رواية لعاشر جار الفصل السادس و الثلاثون 36 - بقلم سلمى رأفت
36-Ka.Yo
كادت أن تكمل، لكن كلماتها استعرت انتباه "لميس" بالكامل، حيث لم تجد بالفعل قلادتها الذهبية منذ فترة، ولكن لم يخطر في بالها أن تكون سرقت، ولكن كيف لأبيها أن يعلم بأمر اختفاءها؟؟
لا يهم الآن، حيث قطع بالفعل "يحيى" حديها ببعضٍ من الضجر يشوبه الاستياء:
_إيه ماسورة الدهب اللي اتفتحت في وشي دي؟؟ هو داخل يقلب لازوردي؟؟
طب ناديهم كلهم ونطلع نفرغ الكاميرات طالما متأكدين إنهم اتسرقوا..
استمعت لكلماته على الفور وانطلقت للداخل لتخبرهم بما ينوي فعله، بينما هو نظر إليها قائلًا بهدوءٍ بارد ممتزج بالثبات:
_اتفضلي معانا، الموضوع يهمك برضو..
قلبت عينيها باستياء من حديثه، فهى لا تريد أن تفعل شيئًا ولا التوجه معه مرةً أخرى للداخل، لكن لابد أنها ستضطر للدلوف، فلا أحد طبيعي لا يهتم لضياع قلادة ذهبية، فهي ليست ابنة رئيس الجمهورية حتى لا تكترث لضياعها، وكأن ذلك المعتاد بالنسبةِ لها..
ولجت معه للداخل مرةً أخرى، و في اللحظة ذاتها، ابتسم هو بانتصار خفي، سرعان ما تلاشت تلك الابتسامة عندما وجد من يخرج من المصعد وهو يتحدث في الهاتف..
راقبه حتى اختفى عن أنظاره تمامًا، بينما كنت هى تستند على الحائط بضجرٍ وملل لاحظه هو على الفور وقرر بدأ هو الحديث بسؤال كان يعتبره افتتاحي لحديثهما:
_إنتِ صحيح شغالة إيه يا آنسة "لميس"؟؟
رفعت أحد حاجبيها باستنكار، ليس من السؤال ولكن من السائل..
اعتدلت في وقفتها وجاوبته بلامبالاة وهى تنظر في الجهة الأخرى:
_معيدة في كلية الألسن، جامعة القاهرة..
أومأ برأسه مستحسنًا، وخطر له فورًا: كيف لمن يُفترض أنها مربية أجيال وقدوة للطلبة أن تكون بمثل هذا الشكل؟ لكنه أبعد الفكرة عن رأسه على الفور، فهو يكره أشد الكره أن يصدر حكمًا سيئًا على أي شخص، حتى لو كان إبليسًا متجسدًا في هيئة إنسان.
لا يهمه إن كان الذي أمامه قديسًا أو شيطانًا رجيمًا، فالأهم بالنسبة له ألا يتأثر به، بل يأخذ منه ما يريد فقط...
ظلا هكذا حتى تلقى "يحيى" مكالمةً هاتفية من "مدحت" ليدعوه للمجيء له حتى يراجع تلك الأجهزة المخصصة للمراقبة.
فمن حسن الحظ يوجد أجهزة مراقبة في العقار بأكمله وبالتأكيد بمجرد مراجعتها سيعرفون من هو السارق..
أغلق المكالمة ثم ضغط على المصعد ونظر لها قائلًا ببرود مصطنع:
_ده دكتور "مدحت"، بيكلمني علشان نطلع نشوف الكاميرات..
تحركت تقف بجانبه بمجرد وصول المصعد ثم تحركت للداخل بعده، التزم كلاهما الصمت حتى وصل للطابق المقصود وكان تقريبًا معظم سكان البنية يتواجدون داخل شقة "مدحت" الذي كان بابها مفتوحًا على مصرعيه.
ولجا للداخل بثبات انفعالي غريب بالنسبة للبعض، لكنّ البقية لم يكترثوا لهما..
_تعالى يا "يحيى" يابني، جيبتلك يوم الحادثة أهو، شوف إنت بقى..
تفوه بها "مدحت" ثم تحرك من أمام الحاسوب ليفسح له مجال الوقوف أمامه، وبالفعل دون أن ينطق ببنت شفة تحرك ليرى ما المريب في ذلك التسجيل.
كان يتذكر بالضبط توقيت الحادثة فلم يحتاج إلى أية أسئلة وأوقف شريط التسجيل عند الساعة الرابعة ونصف عصرًا، أي قبل موعد الحادثة بساعةٍ واحدة فقط..
كانت "علا" متواجدة، وعائلة "محسن" بأكملها، وعائلتي "سعيد" و"أحمد" معًا..
