Ads by Google X

رواية عن تراض الفصل الرابع و العشرون و الاخير 24 - بقلم ايه شاكر

الصفحة الرئيسية

 رواية عن تراض الفصل الرابع و العشرون 24-  بقلم ايه شاكر

(٢٤)
بقلم آيه شاكر
وبحركة مباغتة، قطع المسافة بينهما وعانقها فتجمدت بين ذراعيه، تسارعت أنفاسها، وارتجفت شفتيها دون أن تنبس بكلمة، لكن قلبها كان يهدر في صدرها كطبول حـ.ـرب.
استعادت وعيها فجأة، وكأنها خرجت من غيبوبة، دفعته بكل قوتها، وارتدت خطوة للخلف، حدقت به بعينين واسعتين، كأنها تحاول استيعاب ما حدث، كانت تتساءل: هل يفعل ذلك فقط لإثارة حفيظتها؟ هل يستفزها؟ وأجابت نفسها أنه كذلك بالطبع.
اندفعت نحوه، تضـ ـربه بقبضتيها على صدره وهي تصيح بصوت مختنق:
-إنتَ عملت كده ليه؟! عملت كده ليه؟
أمسك بقبضة يدها بتحدٍ ورد بابتسامة جليدية:
-عملت إيه؟ إنتِ اللي بتعملي كده ليه؟
سحبت قبضة يدها منه بقـ.ـوة، وتلفتت حولها وكأنها تفتش عن تفسير لما يحدث الآن، ثم ثبتت نظراتها عليه، وعيناها تضيقان كأنها تحاول أن تزن كلمتها التالية، قبل أن تنطق بصوت قاطع:
-طلقني حالًا...
تردد صدى كلماتها بينهما ثقيلًا، فأطلق «عمرو» ضحكة باردة، ومال برأسه قليلًا، وهو ينطق بعناد متهكم:
-لأ...
-هو إيه اللي لأ؟!
قالتها هادرة بانفعال، وأخذت تدفعه بكل قوتها وكأنها تثيره ليتشابك معها، لكنه لم يقاوم، فقط كان يتراجع مع كل دفعة، وعيناه متسعتان بصدمة مما تفعله...
كانت تتنفس بصعوبة، ووجهها يشتعل احمرارًا، وصدرها يعلو ويهبط بجنون.
توقفت فجأة، وكأنها أدركت أنها تهدر أنفاسها سُدى، رفعت سبابتها بوجهه، وقالت:
-اوعى تكون فاكرني ضعيفة!
مسح «عمرو» وجهه ليهدأ من انفعاله، وتنهد بعمق، ثم قال بهدوء:
-وأنا مقولتش إنك ضعيفة يا سراب... بالعكس إنتِ قوية جدًا... وأنا أوعدك إني هكون معاكِ دائما عشان أقويكِ أكتر...
نبرته الهادئة جعلتها تستسلم وتنهي الجدال، جلست على المقعد، وأطرقت رأسها تفكر في كلامه، فسحب مقعدًا آخر وجلس قبالتها، مال نحوها قليلًا، وقال بنفس الهدوء:
-سراب... أنا اتجوزتك عشان...
كاد يخبرها أنه يحبها، لكنه ابتلع كلماته وهو يزدرد لعابه باضطراب، جالت عيناه بالغرفة للحظة، قبل أن يسلط نظراته عليها وهو يقول:
-إنتِ متتخيليش غلاوتك عندي يا سراب... إنتِ غالية أوي أوي يا بِت...
رفعت عينيها ببطء تحدق بملامحه وكأنها تبحث عن مدى صدق كلماته، ثم مدت يدها ببطء ومررتها برفق على لحيته، لمسة خفيفة كأنها تلامس سرابًا، لكن أثرها عليه كان كالصاعقة، اقشعر جسده واضطربت أنفاسه فأغمض عينيه للحظة...
لمعت عينيها بالدموع وهي تلمس لحيته ثم كتفه، وكأنها تتأكد أنه أمامها بالفعل، وهمست بنبرة مرتعشة:
-إنت كمان غالي عندي أوي أوي والله...
