمت الحياة بعيناي، ازداد قلبي سوادا وازددتُ حقدا وغضبًا، لولا سيد حبيب هو من كان يدعمني وقتها ويهون عليّ مشقات السجن.
ومع مرور الوقت أصبحنا رفيقين وتوطدت علاقتنا جدا ووثق بي لدرجة أنه أطلعني على أدق أسراره وكذلك بُحت له بأسراري وكان هو دومًا ناصحًا أمينًا، تستطيعين أن تقولي أننا وجدنا ضالتنا في بعضنا البعض، هو كان يفتقد وجود شخص يثق به ويعامله كإبن له، وأنا كنت أفتقد وجود شخص يدعمني ويصدقني. لذلك كان الجميع يعرفون أنني تحت حمايته ولم يقدر أيا من كان على إيذائي أو إزعاجي.
وصمت فقالت هي باستنتاج:
_ لذلك طلب منك أن ترعاني أنا ووالدتي حتى يخرج من السجن، أليس كذلك؟
أجاب ببساطة:
_ أجل، وثق بي وكلفني أن أكون بجواركما، وخاصةً أنتِ لأنه كان ولازال يشعر بالقلق تجاهك والخوف من أن تقابلين المتاعب في ظل غياب شخص أمين يقوم بمساندتكِ ودعمك.
ابتسمت بتوتر وقالت:
_ هل كان يحدثك عني؟
أومأ موافقا وقال:
_ طبعا، أغلب حديثه كان عنكِ وعن طفولتك اللذيذة والتي كانت تهون عليه غيابك، كانت لديه صورة لكِ وأنتِ في عمر السابعة تقريبا، كنتِ تبدين كالجنية الشقراء.
ابتسمت فابتسم بدورهِ وقال:
_ لطالما كانت صورتك هي مؤنسته بوحدته ووحشته، كان ينتظر زيارتك في كل يوم ، وعندما يمضي اليوم ولا تأتين كان يتجدد أمله في اليوم التالي، كان يحتفل بعيد ميلادك كل عام بالسجن
نظرت إليه سارة بدهشة واغرورقت عيناها بالدموع ولكنها تماسكت بالنهاية وظلت تستمع إليه وهو يقول:
_ ومع كل عيد ميلاد كان يأمل أن تقومي بزيارته، كان يقول لقد كبرت الآن وحتما ستأتي لمواجهتي إن لم يكن لرؤيتي، ولكن ظنه كان يخيب في كل مرة، يئس وفقد الأمل واكتئب لدرجة أنه تجاهل دواء السكر بمرة كي يصاب بأزمة سكر ويفقد حياته على إثرها.
أطرقت برأسها أرضًا بأسف فقال:
_ والدك يحبك جدا سارة، هو لا يستحق النبذ أو الكره أبدا.
شردت بعيدا فقال:
_ لا تقسِ عليه، هو يحتاجك وأنتِ تحتاجينه كذلك.
سالت دموعها على جانبي خديها فشعرت بالتوتر بشدة ونهضت من مكانها وقالت:
_ سأذهب للحمام.
هربت من أمامه فورا واتجهت للحمام كي تنفجر به بعد أن قاومت البكاء لفترة طويلة.
بعد دقائق عادت فنهض وغادرا متجهان نحو السيارة، رن هاتفها مرة أخرى فأجابت وهي تقول:
_ نعم ، أنا آسفة لن أستطيع المجيء اليوم.
في تلك اللحظة رن هاتف قاسم برقم غير مسجل…….
/////////////////
قبل قليل…
دخلت حياة الشقة وهي لازالت تتمتم بحنق:
_ تملك شقة بحي راقي وسيارة فخمة ولا تملك القليل من الذوق حتى.
انتزعها من شرودها صوت والدها الذي قال بحدة:
_ أين كنتِ حياة؟
انتفضت إثر حدته وقالت بأحرف متقطعة:
_ شـ.. شعرتُ بالضيق قليلا فذهبت أتمشى قليلا أبي.
