رواية خطان لا يلتقيان الفصل التاسع 9 - بقلم رغد ايمن
9- انتقامٌ مُخطَّطٌ لَه!
"الكَلماتُ قد تَكذِب، لكن الأفعال دائماً تقولُ الحقيقة!"
- (أدولف هِتلر)
قِراءة لطيفة يا لُطاف.🩵
_______________
بعد خمس ساعاتٍ مِن نَّومه العَميق، إثر تعبه وإرهاقه..
تقلَّب "عُديّ" بنومه، فشعر بجسدٍ ضئيلٍ يلفُّ ذراعيه حول خصره!
عقد حاجبيه وهو ينظرُ جانبه بسُرعة، ما لبث أن تذكّر حين رأى "يُوسُف" ينامُ بجانبه..
ابتسم باتّساع، تزامناً مع نبضات قلبه التي ارتفعت وهو يراه مُحتضناً إياه بإحكام!
ضَمَّه إليه بقوّة، ومشاعر يفتقدانها معاً.. ثم قَبَّل شعره المائل للبُنيّ.. قبل أن يبتعد عنه بحذرٍ، مَخافة أن يُوقظه!
خرج من الغرفة، بضيقٍ وحَنقٍ.. بعدما نظر في الساعة، وعَلم أن صلاتَي المَغرب والعِشاء قد فاتتاه!
وفي طريقه للحَمّام، مَرَّ على غُرفة المعيشة.. فوجدَ والدته جالسةً فيها، مع "ريتاچ" ووالدتها..
- السلام عليكم!
ألقىٰ السَّلام، فنظرنَ إليه.. بعدما كُنّ يتحدّثن..
وبينما ردّ الثلاثة عليه، إلا أن عسليتيْ "ريتاچ" تعلّقتا بمظهره الغير مُرَتَّب.. إثر استيقاظه من النوم..
ابتعلت ريقها، وابتلعت معه نبضات قلبها التي تصيحُ خجلاً!
تعجّبت من ذاتها.. ويكأنها بِكرٌ تتزوّجُ لأوّل مَرّة!
وعند "عُديّ"، حين التفتَ بوجهه إليها، فوجدها تُطرِقُ للأرض..
ظَنَّ هو، أنها تفعلُ ذلك، لأنها لم تَعتَد بعدُ على الوَضع..
حتى أنها ارتدت إسدال صلاة والدته، وحجابها على رأسها!
تنهّد، قائلاً بنبرةٍ لطيفة، يُوجّه حديثه لها:
- هصلي اللي فاتني، ونقعد نتكلم شوية يا "ريتاچ".
شعر بالغرابة بعض الشيء، لقوله اسمها مُجرّداً.. إلا أنه يُريدُ أن يعتادَ على الأمر، حتى لا تخافَ منه!
ولكن مهلاً..
لِمَ يُريدها ألا تخاف منه؟!
هكذا فكّر وهو يدخل الحَمّام، ثم قرر نَفض تلك الغرائب، والاهتمام بالأشياء المُهِمّة فقط.. على الأقل حالياً!
_______________
بعد نصف ساعةٍ، كانت "ريتاچ" جالسةً كما هي بغرفة المعيشة.. تنظرُ للاشيء، وتشردُ بأفكارها!
لازالَ وحشٌ يجثمُ فوقَ عقلها!
وحشٌ كُلَّ ما يُوسوِسُ به هو أنّه رُبّما كان "عُديّ" يخدعها.. أو رُبما هو انتهز الفُرصة ليتزوّجها..
أو..
- امّال فين ماما وطنط؟
سألها "عُديّ" بهدوءٍ، وهو يقطعُ عليها استرسالها في التَّفكير..
فأشارت هي له للدَّاخل حيثُ جلستا، ولم تستطع التحدّث..
أومأ برأسه بالإيجاب، ثم اتَّخذ مجلسه بالقُرب مِنها..
قرر أن يُذيب بعضاً من الجليد، علَّه يستمعُ لكلام المأذون.. ويُثبِّتُ عَتبة داره..
فسألها بنبرةٍ ودود:
- أنتِ خايفة مِنّي؟!
عقدت حاجبيها، وهي تشعرُ بنقص الأوكسجين داخل رئتيها من التوتر والخجل!
