رواية سطور عانقها القلب الفصل الرابع 4 - بقلم سهام صادق
عندما يخبروك أن هناك شطراً أخر من حياتك ستعيشه ، صدقهم ..، لا يختار أحداً فصله الجديد من رحلة الحياة ..، ولكن هناك ما تخبأه لنا الحياة في دفاترها.
وقفت "صفا " تمسح دموعها بعدما توقفت قليلاً تلتقط أنفاسها وتبتلع تلك الغصة المريرة ، وبحرقة كانت تعلو شهقاتها بعد أن عادت دموعها مرة أخري تنساب فوق خديها بغزارة..
الألم ينهش روحها ، ونيران الفراق تحرق فؤداها
- ليه سبتوني ومشيتوا ، أنا مبقتش عايشة خلاص
خاطبتهم وكأنها تراهم أمامها ، ودموع أخري أخذت تُحرق خديها كم حرقت قلبها
- أنتوا حتي مودعتونيش
لم تتحمل الصمود في وقفتها ، فلم تشعر بساقيها وهم يرتخوا ، ثم هوت فوق الأرضية تستند بظهرها خلف الجدار ، وتضم جسدها بذراعيها وقد عادت تلك الرجفة تُصيبها ..
مر الوقت ، ولا تعلم كم مر منه وهي تجلس هكذا ..، وتتذكر والديها في بؤس لا تُصدق أنهم رحلوا وتركوها في منتصف الرحلة
تمالكت حالها أخيراً ، وهي تنظر أمامها..، فعليها النهوض لتنظف منزل عمتها وتطهو الطعام ..، رغم أن عمتها تغضب كثيراً منها لقيامها بأعمال المنزل .., عمتها الحنون التي لولا وجودها هي وعائلتها الصغيرة لكانت ودعت حياتها وراء والديها.
نهضت بصعوبة متجهة نحو دورة المياة الصغيرة ، تغرق وجهها قليلا بالمياة وتلتقط أنفاسها و تُحادث حالها
- مش هتقعدي عالة عليهم في البيت ، وكمان يخدموكي يا صفا
بدأت بطيّ أكمام جلبابها المنزلي ثم ربطته في عقدة بعدما رفعته نحو خصرها حتي تتمكن من مهمة التنظيف، و باحدي المقشات التي تصنع من قش الأرز ..، اخذت تزيل الاتربة من فوق الأرضيات ، فمنزل عمتها بسيط لا يشبه منازل المدينة
، انحنت بجسدها تحمل الأغطية الصوفية البسيطة كي تُنفضها ، ولكن اعادتهم مكانهم وهي تتذكر أن عليها البدء في الغداء فلم يعد يتبقي الكثير من الوقت ، من عودة زوج عمتها "العم صابر" وعمتها من المزرعة التي يعملون بها.
اسرعت بخطوات سريعة نحو المطبخ ، والذي اصبح جزءً من يومها بإرادتها ، بعد ـن كانت لا تهوي الدلوف إليه وترغمها والدتها علي ذلك ..، حاربت بشدة تلك الغصة التي عادت تسحق فؤادها , وسرعان ما اطبقت جفنيها بقوة ،تتغلب علي دموعها العالقة ، شرعت في الطهو ولم تكن أعباء المنزل إلا راحة لها ،
ورغم أن عمتها ستُعاتبها علي قيامها بكل شئ في المنزل إلا إنها تفعل كل ذلك برضي .
تذوقت طعم الحساء وابتسمت بسعاده ، ولكن سرعان ما تذكرت والدتها ، ولم يكن الحنين ليتركها للحظات , لعلا نيران الوجع ترحمها قليلاً
" يابنتي ياحببتي اتعلميلك اي طابخه تنفعك "
وعادت الذكريات تتدافق على قلبها بمرارة ، فمهما حاولت إلهاء نفسها لا تستطيع وكل شئ يذكرها بهم ، مسحت دموعها التي أنسابت فوق خديها مجدداً الي ان تنهدت بانفاس مثقلة تجثم فوق روحها :
- شوفتي ياماما اه انا بقيت ست بيت شاطره ، وبقيت اتحمل المسئولية ومبقتش مدلعه ...