_ ولمَ لم تخبريني أو تخبري أمك؟
_ صراحةً أبي، كنت غاضبة بشدة ولم أعِ ما أفعله.
هز رأسه باقتضاب ودخل غرفته ومنها إلى الشرفة، فذهبت إليه ووقفت بجواره وقالت:
_ في الحقيقة أبي لقد ساقتني قدماي إلى قاسم.
نظر إليها بتعجب فقالت:
_ ذهبت إليه المعرض. تحدثنا قليلا وقام بتوصيلي إلى هنا وغادر لأنه لديه موعدا مهما.
_ ولمَ ذهبتِ؟
_ لا أعرف، لم أكن أنوي الذهاب إليه ولكن فجأة وجدتني أقف أمام المعرض.
تنهد قائلا:
_ لا تعيديها ثانيةً يا حياة.
_ لمَ؟ ألا تثق بقاسم؟
_ بلى، أثق به كثيرا، وأثق بابنتي كذلك، أعرف أنكِ تشعرين بالأخوة نحوه وهو كذلك أيضا، ولكن تجنبًا للشبهات.
هزت رأسها بموافقة وقالت:
_ حسنا أبي، أعدك ألا أذهب إليه دون أن أخبرك ثانيةً.
ضحك وقال:
_ لن تتغيري أبدا، تراوغين حتى تصلين إلى هدفك.
ضحكت وحضنته وهي تقول:
_ أحبك كثيرا أبي.
__________
في تلك اللحظة كانت عنبر تقف عند الباب تستمع لحديثهما بغيظٍ وقهر، ثم عادت إلى الغرفة وهي تتحدث إلى نفسها وتقول:
_ لو كنت أنا من فعلتها كانوا أقاموا قيامتي في الحال، ولكنها الآنسة حياة تتصرف كما يحلو لها.
/////////////////
عادت عنبر إلى غرفة الصالون حيث أقامت بعد أن أصبحت عنبر تقيم بغرفتها، دخلت وجلست بمفردها وهي تتحدث لنفسها وتقول:
_ ترى ماذا تفعل أنت والشقراء الآن يا ابن عمي، بالتأكيد يتحدثان ويمرحان، ومن يدري ربما يقومان باختيار ألوان طلاء جدران شقتهما الآن!
عضت على أصابعها من فرط الغيظ وأخذت تضرب جبهتها بِغل وهي تقول:
_ وما شأنك يا متطفلة؟ لمَ تهتمين بهما بذلك القدر؟
جلست تتململ بنفاذ صبر ثم أمسكت بهاتفها وهي تقول:
_ لا أستطيع الصبر أكثر، حقا لا أستطيع، علي أن أتصل به حالا.
فتحت حقيبتها وأخرجت منها البطاقة الخاصة بالمعرض ونقلت منها رقم هاتف قاسم إلى هاتفها، ثم قامت بالاتصال به.
//////////////////
في تلك اللحظة رن هاتف قاسم برقم غير مسجل فأجاب على الفور وقال:
_ مرحبا.
_ مرحبا قاسم.
_ من أنتِ ؟
_ ألا تعرف صوتي؟
_ لو كنت أعرف لمَ سألت إذا.
احمرت أذنيها بحرج وقالت:
_ أنا حياة.
هز رأسه بيأس وقال:
_ نعم حياة، هل اشتقتِ إلي أم ماذا؟
شعرت بحرج أكبر وهي تقول:
_ لا، ليس كذلك، ولكن..
وصمتت تحاول صياغة إجابتها ولكنها لم تجد ما تقوله وتلعثمت وطارت الأحرف من على شفتيها ، بينما كان هو ينتظر ردها بفارغ الصبر ويقول:
_ نعم ولكن ماذا؟ أكملي …
_ ولكن…
_ نعم، ولكن ماذا حياة؟ أرجوكِ لا تفقدي الذاكرة الآن؟
ثم هدر بها فجأة بصوتٍ أفزعها:
_ ولكن ماذا تكلمـــي!!!
_ صراحةً لقد اتصلت لأعرف ماذا تفعل أنت والشقراء الآن!
