رواية لعاشر جار الفصل السادس و العشرون 26 - بقلم سلمى رأفت
26-عندما ينقلب المزاح
ضحكت بقوةٍ على تشبيهه، نظرت إليه وجدته يحدقها بقوةٍ نظرًا لأنهما في مكانٍ عام، حاولت التوقف حتى نجحت بالفعل، ثم أضافت لكلماته قائلةً بجدية مزيفة :
_بكلمك بجد والله يا "نوح"، مع احترامي لأم كلثوم طبعًا، بس حمو بيكا يكسب، يعني في فرحنا بعد الشر يعني هنرقص المعازيم على إيه؟؟ على قبل ما تشوفك عينيا؟؟ ولا نرقصهم على العيون كلها بصاصة؟؟ ما هو بالعقل يا حبيبي.
شرد يفكر في كلماتها العبثية، فكيف تقارن بين ذلك الصعلوق التي تُشغل مقاطع أغانيه على نواصي الشوارع والذي يبدو من هيئته بأنه زعيم عصابة متخفي مسؤولٌ عن فئة الشباب ذوي الملابس الممزقة الذين يمسكون دائمًا في أيديهم مدية ذات نصلٍ حادٍ، رمقها بشررٍ بتطاير من عينيه واستعاد رباطة جأشه قائلًا وهو يقلب عينيه باستياء :
_وماله، شوفي هتطلبي إيه علشان مجيبكيش من طرحتك!
ضحكت بخفوتٍ واضعةً قائمة الطعام على وجهها وظلت تقرأ ما به حتى أخيرًا استقرت على صنفٍ من التحليات الشهيرة وهو أيضًا وعندما ذهب النادل التفت لها قائلًا بجدية :
_طب إيه؟؟ أنا عايز آجي لأبوكِ اتقدملك، ده كده لعب عيال يا "كنزي"!
عقدت ساعديها وهي تستند على ذلك الكرسي المبطن قائلةً بتيهٍ :
_مش عارفة والله، بس أنا مستنية الوضع يهدى بين بابا و "يحيى" وهو كمان عايز يتقدم لواحدة صاحبتي، فأنا مستنية هو يتقدملها بعدين أفاتحهم في موضوعنا.
أغلق عينيه بتروٍ واضعًا يديه على رأسه ثم فتح عينيه قائلًا باستهجان :
_مستنية تطمني على أخوكِ في بيت عروسته يا كوكي؟؟ ماشي أما نشوف آخرة سي "يحيى"، آه صح أمسكِ كده..
نظرت له باستغرابٍ عندما وجدته يلتقط شيء ما كان تحت الطاولة وقد كان صندوق كبير نسبيًا مغلفًا بطريقةٍ لطيفة، وضعه أمامها قائلًا بحبٍ :
_أنا عارف إن عيد ميلادك فاضل عليه يومين، وأنا بموت في الهدايا، دي بقى هديتي لحد اليوم نفسه وهيبقى عندك أحلى هدية، افتحيها لما تروحي.
ظلت تنظر له بدهشةٍ وسرعان ما توسعت ابتسامتها قائلًا بامتنانٍ متيمةً في حبه :
_أنا بحبك أوي أوي يا "نوح"، مش علشان الهدية والله وكده بس أنا فعلًا بحبك أوي، كفاية أنت و"يحيى" معايا في الدنيا دي ومش عايزة حاجة تاني.
أمسك يدها يربت عليها بحنانٍ قائلًا :
_وأنا مش عايز غيرك أنتِ وبس، يا أحلى كنز كسبته في حياتي.
استفاق هو من مستنقع ذكرياته على صوت شقيقه الساخط المدوي :
_يا عم السرحان فوق!! بما إن أمك طرداك ومش طايقانا هنعمل أكل إيه؟؟
نظر له والدموع تلتمع في مقلتيه وابتلع غصة مريرة في حلقه قائلًا وهو يتجه ناحية سور الشرفة يستند عليه وهو ينظر للمارة بتيهٍ :
_اعملوا إي حاجة، أنتم عارفين إني مش بعلق على نوع أكل، كده كده مش هبات معاكم متقلقوش.
قلب "يوسف" عينيه باستياءٍ وقد لمح الدموع المتحجرة في مقلتيه فاقترب منه قائلًا ببعض اللطف :
_ياعم هو احنا من أسرى الحرب مش طايق وشنا؟؟ مالك كده في إيه؟؟
استرسل هو بدون وعيٍ منه قائلًا وكان يستمع لصوت تهشم قلبه إثر تلك الذكرى :
_عيد ميلادها كان بعد يومين، يومين وكنت هتقدملها، يومين بس! لما روحت بيتها، لقيت ناس كتيرة أوي لابسة أسود وبتعيط، كنت عايز اتقدملها يوم عيد ميلادها علشان تفضل فاكرة اليوم ده طول حياتها، قامت ماتت هي في يوم ميلادها وفضلت أنا اللي فاكر اليوم ده طول حياتي.