لابدّ أن السارق لم يتمكن من التوغل في البناية بأكملها، وبدأ بسرقة الطوابق بالترتيب وعندما رجع أحدًا منهم من المشفى لم يستطع الخروج فصعد للأعلى حتى وصل إلى شقة "علا"، ولكنه كان سارقٌ ذكي أحب استغلال الفرصة..
_ركزوا بقى كده يا جماعة، علشان اللي هيسرق أكيد هيكون موجود في الوقت ده، أكيد قدام العمارة ولو مش موجود في الساعة اللي قبلها يبقى أكيد بعد ما روحنا المستشفى.
خرجت تلك الجمل من "يحيى" آمرة وانصاع جميعهم لحديثه، لم يكن هناك شيئًا مريبًا حتى ظهر "تيام" وهو يدلف من باب البناية يتحرك بعشوائية على الدرج المؤدي للمصعد، كان يغني أو ما شابه ولكن حركاته كانت عبثية لأقصى درجة، كان يتمايل بجسده ويرقص كالبهلوان دون أن يكترث لأي أحد، لحسن حظه إن تلك الكاميرات لا يوجد بها تسجيل صوتي، فلا أحد يريد أن يستمع إلى ذلك نشاز الذي يصدر من حنجرته الذهبية.
نظروا إليه جميعًا بعدم فهم لحركاته تلك بينما هو أدار وجهه للجهة الأخرى ومن ثم ناظرًا للأعلى قائلًا بإدراك:
_تصدقوا السقف حلو أوي؟؟
حاولوا كتم ضحكاتهم بينما مال "سعيد" عليه قائلًا بخيبة أمل:
_الله يكسفك زي ما أنت كاسفنا كده يا شيخ..
أشاح بوجهه عنه حتى أتى مشهدًا آخر ولكنه في المصعد، كانت "لارا" تلبس حذاءها وبعجلة وترتدي معطفها فوق سترتها القطنية، وكأن المصعد غرفة تغيير الملابس بل وأيضًا نظرت إلى الكاميرا الموضوعة بالأعلى وهى تغمز بمشاكسة لها..
ضبطت حجابها من التوتر الذي ملأ المكان وكسر ذلك الصمت صوت "مراد" الذي خرج بحنق:
_يعني يا مؤمنة الدنيا ضاقت بيكي لدرجة إنك تلبسي في الأسانسير والمدخل؟؟
كانت ساعة واحدة فقط، لكنها شهدت العديد من الأحداث، حيث بعد خمس دقائق ظهر "يوسف" وهو يلتفت حوله وكأنه لص يحاول سرقة العامة في أتوبيس الهيئة، واقترب نحو ذلك الجدول المعلق وأخذ يغير فيه وفجأة اصطدم بـ"عزت" وهو يخرج من المصعد بسخطٍ وأخذ يصيح به بغضبٍ بينما الآخر كان يرسم على وجهه ملامح الحزن والانكسار المصطنع بالطبع، اقترب "تميم" بضجرٍ من ذلك الحاسوب وظل يعبث به حتى أتى بتلك الساعة المزعومة، وقت الحادثة المؤلمة، تفوه بعدما جاء مقطع نقل "تيام" إلى عربة الإسعاف قائلًا باستياء:
_اللي هيجي يسرق هيسرق بعد ما مشينا، مين اللي مقطع البطاقة ده اللي هيجي يسرق نص العمارة وكل شوية حد طالع ونازل؟؟
وبالفعل، مرت ربع ساعة ووجد من يقتحم البناية بحذر، وكان غريبًا عن البناية واستخدم الدرج في الصعود بدلًا من المصعد، فلا أحد يسكن في بناية متكونة من عشرة طوابق وسوف يستخدم الدرج..
ظهر وهو يحاول فتح باب شقة "مدحت" وبالفعل نجح، وكرر المثل في باقي الشقق، اكتفى "يحيى" من هذا والتفت لهم قائلًا وهو يحاول بث الطمأنينة بقلوبهم:
_طب حلو أوي كده، أنا هتصرف، ومتقلقوش كلها يوم وحاجتكم هتكون عندكم..
اصطدم بـ"نورا" وهي تدعو له بهدوء، وكان صوتها وحده ينشر السكينة في الأرجاء:
_ربنا يكرمك يا حبيبي ومنتحرمش منك أبدًا، معلش لو عطلناك والله..
ابتسم لها ثم تحرك للخارج في صمتٍ، بينما "لميس" اضطُريت للانتظار مع عائلتها، دار الكثير من الأحاديث ولكن كان هناك من ينظر بتأمل وشرود إليها...
انتبهت "مريم" لنظراته وحاولت عدم التأثر ولكنها ابتسمت بعذوبة وهى تنظر للجهة الأخرى جعلت قلب الأخرى يرفرف فرحًا.