وعادت للبكاء بحرقة وشهقات عالية
صفا : اصل هتدلع على مين غيركم من بعدكم
وعلقت عيناها بالسلسال الذي يلتف حول عنقها ، فمضته داخل كفها بشوق ثم فتحته ، تتأمل قلبه ومايحتويه على صورة والديها
فلم يتبقي لها من وجودهم سوى الذكريات وسلسال يحمل صورتهما
اقتربت منها جنة ببطء بعدما دلفت للمنزل وعادت من جامعتها، وفي لحظة خاطفة
باغتتها بدغدغة تُمازحها ، شهقت صفا بذعر ثم وضعت بيدها فوق قلبها تلتقط أنفاسها من أثر الخضة
صفا: خضتيني ياجنه.. حرام عليكي
جنه ضاحكه : الجميل سرحان في ايه ؟
فابتسمت صفا ببهوت وبنبرة مريرة هتفت، بعد أن اشاحت عينيها بعيداً :
- سرحانه في حياتي ياجنه
تلاشت ضحكة "جنه" بعدما شعرت بمرارة عبارتها ، واقتربت منها تضمها بحب لعلها تُخفف قليلاً عنها :
عارفه جبتلك معايا ايه وانا راجعه من الجامعه
طالعتها "صفا" في شرود ، فاسرعت جنه نحو حقيبتها التي اسقطتها أرضاً عند دلوفها للمنزل ، والتقطت الكتاب من داخل حقيبتها هاتفة بحماس :
- هو صحيح الكتاب ده مش لمراد زين ، بس انتي برضوه بتحبي تقري للكاتب ده ، بس عرفتلك خبر هيفرحك كاتبك الغالي هينشر كتاب جديد ليه قريب
فاهتز جسد صفا متذكره اخر ماكانت تحمله له ، وهي هائمة في عالمها .. وعالم الروايات
فتهتف بوجع : انا خلاص قررت مقراش تاني ياجنه
أقتربت منها "جنه" وقد علقت عيناها بها في أسي ، فقد أمات الحزن قلب ابنة خالها ، و ليتها تستطيع أن تُخفف عنها
- كنت الاول بعيش الخيال وانا مطمنة , إن الواقع محاوطني بالحياة السعيدة ، أب و أم أنا أغلي عندهم من روحهم ، وحضنهم الدافي بيطمني إني في أمان ، لكن دلوقتي مبقتش عايشة يا جنه ، روحي راحت معاهم خلاص ، قوليلي سبوني ليه لوحدي
واندفعت لاحضان أبنه خالها ، فضمتها جنه بقوة تبكي معها في مرارة
- ماتوا تحت التراب يا جنه ، كانوا نفسهم يفرحوا بيا عشان يتطمنوا عليا ، كأنهم كانوا حاسين
تعالت شهقاتهم ، ولم تتمالك جنه هي الأخري حالها ..، فلا حديث يستطيع أن يخرج من شفتيها
- مرت ست شهور ولسا الوجع جواكي يابنت خالي وبتظهري إنك كويسه ..،طيب اصرخي فينا ، اعمل أي حاجة يا صفا ..، ياريت الحزن كان بيتقاسم كنت أخدت منك جزء.
احتضنتها "صفا" بقوة ، فضمتها جنه بكل قوتها ..، تمسد فوق ظهرها وقد صمتت كلتاهما عن الحديث ، اتسعت عيناهم فجأة ، يُحاولوا أن يستوعبوا من أين تأتي تلك الرائحة ؟
: في حاجة بتتحرق
تسألت "جنه "وهي تعلم الجواب الواضح أمام عينيها
فهزت "صفا" لها رأسها بعدما التفت بجسدها نحو إناء الطعام الذي أحترق
جمدتهم الصدمة قليله ، وسرعان ما كانوا يتخلوا عن صدمتهم صارخين
- الحلة أتحرقت !
..................................................................