ربت عليه شقيقه قائلًا بتأثرٍ :
_ده عمرها ياخويا، لكل أجلٍ كتاب، دي حكمة ربنا.
نظر له "نوح" بمقتٍ وتحرك للخارج بينما ظل هو واقفًا ينظر في أثره قائلًا بسخرية :
_يحرق الحب اللي يخلي الرجالة بالشكل ده، صحيح الحب ياما وقع شنبات!
________________________
_اتفضلوا برة، أنا مش مصدقة الهبل ده.
صُعِقَ كُلٌ من "يحيى" ووالدته من كلماتها الوقحة، اقتربت منها "رنا" وهي تبكي بحرقةٍ قائلةً وهي تمسك بوجه ابنتها :
_حرام عليكِ أنا قلبي طول السنين دي كلها محروق عليكِ، بالله عليكِ ريحيني وتعالي معانا.
أشاحت بوجهها بعيدًا حينها اقترب منها "يحيى" وهو يفتح أحد الصور الالكترونية على هاتفه واختار صورةً تجمعه معاها ثم وضع الهاتف أمام نصب أعينها قائلًا بهدوءٍ :
_ركزي في الصورة دي كده، هتلاقي نفس السلسلة اللي أنتِ لابساها في الصورة هي اللي أنتِ لابساها دلوقتي.
وضعت يدها بلا وعي على مكان تلك السلسلة الذهبية التي تلتف حول عنقها تخرجها وهي تمسكها وتنظر للصورة تارةً وإلى تلك السلسلة تارةً أخرى، بدأ عقلها بالتشوش وأصابها دوارًا حادًا عصف برأسها، ذكرياتٍ كانت في ذاكرتها تعود وتحيى من جديد، فجأة شعرت بمن حولها يلتفون بقوةٍ وسرعان ما طغى الظلام حولها ثم وقعت مغشيةً عليها واصطدمت بالأرضِ بقوةٍ بالغة، انتفضوا جميعًا لها وهرول "يحيى" إليها يحملها وهو يضعها على أقرب أريكة يحاول إفاقتها قائلًا بقلقٍ :
_"كنزي"! فوقي يا حبيبتي فوقي، حد يجيب دكتور بسرعة!
هرول "عاطف" للخارج ليجلب طبيبة القرية بينما اقتربت منها "رنا" تسحبها لعناقها بقوةٍ وهي تبكي بحرقةٍ على ابنتها بينما كان "يحيى" لازال يحاول الاستيعاب إن شقيقته على قيد الحياة وما إن يدرك ذلك يغوص في عمق أفكاره وأسئلته التي تتمثل جميعها في كيف؟
كيف وهو رآها تُقتل أمامه بأبشع طريقة؟
كيف وهو من حمل جثمانها ودفنه بيديه؟
مئة كيف وكيف تدور في رأسه وبدون شعورٍ سقطت عبراته على صفحة وجهه مقتربًا منهما يحتضنهما بقوةٍ حتى أتت الطبيبة وأمرتهما بالابتعاد لتقوم بعملها، فحصتها الطبيبة ونظرت لهم جميعًا قائلةً بعملية :
_دي شكلها صدمة عصبية، وهي أصلًا فاقدة الذاكرة يعتبر، ياريت تحاولوا تاخدوها واحدة واحدة وتبدأوا تكلموها عن الذكريات الحلوة وابعدوا تمامًا عن أي ذكريات وحشة، أنا حطيت ليها مهديء في المحاليل وهي هتطول في النوم شوية، عن أذنكم.
خرجت من المنزل بعدما شكروها جميعًا ثم عادوا مرةً أخرى حول تلك النائمة لا تعي بمن حولها، اقتربت "إيمان" منهما قائلةً بعدما مسحت دموعها متأثرةً بذلك المشهد الذي أمامها :
_طب اتفضلوا ارتاحوا جوة في الأوضة، هي هتفضل نايمة للصبح زمانكم تعبانين.
كانا بالفعل متعبين وظلا يقاومان ولكن انصاعا لها في النهاية وذهبا للنوم بتعبٍ من عناء ذلك اليوم المليء بالصدمات.