فرن منها دمعة رآها حين فتح عينيه، فمد يده ليمسح دموعتها، لمعت بينهما ألف جملة غير منطوقة، لكن قبل أن يفهم أيٌّ منهما معنى كل هذا، انتفضت «سراب» فجأة، ووثبت واقفة، مسحت وجهها بسرعة وكأنها تزيل أثر أنامله على وجنتيها، تراجعت خطوة للخلف، وأنفاسها تتسارع بعنـ ـف، وكأنها لا تريد الاستسلام له، وقالت بانفعال:
-إنت زي أخويا وبس... فاهم؟
نهض «عمرو» واقفًا وأصرّ على أسنانه وهو يقول بانفعال مكبوت:
-أنا جوزك مش أخوكِ... سواء رضيتِ أو لأ، أنا جوزك يا سراب.
قالها وهو يشير لنفسه، حدقت بملامحه المنفعلة لبرهة، رمشت مرتين وفي تلك اللحظة، اجتاحتها موجة عنـ ـيفة من الذكريات، بداية من اختفاء جدها، مرورًا بظهور والدها، وصولًا إلى كل لحظات القهر التي عانتها... وكل مرة أثار فيها «عمرو» حفيظتها، شعرت أنها تختنق، وكأن جدران الغرفة تضيق عليها.
أخذت تتراجع للخلف بظهرها، وعيناها متسعتان في ذعر، فاقترب منها، وامتدت يده تلقائيًا يمسك ذراعها، وخرج صوته قلقًا:
-سراب! إنتِ كويسة؟
أبعدت يده عنها بعنـ ـف وهي تقول بغضب:
-إياك تلمسني تاني!
-واشمعنا إنتِ لمستي دقني وأنا متكلمتش!
قالها بنفس نبرتها، فارتبكت وازدردت لعابها، ارتعش صوتها هامسة:
-طلقني... مكنش ينفع نتجوز... أنا مش قد المسؤولية دي... وإنت ضحكت عليا وقلتلي هنعيش إخوات... ودلوقتي بتغير كلامك...
-مش ذنبي إن إنتِ فهمتِ غلط! محدش بيعتبر مراته زي أخته...
تبادلا نظرات التحدي للحظة، ثم هزّت «سراب» رأسها بعـ ـنف، وكأنها تحاول طرد أفكارها القاتمة، قبل أن ترتفع نبرتها فجأة:
-أنا بكرهك يا عمرو... مكنش لازم أوافق عليك! بكرهك... طلقني...
ارتبك «عمرو» من صوتها المرتفع، خشي أن يسمعه أحد بالخارج، فاقترب منها قائلًا باضطراب:
-طيب اهدي... وأنا هعملك اللي إنتِ عايزاه، بس اهدي.
رفعت رأسها إليه بصدمة، تراقبه بعينين متوجستين، وبنبرة حادة مترددة قالت:
-هتطلقني؟
حبست دموعها، تنتظر ردَّه كأنه حكم بالإعدام.
لم يرد فورًا، بل مشى إلى الباب، وأغلقه ببطء، زفر بقـ ـوة ثم التفت إليها مجددًا، وخرجت نبرته حادة بعض الشيء:
-اهدي... ووطي صوتك، وقلت هعملك اللي إنتِ عايزاه.
نظرت إليه بذهول، وكأن كلماته ضـ ـربتها في مقتل، نطقت بخيبة أمل:
-هتطلقني بسهولة كده؟ ده بدل ما تطمنّي؟
عضّ على شفته بعصبية، خطا نحوها خطوتين، ثم قال بنفاد صبر، وهو يضغط على كل حرف:
-إنتِ عايزة إيه يا سراب؟ عايزاني أطمنك ولا أطلقك؟ عرفيني إنتِ عايزة إيه بالضبط، وأنا هعمله.
تسمرت مكانها، ونظراتها تتفرس ملامحه، ثم فجأة، اقتربت منه ودفعته بقـ ـوة وهي تصرخ:
-أنا بكرهك! اطلع بره! مش عايزة أشوفك تاني!
اتسعت عيناه، وشدّ فكيه بغضب، ثم رفع يديه ونطق بهدوء في محاولة يائسة لتهدئتها:
-يا بنتي اصبري... الجماعة بره، متخليش صوتي يعلى عليكِ ويسمعونا...