ألا يُمكنُ أن يكون قاسياً أكثر؟ فهي لا تُريدُ الوقوع له!
ورُغم ذلك تحدّثت بنبرةٍ مِضطربة:
- خالص، بس يعني.. أنتَ اللي قولتلي هنتكلم!
لم يدرِ لِمَ فعل ذلك، إلا أنه احتضن يديها المُرتجفتين بين كَفّه بلُطف.. وقال:
- مبدأياً عايزك تتأكدي إنك دلوقتي، سندك اتنين رجّالة.. أنا، و"يُوسُف" ابنك.. وبس!
وإني لو عايز أأذيكِ، كنت عملتها من أول مرة اتخانقتِ معايا فيها في الشّارع.. بس أنا عُمري بفضل الله ما قللت من واحدة سِت!
وتاني بقولهالك، متخافيش من أي كائن بيدّعي الرجولة.. طالما زوجك "عُديّ الجَمّال"!
كلامه لها كان غايةً في الحنان والهدوء.. شيءٌ كما العِلاج الذي يُوضعُ على الجِراح، يُعالجها..
كان حديثه، مِرمّماً لنتوءات قلبها!
ورُغم ذلك، فإنها سحبت يديها من كفه بخجل.. وكما سَقَط من قبل، فإن قِناع قوّتها الظاهريّ سَقط للمرة الثانية..
وهي تبكي فجأة أمامه!
لم تعلم، لِمَ أتتها تِلك الرَّغبة المُلِحَّة بالبُكاء.. حتى أنها لم تمهلها شيئاً!
شعر "عُديّ" بالضيق الشَّديد، وأنّها رُبّما بَكَت هكذا لإمساكه يدها..
فتحدّث قائلاً بنبرةٍ أفتَر من السَّابقة، وهو يبتعدُ قليلاً:
- بعتذر لو كُنت تخطّيت حدودي!
قاطعته بسُرعة، وقد فهمت ما ظَنَّه بها:
- أنا مش بعيّط بسببك والله!
كانت نبرتها مُتهدّجة مُرتجفة، فلانَت نبرته وهو يسألها بهدوء.. وقد شعر تلقائياً ببعض الحنق:
- يبقىٰ بسبب الحقير إيّاه؟
أومأت برأسها بالإيجاب، وقبل أن يفهمها خطأً للمرّة الثانية، أسرعت تُخبره بنبرةٍ باكية:
- أنا بس مش قادرة لسة أستوعب، إنك بتحبّ طِفل، ومُستعدّ تدافع عنه للدرجادي.. وأنتَ لسة شايفه من كام يوم!
مش قادرة أستوعب إن واحدة أذتك بكلامها أكتر من مرة، تُصِرّ إنك تدافع عنها بدون مُقابِل!
استمع لحديثها، ولمخاوفها التي تختبئُ بطيّات الحديث..
قبل أن يشرد ببصره في اللاشيء، ويقول بخفوت:
- فاقِدُ الشيء، يُعطيه على الأرجح.. ومن جَرَّب الأذيّة، يخشىٰ على غيره من الأذىٰ!
ابتلعت ريقها، وهي تستمعُ له بصمت..
يبدو أنه يُخفي داخِل قلبه جُرحاً من زيجته السَّابقة!
أما "عُديّ"، فقد أخذ نفساً عميقاً، قبل أن يتحدّث قائلاً بجِدّية:
- نتكلّم بقا في المُهم..
أولَته كامِل تركيزها، فيما أكمل هو بهدوء وهو يُحاوِل ترتيب حديثه:
- مش مِحتاج أقولك إن وجودك هنا أنتِ و"يُوسُف" وطنط، شيء مفروغ منه، ومش محتاج كلام كتير..
ممكن بكرة بإذن الله نروح شقتكم لو فيه ضروريات ليكم نجيبها.
صَمَت ثوانٍ، يرىٰ ردّ فعلها.. فأومأت هي برأسها علامة الموافقة!
هي بالأساس لم تكن لترفض، فما يزالُ "شهاب" كالذئبِ الطَّليق، يتربّصُ بفريسته إلىٰ تكون وحدها!
تنهّد "عُديّ" وهو يُكمل:
- بالنسبة لـ"يُوسُف"، الأفضل أنه يقعد في البيت الفترة دي لحد الامتحانات.. وبإذن الله فترة امتحاناته هاخد اجازة، و..