____________________________
كانت تضع الملابس المبتلة النظيفة المغسولة للتو على الحبال وهي تدندن بصوتها_السيء_ حتى خرج لها "تميم" وهو يفرك في عينيه أثر النوم قائلًا بانزعاج :
_إيه الصوت الزفت ده!! أنتِ فاكرة نفسك في الأوبرا؟؟ الله يسامحك يا شيخة قلقتي منامي.
تركت ما في يدها وعقد ساعديها قائلةً بنبرةٍ مشتعلة :
_والله بلكونتي وأنا حرة فيها، أغني فيها، أبلبط فيها، ياكش اقلبها كباريه، ميخصكش، يلا بقى حل عني عايزة أكمل نشر.
نظر لها بضجرٍ ثم تحرك للداخل قائلًا بغضبٍ :
_هستنى إيه يعني "چودي"؟؟
على صوتها قائلةً بسخطٍ :
_سمعتك، وأقسم بالله ما هسيبك يا "تميم"!
دخل إلى غرفته دون أن يكترث لها فوجد أخاه الذي كان يصفف شعره أمام المرأة وكأنه ذاهبٌ لزفافه فاستمع إلى كلمات توأمه الساخرة قائلًا :
_رايح فين يا عريس؟؟ ده لو فرحك مش هتعمل كده!
لم يكترث له "تيام" حتى انتهى من تصفيف شعره وألقى نظرةً أخيرة على مظهره فوالله لو كان ذاهبًا لخطبة الفتاة التي يحبها أمد الدهر فلن يهتم بنفسه بمثل هذا المقدار، التفت لأخيه الذي كان ينظر إليه وهو يرفع أحد حاجبيه في تساؤلٍ فتفوه هو بكلمات مثيرة للاستفزاز كعادته قائلًا :
_رايح اتجوز من وراكم، سلام بقى علشان متأخرش على العروسة.
خرج وتركه في صدمته مسرعًا قبل أن يأخد أخوه رد فعل حتى نزل إلى الشارع، وقف منتظرًا حتى نزل له "مهند" و "مراد" وهما يحاولان التصرف على طبيعتهما فهما متأثران من معضلة شقيقتهما الصغرى، تلاهما مجيء "حمزة" و "حازم" من صيدلية "مروان"، وقفوا جميعًا أمامه باستغرابٍ من هيئته فاسترسل "حازم" قائلًا بمرحٍ ساخر :
_مش تقول يا راجل؟ رايح تخطب وجايبنا على ملا وشنا كده؟
عدل من وضع السترة الجلدية قائلًا بغرورٍ :
_ده أقل حاجة عندي، شوفوا ليكم View حلو تصوروني فيه علشان عايز أغير البروفايل.
نظروا له جميعًا بعدم استيعاب فصاح فيهم "تيام" قائلًا بسخطٍ عاقدًا حاجبيه :
_في إيـــه؟؟ مالكم متنحين كده ليه؟؟؟ اخلصوا!!
سرعان ما وقع التوأمان في الضحك وأردف "مهند" قائلًا بسخرية وهو يحاول التوقف عن الضحك :
_آه، وتجيب بوكيه ورد وتشوفلك واحدة تتصور معاها وتنزل الصور على الفيسبوك وتكتب في الكابشن لقد وجدت رفيقة الدرب.
انتهى من كلماته وعاد في الضحك من جديد وشاركهما في الضحك "حمزة" و "حازم" غافلين عن تأثير تلك الفكرة في ذلك المختل، لمعت عيناه في شرٍ وتوسعت ابتسامته وهي تزداد خبثًا قائًلا :
_تصدق فكرة؟ أهو أي حاجة بدل الزهق ده، ورايا يلا.
انصاعوا إليه فهم لا يقلون عنه جنونًا وبالفعل اشترى "تيام" باقة من الزهور باهظة الثمن وكان معه ثمنها لأنه كان مسرفًا بشكلٍ مبالغ فيه فلجأ للادخار وهاهو يلقى نتيجة ذلك الادخار، بالطبع كانوا هم من وراءه لا يكفون عن الضحك والسخرية ثم توجهوا إلى قصر البارون حيث وقع الاختيار عليه للتصوير به وكانت الشمس شارفت على الغروب فكان الجو والخلفية في قمة المثالية فتفوه "حمزة" مفكرًا :
_طب وهنجيب منين واحدة تتصور معاها بقى؟
ظلوا يفكرون حتى تذكر "تيام" شقيقته وسرعان ما أخرج هاتفه يتصل بها وما إن أجابت عليه تلفظ قائلًا بحماسٍ :
_أيوة يا حبيبة قلب أخوكِ.. مالي؟؟..لأ مش تعبان ولا سخن ولا حاجة إن شاء الله أنتِ..بقولك إيه تعالي قصر البارون هعملك سيشن جاحد.