لم تهتم، بل زادت من صراخها:
-لا! خليهم يسمعوا! وبقولك اطلع بره! وطلقني...
استمرت تدفعه بجنون نحو الباب، وهو يحاول استيعاب انفجارها هكذا، ويكبح غضبه بصعوبة، حتى لم يعد قادرًا على التماسك...
ثبت قدميه في الأرض أخيرًا، وهدر بنبرة مرتفعة غاضبة:
-بـــــــس بـــقـــــــى! إيه يا سراب؟ في إيــــــــــــه؟ دي مش طريقة والله!
جفلت من صوته، ارتدت خطوة للخلف، ثم انفتح الباب فجأة، وظهرت «شيرين»، بدلت نظرها بينهما وسألت بقلق:
-في إيه؟ إنتوا بتتخانقوا ولا ايه؟
ثم ظهرت «وئام» و«هيام» و«تُقى» و«نداء»، وملامحهن مذهولة مما يحدث...
تجاهل «عمرو» من حوله، ولوّح بيديه في الهواء بعصبية وهو يخاطب «سراب» بنبرة لم يحاول تهذيبها:
-إنتِ تعبانة في دماغك؟ مش عارفة إنتِ عايزة إيه؟ قولتلك هعملك اللي إنتِ عايزاه! بس إنتِ أصلًا متعرفيش إنتِ عايزه إيه...
ارتعشت شفتاها، شعرت بالهواء يهرب من رئتيها، تملّكها الخوف، وهربت الدماء من وجهها تمامًا، لكن رغم ذلك صرخت بانهيـ ـار:
-متعليش صوتك عليا...
رد بنفس الإنفعال:
-لا! هعلي صوتي، وطول ما دماغك تعبان كده هعلي صوتي، وهضـ ـربك بالجزمة كمان...
وقفت «شيرين» بينهما، وكأن عاصفة اقتلعت جذورها من الأرض، وحدّقت في ابنها بحدة، قبل أن تهدر بصوت قـ.ـوي:
-تضـ ـرب مين؟! طيب وريني هتضـ ـربها إزاي؟!
تشنج فك «عمرو»، وتبدلت نظراته بين أمه وسراب، لكنه لم ينطق بكلمة، بل استدار وخرج من الشقة بعصبية، وصفع الباب خلفه.
راقبه «رائد» وهو يغادر، ثم زفر بضيق وتبعه وهو يتمتم نازقًا، فقد كان على وشك إخبار «تُقى» بسر «عامر»، لكنه الآن بات مجبرًا على تأجيل ذلك مرة أخرى...
التفتت «شيرين»، إلى «سراب»، وقالت بسخط:
-أنا كنت عارفة... وقلت الجوازة دي هتجيبلي وجع الدماغ!
لم ترد «سراب»... لم تسمعها حتى.
كانت مشدوهة، كأنها فقدت الإحساس بكل شيء، كأنها مجرد شبح هائم وسط العاصفة التي أثارتها بنفسها...
لم ترَ من حولها، لم تشعر بالأيدي التي ربتت على كتفيها، ولم تستوعب حتى الخطوات القلقة التي دارت حولها...
كانت جامدة تمامًا، وكأن جسدها موجود لكن روحها غادرت مع العاصفة...
الآن، أدركت حجم خطئها، حين وافقت على عمرو...
هوت جالسة على أقرب مقعد، أنفاسها تتسارع، وكأن التوتر يمزقها من الداخل، همست بصوت بالكاد يُسمع، وكأنها تسأل نفسها قبل الآخرين:
-إيه اللي حصل ده؟
تجمدت دموعها في مقلتيها، واكفهر وجهها أكثر، بقيت على حالها، صامتة، شاحبة ولولا رمشات عينيها وصدرها الذي يعلو ويهبط بصعوبة، لما أدركوا أنها لا تزال على قيد الحياة.
وخارج الغرفة...
جلست «رغدة» بجوار «رحمة»، تتبادلان نظرات قلقة مع أروى ومريم، والتوتر يخيم على الأجواء...