ومن وسط تلك الأحاديث تلفظ "مروان" بحرجٍ يعلن مغادرته:
_طب استأذن أنا يا جماعة علشان سايب الصيدلية مع جوز البقر بتوع العمارة، يلا يا "فريدة"..
كانت "فريدة" تتدرب في صيدليته بجانب دراستها وأصرت على الاستمرار في العمل بها، وكان الجميع يعلم بذلك فلم يمانع أحد أو يستنكر ذهابها معه..
كانت "لميس" تعبث بهاتفها وشعرت بنظرات مصوبة تجاهها، نظرت أمامها وجدت "محسن" يحدق بها بشرود، ازدادت ضربات قلبها بتوتر وشعرت لوهلة أنه اشتاق إليها ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فعندما دققت النظر وجدته ينظر إليها بحقدٍ وغلٍّ دفين..
أصابت نظراته قلبها وكأنه قد أصابها نسلٌ حاد به، كانت تفكر الكثير والكثير أنه ليس أباها وتلك السيدة ليست والدتها، لدرجة من كثرة الشك ذهبت لإجراء تحليل الحمض النووي أو ما يعرف باسم الـDNA، لمعرفة إن كانوا والديها الحقيقيين أو هما مجرد زوجين وجدوها أمام باب من أبواب المعابد اليهودية فاستثارت عطفهم وقرروا تبينها..
سرعان ما انفض ذلك الجمع وأخيرًا استطاعت التحرك إلى الخارج ولكن تحركت بسرعة فهي لا تريد أن تصطدم بأسئلة تعطل سيرها، فيكفي ما حدث اليوم..
________________
طرقات هادئة جذبت انتباهها على الفور، انطلقت لترى من الطارق فوجدتها أمامها، صُدمت لوهلة من تواجدها ولكنها تفوهت بحرجٍ ممتزج بالود الظاهري:
_أزيك يا طنط "أمينة"؟؟ اتفضلي..
دلفت "أمينة" للداخل وسرعان ما تفوهت بهدوء_على غير العادة_ ولكن كان يستلزم الأمر ذلك:
_كنت عايزة اتكلم معاكي في كام حاجة يا "كنزي" نحط النقط على الحروف بس..
هى ليست بفتاة مراهقة ولا مازالت طفلة ودائمًا ما تجد شعرها على شكل جديلة، حتى لو كانت غير واعية بمن هي لكنها تملك الذكاء الكافي لمعرفة ما الأمر..
_اتفضلي أنا سمعاكِ، تشربي إيه الأول؟؟
_لأ أنا مش جاية اتضايف، خليني أقول اللي عندي...
التزمت "كنزي" الصمت بينما الأخرى شرعت في بدأ حديثها بعدما تنهدت بحسرة:
_"نوح" كان حاكي ليا كل حاجة، كان بيحبك أوي، تعرفي كان رايح يتقدم ليكي يوم عيد ميلادك ويعملك مفاجأة؟؟
اتقهر على موتك وفضل لوحده ٣ سنين وقاطع فيها أخواته، كل ما يرجع طبيعي يفتكر إنك موتي يوم عيد ميلادك...
أنا مقدرة إنك مش فاكرة حاجة، بس علشان خاطري متزوديش عليه، من ساعة ما ظهرتي وهو متجنن إنك قدامه وإنتِ مش فاكراه..
وعلى فكرة، إنتِ كمان كنتِ بتحبيه أوي..
قالت تلك الجملة، ثم وقفت تنظر لها والدموع تغلَّف عينيها وتحركت نحو الباب بصمت، بينما هي ظلت تفكر بشرود فيما قالته.
لا تعلم شيئًا، ولا تشعر بشيء، وكأنها مخدرة، لكن شيئًا ما داعب مشاعرها، فجعلها تشعر بأن ذلك الفؤاد كان ينبض عشقًا له وحده...
________________________
إسكندرية | ٢٠٢١
Alexandria | 2021
_أنت بتستهبل يا "يونس"؟؟ البت أخت الظابط دي هي هي نفسها "كنزي" حبيبة قلب أخوك!!
عايزنا نموتها؟؟ أنت اتجننت؟؟
زمجر "يوسف" بملء صوته بتلك الكلمات ولكن الآخر كان يفكر بشرودٍ ثم تفوه بنبرةٍ باردة ممتزجة بالسخرية:
_طب ماشي يا عم النحنون، مش هنموتها، قصاد ده رقبة أخوك التمن، والمثل بيقولك أنا وأخويا على ابن عمي يا چو...
ثم التفت له قائلًا ونظراته لا تبشر بالخير:
_وأنا مش هسيب أخوك يروح كبش فِدا بدالها، أخوها بقاله حبة حلوين بينخور ورانا ومتهداش غير لما قبض عليهم، والزعيم سكت بمزاجه على علاقتهم واللي سكته يا روح أمك إن هو فكر إن "نوح" بيشتغلها، هو لو كان شك لحظة إنه بيحبها كان خلص عليه وعليها وعلينا كلنا..
