رواية هيبة الفصل الحادي و العشرون 21 - بقلم مريم محمد غريب
_ لا تتركني! _ :
______________________________________
تنويه: الفصل +21، قراءة ممتعة
______________________________________
الليل قد ألقى سدوله على منزل آل"الراعي" ..
بدا المنزل هادئًا، متواطئًا مع ما حدث في ساعاته الأخيرة. خرج "نديم" من غرفة المكتب أخيرًا، عينيه تومضان ببرودٍ ثابت، كأنّ ما اعترف به للتو أمام عمّه لم يكن زلزالًا، بل مجرد سطر أخير في حوار ٍمُمّل، لأن ما حدث، ما فعله هو الأصح، ولا أحد غيره بإمكانه حلّ الأمر، حتى عمّه بنفسه ..
صعد الدرج على مهلٍٍ، كل درجة يطأها بثقل رجل لم يعد يرى في التراجع إمكانٍ ..
توقّف أمام باب غرفتها، أنصت، لا شيء سوى الصمت، طرق الباب بخفة، ثلاث نقراتٍ ثم انتظر ..
لم يطول انتظاره، جاء صوتها من الداخل، واهنًا، متعبًا، لكنه لا يزال ناعمًا:
-أدخل!
فتح الباب بهدوء، ليجدها واقفة أمام مرآتها، شعرها مُبلل ينزلق على كتفيها، يُقطّر على رقبتها بقطرات لامعة، ترتدي روب استحمامها قصير، خامته بيضاء ناعمة تكاد تلتصق ببشرتها، كاشفًا عن فخذيها وساقيها اللتين ما زالتا رطبتين من أثر الماء ..
ابتسم دون أن يتكلم في البداية، فقط نظر. كأن المشهد قد علق في صدره دون نفس، دون رغبة في كسره أو تبديده، كانت آسرة لعينيه وقد أججت شوقه لها من جديد ..
قال أخيرًا بصوتٍ خفيض، وابتسامة خفيفة تشق وجهه الوسيم:
-لولّا.
استدارت إليه بعينين واسعتين تلمعان من بخار الحمام وحرارة الغرفة المُدفأة، ابتسمت له، تلك الابتسامة التي لا تحمل فيها أيّ ادّعاء، بل فقط شيء من الإرهاق.. وشيء من الارتياح لرؤيته الآن ...
-نديم! .. همست باسمه
دلف وأغلق الباب خلفه بالمفتاح، اقترب منها ببطء، وكأنه لا يريد كسر ما بينهما من سكينة، كان عطِر الحمّام لا يزال عالقًا بها، رائحة صابون ناعم وماء دافئ، وعبيرها الطبيعي الذي صار يحفظه عن ظهر قلب ..
مدّ يده ملامسًا أطراف شعرها الرطب، مرّر أنامله فيه بتروٍٍ، ثم همس لها:
-كنتي في الشاور.. لوحدك!
ابتسمت مرفرفة بأهدابها المتلاصقة وغمغمت:
-كان نفسي تكون معايا طبعًا.. بس احنا مش لوحدنا في البيت.
قست نظرته قليلًا وهو يرد عليها بغلظةٍ:
-مش قلت لك قبل كده أنا مايهمنيش أي حد معانا في البيت؟ محدش هنا يقدر يحاسبني. ومحدش يقدر يقولّي كنت في أوضة ليلى بتعمل إيه.
-طيب ماتزعلش. احنا لسا سايبين عض من ساعات.. يعني كنت وحشاك للدرجة دي؟
-للدرجة دي.. وأكتر.
ثم لفها بيده الأخرى من خصرها لتواجهه بالكامل، وقرّبها إليه بلطفٍ متمتمًا:
-شكلك هاتعيدي الشاور. ومش هاتكوني لوحدك المرة دي ..
