رواية خطان لا يلتقيان الفصل الرابع 4 - بقلم رغد ايمن
4- صَواعِقُ لا تُبقي، ولا تَذَر!
بعضُ الصَّدماتِ كحدِّ النَّصلِ تقتُلُنا
أين الرَّحمةُ، وهاذي الحيّاةُ خَدّاعة!
____________
- البِتّ اللي اتخانقت معاك الأسبوع اللي فات! أم "رانيا" جارتنا بتقول إنها عمّالة تزعق في الشارع، وحالفة توديك قسم الشرطة!
مُجرَّدُ جُملةٍ، ألقتها والدته بوجهه، ولَكنّ لها ذات تأثير القُنبلة فَتكاً!
ما إن تذكّر من تقصدُ أمه بالـ"بِتّ"، حتى شعر بانقباضةِ صدمةٍ بقلبه!
ماذا فعل هذه المَرّة، ليصلَ الأمرُ لقِسم الشُّرطة.. أهذه الفتاةُ مَجنونةٌ!
بالطَّبعِ هي كذلك، وإلا لِمَ تفعلُ به هكذا دونَ وجه حقّ؟!
كانت والدته تنظرُ إليه بشفقةٍ لا تَخفى على أحد!
تنظرُ لحيرته وشروده بألمٍ يعتصرُ قلبها من تِلكَ الفتاة، التي أقلُّ ما يُقالُ عَنها.. أنَّها ذات مرضٍ نفسيّ، أو عقليّ!
جلست بجواره على السرير، وهي تُربّتُ على فخذه قائلةً بنبرةٍ حانية:
- قوم يبني، أنا مُتأكدة إنك معملتش حاجة.. وهي تلاقيها واحدة مَجنونة ربنا يعافينا!
هزَّ رأسه بالإيجاب، وهو يقول بخفوت:
- هي أكيد كدة، وإلا ايه اللي هيخلّي واحدة طبيعية تبلّغ عن شخص بدون ما يعملّها حاجة!
ثم تنهّد، واستأذن من والدته وهو يقوم من سريره:
- أنا هلبس وأنزل أشوف الحكاية.
- وأنا رِجلي على رجلك يا بني، أما أشوف البِتّ اللي عاملة نِقرها من نقرك دي عايزة ايه!
_______________
• قبل ذلك بساعة..
كان الصغيرُ "يُوسُف" بغرفته، يرتدي ثيابه ويُصففُ شعره.. ولِحظّه السيء، لم يستمع لنِداءات "ريتاچ" عليه!
ثوانٍ، ووجدَ باب غُرفته يُفتحُ بقوّة، وهي تصيحُ بتأفف:
- يا بني عَمّالة أنادي عـ.. ايه ده؟ أنتَ رايح فين كدة؟!
تردد ثوانٍ، قبل أن يُخبرها بحماسٍ طُفوليّ:
- بجهز عشان أروح صلاة الجُمعة مع عمو "عُديّ"، عمو "عُديّ" قالنا امبارح إن يوم الجُمعة عيد للمُسلمين ولازم نلبـ..
شعرت بغضبٍ إثر ذِكر اسمه، فقاطعت الصبيّ بحِدّة:
- هو مفيش غير سي زفت ده في حياتنا؟! يا حبيبي افهم، هو مش صاحبك ولا حاجة!
- "ريتاچ"!
صاحت بها والدتها بصرامة، وهي تدفعُ كُرسيّها المُتحرّك إلى جانب "يُوسُف".. ثم قرّبت الصَبيّ مِنها بحنانٍ بعدما رأت نظراته الدّامعة..
وقبل أن يخرج من الغرفة، همست في أذنه بشيء بنبرةٍ لطيفة.. ثم وجّهت نظرها تجاه ابنتها قائلةً بقوّة:
- ايه يا بِنت بَطني.. هتخيبي ولا ايه؟ الراجل سُمعته زي الجِنيه الدَهب وأنتِ مُصممة تكرّهي الواد فيه؟!
تهاوَت "ريتاچ"، جالسةً على سرير "يُوسُف".. ثم أخرجت تنهيدةً حارقةً من رئتيها وهي تقول بنبرةٍ ظهر بها اضطرابها الداخليّ:
- مُستحيل يكون "عُديّ" ده بيحبه لله فـ لله كدة! حاسّة إنها خِطة، عشان الزفت يِخطف "يُوسِف" زي ما حاول قَبل كدة!