ألقت كلماتها دفعةً واحدة فقضم شفتيه بغيظ وهو يقول ببطء:
_ تعرفين لو أنكِ أمامي الآن؟ لوضعتكِ بزاويةٍ ما وتففتُ عليكِ ذهابا وإيابا حتى تموتين غرقًا..
وأنهى المكالمة ونظر إلى سارة بابتسامة مهذبة وقال:
_ عذرا، كانت إحدى المتطفلات فقط..
ابتسمت سارة وقالت:
_ هل هي حبيبتك؟
حملق بها وهو ينفي بقوة وكأنها ألقت عليه تهمة ما:
_ لا، لا أبدا، هي ليست كذلك أبدا.. لا لا إنها فقط ابنة عمي.
هزت رأسها وصمتت وهو يردد لنفسه:
_ يا إلهي، مجرد التخيل يصيبني بأزمة قلبية.
_ أرى أنه من الأفضل أن أعود للمنزل، سأذهب لچاسي في وقت لاحق.
ابتسم قائلا:
_ حسنا، كما تريدين، وفي أي وقت تحتاجين الذهاب لأي مكان بإمكانك الاتصال بي.
ابتسمت وقالت:
_ شكرًا لك.
توقف أمام بيتها فنزلت بعد أن أهدته ابتسامة ممتنة وغادرت، فعاد هو متجها نحو الشقة التي أهداها له سيد حبيب.
////////////////
دخل قاسم ولأول مرة تطأ قدماه أرض تلك الشقة، أخذ يتطلع حوله ولن ينكر أنه كان مصدومًا من فرط إعجابه .
كانت شقة واسعة جدا، تشمل مجمل الدور الثالث، مساحتها مائتين متر وشرفة تمتد بطولها.
مدخل الشقة يثير الدهشة من خلال براعة تصميمه، فكل عنصر به يتمتع بأصالة موصوفة، فالأرضية «الباركيه» من الخشب الهنغاري الشهير، الزرابي بيضاوية الشكل تمنح المكان لمسةً من الفخامة، وثريات من الكريستال بيضاوية الشكل تحاكي الزرابي تحتها، ويقود هذا المدخل الى صالتين، واحدة للاستقبال، والثانية جلسة خاصة لمشاهدة التلفاز، وهو ينفتح أيضاً على غرفتي نوم، وبالطبع على صالة الطعام والمطبخ... ولعل ما يميز هذه الغرف كلها هو اتصالها المباشر بالشرفة التي تطل على البحر مباشرةً.
كانت شقة فخمة للغاية تتميز بموقع مركزي وإطلالات أكثر من ممتعة، مجهزة ومؤثثة بالكامل بأثاث عصري ولطيف، وألوان مشرقة تضفي جوا من البهجة والراحة النفسية.
أخذ قاسم يدور حول نفسه بذهول وهو يردد:
_ هل هذة شقة أم صالة مناسبات؟!! يا إلهي من الممكن أن أكون قد أخطأت العنوان! أو يكون سيد أكثم وصف لي عنوان شقة أخرى!
وأمسك هاتفه واتصل على أكثم الذي أجابه باهتمام:
_ نعم قاسم، هل وصلت ؟
_ في الحقيقة نعم، ولكن أشعر أنك أخطأت العنوان، يعني .. أقصد أن من الممكن أن يكون سيد حبيب كان يقصد شقة أخرى.
ضحك أكثم قائلا:
_ لا لم أخطئ العنوان قاسم، سيد حبيب لا يملك سوى هذة الشقة والفيلا.. في الحقيقة هو لم يرَ تلك الشقة، أنا من اشتريتها وجهزتها بناء على طلب منه، كان قد قرر شراؤها وإهداؤها لسارة عندما تتزوج كهدية زواجها، ولكنه طلب أن تكون تلك الشقة لك ، وطلب مني تأجيل شقة سارة فيما بعد.
