رواية عن تراض الفصل الثامن عشر 18 - بقلم ايه شاكر

 رواية عن تراض الفصل الثامن عشر 18 -  بقلم ايه شاكر

الحلقة ١٨

عن_تراض

رفعت عينيها نحو السماء للحظات، كأنها تبحث عن كلمات مناسبة، لكن حين أسقطت بصرها مجددًا، رأت مشهدًا جعل قلبها يخفق بارتباك.


«سراب» تقف في الشرفة تراقبهما... و«عمرو» أيضًا، يقف في الشرفة المقابلة، يحدّق بهما بعينين تضيقان بغضب متزايد.

أسقطت بصرها، شعرت بتوجس عميق، وما هي إلا لحظات حتى سمعت خطوات قــوية تقترب بسرعة.


انزلق بصرها يمينًا... كان «عمرو» يقترب، وشرارة الغضب في عينيه تزداد اتقادًا، تتراقص كاللهب الباحث عن شيء لالتهامه.

لم يكن مجرد غضب، بل أشبه ببركانٍ على وشك الانفـ ـجار، وكأن «عمرو» وجد أخيرًا متنفّسًا يُفرغ فيه احتقانه المتراكم.

وتلقائيًا، تراجعت «رحمة» خطوة للخلف، وتسارعت أنفاسها، وتواثبت دقات قلبها، وقبل أن تجد الكلمات لتبرر وقوفها مع «نادر»، جاء صوت عمرو حادًا:

-واقف كده ليه يا نادر؟!

رفع «نادر» يديه في محاولة يائسة لتهدئته، وهو يقول بنبرة تحمل مزيجًا من الدفاع والتبرير:

-والله العظيم ما فيه أي حاجة من اللي في دماغك، وإلا مكنتش هقف معاها قصاد بيتكم.

ولكن كلماته لم تجد طريقها إلى «عمرو»، وكأن أذنيه أُغلقتا عن أي تفسير.

رشقه عمرو بنظرة ثاقبة، ثم التفت إلى «رحمة» وألقى عليها أمرًا صارمًا:

-اطلعي فوق.

لم تجادله رحمه، لم تحاول حتى... أدركت أنها وإن فتحت فمها الآن ستسكب الزيت فوق النار، لذا استدارت بسرعة، ودخلت البناية، لكن قدميها توقفتا عند المدخل، كان قلبها يدق بعنف وهي تختبئ خلف البوابة، وتطل برأسها قليلًا؛ لتراقب المشهد بقلبٍ واجفٍ.


حدج «عمرو»، «نادر» بنظرة حادة، وفي حركة خاطفة، جذبه من تلابيبه، واقترب منه حتى كاد يسمع أنفاسه، فاتسعت حدقتا نادر مندهشًا من فعلته المباغتة، ونطق بصدمة:

-جرى إيه يا عمرو!!!؟


رد عمرو بنبرة مرتفعة مشحونة بالوعيد:

-توبت يا نادر ورجعت لعقلك؟ مبروك عليك... إنما رحمة خط أحمر، مفهوم؟


تراجع «نادر» خطوة بعدما أبعد يد عمرو عن ملابسه بهدوء وحاول التوضيح:

-يا عمرو والله ما فيه حاجه... دي هي اللي طلبت تتكلم معايا.


اقترب منه عمرو وربّت على كتفه بعنـ ـف، وهو يتمتم:

-متقربش منها تاني، كفايه اللي عملته لحد النهارده يا نادر.

-يا عمرو أنا معملتش حاجه إنت فاهم غلط.

-لا، عملت.

قالها عمرو بنبرة مرتفعة وهو يغرس عينيه بعيني نادر، الذي تحولت نظراته إلى صلابة مفاجئة، شدّ فكيه، من الأفكار التي تدفقت إلى رأسه، يعلم أنه أخطأ... لكنه تغير، ألم يكفِ ذلك؟ ألم يُغفر له؟ أليس الله غفورًا رحيمًا؟ فلماذا إذًا لا يصدقه عمرو؟


نطق نادر بصوتٍ حاول أن يبقيه متزنًا لكنه خرج مُثقلًا بالقهر:

-إنت بتعاملني كده ليه يا عمرو؟ عملتلك ايه؟ شوفت مني إيه!

تساقطت كلماته بين أنفاسه الملهوفة، تحاول الوصول لقلب عمرو لكنها لم تنجح، رمقه عمرو بنظرة باردة، وقال بصوت خالٍ من أي تردد:

-إنت عليك علامات استفهام كتير أوي يا نادر، لما تيجي تحكيلي كل حاجه بوضوح ساعتها هحاول أديك فرصه.

غرست كلماته أنيابها في صدر نادر، ازدرد لعابه باضطراب، وتصاعدت التساؤلات إلى رأسه؛ هل توصل عمرو للحقيقة الكاملة؟ هل علم أنه هو بنفسه من صنع الفيديو لـ رحمه؟


ابتلع ريقه بصعوبة ثم قال بصوت خفيض يكسوه الاضطراب:

-متعليش صوتك يا عمرو، إحنا في الشارع، تعالى ندخل نتكلم جوه.

مد «نادر» يده للإمساك بذراع عمرو، لكن فوجئ بالأخير ينتزع ذراعه بسرعة، كأن لمسته كانت جمرة حارقة...