فهمت هي باقي حديثه، فأسرعت تُقاطعه بقوّة:
- مُتفهّمة خوفك على "يُوسِف"، لكن ده ابني أنا!
تِقدر تقولي لما توصله، هيكون بِصفَتك ايه؟!
كان يُناظِرها بنظراتٍ بارِدة، إلى أن تُنهي حديثها..
ثم تحدّث بثباتٍ وبعض البرود:
- "يُوسُف"! اسمه "يُوسُف" يا "ريتاچ"!
نظرت له ببلاهة.. حقاً! أهذا وقته؟!
في حين أكمل "عُديّ" بذات النبرة، وقد انتابه ضيقٌ وحَنقٌ من حديثها الأنانيّ:
- هوصّله المدرسة بِصَفتي ايه؟ بِصَفتي أخوه الكبير.. صديقه المُقرّب.. وأبوه اللي مخلّفهوش؛ عشان مش بحب كلمة "زوج أمه" دي!
قال جُملته الأخيرة، ببعض الامتعاض الطُفوليّ..
بُهِتت "ريتاچ" من ردّه، فيما أكمل بثبات، وهو يقتربُ من موضع جلوسها:
- المرادي عشان لسة متعرفينيش كويس، هعديها.. لكن بعد كدة مفيش حاجة اسمها "ابني أنا"، لأن فيها زعل!
زي ما "يُوسُف" ابنك، هو بالنسبة لي حاجات كتيرة أوي!
لم تنبس "ريتاچ" ببنت شفة، وهي تُطالع نظراته الثابتة وقلبها ينبضُ بقوّةٍ من حديثه اللطيف!
وعند "عُديّ"، فقد شعر لوهلة وهو يغرق داخل عينيها، أنّ قلباً نقيّاً يقبعُ داخل تلك العسليّتَين!
حمحم وهو ينتبه لنفسه، بعدما أخذَ جولةً سريعةً على ملامح وجهها القَمحيّ..
وقبل ان يتحدّث أيٌّ منهم، صَدحَ صوتُ الهاتف الجوّال!
ابتلعت "ريتاچ" ريقها، قبل أن تلتقط هاتفها من جانبها.. وقد أولَىٰ "عُديّ" تركيزه لها!
تصلّبت نظراتها على الرقم المُتّصل.. لم يُسعفها الوقتُ بالأمسِ حتى تحظره!
- مين اللي بيتصل؟
قالها "عُديّ" وهو يعقدُ حاجبيه، فقد لاحظ عدم إبداء ردِّ فعلٍ منها..
تهدّج صوتها واضطرب، وهي تُجيبه:
- ده.. ده "شهاب"!
صِدقاً، فقد شعر "عُديّ" بطاقةِ غضبٍ عاتيةٍ، وهو مُستعدٌّ لإفراغها بوجه ذلك الحقير!
أشار لها بسُرعة كي تُجيب على الاتصال، قبل أن يُخبرها أن تفتح مُكبّر الصَّوت، وألا تتحدث!
- طب حتى مَثّلي التُّقل شوية! كان ايه لازمته الشو بتاع امبارح، والواد اللي أجّرتيه عشان تتحامِي فيه؟!
قالها "شهاب" باستهزاءٍ وحقارةٍ واضحة!
شعرت "ريتاچ" أن الهواء قد نَفِد من رئتيها، وبقلبها الذي يُمزِّقه إرباً!
لم يكن يهمّها شخصه، كُلّ ما أرادت الصُّراخ والبُكاء مِن أجله، أنّ ذاكَ الحقيرُ القَذِرُ، لا يفعلُ شيئاً سِوىٰ أن يظنَّ بها السُّوء!
ويكأنها لم تكن زوجته، أو أمٌّ لابنه!
وفي الحقيقة، لقد كان "عُديّ" هو الآخر يشعرُ بغضبٍ عارِمٍ من حديث ذلك المُخنّث على "ريتاچ"، وعليه!
فَهِم جيّداً شخصيّة "شهاب"، فقرر اللَّعب معه بنفس أسلوبه.. البرود والاستفزاز!
فتحدّث قائلاً ببرودٍ، يعلمُ الله وحده من أين اكتسبه بتلك اللحظة:
- مش عيب لمّا كائن قَذِر زيّك، يتّصل على مراتي في وقت زي ده.. وكمان من غير وجه حقّ!