تسللت «رغدة» بلمسة خفيفة إلى ذراع أختها، كإشارة خفية للمغادرة، فنهضتا بخطوات مترددة وغادرتا، تاركتين وراءهما أثر العاصفة...
أما «أروى» و«مريم»، فتبادلتا نظرة ذات معنى، قبل أن تتجها نحو «البدري»، الذي ظل مسندًا على عصاه، مغمض العينين، لم يتحرك، ولم تصدر عنه أي ردة فعل، رغم أن كل كلمة قيلت وصلت إليه بوضوح.
تقدمت «مريم» بحذر، تراقب ملامحه الجامدة، ثم سألت بصوت هادئ متردد:
-حضرتك كويس يا جدو؟
وببطء، رفع «البدري» رأسه، وحين وقعت عيناه على «مريم»، تجمدت نظراته، واتسعت عيناه في دهشة غارقة في شيء أعمق... صدمة متجذرة في أعماقه، كأنما يرى أمامه طيفًا من زمن مضى.
بيدين مرتجفتين، التقط نظارته المعلقة حول عنقه، وضعها على عينيه ببطء، وكأن الرؤية الواضحة ستؤكد له ما يخشى تصديقه، وحين انجلت الصورة أمامه، خفق قلبه بقوة... كانت تشبه طليقته إلى حدٍ موجع، كأنما أعاد الزمن وجهها إليه، بعد أن ظن أنه لن يراه مجددًا.
شعرت مريم بتوتر النظرة الممتدة، فابتلعت ريقها بصعوبة وسألته مجددًا، بصوت أخفض هذه المرة:
-حضرتك كويس؟
انتبه «البدري» من شروده، وارتجفت أصابعه على عصاه، ثم أومأ عدة مرات دون أن ينبس ببنت شفة، أبحر ببصره بعيدًا، كأنما يهرب من ظلٍ طارده في وجه مريم، سأل بلهفة ورجاء أن يجد إجابة ترشده:
-تعرفي واحده اسمها صفيه؟
هزت مريم عنقها نافية، وهي تردد:
صفيه! لـ... لأ...
فأغمض «البدري» عينيه بيأس، فقد انشغل مجددًا ونسي أولاده...
جذبت «أروى» «مريم» من ذراعها بحركة خاطفة، اتبعدها عن البدري، وهمست بصوت منخفض لكنه مشحون بالقلق:
-هو مالُه ده؟
رمشت «مريم»، ورفعت كتفيها في حيرة، قبل أن تهمس بخفوت وهي تراقب تعابير «البدري» المتوترة:
-ولا أعرف!
التفتتا إليه معًا، ونظراتهما مشوبة بالريبة، قبل أن تهمس «مريم» فجأة وقد لمعت في ذهنها فكرة:
-أنا هروح أحكي لماما...
لم تنتظر رد «أروى»، بل التفتت على عجل...
استغفروا🌸
★★★★★★
أسفل البيت
وقف «بدر» و«عامر» متجاورين، يعقدان أذرعهما أمام صدرهما، بينما كانت «سعيدة» تتحدث بحماس مفرط، تلوّح بيديها وكأنها تسرد قصة عظيمة، ترفع ذقنها بفخر لأنها رأت مالا يراه أحد حين أدركت منذ أمد بعيد أن عمرو لسراب...
وفجأة أمالت رأسها للأمام، وخفضت صوتها قائلة بنبرة ماكرة:
-بص يا متواضع إنت وهو، أنا عندي سر... بس أنا حلفت مقولهوش، لكن لو عايزين تعرفوه، يبقى تدفعولي كفارة اليمين، وأنا أقوله... أنا كنت هصوم ٣ أيام وخلاص بس الشيخ قالي دفع الكفاره الأول بما إني اقدر... وانتوا هاتوا فلوس السر وأنا أقوله.
رفع «بدر» حاجبًا وهو يرمقها بريبة، وسأل بصوت حذر:
-سر بخصوص إيه؟
ابتسمت «سعيدة» بذكاء، ورفعت سبابتها بحركة تحذيرية:
-لا، أنا مش هقول حاجة إلا لما تدفعوا كفارة اليمين!