كان قاسم لا يزال صامتا بصدمة ، وهو يبحث عن كلمات يعبر بها عن امتنانه ولكنه لا يجد فقال أكثم:
_ قاسم، هل تسمعني؟
_ أسمعك سيدي، ولكن.. أنا لم أظن أن الشقة ستكون بتلك الفخامة، وأكيد هي بمبلغ وقدره.. لذلك اعذرني لن أستطيع قبولها..
_ الأمر انتهى منذ أن طلب مني سيد حبيب ذلك، الشقة الآن مسجلة باسمك في الشهر العقاري ولك حرية التصرف فيها.
مسح قاسم جبهته ومقدمة رأسه بحيرة وقال:
_ صراحةً لا أجدُ ما أقوله، شكرا لكما.
_ أنت تستحق أكثر من ذلك قاسم، هيا تصبح على خير.
أنهى الاتصال وظل يتفحص المكان بإعجاب ويستكشف كل ركن به، ثم دخل الشرفة ليستقبل هواء البحر ورائحة اليود بصدرٍ رحب.
في صباح اليوم التالي..
نهض متكاسلا وهو يتطلع حوله بتعجب استغرق ثوانٍ حتى استوعب أنه بشقته الجديدة، فنهض متجها للحمام واستعد سريعًا ثم غادر متجهًا إلى المعرض.
////////////////
استيقظت عنبر مبكرا قبل الجميع، وقفت أمام المرآة وطالعت مظهرها برضا وخرجت متجهة صوب معرض قاسم.
بعد حوالي نصف ساعة وقفت أمام المدخل المؤدي للمعرض وعدلت هندامها بتوتر، ثم دخلت وهي تحاول رسم الثبات على وجهها وملامحها المرتبكة.
اقتربت من مكتب قاسم فوجدته يجلس بهيئته الخاطفة يتابع شيئا ما باهتمام؛ مما زاد توترها أكثر.
انتبه قاسم إلى صوت خطواتها فنظر أمامه كي يرى القادم فإذ به يراها تقف أمامه بثباتها المزعوم وهي تقول:
_ صباح الخير.
طالعها وهو لا يزال جالسا وقال:
_ ومن أين سيأتي الخير؟ ما الذي أتى بكِ إلى هنا؟
_ جئت لأطمئن عليك، مهما حدث بيننا سنظل من دم واحد.
_ تطمئنين علي أم ترميني بتهمة أخرى؟ هيا اذهبي حالا وإلا سأتصل بوالدك وأخبره أنكِ هنا.
اقتربت منه وهي تقول بحقد:
_ ولمَ لم تتصل به أمس وتخبره أن حياة كانت هنا؟ هل حياة فقط هي من يسمح لها بزيارتك؟
هب واقفا وقد أشهر سبابته بوجهها بتحذير وقال:
_ إياكِ والتلميح لأي شيء مشين قد يمس حياة.
اشتعلت عيناها بغضب وقالت بغيرة عمياء:
_ حقا؟ ولمَ تدافع عنها بهذا الشكل ؟
_ لأنها تستحق، إنسانة بريئة نقية تستحق أن أدافع عنها بكل استماتة.
استدارت حول مكتبه ووقفت أمامه مباشرةً وقالت بصوتٍ باكٍ:
_ وأنا كنت بريئة قاسم، هم من جعلوني مجرمة، عبدالله وأمي هم من أجبروني على اتهامك.
ابتسم ساخرا وقال:
_ فعلا خيرا والله. وإلا كنت سأظل موهومًا بأنكِ ملاكي البرئ.
ونظر إلى عينيها بقوة وقال:
_ كنت سأتزوج امرأة خائنة، تذهب وتعرض نفسها على رجل آخر في أول فرصة.
سالت دموعها وهي تقول:
_ ولكنني لم أعرض نفسي على رجل عرفته للتو بالشارع! أنا فعلت ذلك لأني أحبك!