انتفضت "عائشة" قائلةً وهي تشهق بصدمةٍ :
_يا نهار أبيض!! قصر البارون إيه اللي عايزني أروحه أنت اتجننت يا "تيام"؟؟ وبعدين هقول ليهم هنا إيه؟؟
صاح هو بدوره قائلًا بضجرٍ :
_إيه الأوڤر ده؟؟ ماله قصر البارون؟؟ هو أنا بقولك تعالي ديسكو؟؟ وبعدين هو إيه اللي هتقولي ليهم إيه؟؟ هو أنتِ محسساني ليه إني الواد اللي ماشية معاه وعايزة تنزلي تقابليه ومش عارفة؟؟ ما تقولي ليهم عادي نازلة أقابل "تيام"!!
فكرت لوهلة فهو معه كامل الحق قبل أن تهم بالرد عليه جاءته كلماته الحانية :
_وهاتي "رقية" صاحبتك معاكِ علشان متوهيش هو على العموم هي سكة عشر دقايق مش حوار يعني والبسي دريس من عندها علشان يكون السيشن خطير.
راقت لها الفكرة وأغلقت معه وخرجت لوالدتها تستأذن منها ولكن لم تقل لها إنه سيقوم بالتقاط عدة صور لها فهي تريد أن تفاجئهم بتلك الصور وأسرعت لصديقتها التي وافقت والدتها وأخذت منها ثوبًا أنيقًا به لمعة خفيفة، ارتدته وكانت للحق جميلة ثم انطلقتا إلى وجهتهما وما إن رآها "تيام" توجه نحوها وهو يمسك بيدها؛ ليجعلها تستدير حول نفسها قائلًا :
_إيه يابت الحلاوة دي؟؟ بس مش هوصيكِ الصور مش هتنزل على السوشيال الميديا، هو احنا ناقصين حسد؟
كادت تعترض ولكن صاح "مراد" مناديًا لهما وهو يضبط كاميرا هاتف "تيام" قائلًا :
_بصوا هنصوركم الأول صورتين للذكرى وبعدين نبقى نشوف موضوع صورك ده.
لم تبدي برأيها فاقترب "تيام" منها وهو يمسك بيدها يلفها نحوه قائلًا :
_بصي، هتبصيلي وأنا هبصلك وأنا ماسك إيدك بحيث وشك يكون ليا أنا مش للكاميرا والأيد التانية همسك البوكيه القمور ده.
استنكرت هي الوضع ولكنها لم تعلق والتقط "مراد" الصورة لهما وكانت للحق روعة، فكانت الخليفة من وراءهما ذلك القصر الشاهق المرتفع ومع غروب الشمس والسحب التي زينت السماء، تلفظ هو قائلًا بحماسٍ :
_لأ الصورة جامدة بصوا كده.
كادوا يتحركون ليروا تلك الصورة ولكن قطعهم مجيء اتصال لـ"رقية" من والدتها وما إن أغلقت معها تفوهت قائلةً باعتذار :
_أنا همشي علشان بابا هيزعق، مش هتروحوا؟؟
استغل "مهند" الوضع فبالطبع هم لا يريدون البقاء هنا كثيرًا فتفوه قائلًا :
_لأ هنروح، يلا يا جدعان يلا، وهنيجي تاني بس يلا علشان حاسس كده إني سيبت تكيف الأوضة مفتوح.
بالطبع لم تتفوه "عائشة" أو للأدق في كل مرةٍ تحاول النطق فيها لا تستطيع بسبب سرعة تنفيذ ما يقولونه وذهبوا جميعًا إلى البناية وقبل أن يتوجه كلٌ منهم إلى شقته أمال "مراد" على "تيام" قائلًا بمرحٍ :
_أوعى تنسى بس تعمل ليهم كلهم Hied لحسان نروح في خبر كان.
نظر له "تيام" يطمئنه ثم تحرك كُلٌ منهما إلى وجهته، فتح "تيام" تطبيق الفيسبوك ليحدث صورة حسابه وهو يضع تعليقه على الصورة قائلًا :
"لقد وجدتها، وجدت رفيقة دربي وحياتي"
ضغط على زر النشر ثم أبدل ملابسه واستلقى على سريره للخلود في النوم، ولكن بالطبع لم يقم بإخفاء أي شخصٍ من حسابه فأصبحت الصورة للعامة وليس لأصدقائه فقط...
_______________________
- يتبع الفصل التالي اضغط على (لعاشر جار) اسم الرواية