تبادل «بدر» و«عامر» النظرات سريعًا، ثم زفر «بدر» بملل قبل أن يلتفت إلى «عامر» متسائلًا:
-هي كفارة اليمين دي كام؟
لكن قبل أن يفتح «عامر» فمه، بادرت «سعيدة» بالإجابة، وكأنها كانت تنتظر هذا السؤال تحديدًا:
-٣٥٠ جنيه!
عقد «عامر» ذراعيه ونظر إليها بتمعن، ثم مال برأسه قليلًا وقال بنبرة متمهلة وهو يراقب تعابيرها:
-طيب، قولي لنا الأول السر بخصوص إيه، ولو يستاهل، هندفع...
راقبها «بدر» وهو يومئ بتأييد، بينما ضيّقت «سعيدة» عينيها بارتباك للحظة، قبل أن تبتسم مجددًا، ومدت يدها قائلة:
-الفلوس الأول...
تبادل «بدر» و«عامر» النظرات سريعًا، وكلٌّ منهما ينتظر الآخر لينطق، لكن قبل أن يخرج أي صوت، ظهر «عمرو» فجأة، يسير بخطوات واسعة، وملامحه متجهمة، وخلفه «رائد» يحاول تهدئته.
رفعت «سعيدة» حاجبيها بدهشة، ثم ابتسمت بفضول وهي تميل للأمام قليلًا، متسائلة بنبرة مرحة:
-إيه اللي حصل يا عريس؟
لكن «عمرو» لم يلتفت، ولم يرد.
مرّ بجوارها كأنها غير موجودة، واندفع نحو البيت بخطوات غاضبة، بينما زفر «رائد» بملل، ثم تبعه بسرعة.
تبادل «عامر» و«بدر» نظرة قصيرة، ثم تحركا للحاق بهما، وبينما كانت «سعيدة» تستعد للحاق بهم، فاجأها «عامر» بإغلاق الباب في وجهها دون أي تردد.
شهقت بصدمة، وضعت يدها على صدرها وكأنها تلقت صفعة، ثم رفعت ذقنها بأنفة وقالت بغيظ:
-آه يا شوية متكبرين! أنا غلطانة طيب... وربنا...
لكنها سرعان ما ابتلعت كلماتها، ووضعت يديها على خصرها، تحركت يمينًا ويسارًا للحظة، قبل أن تهز رأسها بإصرار، وتتمتم لنفسها:
-لا، أنا مش هحلف تاني... قلبي طيب بزيادة وبرجع في كلامي...
وقبل أن تخطو خطوة واحدة، ظهرت «رغدة» تتأبط ذراع «رحمة»، ارتسمت على شفتي «سعيدة» ابتسامة ماكرة حين رأتهما، اتجهت نحوهما بخطواتٍ ثابتة، وقالت بصوت مرح:
-عقبالكم يا أميرات الشارع...
تجمدت ملامح «رغدة» للحظة، لكنها سرعان ما استعادت رباطة جأشها وابتسمت ابتسامة مجاملة لم تصل إلى عينيها:
-وإنتِ طيبة يا خالتي سعيدة.
حدقت «سعيدة» فيهما بعينين ضيقتين، ثم سألت بنبرة تحمل فضولًا حادًا:
-هو إيه اللي حصل؟ عمرو ماله زعلان كده؟
تبادلت «رحمة» و«رغدة» نظرة خاطفة، قبل أن تندفع رحمة بتلقائية:
-اتخانق مع سراب كالعادة.
اتسعت عينا «رغدة»، وركلت قدم رحمة بخفة ثم ابتسمت ابتسامة مرتبكة وقالت:
-مش خناقة، بس هما عندهم مزاج يستفزوا بعض يا خالتي سعيدة.
زمّت «سعيدة» شفتيها، وعقدت ذراعيها أمام صدرها وهي تحك ذقنها بتفكير عميق، قبل أن تهمس بمكر:
-أمممم... طيب... وإنتِ يا رغدة، كنت عايزة أطمن... المهندس بدر وصلك كتاب العربي ولا لأ؟
احمر وجه «رغدة»، وتجمدت في مكانها للحظة، قبل أن ترمش بعصبية وتتبادل نظرة متوترة مع «رحمة»، ثم قالت بصوت خافت:
-آه... وصله... عن إذنك يا خالتي سعيدة.