تأملته وهو منكب علي حاسوبه الشخصي يُطلعها علي كل شئ يخص المشروع , المشترك بين شركتهم وشركة والدها وما قام بالتعديل عليه ، كانت شاردة فيما عرفته عن حياته وزيجته التي سعي "عامر" بشده لأخفاءها عن الجميع ، تسألت داخلها وهي تنظر إليه , ما كان يُميز تلك الفتاة ليُحبها رجلاً يتحكم به العقل ..، والحقيقة التي تغافل عنها عقلها ..، أن "احمد السيوفي" الذي يجلس امامها الأن ..، ليس ذلك الشخص الذي كان عليه قديماً
تنهدت بأنفاس مسموعه ، مما جعله يرفع عينيه عن حاسوبه وينظر إليها مستفهماً
- بيتهيألي أنك محتاجة فنجان قهوة يا فريدة
تحركت من وقفتها خلف مقعده ، وهي تومئ له برأسها
- فعلا محتاجاه جداً
وتمتمت معتذره حتي لا تفقد أحترامه لها الذي نالته بسبب أجتهادها
- أتمني متتغيرش نظرتك ليا وترجع تشوفني بنت متدلعه ، مبتفهمش حاجة في الشغل
تعالت ضحكته رغماً عنه ، فهو لا يُنكر أن "فريدة" فتاة لطيفة ..، وقد تمكنت من نيل تقديره ، فنقطتهم المشتركة هو العمل ولن يراها إلا في تلك الصورة ..، ابنة شريكهم ليس أكثر
- لو مكنتيش حصلتي علي تقديري ، مكناش كملنا شغل سوا يا فريده ..، لاني للأسف وارث نفس طباع العيله ..،مافيش تهاون في الشغل
أبتسمت ببهوت وهي تُطالعه ، فهي اصبحت علي دراية كبيرة ببعض صفاته
- عارفة يا بشمهندس ، فين القهوة بقي عشان أعرف أركز من تاني
ابتسم وهو ينهض عن مقعده ، واتجه نحو باب غرفته ينظر لسكرتيرته التي نهضت علي الفور من فوق مقعدها
- أتنين قهوة مظبوط يا داليا
عاد للغرفة ، فنظر لها وهي تتخلي عن سترتها وقد ظهر قميصها الملتصق بجسدها ,وأظهر تفاصيلها بسخاء ، تنحنح مطرقاً رأسه يعود لجديته متمتماً
- مقولتليش وجهت نظرك في التعديلات اللي تمت في الطريق الداخلي للكمبوند السكني
ابتسمت وهي تهوي بجسدها فوق المقعد ، بعدما رتبت خصلاتها
- أنا بستفاد من خبراتك وارائك يا بشمهندس ، ومدام أنت شايف إن التعديل هيخدم الكمبوند أكتر ، تمام
اعجبه ردها ، فتقدم نحوها يسألها مترقباً جوابها
- يعني مزعلتيش لما عدلت علي ارائك
اعطته الإجابة التي أرادها بحركة رأسها ، فوقف يرمقها للحظات ..، متعجبً منها ..، ثم اخذ يُقيمها بنظرات تفهمها ولكن رنين هاتفه جعله يُدرك حماقة نظراته ، اتجه نحو سطح مكتبه والتقط هاتفه ، فارتبكت بشدة بعدما أعطاها ظهره ..، فيجب عليها الا تكون بلهاء لتلك الدرجة ..، فرجلاً مثله لا ينبغي أن تفرض نفسها عليه ..، وبحكمة كانت تُخاطب حالها
" كل حاجة بنوصل ليها بالعقل يا فريدة "
فاقت من شرودها وقد انتبهت علي حديثه ، وعلي ما يبدو إنه يعتذر لأحداً وقد نسي موعده معه
- اسف يارامي بجد نسيت ميعادنا ، لو قريب من الشركة عدي عليا
ثم أردف بعدما أستمع للطرف الأخر
- تمام مستنيك
أنهي حديثه ونظر نحوها ، فنهضت عن مقعدها والتقطت سترتها متمتمه
- بيتهيألي إنك مبقتش محتاجني حالياً
وقبل أن يهتف بشئ كانت سكرتيرته تدلف بفنجاني القهوة
- أشربي قهوتك الأول ، رامي لسا قدامه نص ساعه علي ما يكون هنا ..