-عيب يا نديم! .. همست وهي تلمس يده التي استقرت على جانبها وقد تخضّبت وجنتاها خجلًا
نديم بخشونة: أنا جوزك.. العيب في إيه؟
حنى رأسه ببطءٍ صوب عنقها، مرّر شفته دون قبلة، فقط لمسها بأنفاسه، وقال بخفوتٍ:
-جوزك. وحبيبك.. ودلوقتي شايلة حتة مني جوّاكي ..
ارتعشت أنفاسها وهي تستمع إليه، عيناها تلمعان بندى خفي، وربكة ناعمة في صوتها وهي تقول بصوت بالكاد يُسمع:
-بابا مستني أنزل عشان نتعشّى سوا!
رفع يده ووضعها بحنو على بطنها المسطح من فوق قماش الروب، ثم قال من بين قبلاته لعنقها وفكّها:
-مافيش داعي تنزلي للعشا الليلة دي. أنا وصيتك بأكل مخصوص هايطلع لك كمان شوية.
-بس بابا! .. قالتها بتردد، وكأنها خائفة من أن يُساء فهمها لدى والدها
رد بحزمٍ: عمّي مش هايقول حاجة. انتي لسا راجعة من السفر وشكل التعب باين على وشك.
ورفع وجهه لينظر إليها، كانت في عالمٍ آخر وقد نجح بجرّها نحو الاستسلام المبدئي فعليًا، ابتسم وهو يرفع يدها، يقبّل أصابعها، ثم ينظر إليها بعينين فيهما دفء غير مألوف وهو يقول:
-انتي أصلًا لازم تبدأي من دلوقتي تاخدي بالك من نفسك.. تاكلي كويس. تنامي كويس. وماتجهديش نفسك .
ثم وضع يده مجددًا على بطنها وقال بهدوءٍ:
-ما تنسيش ده.. محتاج إهتمام ورعاية منك. انتي بقيتي مسؤولة عنه من دلوقتي.. أوعديني تحافظي على نفسك وعليه!
ابتسمت له بخجل، عينيها تلمعان بحنانٍ مفاجئ، كأنها فجأة شعرت بأهميتها ومسؤوليتها كأم.. بسببه ...
-حاضر.. أوعدك.
سحب خصلة مُبللة من شعرها، ولفها حول إصبعه، ثم قال محذرًا:
-وتنسيلي أمور المعيلة بتاعتك دي نهائي. مافيش جري في البيت. ولا تنطيط على السلالم.. والأكل كله من إنهاردة صحي. لا تقوليلي سوشي ولا نودلز ولا أكل من الشارع. انتي سامعة؟
عبست تستعطفه بطفولية:
-طيب النودلز ليه؟ خلّيها مرة في الأسبوع عشان خاطري!
نديم بحدة: قلت لأ. أقسم بالله يا ليلى لو ما سمعتي الكلمة لاحبسك وهأكلك وأشرّبك بإيدي لحد ما تولدي. أعقلي بقى انتي مابقتيش صغيرة. خلاص بقيتي ست متجوزة وكام شهر وهاتبقي أم.
ليلى بتبرّم: خلاص.. هاسمع الكلام.
رمقها بنظرة أقل حدة وهو يقول:
-شاطرة.. كده تعجبيني.. خلاص أسيبك تريّحي بقى.
وسحب يده من حولها فجأةً، لكن يدها امتدت بسرعة، أمسكت بكفه بقوة ولهفة كأنها تخشى أن يضيع منها في غفلة وهي تقول:
-رايح فين؟
توقّف لحظة، نظر إليها بعينيه اللتين بدأ الهدوء يغشاهما، وقال ببساطة:
-رايح أوضتي.. هانام.. بكرة الصبح رايح أنهي موضوعي مع راندا.
عبست ملامحها، وكأن الكلمات تلك صفعتها بلطفٍ، فقالت بصوتٍ طفولي مكسور:
-يعني هاتسيبني؟ أنا مابقتش بعرف أنام في السرير من غيرك يا نديم!