اقترب "يوسف" يمسكه من ملابسه وهو يقول بشراسة:
_وأخوك لو عرف إننا اللي ورا الموضوع ده هيقاطعنا فيها، وتبقى حتة بت لا راحت ولا جت هى اللي تفرق ما بينا!
دفعه "يونس" بعيدًا عنه وأخذ ينفض ملابسه مكان قبضته قائلًا بازدراء:
_إيدك لو اتمدت عليا تاني هـ****!!
وهتيجي معايا غصب عنك مش بمزاجك! ويلا!!
دار مشاحنة حادة بينهما انتهت_وللأسف_ بخضوع "يوسف" لأخيه.
بعد ساعة واحدة، كانا يقفان بداخل مخزنٍ من المخازن القديمة يتواران خلف أحد الصناديق، لحظات حتى وجد من يدلف للمكان حاملًا إياها ثم وضعها على الأرض برفق، كانت الحبال ملتفة حولها مشابهةً تمامًا للأفعى التي تلتف حول فريستها، كانت نائمة إثر التخدير...
ظل هو ينظر لها حتى جاء صديقه من وراءه قائلًا بسخرية:
_أجمد يالا!! دي بت عبيطة، هى أول مرة تخطف يعني؟ وبعدين كله فِدا أخوك، الظابط اللي اسمه "يحيى" ده بيموت في أخته كأنه خلفها ونسيها، مش معقول هيسيبها كده مقابل شغله، شغل دماغك هترتاح..
قسى قلبه كالحجارة حينما تذكر أخاه، نظر إليها بغلٍّ دفين ثم تركها وغادر وتوجه الآخر وراءه بصمت..
كان "يونس" يعلم أنها تمثل فقط لا غير وبالفعل صدق حدسه، عندما استمعت لصوت غلق الباب فتحت إحدى عينيها تتأكد إن كان هناك أحدًا، سرعان ما استطاعت فك تلك الحبال باحترافية شديدة وكأنها معتادة على ذلك الأمر، ولكن قطع طريقها وقوفه أمامها قائلًا وهو يجذبها بسرعة:
_تعالي معانا، يلا بسرعة!!
دفعته بعيدًا وهى تقول بشراسة ناظرةً لهم باشمئزاز:
_إنتم مين؟؟ واروح معاكم فين؟؟ أصل مش باين عليكم إنكم حكومة بصراحة..
سأم "يوسف" من تلك الأسئلة فضربها على رأسها بقوة وقعت من أثرها مغشيةً على الأرض، لم يكن يعلم أن تلك الضرب ستؤدي إلى ارتجاج طفيف بالمخ وللأسف، فقدانٌ بالذاكرة...
حملها "يونس" بسرعة بينما أبدل "يوسف" "كنزي" بفتاة في نفس حجمها وطولها وكانت مرتدية قناع بنفس هيئتها تمامًا..
قبل أن يطلق فمك السباب فتلك الفتاة كانت عشيقة تلك الذي يُدعى "كفتة"، أوهمها باسم الحب وللأسف وقعت في الفعل المحظور، وذلك المشهد الذي حفظه الجميع عن ظهر قلب بالطبع تخلى عنها ولكنها كانت تدرك تمام الإدراك أنه لم ولن يستطع التخلي عنها للأبد، ومع ذلك كانت تريد أن يندم على تركه لها فاختار التضحية في سبيل تلك الفتاة وعندما تتم عملية القتل سوف يكتشف أنها ليست المقصودة،..
كانت تعرف "يوسف" معرفةً سطحية وعلمت منه أنه يريد أن يحافظ على الفتاة، فاقترحت عليه خطتها، حاول "يوسف" منعها وأنه سيفكر في حلٍ آخر لكنها أصرت وبشدة حتى اضطر للتنفيذ...
وضعها "يونس" في المقعد الخلفي وأسرع في الجلوس في كرسي القيادة ولكن رفض "يوسف" بعناد طفولي قائلًا بضيقٍ:
_أنا اللي هسوق!!
نظر له "يونس" بنظرات خاوية ودون أن ينطق أدار محرك السيارة وانطلق هو في طريقه بهدوء، بينما هو ركض وراء السيارة وهو يسبه بسخطٍ بكل السباب الذي عرفه في حياته.
توقف "يونس" وعلى محاياه ابتسامة نصر، استقل "يوسف" بجانبه وهو يزفر أنفاسه بتعب، تحرك "يونس" مرةً أخرى إلى وجهتهما وكان يدعو الله أن تظل هى غارقة في أحلامها بعد وصولهم..
