رواية خطان لا يلتقيان الفصل الخامس 5 - بقلم رغد ايمن
5- أنقِذ أُمّي!
وَحينَ أخبرني أن لا مَكانَ لي بقلبه..
سَمعتُ صوتَ انكسارِ شَيء!
أعتقدُ أنَّ الصَّوتَ آتٍ مِن قَلبي!
_______________
مُجرّدُ جُملةٍ قالها الصَبيُّ، شعر بعدها ويكأنَّ دَلواً من الثلج، قد سُكِب فوقَ رأسه!
ولكن لِمَ الدَّهشة؟! أمٌ غاضِبةٌ حانِقةٌ تخافُ دائماً على ابنها من الغُرباء..
هذا هو السِّياقُ الطَّبيعيُّ، غير ذلك الذي اخترعه عقله، أنها مُجرّدُ أختٍ له!
ولكن، أين والده؟! هو لم يَرَ رجلاً مَعه من قبل!
كاد "عُديّ" أن يتهوّر ويسأله، إلا أنه تراجع في اللحظة الأخيرة ينهرُ ذاته!
حديثُ الصَبيّ يُوحي أن والده قاسٍ معه.. لُربّما كان غير موجودٍ، أو..
- عمو "عُديّ"، مش هنمشي؟!
قالها "يُوسُف" ببعض التعجّب، فما يزالان واقفَين في الشارع!
زفر "عُديّ" الهواء، وقد بدأ عقله بتجميع الأحداث ورَبطها.. ويكأنها لوح "Pazzel".. ونظر للصغير قائلاً بابتسامة ويكأن شيئاً لم يكن:
- أيوة طبعاً، عشان لما تقول لمامتك إنك نازل تلعب معانا، توافق.
أومأ الصبيُّ بحماسٍ، بعدما تذكّر أمر اللعب.. سائراً مع "عُديّ" بخُطىً مُسرعة..
ولم تمرّ ثلاث دقائق، حتى وصلا للعمارة التي يقطنُ بِها "يُوسُف"..
_______________
أما في الأعلى، ومن خلف زُجاج النَّافِذة.. كانت "ريتاچ" واقفةٌ تُراقِبُ ابنها وهو يُودّع صديقه الكَبير، بانفتاحٍ وابتسامةٍ واسعةٍ نادِراً ما تتواجدُ على ثغره..
ثم حوّلت بَصرها، تنظرُ بتركيزٍ لتعابير وجه "عُديّ".. مُحاوِلةً اصطياد أي شيء مُريب!
لم تَجد سِوى ابتسامةٍ صافيةٍ ترتسمُ على ثغره، ونظراته الحَريصة التي تُتابعُ ابنها..
إلى أن اطمئن لدخوله المَبنى، ثم انطلق بخطواتٍ ثابتة، وهو يغضُّ طَرفه عن أي فتاةٍ أو امرأةٍ تسير!
وما كادَ قلبها يُطمئنها أن شخصاً كهذا، يَتّقي الله في الضَّعيفين، لا يُمكنُ أن يَكون سيئاً!
حتى شعرت بصفعةٍ حادةٍ من عقلها، يرفضُ تَصديق الظَّواهر!
وما يلبثُ أن يُذكّرها بزعيم الأوغاد الذي تزوّجته.. فقد كا..
- "ريتاچ" يا بنتي الجرس بيرنّ!
صاحت بها والدتها تُنبّهُها، فأفاقت الأخرى من شرودها الذي أخذَ دقيقتين، وقامت بسُرعةٍ تفتحُ لـ"يُوسُف"..
وفي قرارةِ نفسها، تعزمُ على الأخذِ بنصيحة والدتها.. وأخذه بحضنها والاستماع له، حتى لا ينفرَ منها!
فتحت له، وهي تأخذُ نَفساً عَميقاً.. قبل أن تبتسم بلُطفٍ وتأخذه بحِضنها، وهي تسأله:
- صليت الجُمعة يا حبيبي؟ أشطر "يُوسِف"!
لم يتوقّع هو رَدّةُ فعلها تِلك، خصوصاً بعد مِزاجها الحادّ الذي لازمها طِوال الأسبوع.. إلا أنه فَرح بفعلها، وسارع بلفّ يده حول خِصرها، يُبادلها العِناق اللطيف..
ثم ابتعد عنها، وبدأ يحكي لها وهما يتجهان للجلوس بغرفة المعيشة، عن الفترة التي قضاها بالخارج..