شعر "شهاب" بصاعقةٍ تنزلُ فوق رأسه، وهو يستمعُ لذلك الحديث، من ذلك الصَّوت!
بالطَّبع لقد تعرَّف عليه..
إلا أنه ابتلع الصَّدمة، مُجيباً على "عُديّ" بخشونة ووقاحة:
- مرات مين ياض أنتَ، ما تُظبط كدة!
أخذ "عُديّ" الهاتف من "ريتاچ"، قائلاً ببرود قاسٍ كالجليد، وهو يضعه على أذنه مُغلقاً مُكبّر الصوت:
- مراتي.. زَوجي بالنِّقاط، ورُوحي دونها.. My wife بالانجليزي.. Ma femme بالفرنساوي!
تِحب أقولهالك بلُغة تانية؟!
ومع عِلم "ريتاچ" أنه ليس الوقت المُناسِب لذلك، إلا أنَّ قلبها تمرَّد عليها حين نطق "عُديّ" تِلك الكلمات..
وخصوصاً كلمتي "رُوحي"، و"Ma femme"!
وعَن "عُديّ" يعلمُ تمام العِلم أنه أشعلَ نار الغضب بقلب الآخر من تنفّسه المُرتفع..
إلا أنه أكمل بقسوةٍ وحِدّة:
- يعني أنتَ اللي تُظبط، ومتتصلش تاني على الرقم ده!
وتاني بحذّرك يا "شهاب"، لو راجل فكّر بس تعملهم حاجة..
ولو إني شاكك في النُّقطة دي، لأنك ببساطة.. مش راجل!
وقبل أن يُغلق "عُديّ" المُكالمة، سَمعه يُتمتم شيئاً ما بغضب عارِم!
لم يهتم كثيراً، وأغلق الهاتف مُعطياً إياه لـ"ريتاچ"، التي ما إن لامس كفّيها، حتى وجدهما كقطعتين من الثَّلج، يرتجفان ويرتعدان!
ورُغماً عنه، آلمه قلبه لخوفها..
فتنهّد بثِقَلٍ، ومَدّ كَفّيه يُحكِم الإمساكَ بكفّيها.. ثم تحدّث بنبرةٍ حَنون، وصوتٍ خافت:
- متخافيش، أنا معاكم.. وربنا ﷻ معانا جميعاً أولاً وأخيراً!
صمتَ لثوانٍ يبتلعُ ريقه، وهو يتذكّرُ.. قبل أن ينبسَ بصوته الرَّخيم الجميل:
- ربنا ﷻ قال: ﴿وَلَئِن سَأَلتَهُم مَن خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرضَ لَيَقولُنَّ اللَّهُ قُل أَفَرَأَيتُم ما تَدعونَ مِن دونِ اللَّهِ إِن أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَل هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَو أَرادَني بِرَحمَةٍ هَل هُنَّ مُمسِكاتُ رَحمَتِهِ قُل حَسبِيَ اللَّهُ عَلَيهِ يَتَوَكَّلُ المُتَوَكِّلونَ﴾.
أدمعت عيناها بحُرقةٍ، كحُرقةِ قلبها وهي تستمعُ لتِلاوته العَذبة..
شعرت بهدوءٍ يسكن قلبها، وهو يُكمِل:
- النبي ﷺ بردو كان بينصح سيدنا "عبد الله بن عبّاس"، وقاله: "... واعلَم أن الأُمَّة لو اجتمعت على أن ينفعوكَ بشيء، لم ينفعوكَ إلا بشيءٍ قد كتبه الله لَكَ..
وإن اجتمعوا على أن يضرّوكَ بشيءٍ، لم يضرّوكَ إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك".
سادَ سُكونٌ بينهم لدقائق، يتشرّبان تِلك الأحكامُ الإسلاميّةُ التي تُلَيت عليهما..
قبل أن يشقَّ ذلك السُّكون، صوتَ "يُوسُف" وهو يصرخُ ويبكي!
كان "عُديّ" هو الأسرع، حيثُ ركضَ بسُرعةٍ تجاه غُرفته، تتبعه "ريتاچ" وقلبها يتواثبُ بهلعٍ على ابنها!