نظر إليها بدهشة وقال:
_ حقا تحبيني؟ يا إلهي سيتوقف قلبي من شدة المفاجأة! ينتابني الفضول حول شيء يا مدام عنبر،متى عرفتِ أنكِ تحبيني؟ عندما ذهبتِ واتهمتيني بكل بساطة أني اغتصبتك وأنا لم أعانقك ذات يوم! أم عندما وقفتِ أمامي بالمحكمة وقلتِ نعم اغتصبني وأنتِ تنظرين بعيني بكل وقاحة؟ أم عندما اتهمتيني أمام والدكِ أني من أطاردك وأركض خلفك وأراودك عن نفسك؟ في أي مرة من تلك المرات عرفتِ أنكِ تحبيني؟
مسحت دموعها وهي تقول:
_ نعم فعلت، اتهمتك أنك تلاحقني لأني أعرف ومتأكدة أنك سجنت عبدالله رغبةً في التقرب مني، هذا المحامي الذي أحضرته ليس ليدافع عن عبدالله ، ولكن ليضمن لك أن يتم الحكم عليه بأقصى عقوبة ممكنة. أنت تحبني، بالرغم مما فعلته لم تكرهني، أنا متأكدة.
_ أنتِ موهومة، تقومين بإيهام نفسك بما لا تستطيعين تحقيقه.
وطالعها باشمئزاز وهو يقول:
_ إن كنت كما تظنين أرغب في التقرب منك فلم يكن من الصعب أبدا، لم تكوني لترفضي أبدا، الحصول عليكِ أسهل من شرب الماء عنبر هانم.
نظرت إليه بصدمة واحتقن وجهها فقال:
_ نعم دبرت تلك التهمة لعبدالله ولكن ليس توددا إليكِ، بل رغبةً مني في أن يذوق ولو نقطة من بحر القهر والذل اللذان تجرعتهما على مدار العشر سنوات. دبرت له تلك التهمة وأستطيع تدبير أبشع منها ولكني لا أسعى خلف الانتقام فحسب! ما يروقني مدام عنبر أن أذيق كل من أذاني من نفس الكأس الذي أذاقني إياه.
ابتلعت ريقها بتوتر وتوجست ريبة من لهجته الغريبة عليها فقال:
_ كي أنتشي وأشعر بلذة الانتقام لا بد أن يكون العقاب من جنس العمل.
رفرفت بأهدابها بتوتر وقالت:
_ تظن أنك تعاقبني بسجن عبدالله، أليس كذلك؟ ولكنك مخطئ .. أنت أسديت لي خدمة تستحق أن أشكرك عليها طوال عمري.
ثم نظرت إليه وقالت بملامح شاحبة
_ أبليتَ حسنًا يا ابن عمي.
وتركتهُ وانصرفت بينما هوى بجسده على المقعد من خلفه بضيق وإحباط وهو يردد:
_ غبية!
ارتفع رنين هاتفه برقم أكثم فأجاب متلهفا وقال:
_ صباح الخير سيد أكثم.
_ صباح الخير قاسم، أبشر، لقد عثرت على عنوان حسان.
زفر قاسم مطولا براحة وقال:
_ وأخيرا..
_ نعم، هو الآن يعمل بمطعم بسيط، سأرسل لك عنوان بيته وعنوان المطعم.
_ حسنا سيد أكثم، في الحقيقة لا أعرف كيف علي أن أشكرك.
_ لا داعي قاسم ، لقد أوصاني سيد حبيب ، كل طلباتك مجابة.
_ شكرا لك سيدي، شكرا جزيلا.
وأنهى المكالمة وهو لا يزال يتمتم:
_ وأخيرا.. لقد جئت بالوقت المناسب تماما أيها الكلب!
وصلت إليه رسالة من أكثم وبها عناوين تواجد حسان فنهض قاسم مسرعا واتخذ سبيله إليه راكضا.
//////////////////////
كان يجلس صامتًا بعجز وقلة حيلة، يسند خده على قبضته وهو يفكر في مأزق لتلك المشكلة التي لا حل لها أبدا.
في تلك اللحظة استيقظ ابنه من نومه ونظر إليه وقال وهو يفرك عينيه بنعاس:
_ أبي، هل لا زالت مستيقظا!