- ديما بتفهم في أصول الضيافة وخصوصاً معاملة الليدز الحلوين ..، يا بشمهندس
انتبهوا علي صوت "عامر"، الذي دلف الغرفة للتو..، فطالع "احمد" شقيقه متنهداً بضيق من عبارته الأخيرة ، تجاهله "عامر" مبتسماً وهو يقترب من "فريدة" يُصافحها ، متسائلاً علي حال والدها
- أخبار محسن بيه إيه
- تمام يا عامر بيه
وادرفت مازحه ، تُلطف من وجودها قليلا بينهم ..، تحت نظرات "احمد" الجامدة
- بيتهيألي كنتوا مع بعض أمبارح في النادي الرياضي
فابتسم "عامر" وهو يمسح فوق جسده
- فعلا، أنا ومحسن بيه محتاجين نرجع لشبابنا من تاني
بدالته "فريده" الضحك علي حديثه ، ولكن "احمد" لم يُعقب علي شئ من سخافة حديث شقيقه ..، فهو يعلم ما يسعي إليه عامر
- خلوني أنا كمان أطلب من داليا قهوتي ، واشربها معاكم ..، ونتناقش شوية في المشروع ولا وجودي مش مناسب حاليا
لم يتحمل "احمد" مراوغة شقيقه ..، ولكنه تمالك حاله متمتماً بحنق تحت نظرات"فريدة" العالقة بتلك الحرب الدائرة بينهم
- هطلب من داليا قهوتك ، بس معنديش وقت أكتر من نص ساعه وبعدها مضطر استأذن منكم
فابتسم "عامر" وهو يستمع لحديثه ، وسرعان ما قطب جبينه متذكراً وكأنه قد نسي الأمر
- اوه ، لا أنا اللي مضطر اسيبكم واشرب قهوتي في مكتبي ..، لأن عندي اجتماع مهم
وانصرف "عامر" والابتسامة تحتل ملامحه ، فعلي ما يبدو أن "فريده" لن تترك شقيقه إلا بعدما تسقطه في غرامها ..، وسيكون أكثر من مرحب بالأمر ..، فلم تخفي عنه تلك النظرات التي ترمق بها شقيقه الأصغر.
..............................................................
جلست بينهم تتناول طعامها بمرارة أصبحت مذاق لكل شئ بحياتها ، فرمقتها عمتها "السيدة صافية " بحزن علي حالها, وبنبرة حنونه تمتمت:
- تسلم ايدك ياصفا ياحببتي
فهتف زوج عمتها هو الأخر بصوت حنون
صابر : ربنا يبارك فيكي يابنتي
ابتسمت "صفا" اليهم وقد علقت الدموع بعينيها ولكنها تمالكت حالها أمامهم
- بقيتي شايله مسئولية البيت عننا ، وضمت نح صدرها وبحنان تتابع حديثها :
- متجيش علي نفسك عشانا ولا عشان تشيلي عن الزفته اللي عماله تاكل من الصبح ، ومعندهاش دم
اتسعت عينين "جنه" ذهولاً بعد عبارة والدتها ..،فرفعت وجهها عن طبقها تحدق بوالدتها ، تُشير نحو حالها :
- ليه كده يا صافية ياغاليه ، ده انا غلبانه وجعانه
فاجابتها صافية حانقة ، بعدما نظرت نحو "صفا" التي أخفضت عيناها عنهم ..، حتي لا ينتبهوا علي دموعها الحبيسة :
- ساعدي بنت خالك ، وحجتك كلها كام شهر وهنخلص منها ، لا في جامعه ولا في مذاكره ..