ولم تلبث حروفه أن بدأت تأخذُ مَجراها، ليبدأ بالتحدث عن صديقه وقُدوته، "عُديّ"!
- عارفة يا ماما؟! قالي أعتبرُه أخويا الكبير، ووعدني كمان إننا هنفضل أصحاب علطول.
قالها "يُوسُف" بابتسامةٍ واسعة، فتجهّم وجه "ريتاچ" إثر ذِكر اسمه.. وغاصَ قلبها داخل أضلعها أكثر، مع جُملته التي قالها!
{"أنتَ مُمكن تتغير يا "شهاب"؟!"
قالتها ببعض الخجل والهدوء، فابتسم الآخر ابتسامة ذئب، قد أوشَك على الوُقوع بالفريسة.. قبل أن يُجيبها بتلاعب: "مُستحيل يا "ريتا"، أنا هفضل أحبك علطول!"}
انتبهت على صوت "يُوسُف" وهو يُخبرها بنبرةٍ راجية:
- ماما، أصحابي وعمو "عُديّ" هينزلوا بالليل يلعبوا كورة، ممكن أنزل معاهم؟ ووعد، هخلّص الواجب قبل ما أنزل!
ابتلعت ريقها..
ما زالت تشعرُ بتلك الغُصّة داخل حلقها، والتي تستمرُّ بالانتشار حتى وصلت لقلبها!
لم تستطع الردّ على الصبيّ، فكأنّ تلك الذِكرى جثمت على أنفاسها.. إلا أنها أومأت برأسها علامة الموافقة، وهي تمسحُ على شعر صغيرها بحنان..
كانت ردّة فعله قمةٌ في اللطافة، حيثُ قبَّل وجنتها بسعادةٍ.. ثم نزل من فوق الأريكة، ذاهباً لغُرفته ليُذاكر..
ابتسمت بتأثر، وهربت دمعةٌ ساخِنةٌ من عينيها..
رُغم أنه وَرِث بعض الملامح من والده.. إلا أنّ من رحمة الله بها، أنه لم يأخذ شيئاً من خِصالِه القاسية شديدة الجَفاء!
أسندت "ريتاچ" ظهرها للأريكة، تُريحه..
تعلمُ جيّداً أنه وقتُ إعداد الغداء، ويجبُ أن تبدأ به حتى تستيقظ والدتها، وتجده جاهزاً..
ولكنها أقنعت ذاتها، وخَدّرتها بأنه لا بأس بتجرّع بعض الذِكريات.. والنَّدمِ عليها!
ذِكرىٰ،
فالثانيَةْ..
فدموعٌ بَعدَهُما جاريَةْ!
هكذا شعرَ عقلها بالتَّعب، وشعر بالشَّفقة عليها.. فقرر مَشكوراً أن يُريحَ ذاتَه، ويُريحها قبله من انقباضِ ذلك النَّابضِ أيسرها!
_______________
كانت تُمسكُ هاتفها، بعدما أنهت ترتيب المنزل..
أرسلت لها صديقةٌ، شيئاً مُضحكاً.. فرُغماً عنها ضحكت بصوتٍ عالٍ، وهي مُنكبّةٌ على الهاتف تُرسلُ رَداً لصديقتها..
صوتُ صفعةٍ دوّى بالمكان،
ولم تَكُن تِلكَ الصَّفعةُ إلّا مِن أعزِّ البَشَر على قَلبها!
أم تَقولُ "مَن كان" بعد تِلك الصَّفعة؟!
فنظراته المُخيفةُ تِلكَ لم تَعُد تَعيها حقاً!
جَذبها من شعرها بقوّة، مُقرّباً إياها منه ليهمس أمام وجهها بنظراتٍ مُحتَقِرة:
- بتعملي ايه يا ***** على الفون؟ بتكلمي واحد تاني صح؟! طبعاً، ما أنتِ شاطرة في كدة أوي!
نظرت له بصدمة، وقد بدأت الدموع تنزلُ من مُقلتيها تحرقُ خدّيها!
لا تَدري، أدموعُ الألم من جذبه شعرها هكذا.. أم هي دماءُ قلبها التي تنزفُ من صدمتها مِنه!
أهكذا يراها؟!
امرأةٌ لا تؤتمن!
بعد كُلِّ ما فَعلته لأجله؟!