كان المسكينُ يهذي داخل نومه، فأسرع "عُديّ" يحتضنه بحنانٍ وهو يقرأ بأذنه المعوذتين وآية الكُرسيّ..
ثوانٍ، وهدأ "يُوسُف" وهو يتمسّكُ بحضن "عُديّ"..
ظَلَّ الأخيرُ يمسحُ على شعره بلُطفٍ، بنظراته الشَّارِدة التي تمتلئُ غضباً..
فقد التقطَ كلماتٍ قالها "يُوسُف" بكابوسه على غِرار:
"والله معملتش حاجة!"
"متضربنيش خلاص مش هكررها تاني!"
"متضربش ماما تاني!"
- "شهاب" كان بيضربه كتير.. ساعات من غير سبب، وساعات عشان.. عشان ميضربنيش أنا!
همست بها "ريتاچ" بنبرةٍ مُضطربةٍ، حيثُ جلست عند طرف السَّرير، تُربّتُ على قدم ابنها!
ابتلع "عُديّ" تلك الغُصَّة التي تكوّنت بحلقه، وقد انقبضَ قلبه لدرجةٍ آلمته، وجعلته يرغبُ بالبُكاء!
ولم يَجد ما يُقال.. فما الذي سيُقال بعد ذلك؟!
فيما أكملت هي وقد بدأت تمتزجُ نبرتها، بالبكاء:
- مش أول مرة يصحىٰ من النوم مفزوع كدة، كتير أوي بتجيله كوابيس بسبب الزفت "شهاب"!
وللمرةِ التي لا يدري عددها، شعر "عُديّ" برغبته بقتل ذلك القَذِر!
وللمرة التي لا تدَري هي عددها، شعرت "ريتاچ" أنها السببُ الرئيسيّ فيما هي وابنها به!
أليست هي من أصرَّت عليه؟!
أليست هي من حذّرتها والدتها منه؟!
أليست..
- "ريتاچ" تعالي مكاني، عشان "يُوسُف" ميتضايقش!
قالها "عُديّ" وهو يُحاول سَحبَ نفسه ببطءٍ وحذرٍ من عِناق "يُوسُف"..
في الواقع، هو لا يُريدُ الابتعاد عنه قيد أُنملة.. إلا أنه أيضاً لا يودُّ أن يكون أنانياً، وسيتركُ لهما الغُرفة بأسرها، وينامُ هو على الأريكة بالخارج..
تململ "يُوسُف" بنومه، وتمسّك مُجدداً بعناق "عُديّ" وبقوّة أكبر!
لاحظت "ريتاچ" ذلك، فابتسمت قائلةً:
- خلاص مش مشكلة، ممكن تفضل هنا لحد ما يروح في النوم!
نظر لها وتنهّد.. ثم عَدّل وضعية نوم الصَّغير، فيما ظَلّت هي جالسةً بمكانها.. قبل أن تُحدِّثَ "عُديّ" بتردد وحرج:
- هو ينفع، لو أنتَ حافظ قُرآن تقرألنا؟ أصل صوتك ما شاء الله جميل وفيه سَكينة كدة.
ابتسم هو باتّساع، وقد طرقَ قلبه من إطرائها!
من كان يظنُّ أن التي تشاجرت معه أكثر من مرةٍ، تطلب منه شيئاً كهذا؟!
أسرعت "ريتاچ" تقول ببعض الضيق، حين طالَ صمته:
- لو مش عايز براحتك!
هَزَّ رأسه بيأسٍ من مشاكل الثقة التي تمتلئُ بها.. ثم حمحم مُجلياً حلقه، وبدأ يتلو بهدوء سورة (الكهف) التي يحفظها ويُحبُّها كثيراً!
نظرت "ريتاچ" تجاه "يُوسُف" بابتسامةٍ حاولت كَبتها.. وقد طَرق قلبها داخل أضلعها من صوته الجميل، ومن تنفيذه لطلبها البسيط.. وماذا يُريدُ المَرءُ مِن الدُّنيا، سِوىٰ أن يشعرَ بأهميّته عِند أحدهم؟!
_______________
تداخل صوتُ رنين المُنبّه، مع الحُلم.. ثوانٍ، وفَتحَ "عُديّ" عينيه وهو يشعرُ بثِقَلٍ بجفونه وألمٍ بعظام جسده..
نظر حوله، فصُدم من المنظر!