ابتلعت الأم ريقها، فهي تتفهّمُ سبب خوفِ "ريتاچ" المُستمِر على الصَبيّ..
حتى وجدت ابنتها تقفُ قائلةً بحِدّة:
- وربي لأروح أشوف سي زفت ده عايز ايه من "يُوسِف"!
وخرجت بخُطىً مُسرعةً، تجاه غُرفتها.. ولم تترك حتى فُرصةً لوالدتها، التي أخذت تُنادي عليها بقلق.. وهي تُحاوِل الإسراع من حركة كُرسيّها:
- "ريتاچ"، يا بنتي متقلقينيش عليكِ.. يارب اهديها يارب!
_______________
•عودةً للحاضِر..
حيثُ أنهى "عُديّ" ارتداء ثيابه بسُرعة.. ثم نزل على درجات السُلَّم وهو يُهرول.. حتى وصل لباب العمارة..
- فين يا أم "رانيا" البِتّ اللي عايزة الحَرق دي؟!
كانت هذه من والدته، وهي تقفُ بجواره بعباءتها السَّوداء البسيطة..
فأشارت لها السيّدةُ المَعنيّة، قائلةً:
- هي دلوقتي قاعدة عند أم حمادة في المَحل بتهدّيها.. حكم كُلّه عارف إنها جديدة في المكان ومتعرفش أستاذ "عُديّ" كويس.
ظَلّ "عُديّ" واقفاً بموضعه، يعقدُ ذراعيه أمام صدره، ويأخذُ أنفاسه ببعض الأسى مِمّا يحدثُ له!
إلى أن انتبه لجارتهم، عِندما سَمعها تقول له بنبرةٍ مُشفِقة:
- معلش يا ضنايا، اللي ميعرفك يجهلك!
البِتّ "رانيا" بنتي شاطرة أوي في علم النفس ده.. بتقولي إنه ممكن يكون حصلها موقف قديم زمان!
أنا يخويا مبفهمش في الحاجات دي، بس..
لم يستمع لباقي حديثها، الذي أخذت تمدحُ ابنتها فيه.. فقد شَرَد عقله عِندَ أهم نُقطة قالتها!
رُبّما فعلاً ما يجعلها مُتحفّزةً تجاهه دائماً، هو موقفٌ قديمٌ حدث لها، جعلها لا تستطيعُ الوُثوقَ به!
"يُخطئ الآخرون في اختياراتهم، ويُصبحون ضحايا لمُضطربين نَفسيّاً.. فنتحمّلُ نحنُ رُدودَ أفعالٍ ليست مُوجّهةً لنا في الأصل!"
أخرج "عُديّ" تنهيدةً بثِقَل، وأخبر والدته أن تأتي معه لمتجر جارتهم، حتى يُسوّوا الأمرَ بهدوء..
خمسُ دقائق من السَير، بعدها كان "عُديّ" يقفُ أمام المتجر، يستمعُ لوالدته التي كانت تُسلّمُ على جارتها.. ثم بدأت تتحدثُ بحنقٍ واشمئزازٍ واضحَين لـ"ريتاچ"!
أما الأخرى، فقد انتظرت انتهاء والدة "عُديّ" من حديثها، حتى قالت باستهزاءٍ، وهي غافلةٌ عن ذلك الذي يقفُ بالخارج:
- وهو الشِّيخ المُحترم، مش بيعرف يتكلم ويدافع عن نفسه ولا ايه.. عشان يبعتلي سِتّ تتكلم بالنيابة عنه؟!
_______________
جُملةٌ مُستهزئة، ألقتها بوجه والدة "عُديّ" وهي لا تدري أنه يقفُ بالخارج يستمعُ لكُلِّ شيء!
لم يتحمّل "عُديّ" استهزاءها به، وقبل أن تقول والدته أي شيء، اقتحم المتجر وهو يقول بصرامةٍ وبعض الحِدّة:
- لحد دلوقتي أنا مراعي إن حضرتك سِتّ، ومش واخد راحتي في الكلام.. بل ورضيت إن ماما هي اللي تتكلم بالنيابة عَنّي!