_أنت هتوديها فين في الشرقية؟؟ وبعدين دي مش سهلة يعني لو صحيت هتقلب الدنيا وهترجع على إسكندرية تاني!!
قلب "يونس" عينيه بضيقٍ وتحدث فقط حتى يتخلص من ثرثرته:
_أنا مظبط كل حاجة، اتكتم بقى!!
مرت ساعة ونصف حتى يصلوا إلى ذلك البيت القديم المتواجد وسط الحقول الزراعية، فذلك أنسب مكان لاختبائها بعيدًا عن الأنظار..
_"كنزي" أمانة في رقبتك يا عم "عاطف"، وأنا مرسيك على كل حاجة، ولو عطلت في أي حاجة كلمني..
أومأ "عاطف" بهدوءٍ وسرعان ما تحركا هما للخارج، بينما هو ظل جالسًا بجانبها حتى أتت زوجته قائلةً بفرحة:
_بسم الله ماشاء الله عليها، جميلة أوي الله أكبر!! قوم يا "عاطف" أنا هقعد جنبها وهاخد بالي منها!
كانت فرحة بحق، فبسبب حرمانها من الإنجاب أصبحت متعلقة بالأطفال الغرباء، فكل ما كانت تريده أن تسمع تلك الكلمة التي تتردد على شفاههم منذ نعومة أظافرهم حتى مماتهم..
مر حوالي ساعةً أخرى حتى استفاقت "كنزي" من عتمتها وهى تلتفت حولها متلفظةً باستنكار :
_أنا فين؟؟ وإنتم مين؟؟ أنا مش فاكرة حاجة وراسي وجعاني!!
كادت أن تخبرها "إيمان" بكل شيء ولكنها اصطدمت عند تكملة جملتها، فماذا تعني أنها لا تتذكر شيئًا؟؟
_أنا خالتك "إيمان" اسمك إيه بس يا حبيبتي؟؟
تشوش ذهنها بقوة فهى لا تستطيع تذكر أي شيء حتى إسمها مما جعلها تجاوب عليها بحزنٍ:
_مش عارفة، أنا مش فاكرة حاجة والله!!
_____________
داعبت تلك الذكرى ذهن "يونس" الذي كان يقف في الشرفة ينظر للعامة بشرود، تذكر حينها عندما هاتفته "إيمان" وأخبرته وكل شيء وقال لها قصة حمقاء أنهم وجدوها على إحدى الطرق مغشيةً عليها فاستثارت عطفهم نحوها فقررا أن يحضروها إلى بيتهم..
وبسبب تلك القصة اختفت هى عن الأنظار لمدة تزيد عن الثلاث سنوات، وهذا كان إنجازًا بحق، فلولا فقدانها للذاكرة كان سيصبح يومها في اليوم التالي يجدها فوق رأسه تستعد لقتله..
ركز نظره على المارة حتى وجدها تتحرك ناحية البقالة تشتري منها عدة أشياء للمنزل، ظل يتابعها هكذا حتى عادت مرة أخرى للبناية، استفاق على صوت شقيقه الساخر قائلًا:
_سفاح الأندر إيدچ ياخواتي!! ثانوي!! يعني تبقى شحط كاسر التلاتين سنة وتعجبك واحدة في ثانوي!!
ودي لما تعوز تصالحها هتجيبلها خاتم ولا ملزمة علم نفس؟؟
وقع في الضحك الشديد بعدها بينما الآخر نظر إليه بحنقٍ قائلًا بضجر:
_ما بلاش أنت يا بتاع "كارن"!! يعني سايب مصر كلها ورايح تحب في واحدة بنت أكبر زعيم ماڤيا في أوروبا!! قال إيه، دي طلعت مصرية زينا زيها، وبالنسبة لفرق الديانة ده عادي بالنسبالك؟؟ ولحياتها هى شخصيًا!
دي بقى لو عايز تصالحها تجيبلها كيسين هيروين يروقوا مزاجها، تدخل ليهم صفقة أسلحة البلد، الحاجات الفافي دي.
انقلبت ملامح "يوسف" بضيقٍ منه فهو مازال يحبها ولكنه تفوه قائلًا بسأم:
_طب متجيبليش سيرتها علشان أصلًا فركشنا، خلي بقى مارك ولا فرانك بتاع أبوها ده ينفعها!
لحظاتٍ مرت، وضحكا الاثنان بشدة، فكلاهما منهار عاطفيًا.
لا يدري أحدٌ منهما هل هم حمقى، أم مصابان بالعمى في قلوبهما؟؟ لا أحد يدري، فهما طوال حياتهما يعيشان في نعيم الجهل، لست أدري متى سيصطدمان بجحيم الوعي...