ابتسم ابتسامةً مكسورة وهو ينظر إلى ابنه بحزن وقال:
_ أجل صغيري، لمَ استيقظت؟ هل تريد شيئا؟ هل يؤلمك شيئا؟
أومأ الطفل بنفي وقال:
_ لا، ولكني لا أستطيع النوم والمصباح مضاء هكذا.
نهض من مكانه وأطفأ المصباح ثم عاد يجلس بجواره وهو يقول:
_ حسنا عزيزي ها قد أطفأته، هيا نم.
استمع إلى رنين جرس الباب فقال بتعجب:
_ من سيأتي لزيارتنا بذلك الوقت؟
_ لا أعرف، هل هو محصل الكهرباء ؟
ضحك وقال:
_ أو محصل الغاز من يدري، لا تنزل من فراشك. سأذهب لأرى.
ذهب وفتح الباب وإذ به يصدم برؤية آخر وجه كان يتوقع رؤيته وقال بأحرف متقطعة بصدمة:
_ قـ. قاسـ.. قاسـم!!
هم بإغلاق الباب بسرعة ولكن قاسم كان أسرع منه فدفع الباب بقوة فسقط الآخر للخلف وهو يتراجع للخلف ويقول:
_ قاسم، كيف عرفت عنواني؟ لمَ أتيت إلى هنا؟
انحنى قاسم بجذعه عليه وأمسك بتلابيبه وهو يرفعه للأعلى بقوة حتى وقف أمامه وهو لا يزال على نفس حالته ويقول:
_ ماذا تريد مني؟ لمَ أتيت إلى هنا؟
ألقاه قاسم على الأريكة المتهالكة بصالة الاستقبال البسيطة وجلس على المقعد المجاور وقال:
_ أريد حقي.
ازدرد لعابه بخوف وقال:
_ أي حق؟ أنا لم أفعل شيئا.
_ حقا؟ ومن الذي قام باستدراج عنبر وإيهامها أني أنتظرها بشقتك؟ ألم تتعاون مع الحقير عبدالله ضدي؟ ألم تخن صداقتنا وأخوتنا وتضع يدك بيد ذلك الخسيس وتساعده على استدراج خطيبتي واغتصابها!
ظهرت ملامح الهلع جلية على وجهه وقال:
_ أقسم أني لم أكن أعلم أنه سيفعل بها هكذا، هو أوهمني أنه قد رآها في وضع مخل مع أحد أصدقائه، وأنه يريد أن يعنفها ويهددها أنها إن فعلت ذلك مرة أخرى سيفضح أمرها ويخبرك، قال أنه لن يتمكن من التحدث معها في بيت العائلة لأنك تمنعها من الاختلاط به، لذلك طلب مساعدتي، أن اصطحبها لشقتي وكأنك أنت من تنتظرها. وأنا وافقت لأني رأيت أن هذا في صالحك. صدقني لم أعرف أنه سيغتصبها أبدا.
_ وبعد أن علمت، ماذا فعلت؟ بعد أن علمت بدخولي السجن بتهمة لم أرتكبها ماذا فعلت؟
دفن الآخر وجهه بين كفيه بندم وقال:
_ كنت في طريقي للإبلاغ عنه صدقني، ولكنه كان نذلاً وحقيرا بما يكفي كي يساومني.
قطب الآخر جبينه وقال:
_ بما ساومك؟
خانته دمعة غادرة وهربت من عينه وهو يقول:
_ في تلك الفترة كانت زوجتي تقيم بالمشفى لأنها كانت تتعالج من مرض السرطان في الدم، لم أكن أجد حينها ثمن علاجها وأصبحت أستدين مِن كل مَن حولي ومن ضمنهم عبدالله، ولكنه أخبرني أنه لا يملك المال، بعد ما حدث وبعد أن هددته أنني سأقوم بالإبلاغ عنه ساومني على أن أصمت وأكتم ما أعرفه في مقابل أن يعطيني المبلغ الذي أحتاجه لعلاج زوجتي.
وأجهش بالبكاء فجأة وقال:
_ للأسف ضعفت وأخذت منه المبلغ وكتمت شهادتي. التهيت مع زوجتي وعلاجها وتفاجئت بأنك دخلت السجن! وفي اليوم الذي قررت الذهاب وإخبار الشرطة بما أعرفه توفت زوجتي!