لم تنتظر ردًا، أمسكت بذراع «رحمة» وسحبتها بعيدًا بخطوات متسارعة، لكن صوت سعيدة أوقفهما:
-استنوا!
لحقت بهما «سعيدة»، لتمشي بجوارهما وتجاري خطواتهما السريعة، وقبل أن تنطق بكلمة، توقف الزمن أمامهما عندما توقفت سيارة أمام بيت جدهما ضياء.
تسمرت أقدام «رغدة» و«رحمة» في مكانهما، وتبادلتا نظرات مذهولة...
فتح الرجل باب السيارة، وخرج منها وهو يحمل ابنته الصغيرة، بينما لحقت به زوجته وأمسكت بيد طفلهما، ارتجف صوت «رحمة» وهي تهمس:
-دا... بابا!!
ابتسمت «سعيدة» بفضول وراحت ترحب بصالح وزوجته، بينما تشبثت رغدة بذراع أختها بأصابع مرتجفة، وعيناهما معلقتان على والدهما...
تسارعت أنفاس «رحمة»، وشعرت بضيق في صدرها وهي تهمس بصوت مرتعش:
-أعتقد مكاننا مش هنا الفترة دي... المفروض نروح عند تيته داليا...
هزت «رغدة» رأسها بارتباك، وعيناها لا تزالان معلقتين على والدها، الذي انشغل بحمل الحقائب دون أن يلقي نظرة باتجاههما، نظرت لزوجته تلك التي تترك شعرها يتطاير خلفها وترتدي ملابس ضيقة جدًا تشبه الراقصات! إن لم تكن واحدة منهمن، لا تدري كيف انجذب والدها إلى تلك السيدة!
نظرت لرحمة وهمست بصوت مبحوح:
-تعالي نرجع عند جدو دياب.
تبادلت الفتاتان نظرة سريعة، قبل أن تستديرا وتسرعا الخطى بعيدًا، لم تلتفتا خلفهما ولو لمرة واحدة.
كانت قلوبهما ترتجف قلقًا، وذكريات الطفولة تومض أمام أعينهما، كان «صالح» يومًا ما الأب الحنون الذي يخشى عليهما من نفحة الهواء الباردة، كان الأب الذي يرفع كل واحدة منهما عاليًا ليضحكهما، لكن اختفى ذلك الرجل منذ زمن بعيد... الآن، كل ما تبقى منه نظرات باردة وكلمات قاسية.
كانت «رغدة» تشد على ذراع أختها بقوة، حتى شعرت رحمة بأصابعها المغروسة بذراعها، وكأنها تتشبث بآخر خيط أمان، لم تفهما أبدًا سبب غضبه الدائم منهما، وكأنه يعاقبهما على ذنب لم ترتكباه... على حقيقة أنهما ابنتا ريناد.
دخلتا لبيت دياب ابتلعت «رحمة» غصتها، وترددت الكلمات على لسانها قبل أن تهمس:
-بيعاقبنا على غلطه هو... يعني غلط هو وماما واحنا اللي بنتعاقب.
انعقد حاجبا «رغدة» وارتجف فكها، قبل أن تقول بملامح متشنجة:
-أنا مش طايقة أشوفه...
تبادلت الفتاتان نظرة حارقة، وعيونهما تلمع بدموع حبسها الكبرياء، قبل أن تستديرا بسرعة وتصعدا الدرج بخطوات ثقيلة...
وصلتا أمام باب بيت «دياب»، ورفعت «رحمة» يدها المرتجفة لتقرع الجرس، لم تمر سوى لحظة حتى فتح «عامر» الباب، رمقهما باستغراب وقال:
-إيه يا بنات؟ ماما وإخواتي لسه عند سراب...
تجمدت «رغدة» للحظة، وعيناها تلتقطان تفاصيل وجهه دون أن تستطيع الرد....
ضغطت على شفتيها، لكن الدموع خانتها وسالت على وجنتيها، حاولت الكلام، فخرج صوتها بحشرجة:
-عايزين... جدو دياب.
اهتزت شفتا «رحمة» وهمست بصوت مختنق:
-بابا ومراته وعياله هنا يا عامر.