ثم صمت ثوانٍ، قبل أن يُلقي نظرةً مُشمئزة عليها وهو يُكملُ بتهكّم:
- لكن واضح إن لِسان حضرتك بيُنبّئ إن اللي قدامي لا تمت لصنف النِّساء بأدنى صِلة!
بُهتت "ريتاچ" من رَدّه، واتّسعت عينيها العسليتين من رَدّه اللاذع، وإهانته لها!
فيما وقفت والدته تُلقي عليها نظراتٍ شامتةً!
أكمل "عُديّ" ضَربه على الحديد وهو ساخِنٌ، قائلاً بنبراتٍ هادئة مُتمهّلة:
- الشخص اللي بيتعمّد يُظهر أنه جبروت وقادر، هو أكتر شخص ضعيف وخاوي داخلياً! ونصيحة مِنّي يا آنسة، لو حضرتك عندك مشاكل قديمة طَلّعيني مِنها.. لأنه ببساطة، أنا مليش دَخل، ومش ذَنبي!
وقبل أن يقول أيٌّ منهم شيئاً آخر، سمعوا صوت القرآن يصدحُ من مُكبّر الصَّوتِ بالمسجد..
فشعر "عُديّ" بالحنقِ الشَّديد، أنه حتى الآن لم يتجهّز بعد، أو يقرأ سورة الكهف!
استأذن منهم بفتور، ولكنه قبل أن يُغادر سمع صوت "ريتاچ" تسأله بنبرةٍ مُضطربةٍ، إثر كشفه لها داخلياً:
- برضو مفهمتش، حضرتك عايز ايه من "يُوسِف"؟!
كان هذا أغبى شيءٍ قالَته وهي تتصنّعُ القوة والثبات.. إلا أنّه أجابها ببرود دون أن يلتفت:
- ايه اللي مُمكن شاب كبير زيي، يحتاجه من طفل معداش التسع سنين؟!
لو حضرتك مش واخدة بالك، لكن "يُوسُف" اللي بيحبني، وعايزني أكون صديقه.. وأكيد أنا مش هرفض شيء زي ده لأوهام في دماغ حضرِتك!
وصمتَ لثوانٍ، ثم أنهى حديثه قبل أن يتحرك، بسُّخرية واضحة يُذكّرها بموقفها السَّابق:
- متخافيش، لسة موصلتش لمرحلة أكل الأطفال.. أنا بخطفهم بس!
_______________
بعد انتهاء صلاة الجُمُعة، جلس "عُديّ" قليلاً يذكرُ الله بهدوء.. وقد شَرَد ذهنه لا إرادياً فيما حدث له صباح اليوم، وفيه بَلائه المُسمّى..
هو حتى لا يعلمُ اسم تلك المُصيبة التي ابتُلي بها!
وما كادَ يقوم من مجلسه، حتى يُغادر.. إذ وجدَ بعض الصِبية يركضون نحوه بحماسٍ وابتسامةٍ واسعة..
وقبل أن يصيحوا، أشارَ لهم بيده وابتسامته الجميلة أنهم بالمسجد..
امتثلوا لأمره، قبل أن يُحيَّيهم.. خصوصاً "يُوسُف" الذي اقترب منهم باستحياءٍ وحرج..
- عمو "عُديّ"، هو حضرتك متضايق مننا؟
قالها صَبيٌّ منهم، فابتسم "عُديّ" قائلاً بلُطف:
- لأ، ليه بتقول كدة؟
أجاب "يُوسُف" تِلك المرة ببعض الأسى ظهر بصوته:
- عشان حضرتك عَدّيت من قدامنا، ومسلّمتش علينا ولا ضحكت معانا زي كُل مرة!
تفهّم "عُديّ" سبب قوله، فاقترب منه ماسحاً على رأسه بحنان.. قبل أن ينظر بوجوه الصِبية قائلاً بهدوء:
- الأكيد إني مش متضايق منكم، ممكن بس مكنتش مركّز وأنا ماشي.. أنا آسف! وبرضو اعذروني، النهاردة مش هقدر أدّيكم الدَّرس.
لاحظ علامات الإحباط التي ارتسمت على وجوههم، فوعدهم أنه سيلعبُ معهم مساءً.. ثم أخذَ يُحدّثهم بلُطفٍ لدقائق، قبل أن يستأذن منهم ليُغادِر..