كادت تردُّ عليه ردّاً لاذعاً، تسترجعُ كرامتها التي أهدرها هو بكُلّ سهولة.. إلا أنَّ صوتها لم يخرج..
كعادة الأحلام!
_______________
نادت على "ريتاچ"، حتى تُساعدها بنَقلها من السرير إلى الكُرسيّ.. إلا أنّها لم تُجِب عليها!
ثوانٍ، ووجدت "يُوسُف" يركضُ لها قائلاً بابتسامة:
- هي ماما نايمة، أساعدك يا تيتة؟
ولم يترك لها الفُرصة، حتى اقترب منها ومَدَّ لها ذراعه وجسده تتكئ عليه.. بعدما قَرَّب الكُرسيّ من موضع نزولها..
وما إن استقرّت على الكُرسيّ، واحتضنت حفيدها تشكره.. سألته بهدوء:
- هي ماما نامت من امته يا "يُوسِف"؟
هَزّ الآخر كتفيه بعدم مَعرفة، وهو يُجيبها ببساطة:
- مش عارف، أنا جيت من صلاة الجُمعة وقعدت معاها شوية.. وبعد كدة دخلت عشان أعمل الواجب، ولما ندهتي، أنا شوفتها وهي نايمة على الكنبة.. متخافيش هي عايشة، شوفتها بتتنفس!
أنهى الصبيُّ حديثه بتلك الجُملة، جعل الجَدّة لم تستطع تمالك نفسها، وضحكت بشدّة على حديثه الغاية في الصَّراحة!
- تعالى طيب نشوف هناكل ايه؟
قالتها الجَدّة وهي تتحركُ للخارج، فلحق بها "يُوسُف" وهو يسألها:
- مش هنصحّي ماما تعمل الأكل؟
أجابته الجَدّة أن "لا".. ثم مرّت أمام غرفة المعيشة، حيثُ جلست "ريتاچ"..
أو بالأحرى، حيثُ نامت!
نظرت لها بشفقةٍ، بعدما رأت ارتجافات جسدها البسيطة.. وتمتمتها بأشياء لم تستطع سماعها..
ولم تَكُ تِلك التَمتَماتُ، سِوى: "أنا مش رخيـ.ـصة! والله كنت بكلم صاحبتي!"
تنهّدت الجَدّةُ، وهي تشعرُ بقلبها يؤلمها على ابنتها!
كاد "يُوسُف" يذهبُ تجاه والدته، ولكن الجَدَّة أخبرته بسُرعة:
- لأ لأ! يلا عشان نجهّز الأكل لحد ما "ريتاچ" تِصحى.
استمع لأمرها، ثم سار معها تجاه المطبخ وهو يسألها بفضول:
- هنعمل ايه يا تيتة؟
ثوانٍ، وتذكّر قائلاً:
- بس أنا مش بعرف أعمل الأ..
قاطعته جدّته، وهي تضحكُ بيأسٍ على ثرثرته:
- هنعمل بيتزا، أنتَ هتجهز المكونات اللي هتتحط فوق.. وأنا هعمل العَجينة، اتفقنا؟
شعر بالحماس يتدفّقُ لعروقه، فهزّ رأسه علامة الموافقة.. ثم شرعَ يستمعُ لها بإنصات واهتمام..
_______________
في اليومِ التالي، كان "عُديّ" جالساً بمنزله، بعد انتهاء درس اللغة الفرنسية الذي أعطاه للشباب.. إلى أن يؤذن المؤذنُ لصلاة المَغرب..
وجدَ عقله يشرُد تلقائياً بـ"يُوسُف"، وهو يُفكّر كم أن هذا الصغير يحملُ حُزناً ما بداخله.. رُغم هدوئه الظاهريّ!
خمسُ دقائق، ووجدَ طرقاتٍ سريعة قويّة على باب المنزل..
عقدَ حاجبيه، وهو يسيرُ لمعرفة من الذي يطرقُ هكذا.. وقد أتت والدته من الدَّاخل بفزعٍ تتساءل عن كُنه الطّارق..
- عمو "عُديّ" الحق ماما، عمّالة تصرّخ وتعيّط جامد وأنا مش عارف أعمل ايه!
قالها "يُوسُف" بتلعثمٍ، وهو يبكي بحِدّة.. ما إن فَتح "عُديّ" الباب!
يُتّبع...
*****
- يتبع الفصل التالي اضغط على (خطان لا يلتقيان) اسم الرواية