ظلّ صامتًا للحظة، قبل أن يبتسم ويقترب منها ببطء ثانيةً، رفع كفيه ليمسك وجهها بين راحتيه بحنانٍ أبويّ ممزوج بعشقٍ ناضج، وهمس:
-طيب خلاص.. ماتزعليش. أنا مستعد أفضل جمبك في السرير لحد ما تنامي.. إيه رأيك؟
لم تجبه بالكلام، بل رفعت ذراعيها وأحاطت بها عنقه، قرّبته منها أكثر، وهمست بشفتيها أمام شفتيه:
-لأ.. خلّيك معايا للصبح. مش انت خلاص مافيش حد بيشاركك أوضتك؟ ولا بيزعجك لما بتكون لوحدك كمان؟ أهو.. خليك معايا بقى.
نظر إليها مطولاً. لم تكن كلماتها وحدها ما تؤثر به، بل تلك النظرة الصادقة، الضعف الخفي، الرجفة الخفيفة في صوتها، وكأنها تستجديه لا بعقلها، بل بقلبها وكل خلجاتها ..
انحنى نحوهًا قليلاً، وصوته يخرج منه بانفعالٍ لم يعد يخفيه:
-انتي مجنناني يا ليلى.. ناوية تعملي فيا إيه تاني؟
رفعت حاجبيها باستغراب بريء وهمست:
-أنا؟ أنا عملت إيه؟
ضحك بخفة وهو يقترب منها أكثر، صوته صار أكثر خفوتًا وخطورة وهو يقول:
-مش عارفة عملتي إيه؟ أنا هقولك!
وجذب رأسها نحوه، شفتاه التقمتا شفتيها في قبلةٍ لم تحمل أيّ تردد، قبلة جائعة، عميقة، اشتاقت واشتكت، وكأنه لم يقبّلها لسنوات، وكأنهما لم يتقاربا قبل يومًا واحدًا ..
تجاوبت معه كأنها كانت تنتظره طوال اليوم، ذراعاها التفّتا حول رقبته أكثر، وقلبها ينبض بقوة أسفل صدرها العاري إلا من قماشٍ خفيف، وحرارة أنفاسها امتزجت بأنفاسه الملتهبة ..
كانت قبلاته تنساب كالنار، يذوب بها جلدها، يحترق بها كيانها، كفّاه صعدتا من خصرها إلى ظهرها، ثم إلى عنقها، تمران بشغف يخلو من الخجل، يتملكها بنظراته، بتنهيداته، بلمساته الجريئة ..
ثم دفعها برفقٍ إلى الوراء، نحو منضدة الزينة القريبة، فسقطت فوقها بخفة، ضحكة قصيرة مرتجفة أفلتت منها، لكنه لم يبتسم، بل انحنى عليها بشغفٍ أكبر، وقبّل وجهها، ثم عينيها، ثم تاهت شفتاه على عنقها، فوق العِرق النابض هناك ..
وفور أن أحسّت بتاثير قبلته العميقة تأوهت لا إراديًا ..
لكنه توقف فورًا، رأسه ارتفع بسرعة، وقال بعينان قلقتان:
-مالك؟ انتي كويسة؟
أومأت سريعًا، مرارًا، لا تعرف ماذا تقول، وكأنها عاجزة عن النطق، كل ما فيها فقط كان يطلبه ..
بعينيها، بأنفاسها، برجفة شفتيها ..
نظر إليها طويلاً ..
كانت جميلة، متعبة، لكن جميلة ..
وهمس بصوتٍ أجش:
-هاتندمي على البصّة دي يا لولّا. مش هاتبصّيلي بعد كده خالص!!
ثم ابتسم لها تلك الابتسامة النصفية التي تعرفها، وفي عينيه تلك النظرة.. النظرة التي لا تترك مجالًا للفرار ..
حملها "نديم" بلطفٍ كأنه يحمل أثمن ما في حياته، وأصابع يديه لا تريد أن تُسبب لها أيّ ألم أو تعب، كان يعرف جيدًا أن جسدها الآن ليس كما كان ..