كان قاسم يسمعه دون تأثر وكأن مشاعره قد تجمدت، بينما قال الآخر:
_ بعد أن تخطيت صدمة وفاتها فكرت أن أذهب وأخبر الشرطة بما أعرفه ولكنه قال لي أني إذا أبلغت الشرطة قد يحاكمونني لأني كتمت شهادتي وأدخل السجن.. للأسف تراجعت.. فكرت في أني إذا دخلت السجن سيبقى ابني صاحب العامين بمفرده! بعد أن أصبحت أنا أبيه وأمه.. صدقني لم يكن بيدي حيلة وقتها.
تنهد قاسم بتعب وقال:
_ توفت زوجتك بعد أن أخذت المال من عبدالله في سبيل كتم شهادتك لعلاجها، ألا ترى أن هذا غضبا من رب العالمين ؟
أومأ موافقا بندم وقال:
_ أعلم ذلك، أنا نادم صدقني، أرجوك سامحني، لقد نلت عقابي ولا زلت معاقب، ماتت زوجتي والآن ابني يصارع الموت ، ابني يعاني من سرطان الدم ويحتاج لعملية زرع نخاع في أقرب وقت وإلا سأفقده كما فقدت والدته .
وانخرط في نوبة بكاء جديدة..
_ سأعالجه.
نظر إليه حسان غير مصدقا وقال:
_ ماذا تقول؟
_ قلت سأعالجه، ولكن بشرط!
هز رأسه باستفسار فقال قاسم:
_ عبدالله الآن مسجونًا على ذمة قضية مخدرات ، ستبرأه وتعترف أنك من دسست له تلك المخدرات بسبب خلاف قديم بينكما ووددت الانتقام منه.
جحظت عيناه بغير تصديق وقال:
_ هل تريد أن أعترف على نفسي بتهمة لم أفعلها؟
_ أجل، إن أحببت يمكنك أن تعتبر أنه عقابا لك لأنك كتمت شهادة الحق وساهمت في سجني، وعلى كل حال لا تخف، سيسعى المحامي لئلا تتجاوز مدة عقوبتك ثلاث سنوات.
نظر إليه بدهشة وقال:
_ لا يمكن، كيف سأترك ابني وحيدا؟
_ لا تخف، ابنك في حمايتي ورعايتي لحين خروجك من السجن.
صمت قليلا يفكر، ثم هز رأسه وقال :
_ لا، مستحيل، لا يمكنني أن أفعل ذلك أبدا.
نهض قاسم من مقعده وأمسك بتلابيبه بغضب وقال:
_ وكيف أمكنك أن تأخذ المال مقابل الغدر بي؟ كيف أمكنك أن تنام قرير العين وأنا أواجه كل أنواع الذل والظلم بسبب ذنب لم اقترفهُ؟
نظر إليه بخوف وقال:
_ ولكن عبدالله سيدخل السجن بالفعل، لقد واتتك الفرصة أن تنتقم منه وتسجنه كما سجنك، لمَ تريد مني أن أبرأه وأضع الأصفاد بيديّ؟
_ لسببين، أولهما هو ما أخبرتك به، لأنك تستحق أن تعاقب لأنك كتمت شهادتك، والسبب الثاني هو أني لا أريد لذلك الحقير أن يسجن، أريده خارج السجن كي يتسنى لي الانتقام منه على مهل.
تنهد حسان بعجز وصدح صوت ابنه برأسه وهو يقول:
_ أبي، هل سأموت كما ماتت أمي؟
فنظر إلى قاسم وقال:
_ هل تعاهد الله أنك لن تأذي ابني وستجنبه انتقامك؟
أومأ قاسم مؤكدا وقال:
_ لا تخف بشأن ابنك، مات إحساسي ولكن ضميري لم يَمُت بعد!
__________
يتبع
حب_في_الدقيقة_التسعين!
•تابع الفصل التالي "حب في الدقيقة 90" اضغط على اسم الرواية