___________________
مرت عدة أيام استعاد فيهم "تيام" عافيه نسبيًا استطاع من خلالها أن يعود لحياته مرةً أخرى ولكن مازالت رأسه ملتفة من قبل ذلك الشاش الطبي مع لاصق طبي قوي..
واليوم كان لديه درسًا في أحد المراكز التعلمية برفقة شقيقه، بالطبع لم تطمئن "أمل" أبدًا أن يذهب لوحده فكان دائمًا "تميم" معه منعًا لحدوث مكروه له وحده.
كان "تيام" يستند على "تميم" بتعبٍ وإرهاق_مصطنع_ جعل الآخر يزفر بحنقٍ قائلًا:
_أنت هتستهبل؟؟ أنت الخبطة اللي في دماغك عوجتها ولا إيه؟؟ يا حبيبي أنت راسك هى اللي ملفوفة مش رجلك!!
رمقه الآخر بضيقٍ وسرعان ما اعتدل في مشيته وقبل أن ينزلا السلم المؤدي للخارج وجدا المصعد يُفتح وصدر منه صوتًا أنثوي قائلًا:
_هو إنتِ إيه اللي جايبك معايا يا فلاحة إنتِ؟؟ مش كان ليكي معاد تاني بتروحي فيه؟؟
تعرفت على الفور على صاحبة تلك الصوت فلا يوجد سواها من تتكلم بتلك الغطرسة ولكنهما وجدا الرد الحاد من شقيقتها قائلةً باستنكار:
_ده على أساس إن المعاد ده كان مكتوب باسم أبوكي؟! بت خليكي في حالك واصطبحي وقولي يا صبح بخلقتك اللي شبه تشطيب شقق الدوبليكس دي!..
لم ترد عليها لكنها اكتفت بإرسال نظرة محتقرة لها ازدادت أكتر عندما وجدتهما أمامها فتفوهت بضجر:
_وسعوا إنتم كمان هى ناقصة قرف!!
كاد أن يرد عليها "تميم" ولكنه تمالك أعصابه ففي المقام الأول والآخر هى مجرد فتاة ولا يريد أن يدخل معها في مشاجرة كلامية ولكن سبقه شقيقه قائلًا بحنق:
_ما براحة يا ماما علينا هو في إيه؟؟ هو كان حد كلمك ولا هو أي جر شكل؟! ما تشوفي أختك يا "لارا" احنا مالنا بمشاكلكم العائلية دي!
كادت أن تدب مشاجرة عنيفة بينهم جميعًا لكن قطع شجارهم الأحمق هذا تدخل "مريم" التي كانت تصعد على السلم المؤدي للمصعد قائلةً باستغراب:
_في إيه؟؟ صوتكم عالي أوي!!
أنت يا "تيام" مبتحرمش! ده أنت لسه قايم من فراش الموت!!
وجدت "مريم" يد "تميم" بأكملها في وجهها وكأن يده تدفع الحسد وهو يقول برعبٍ:
_فال الله ولا فالك!! في إيه يا "مريم"؟؟ إنتِ مش كنتي عاملة فيها تامر عاشور وقاعدة في خزان أحزان؟؟ إيه اللي حدفك علينا دلوقتي؟؟ ومفيش ماشاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله ده حتى مسند الواد علشان مش قادر حتى بصي...
بمجرد إن قال تلك الجملة ارتمى "تيام" عليه وهو يأوه قائلًا بتعب:
_آه يا دماغي ياما!! أمسكني ياخويا ده أنا خلاص والله، أمسكني عدل ده أنا اللي هشيل جنازتك!!
كاد أن يتجاوب معه "تميم" في ذلك المشهد المتدني لكنه تجمد عندما استمع لآخر جملته..
صمت عم المكان ولا يوجد إلا صوت صرصور الحقل تقريبًا، ترك "تميم" شقيقه بهدوءٍ وتحرك للخارج دون أن يلتفت حتى له وأكمل في طريقه كأن شيئًا لم يكن...
ظل الآخر ينادي عليه بملء صوته ولكنه قد اختفى، فاضطر التحامل على نفسه والسير بمفرده بعدما رمق "مريم" بضجر قابلته هى بنظرة مستفزة مستشفة.
كانت "چويرية" أيضًا قد تركت شقيقتها وسارت بسرعة تريد أن تذهب لوحدها بينما هى اقتربت منه قائلةً ببعض من الحرج:
_أنت رايح درس العربي؟؟ لو رايح تعالى بدل أخوك وأختي اللي سابونا كده..
في الواقع كان سيرحب بها ولكنه ليس بتلك السذاجة، فهو قبل كل شيء يحط إعتبارًا لربه وهو أيضًا لا يضمن نية الآخرين فاقترح بهدوءٍ قائلًا:
_لأ معلش يا "لارا" اسبقي إنتِ كتر خيرك والله، أنا لسه فيا العافية برضو..