نقلها إلى السرير برقة شديدة، ثم وضعها هناك بهدوء، وقبل أن يبتعد تمامًا كان قد خلع قميصه وفتح زرّ سرواله، نظراته احتدت، وحنانه اللحظي تحوّل من جديد لشغفٍ ناري ..
انحنى صوبها، وشفتيه لامست شفتيها مرةً أخرى، لكن هذه المرة كانت في قبلة مختلفة، أقوى، أشدّ حرارة، وكأنها تلتهمها بكاملها ..
استسلمت له، كعادتها، بلا مقاومة، بلا تردد، كانت جاهزة له، وكل جسدها يطلبه ويحتويه ..
خرجت منها آهات ناعمة حين سكنها بهدوء، آهات امتزجت بصوته الرجولي وهو يتحرّك فوقها ببطء وحذر، يندسّ فيها كأنه سر طال احتباسه، وتتفتّح له كزهرة عطشى تنتظر المطر منذ قرون ..
مشاعر خفيّة تدفع كلاهما لأخذ ما يقدرا عليه من الآخر، وكأن الليلة هي الأخيرة، وكأن اللحظة لن تتكرر، لم يفسرا هذا إلا بتبرير العشق المتبادل بينهما ..
وأنهما مهما تقاربا لا يكتفيا، لم يتخيّلا بأن القادم سيكون نقيض كل شيء حلما به، وأبعد ما يكون عن مخططات "نديم".. كلها ..
استمرت حركته فوقها لوقتٍ طويل، يلامس العمق الذي تطأه يد من قبل، وكأنها خُلقت لتسعه هو، حتى بدأت تنعكس عليها أثقال الإعياء، وتكسّرت فيها قوة البداية شيئًا فشيئًا ..
وإلى أن استنفذها التعب أخيرًا، فأخذ ينهي ما بدأه بنعومة، يتنفس بثقل بينما تصدر هي شهقة واحدة توثّق العهد بينهما ..
ثم حضرا معًا، كما يصل الغريق إلى السطح ليلتقط أنفاسه الأولى، تهدّجت أنفاسهما، بينما تتشبّث بكتفيه الصلبين، كان يحتضنها كما لو أمتلك الحياة في جسدها ..
عينيه لم تغادرا وجهها، لم يتوقف عن تقبيلها، يقبّلها في كل مكانٍ يطاله، ويهمس لها بكلمات حب خافتة في أذنها، كأنه ينسج حولها حكاية عشق لا تنتهي ..
ثم، فجأة.. دق الباب!
ارتجفت "ليلى".. ارتباك عنيف سكنها كبرقٍ مفاجئ ..
لكن "نديم" قبض على يدها بحنان وطمأنها من بين أنفاسه:
-ماتخافيش.. دي أكيد وردة جايبالك العشا.. خليكي زي ما انتي.
شددّت اصابعها حول يده ترمقه بنظرة قلقة مستنكرة، هدأها بصرامة:
-إهدي يا ليلى. قلت لك ماتقليش.. خليكي مكانك وماتتحركيش.
وقف بسرعة، يرتدي ملابسه أمام عينيها وهي غير قادرة على الحراك أساسًا، توجه نحو باب الغرفة وفتحه بزاوية ليجدها إحدى المستخدمات بالفعل ...
-العشا بتاع أنسة ليلى يا نديم بيه! .. قالتها الخادمة وهي ترمقه بنظرة مرتابة
تتساءل بداخلها ماذا يفعل هنا؟
مدت أمام عينيه صينية العشاء ..
ابتسم لها "نديم" ابتسامة لم تصل لعينيه وقال بهدوء:
-شكرًا يا وردة.
تناول منها الصينية، فانفتح الباب قليلًا، وتمكنت "وردة" من لمح ساق "ليلى" العارية ممتدة فوق سريرها المبعثر بشكلٍ غير طبيعي، وكأن حربًا قامت هنا!