اتسعت عينا «عامر» بصدمة، لكنه سرعان ما أفسح لهما المجال للدخول، قائلاً بصوت مهدئ:
-طيب... طيب، ادخلوا... اهدوا...
أغلق الباب خلفهما، وأخرج من جيبه علبة مناديل ورقية، مدّها لرغدة وهو يقول بنبرة حانية:
-متقلقوش... مش هيعملكم حاجه.
أخذت «رغدة» المناديل بيد مرتعشة، وخلعت نظارتها لتمسح دموعها التي رفضت التوقف، بينما ظلت «رحمة» تراقبها بعينين زائغتين، تشعر بالعجز والضعف.
دخل «عامر»إلى الغرفة حيث يجلس «دياب» مع البقية، يتحدثون مع «عمرو» الذي كان وجهه محتقنًا بالغضب...
توقف الحديث فجأة عندما قال «عامر» بصوت قلق:
-بابا... رغدة ورحمة بره بيعيطوا... وبيقولوا إن صالح هنا.
ارتفع حاجبا «دياب»بدهشة، قبل أن يزفر بعمق ويقول بغيظ:
-دا إيه اللي جابه ده كمان!
نهض «عمرو» بغتة، وعضلات فكه مشدودة وعيناه تلمعان بتصميم غاضب:
-طيب... يبقى يقربلهم، وأنا هفرغ فيه غضبي كله إن شاء الله.
التفت «عمرو» نحو «بدر» حين سأل:
-صالح ده أبوهم، صح؟
قال عامر بعصبية:
-أيوه أبوهم... بس شوفت حسين بيعمل إيه مع سراب؟ دا أو*سخ منه بشوية...
انقبض وجه «دياب»، ونهض واقفًا، وقال:
-يا ترى ضياء في البيت ولا فين!
اندفع خارج الغرفة بخطوات سريعة متوجهًا إلى حيث وقفت رغدة ورحمة، بينما كان «محمد» يطرق رأسه في صمت، تجمدت ملامحه وكأنما يسمع اسمًا ثقيلًا «صالح»!
تنفس بعمق، قبل أن يلحق بدياب، محاولًا السيطرة على ارتجافه فقد كان يتجنب التعامل مع صالح منذ سنوات، رغم أنه أخيه الأكبر من الأب، لكن صالح يكرهه...
في الخلفية، كان «رائد» يحدق في «يحيى» بنظرة صارمة...
اقترب منه وقال بنبرة جامدة:
-على فكرة... أنا زعلان منك.
رمش «يحيى» بذهول، واتسعتا عيناه بدهشة حقيقية وهو يقول:
-زعلان مني أنا؟!
نهض «رائد»، وجسده مشدود كوتر، وقال بجمود:
-قوم... تعالى نتكلم فوق في الشقة.
وقف «يحيى» بحذر، ارتسم القلق على ملامحه، وقال بتردد:
-دا الموضوع شكله كبير ولا إيه؟

وفي شقة رائد أخذ يعاتب يحيى، الذي كان يسمعه دون النطق بكلمة، فهدر به رائد:
-إيه! ساكت ليه؟ مش عارف تدافع عن نفسك؟
تنهد بحيى بعمق ثم قال:
-كويس إنك مقولتش لتقى... إنت أصلًا مش فاهم حاجه، كنت هتغلط غلطه كبيرة... هفهمك...
★★★★★★
في دار رعاية المسنين، كان الصمت يلفّ المكان بثقله، بينما ارتسمت علامات الترقب على وجوه ثلاثة مسنين تابعوا المشهد بأعين فضولية...
حدّق «نادر» في وجه «راشد» للحظات، باحثًا في ملامحه ثم جال بنظره على الجدران التي زُينت بصور باهتة لأزهار ذابلة الألوان، وكأنها شاهدة على مرور زمنٍ على إنشاء هذا المكان. عرض أقل

يتبع الفصل كاملا اضغط هنا ملحوظه اكتب في جوجل "رواية فريده دليل الروايات" لكي تظهر لك كاملة

•تابع الفصل التالي "رواية عن تراض" اضغط على اسم الرواية

google-playkhamsatmostaqltradent