استشفت هى جزءً من رفضه فتحركت للأمام بينما هو زفر برعبٍ من تلك الفكرة، هو لا يريد أن تتطور الأمور فيكفي ما حدث مسبقًا، لذا عندما خرج وجد صديق له يركب دراجة نارية كان يمر بالصدفة البحتة فأوقفه "تيام" مازحًا إياه:
_كده يا واطي متسألش عليا!!
شمله صديقه بنظرة سريعة وحينما استوعب تفوه بندم معتذرًا:
_والله ياخويا ما أعرف، حقك عليا والله، أنت رايح فين كده؟؟
_رايح درس في السنتر اللي اسمه **** وخدني معاك في طريقك علشان مستعجل وهعتبر واجبك وصل..
ركب "تيام" وراءه والسعادة تغمره بينما صديقه انطلق نحو ذلك المركز التعليمي وفي الطريق الذي لم يكمل خمس دقائق تم التحدث في جميع الأحاديث الذي يمكن التحدث بها لو كان توفر لهما المزيد من الوقت لكانوا تحدثوا في أسباب ظهور النازية في ألمانيا قديمًا...
شكره "تيام" على تلك التوصيلة وسرعان ما دخل المركز التعليمي حتى لا يتأخر، ولحسن حظه وصل قبلهم جميعًا، ولكنه لم يكترث فهم من تركوه...
على الناحية الأخرى على مقربةٍ منه كانت تنظر له بحالمية شديدة وهى تقول بهيام:
_سبحان الله، هو وأخوه نسخة من بعض، هو اللي في القلب..
رمقتها صديقتها بسخطٍ وهى تتفوه بصوت عالٍ نسبيًا:
_ما تتهدي يا "چايدا" بقى!! إنتِ مش مقتنعة ليه إنه مش عارف إنك منتمية للوجود أصلًا!!
لم تكترث لها "چايدا" بل أخذتها قدمها إليه قائلةً بودٍّ وكأنه ابنة خالتها وليس مجرد زميلٍ لها في الدراسة:
_حمدالله على السلامة يا "تيام" اتمنى تبطل حركة شوية علشان متتخبطش كده تاني...
تقريبًا من التوتر قد نست نفسها، فهي ليس والدته فرد عليها قائلًا بعدم فهم:
_أبطل حركة؟؟ هو إنتِ شايفاني بقوم أمشي على السقف ولا إيه؟؟
كادت أن ترد عليه وجدت من تقترب عليهما فانقلبت ملامح وجهها على الفور وسرعان ما تمتمت بغضبٍ إليه قائلةً:
_طب خليها تنفعك..
قالتها ثم تحركت في جهة غير معلومة لكنه ثبت على وضعه قائلًا للمساعد الذي كان شاهدًا على كل ذلك الحوار:
_مالها دي يا حُس؟؟
تفوه "حسين" قائلًا بالامبالاة متناهية:
_لأ ده العادي بتاعها، سيبك منها دي صداع، بس حرس منها علشان مش سهلة.
_مش سهلة على نفسها، تبقى تعمل حاجة!
كانت قد اقتربت "لارا" منهما وأخذت تسجل حضورها لتلك الحصة وهى تقول ببعضٍ من الاستياء:
_هى البت التنحة دي مش هتحل عن سمانا بقى!
التفت لها "تيام" مستفسرًا وهو يقول باستغراب:
_هى عملتك حاجة؟؟
زفرت بضيق ثم استرسلت قائلةً بعدم راحة وانفعال:
_بعتالي اتنين مقشات من صحابها واحد تقولي فكك مننا والتانية تقولي إنتِ متعرفش هى بنت مين ولا إيه.
يعني إيه معرفش هى بنت مين؟؟ بنت وزير الدفاع الجوي وأنا معرفش؟؟ أبوها كان كانت صورته بتطبع على علب السمنة البلدي ولا إيه؟؟
والاتنين مش مكفيهم إن عندهم سوء تربية لا ده عندهم وسوء تغذية كمان!!
حاول "حسين" كتم ضحكاته من طريقتها المنفعلة بينما "تيام" عقب على حديثها بضجر، فيبدو أن تلك الفتاة لا تبشر بالخير ولا أحد يعلم ما سبب ما تفعله:
_سيبك منها، ولو عملت حاجة تاني هنشتكيها، علشان مش ناوية تجيبها البر!
كادت أن ترد عليه، لكنهم سمعوا صوت شجارٍ عالٍ وحاد، فهرعوا بسرعة إلى الخارج ليروا ما الأمر..
وجدوا شجارًا حادًا بين فتاتين، لكنهم لم يستطيعوا تمييز هويتهما. حاولت "لارا" أن تتدخل، لكنها صُدمت عندما رأت أن شقيقتها هى إحدى الفتاتين، وكانت تتشاجر مع تلك التي تدعى "چايدا"
_أنتم أصلًا كلكم عيلة بيئة ومقرفين، وبطلوا شغل التلزيق ده!!