عاودت النظر باضطرابٍ إلى "نديم" الذي قال بوداعة متقنة:
-ليلى شكلها أخدة برد من تغيير الجو. حرارتها عالية شوية وانا قاعد جمبها لحد ما تنزل. من فضلك يا وردة كمان ساعة أعملي حاجة سخنة وهاتيها عشان تشربها قبل ما تنام.
أومأت له الفتاة قائلة بطاعة:
-حاضر يا نديم بيه. عنيا.. بعد إذنك!
-اتفضلي.
وهكذا سرّحها مبددًا شكوكها في لحظةٍ ..
ثم أقفل الباب مرةً أخرر وعاد إلى "ليلى" ..
وضع الصينية فوق طاولة صغيرة وقربها من الفراش وهو يقول بأريحية:
-يلا يا لولّا.. العشا وصل.
كانت أكثر من منهكة لترد عليه، لكنها قالت بتعبٍ واضح:
-لأ أنا مش عايزة آكل.. أنا عايزة أنام.
نديم بحدة: مافيش الكلام ده.. يـلا قـووومي بقولك ..
وشدّها من رسغها بقوة، تأوهت بينما يضع وسادة خلف ظهرها، أسندها وجلس بجوارها حاملًا سندويشًا صغيرًا إلى فمها وهو يقول بلطفٍ:
-يلا يا حبيبتي. كُلي ونامي براحتك.. يلا عشان خاطري!
ابتسمت بتعب وهي تنظر بولهٍ إلى عيناه الخضراوين، نقطة ضعفها هما وتلك اللهجة الرقيقة التي يحدّثها بها، لم تستطع رفض طلبه أكثر ..
فتحت فاها سامحة له بإطعامها، حتى أنهت سندويشًا واحدًا، جاء ليقدّم لها الآخر، لكنها أبت بشدة:
-مش قادرة. ماليش نفس بجد يا نديم. لو كلت هارجّع!
لم يُصرّ عليها، لكنه رفع كأس العصير قائلًا:
-طيب على الأقل اشربي ده.. انتي مأكلتيش من ساعة الفطار. يعني ده غداكي وعشاكي. يلا بقى يا ليلى. عشان خاطري ..
بالكاد شربت نصف الكأس وكان هو أكثر من راضيًا ..
أعاده إلى الصينية، ثم عاد إليها ليوّسع لها أحضانه، أراحت رأسها فوق صدره الصلب مغمضة العينين، تمدد بجوارها وهو يحيطها بذراعيه ويمسّد على شعرها بحنوٍ ..
ليسمعها بعد دقيقة تقول له بصوتٍ ناعس:
-نديم!
-قولي يا حبيبتي؟
-انت بتحبني بجد؟
-لسا بتسألي؟!
-اوعى تسيبني.. اوعى تبعد عني... مهما حصل!
ابتسم وهو يقول مطمئنًا إيّاها:
-أطمني.. مافيش أي حاجة تقدر تبعدني عنك.. انتي يتاعتي أنا.. شوفي مكانك فين دلوقتي. انتي في حضني.. وهاتفضلي طول عمرك في حضني ..
غفت مبتسمة وهي تستمع إلى كلماته ووعوده.. وتثق تمامًا بأنه يعنيها.. وأكثر من قادر على تنفذيها كلّها ..
لأنه "نديم" ..
لأنه حبيبها ...
_______________________________________________________
وصلت السيارة السوداء الثقيلة إلى بوابة بيت "الراعي” ..
توقفت بصمتٍ لا يُسمع فيه سوى خفقان قلبٍ يغلي بداخلها، ترجل منها رجلٌ جاوز السبعين، طويل القامة، مهيب الحضور، يكسو شعره البياض، وتفضحه عيناه المُتَّقدتان بجمرة الغضب المُكبوت ..
اقترب من فرد الأمن عند البوابة. قال بصوته الجهوري الصارم:
-انت يابني. بلّغ نديم الراعي إن رياض نصر الدين على الباب.. وجاي ياخد حفيدته.