قال نادر برجاء:

-يا عمرو والله أنا اتغيرت، بلاش بالله عليك نتكلم في الماضي، عشان خاطري بلاش.


لمس «عمرو» الصدق في عيني نادر فاهتز شيئا بداخله. للحظة، أدرك أنه تجاوز الحد، ولا داعي لكل هذا الغضب! رفع رأسه تجاه شرفة سراب فاصطدمت نظراته بها كانت تقف وتتابع المشهد بصمت مريب، عيناها غامضتان، وكأنها تحاول فك شفرة هذا الغضب المتفجر أمامها.


تراجع «عمرو» خطوة للخلف ضغط على أسنانه حين تذكر أنها سيعقد قرانها على بدر اليوم، فقال بصوت أقل حدّة لكنه لا يزال مشحونًا بالجفاء:

-امشي من قدامي دلوقتي يا نادر.


لم يتحرك نادر أو يرمش حتى، وقال بانفعال:

-مش همشي يا عمرو، مش هينفع أمشي، احنا لازم نتكلم!

تبادلا النظرات في صمت مشحون بالأسئلة، يتساءل «نادر» كيف تغير معه عمرو لتلك الدرجة؟ ألم يكن صديق طفولته؟ لمَ يتعامل معه بكل هذا الجفاء؟ لمَ لا يعطيه فرصة ليثبت صدق نيته؟ ويتساءل «عمرو» هل تغير نادر فعلًا؟ أم أنها خُدعة ووراءه حيلة ما!

وحين طال الصمت كرر نادر بهدوء:

-لازم نتكلم يا عمرو.

اندفع «عمرو» نحوه، يدفعه باتجاه سيارته، وصوته يزلزل الهواء بينهما:

-امشي دلوقتي يا نادر، أرجوك امشي أنا مش طايق منك كلمه.


ثبت «نادر» قدميه، وقال بمرارة ممزوجة بالحيرة:

-لـــيــــــــه يا عمرو؟ ليه؟ ليه كلهم أدوني فرصة وإنت قافل بابك في وشي، لــــيــــــــه؟

ولم يكن يدري أن هناك سببًا آخر وراء ثورة عمرو الشديدة...

رفع «عمرو» رأسه مرة أخرى ليرى سراب مازالت تقف في شرفتها وتتابع بصبرٍ قـ ـاتل، نظراتها الباردة أشعلت النار في صدره، وكأنها لا تهتم به! انتبه لنادر الذي قال:

-رد عليا يا عمرو...


أغلق عمرو جفونه لبرهة وهو يرد:

-امشي يا نادر، امشي دلوقتي، أنا مش عايز أتكلم.


-تمام، براحتك بس أنا مش همشي... أنا طالع عند أختي.

قالها نادر واتجه يدخل من البناية...

اندفع «عمرو» يجذب نادر من ذراعه بعنـ ـف، يمنعه من التقدم خطوة واحدة داخل البناية، يدفعه نحو سيارته ويرغمه أن يركبها ويغادر.


حاول «نادر» أن يتفلت منه بعناد، والحيرة تقبع بين عينيه لا يفهم ماذا دهاه؟ ولمَ يتصرف بتلك الغرابة؟ هل يغير على رحمه؟ هل... يحبها؟!

مجرد تخيله للفكرة جعل وجهه يتصلب ويحتقن، دفع «نادر» «عمرو» بعيدًا عنه، هادرًا بصوت مشحون بالضيق:

-أوعى كده إنت بتعمل كده ليه؟

كانت دفعته أقوى مما قصد، دفعةٌ جعلت جسد عمرو يرتطم بالأرض، أدرك نادر أنه بالغ في رد فعله، فبسط يده لاشعوريًا لمساعدته على النهوض، ولكن لم يمد عمرو يده، بل نهض وحده، فقبض «نادر» يده في حرج، ووقف يتابع نظرات «عمرو» التي اختلفت، وكأن الغضب الذي كان يتأجج قبل لحظات بدأ يخبو قليلًا، أو هكذا ظن نادر، كاد يفتح فمه ليعتذر لكن... فجأة، ودون سابق إنذار، انطلقت قبضة عمرو في الهواء، وارتطمت بوجهه في لكمةٍ قوية مباغتة!


ترنح «نادر» للخلف، تذوق طعم الدم في فمه، لكن سرعان ما استعاد توازنه، وأنفاسه تتلاحق، وأصابعه تنقبض بقـ ـوة...


شهقت «سراب» بصدمة وبسرعة البرق اختفت من الشرفة واندفعت خارج المنزل، تركض نحوهما بخوف، بينما شعرت رحمة بأن الهواء بينهما أصبح مشحونًا بالكهرباء، وكأن هناك صاعقة ستضرب المكان في أي لحظة، تراجعت خطوة قبل أن تستدير وتركض إلى الأعلى، لتنادي العائلة...

استغفروا 🌸


*********

على الجانب الآخر

فتح «بدر» باب شقته، ولم يتوقع أن يجد رغدة تقف خلفه...

تلجّمَ لسانه للحظة قبل أن يستدير عنها بوجوم، مقررًا ألا يُذيقها لينه بعد الآن! عقد ذراعيه أمام صدره، وانتظر كلماتها بصمت. عرض أقل

التعليقات

لا توجد تعليقات حتى الآن

كن أول من يعلّق.


•تابع الفصل التالي "رواية عن تراض" اضغط على اسم الرواية

تعليقات