كانت تلك كلمات "چايدا"، وكادت أن تسترسل، لكن صفعة قوية هوت على وجهها، أبرحتها أرضًا من شدتها...
_________________________
تم تحديد موعد عقد قرآنهما، وكانت السعادة تغمرهما بشدة، قرّرا طباعة دعوات لتلك المناسبة وتوزيعها على جميع السكان، اتفقا على ذلك اليوم للتنزه معًا ولكن بينما كانت "حنين" تضبط حجابها أمام المرآة وجدت "رقية" تقف بجانبها قائلةً باستمتاع وعلى محاياها تلك الابتسامة المستفزة:
_أنا جهزت، ما يلا!!
نظرت لها بذعرٍ؛ فهي دائمًا ما تتواجد معهما وكأنها محرم، وللحق، هى كانت كذلك..
لم تستطع "حنين" التفوه بأي شيء، انتهت وتحركت معها للخارج وتقابلت معه أمام المصعد، كان متبسم الوجه ولكن سرعان ما انقلبت ملامحه عندما وجد شقيقتها معها، تلفظ مجاملًا لها:
_إيه يا "رقية"، عاملة إيه؟؟ مش كان وراكي درس انهاردة؟؟
ابتسمت بخبثٍ وقررت أن تتفوه بكل صراحة فهي تعشق معاناة تلك العشاق وتعذيبهما بصمت:
_لأ ما أنا أجلته لبكرة، أصل بابا قالي أروح معاكم.
ابتلع هو لعابه في سكون تام ودلف ثلاثتهم إلى المصعد، سرعان ما وصل إلى الطابق الأرضي وأثناء خروجهم تقابلوا مع "يونس" و "يوسف" وتكلم الأول بمرح طفيف:
_ألف مبروك يا عرسان، ربنا يتمم ليكم بخير يارب، بس بصراحة، راجل إنك هتفتح بيت دلوقتي..
عقب "عبدالله" على حديثه بدون استغراب فأمر كأمر عقد قرآنهما لن يختبأ ففي تلك البناية الأخبار تنتشر بسرعة السنة الضوئية في الفضاء الخارجي.
_الله يبارك فيك يا أخويا، عقبالكم كده إنتم الاتنين نفرح بيكم، بس متنسوش تعزمونا بقى.
ظلت هكذا يتبادلون الأحاديث حتى قاطعهم صوت بكاء ممتزج بالصياح، كادوا إن يهرولوا للخارج لكن اصطدموا بتلك التي تبكي بقهرة وبالذي يمسكها بعنفٍ وهو يتفوه بشماتة:
_بتعيطي ليه يا كوكو؟؟ ده إنتِ حتى هتشوفي حبيب القلب..
نظر أمامه فوجده يحدق فيهما بدهشة فصاح قائلًا بسخرية:
_أنتم مستنين بعض ولا إيه؟؟ علشان أنا قلبي طيب هسيبكم تشبعوا من بعض..
قال جملته ودفعها بقوة إلى الأمام، في نفس تلك اللحظة هرول "يوسف" ناحيتها يلتقطها وهي تبكي بحرقةٍ متمسكةً به وكأنه ملجأها:
_بالله عليك ما تسيبني يا "يوسف"، علشان خاطر كل حاجة حلو بينا ما ترميني ليه..
ربت على ضهرها بحنان وهو يهمس في أذنها بكلمات تطمئنها قليلًا وحاول أن يفكر في ذلك المأزق، بينما في الخلفية كانت "رقية" قد مالت على أذن شقيقتها التي كان فكها كاد أن يلامس الأرض من دهشتها، متفوهةً بانبهار:
_إيه ده يا بت! ده ولا أفلام الأمريكان! يا حلاوة يا ولاد!! لا بصي لابسة إيه، روحي يا بت اديها الشال بتاعك استريها، ده لو حد شافها هنا مش بعيد يفتكرها نازلة بقميص النوم!
لم تسمعها "حنين" من هول صدمتها، قطع ذلك المشهد العبثي "حسام" الذي كاد أن يشدها عليه ثانيةً لكن أوقفه تلك اللكمة العنيفة التي جعلته أن يترنح للوراء بسرعة، نظر إليهم بشرٍّ وهم يلتقط زجاجة ملقاه على أحد جوانب البناية وللأسف كان زجاجية، كسرها في الحائط واقترب منهم يحاول الاقتصاص..
فجأة، حل الظلام عليهم جميعًا، وبعدها بثانيتين تقريبًا، دوى صوت الصراخ ثانيةً...
_________
- يتبع الفصل التالي اضغط على (لعاشر جار) اسم الرواية