انتبه أن "يُوسُف" يُمسكُ بكَفّه بإحكام، فلم يُمانع.. بل على العكس، رحّب جِداً بذلك!
وبعد دقيقتين من السَّير الصامت، تحدّث "عُديّ" بمرح، يُذيبُ الجليد المُتكوّن:
- مالك بقا يا بطل، متضايق ليه؟
رفع "يُوسُف" رأسه تجاه الآخر، حيثُ كان "عُديّ" طويل القامةِ، أقرب للنحول.. وقال بعد تردد:
- هو حضرتك زعلان مِنّي؟
عقد "عُديّ" حاجبَيه، وقد ابتسم باتّساعٍ قائلاً:
- طبعاً مش زعلان منك! أنتَ عملت حاجة تزعّلني؟!
هزَّ الصبيُّ رأسه بنفي، وأكمل بتوتر:
- ومش هتسيبني وهنفضل صُحاب؟
زفر "عُديّ" هواءً ثقيلاً من صدره، فقد فهم أن تلك الأفكار وليدة حديث تلك الناريّة، شقيقته!
إلا أنه أجاب "يُوسُف" بسُرعة، وابتسامةٍ صادقة:
- بإذن الله مش هسيبك، وهنفضل صُحاب يا عمّ!
أخرج الصبيُّ تنهيدة ارتياح، ويكأن حديث "عُديّ" له بمثابة وعدٍ كُتِب بالدَّم، وحُفِر في القَلب!
ابتسم "عُديّ" بسعادةٍ، حين لمح ابتسامة الآخر الواسعة، قبل أن يسمعه يقول بنبرةٍ مُضطربةٍ حزينة:
- ياريت كان عندي أب بيحبني زيك!
توقّف "عُديّ" عن السير، وانقبض قلبه بقسوةٍ وعُنف.. ويكأنّ يداً من حديد تقبضُ عليه!
بالفعل، هو لم يرَ حتى الآن أبوَيه! أين هُما، ولِمَ يقولُ الصبيُّ ذلك؟! تفهَّم سبب خوفِ أخته المُستمرِّ عليه!
عَنَّف الدمعة التي كادت تفضحه أمام الصبيّ، قبل أن يأخذه داخل عِناقٍ قويّ قائلاً بنبرةٍ مُتلعثمةٍ:
- وأنا يا عمّ أخوك الكبير، وبحبك من غير حاجة.. ولو عايز نشيل الألقاب خالص أنا معنديش مانع!
ابتعد عنه "يُوسُف" وهو ينظرُ إليه بعينين زرقاوتين لامعتين من التأثر، وقد افترَّ ثغره عن ابتسامةٍ واسعة!
وحين استأنفا السَّير مُجدداً، أكمل "عُديّ" بنبرةٍ بها بعضُ السُّخرية لم يستشعرها "يُوسُف":
- وبعدين يا عمّ ربنا يحفظلك أختك، ويحفظك ليها!
توقف "يُوسُف" عن السَّير، فتوقّف معه الآخر وهو يتعجّبُ من وقوفه المُفاجئ.. وما كادَ يتحدّث، حتى سأله "يُوسُف" بعدم فَهم:
- أختي؟! بس أنا معنديش أخوات أصلاً!
عقد "عُديّ" حاجبيه بعد استيعاب!
من المُفترض ألا يسأله، حتى لا يشعر الصبيُّ بحُزنٍ أو إحراج.. إلا أن "عُديّ" لم يستطع تمالك فضوله وصدمته وهو يسأله ببعض التردد:
- الآنسة اللي اتخانقت معايا يوم الجمعة اللي فاتت دي مش أختك؟! امّال ايه، خاطفاك!
أنهى "عُديّ" جُملته ببلاهة، وهو ينظرُ لـ"يُوسُف".. فارتفعت ضحكات الأخير بقوّة، مما أثارَ الشَكَّ بقلب "عُديّ" عن ثبات القُوى العقلية لتلك العائلة!
إلا أن صبره لم يَطُل، حيثُ ألقى الصبيُّ بوجهه صاعقةً لا تُبقي ولا تَذر.. قائلاً بهدوءٍ وابتسامةٍ واسعة:
- هو ممكن شكلها يبان أصغر من سنها، بس دي مامتي.
- يتبع الفصل التالي اضغط على (خطان لا يلتقيان) اسم الرواية