فقد نامَ بمكانه، بجوار "يُوسُف".. وكانت "ريتاچ" نائمةً بوضعيّةٍ غير مُريحة، تضعُ رأسها على قدمه..
مَدَّد ذراعيه، في مُحاولةٍ منه لفكّ تشنجات عِظامه..
ثم همسَ مُنادياً على "ريتاچ" يُحاوِل إيقاظها.. وقد توقّف المُنبّه عن رنينه المُزعِج..
فزعت "ريتاچ" لوهلةٍ أنها تنامُ بهذا الشكل، فطمأنها قائلاً بهدوء:
- محصلش حاجة، أنا مش غريب يعني.. قومي عشان نصلّي الفجر، وأنا كدة كدة رايح الشُّغل..
_______________
دارت الأيامُ دَورتها الطبيعيّة، حتى أتىٰ يومُ الجُمعة..
كان "عُديّ" قد انتهىٰ من صلاة العصر، فجلسَ على الأريكة، بالغرفة التي يُعطي بها الدَّرسَ الخُصوصيّ للشباب..
كان قد شَرَد بأفكاره في ذلك الأسبوع الهادئ بعض الشيء..
حيثُ كان ينامُ أغلب الوقتِ بجانب "يُوسُف"، بُناءً على رغبة الصَبيّ..
ولا ننسىٰ طبعاً سعادة الصَبيّ حين علم أنه لن يذهب للمدرسة حتى موعد الاختبارات!
قهقه بخفّة حين تذكّر ردّة فعله.. وما لبث أن ابتسم باتّساعٍ حين رآه يطلُّ عليه من الدّاخل، وقد ارتدىٰ ثياباً جديدةً استعداداً للخروج مع "عُديّ" بنُزهة، كما وعده..
- لبست بدري ليه يا جميل الاسم والمَلامح، لِسة بدري يا عمّ!
قالها "عُديّ" بابتسامةٍ واسعة، وازدادت اتّساعاً حين أجابه "يُوسُف" وهو يجلسُ بجانبه على الأريكة:
- ينفع أحضر معاك الحِصة يا بابا "عُديّ"؟
طرق قلبُ الآخر، وقد تلألأت الدُّموع داخل عينيه بتأثر وهو يستمعُ لتلك الكَلمة التي افتقدها.. وقبل أن يُجيبه، سمع صوتَ شِجارٍ يأتي من أسفل العمارة في الشارع!
عقد حاجبَيه، وهو ينظرُ لـ"يُوسُف" قائلاً بهدوء:
- خلّيك هنا، متخافش.. هشوف فيه ايه، وأرجع علطول!
ثم قام من مكانه، مُتجهاً للشُرفة ليرىٰ الأوضاع..
كانوا بِضعة شبابٍ يتشاجرون، في الحقيقة هو لا يعلمُ أيٌّ مِنهم، إلا أنه فَهِم الوَضع!
رُبّما كانوا يتشاجرون على شيءٍ ما.. ولا يُريدُ إساءة الظَنِّ، ولكنّ شجارهم قد يكون أيضاً على فتاةٍ ما!
- بابا "عُديّ"، فيه ناس عايزينك برّا!
صاحَ بها "يُوسُف" بنبرةٍ مُتلعثمةٍ مُضطربة، فظنَّ الآخر أنه يقصدُ الفتيان..
خرج مُمسكاً بيد "يُوسُف"، إلا أنه لم يَجد أحداً.. فتحدّث الصغير:
- واقفين على الباب.
عَقَد "عُديّ" حاجبَيه، وهو يتّجه مع الصَبيّ.. وما كادَ يصلُ للباب المفتوح، حتىٰ انقبضَ قلبه بقسوةٍ وعُنف.. وهو يرىٰ رجالاً يرتدون ثياباً رسميّةً..
قبل أن يقول واحدٌ منهم بصرامة:
- أنتَ "عُديّ الجَمّال"؟
ابتلع "عُديّ" ريقه، وهو يُومئ برأسه بالإيجاب..
فاقترب شُرطيٌّ مِنه، بينما الآخر يُكمِل بذات النبرة:
- معانا أمر بإحضارك، اتفضل معانا!
يُتّبع...
*****
- يتبع الفصل التالي اضغط على (خطان لا يلتقيان) اسم الرواية