نظر إليه الحارس الشاب بقلقٍ خفيف، ثم انصرف دون جدال. عاد بعد دقائق قليلة قائلًا:
-مهران بيه هو إللي رد وقالّي أوصل حضرتك لحد عنده.. اتفضل معايا!
تقدّمه الحارس عبر ممرٍ حجري تحفّه الأشجار، حتى وصلا إلى باحة أنيقة مُظلَّلة، تنفتح على واجهة زجاجية ضخمة تطل على البيت المترف، جلس رجلٌ ينتظره هناك، بثيابٍ قاتمة بسيطة، مظهره هادئ لكنه صلب.. “مهران الراعي” ..
لم ينهض، فقط رفع عينيه نحو "رياض" وقال بثقلٍ:
-أهلًا يا جناب العمدة!
وقف "رياض" أمامه دون أن يجلس، نظر حوله للحظة، كأنما يفتّش عن أثرٍ لحفيدته، ثم ثبّت عينيه في "مهران" وقال بجمود:
-فين ليلى؟
-جوا.. وسط ناس بيخافوا عليها أكتر من إللي رماها زمان وكان عايز يقتلها.
-متأكد إنكم ناس بتخافوا عليها يا مهران؟ .. تساءل "رياض" باستهجانٍ
لم يعلّق "مهران".. بينما "رياض" يحتدم غضبًا وقبضته شدَّت على عصاه كأنها ستهشّمها ...
-أنا مش جاي أفتح دفاتر جديمة يا مهران.. أنا جاي آخد بتّي.
مهران بسخرية مريرة:
-بنتك؟ دلوقتي بقت بنتك؟ بعد ما عرفت لها أب وأم وعيلة كاملة غيرك لحد ما كبرت جاي تقول عليها بنتك؟!
سكت "رياض" لبرهةٍ، وكأن سكين غاص صدره ولم ينطق، لكن تحدّث الآن ونبرته لم ترتجف:
-جيت آخدها.. غصبٍ عن أي حد.
نهض "مهران" أخيرًا، ببطء، لكن بثقة مَن يُدرك تمامًا أنه يقف بأرضه، اقترب حتى وقف وجهًا لوجه مع الرجل العجوز، وقال بهدوء:
-وأنا مش هاوقفك.. لكن في حاجة لازم تعرفها. وجود ليلى دلوقتي هنا مش بإيدي ولا بإيدك.. ليلى بقت تخص نديم أكتر مني ومنك.
الإتيان على سيرة "نديم" جعلت الجماء تصعد دفعة واحدة لوجه "رياض" ليهجر بعنفٍ:
-نديم ده حسابه معايا واعر. وجزاء عملته في بتّي هايكون أكتر من موته.. ويفرجني كيف هايمنعني أخدها؟
نظر له "مهران" بصدمة وقال:
-انت عرفت؟ عرفت إزاي؟؟
لم يرد "رياض".. فتقلّص وجه "مهران" وهو يقول كمن يتألم من أعماقه:
-حتى لو عرفت. خلاص. إللي حصل حصل.. وهو مش هايسيبها تخرج من بيته بعد ما ..
لم يستطع "مهران" إتمامها ..
وأطبق الصمت بينهما كجدارٍٍ من نار ..
ثم أردف مهران متنهدًا:
-رياض بيه. لو ليك كلمة.. روح قولها لنديم بنفسك. بس بقولك من دلوقتي.. لو حاولت تاخدها غصب. هاتشوف نديم إللي عمرك ما شُفته.. إللي أنا نفسي ماتخيّلتش يكون كده... وليلى هي إللي هاتتئذي مش حد تاني!
ضرب "رياض" الأرض بعصاه ضربةً مدوية وهو يصيح:
-ماهمشيش من اهنيه جبل ما أشوفه.. ماهمشيش إلا وفي يدّي حفيدتي. ولو فيها موتـي!................................................................................................................................................................................................................................................................................................................. !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
•تابع الفصل التالي "رواية هيبة" اضغط على اسم الرواية