واردفت متوعده
- وهطلعه عليكي في شغل البيت
جنه : ايد علي ايد بتساعد يا ست الكل ، ولا أنتي إيه رأيك
ارادت أن تتمازح قليلاً ، حتي تُشاركهم "صفا" في حديثهم ..، ولكن "صفا" كانت منعزلة عنهم بلحظات كانت تعيشها من قبل
- انا وابوكي تعبنين في شغل المزرعه ، وكل ده عشان منخلكيش محتاجة لحاجه يابنت بطني
وفردت "صافية" كفيها ، حتي تريها كم اصبحت كفوفها خشنة من شدة التشقق ، فنظرت جنه إليها ، بعدما تمالكت غصتها ..، فاعمال المزرعة والفلاحة لم تعد تناسب والديها في عمرهم هذا ..، ولكنهم يتحملوا كل شئ من أجلها ..، فاسرعت في التقاط كفوفها تقبلهما هاتفه :
- ربنا يديكي الصحه يا ماما ، واتخرج واشتغل ومخلكيش انتي وبابا تحتاجوا لحد
كان "صابر" صامت لا يُشاركهم الحديث ، فعيناه كانت عالقة نحو تلك اليتيمة التي اخذت تقضم شفتيها وتقطب جفنيها بقوة حتي لا تنساب دموعها أمامهم ..، وتُفقدهم لحظات سعادتهم باحزانها ، وعندما رأي "صابر" تلك الدمعة التي فرت من جفنيها ..أسرع متمتماً , يُغير الحديث الذي طال بين زوجته وأبنته
صابر: انا عارف انك بتحبي القصب ياصفا يابنتي ، يلا تعالي نقعد قدام باب البيت .. نتسلي لحد اما جنه وعمتك يخلصوا خناق ويعملونا الشاي
انتبهت "صفا" علي حديثه ، فاسرعت في مسح دمعتها ، وقد فرت منها دون قصد ، ومن نظرته إليها علمت إنه قد رأي دموعها ..، نهضت عن الطاولة تتجاوز غصتها متمتمه: - قصب !
فابتسم "صابر" بشفقة ، وهو يراها كيف تُحاول أن تظهر سعادتهم إليهم ، أتجه نحو البساط القديم يلتقطه من مكانه، ثم تجه نحو باب الدار يبسطه أمامه ..، يُذكرها بطفولتها:
- من وانتي طفله صغيره بتحبي
فتعالا صوت جنه من خلفهم بعدما نهضت هي الأخري بحماس من جوار والدتها التي ذهبت لتصنع لهم الشاي
- انا جيت عشان اقشره ليها زي زمان ، ما اصل انا بحب ادلع صفا هانم
وبكلمات بسيطه كانت السعاده ترتسم فوق شفتي "صفا ، ورغم الألم الذي أصبح رفيقها إلا أنها تذكرت تلك الأيام من طفولتها ، وقد كانت تأتي لهنا مع والديها حتي يقضوا بضعة أيام من العطلة الصيفية.
.............................................................
وقفت "السيدة حنان" ، تلك الخادمه التي عملت في هذا المنزل لسنوات ، تفرك كلتا يديها وتطرق رأسها خجلاً مما جاءت من أجله لتُخبر سيدها ، أنتظر "عامر" سماعها بعدما ترك العقود التي كان يُطالعها
حنان : عامر بيه ! ، انا مش عارفه اقول ايه لحضرتك
فتأكد "عامر" من وجود شئ ، فاشار إليها بمواصلة حديثها ..، وهو يخشي أن تكون والدته بها شئ ما
- أنا مضطرية اسيب الشغل ، عشان، عشان
تمتمت عبارتها بتعلثم ، ثم ابتلعت باقية حديثها في إستحياء
فرمقها "عامر" وقد ضجر من إنتظار سماع ما ترغبه ، فزفر أنفاسه متمتماً بجمود :
- عشان ايه ياحنان ؟
حنان : أنا هتجوز يا بيه ،وجوزي رافض اني اشتغل في البيوت حتي لو هكون مرافقة للهانم الكبيرة
واردفت بتوتر ، تُخبره إنها ستظل في عملها لمدة ما ..، حتي يتمكن إيجاد مرافقة غيرها
- فاضل لسا وقت علي جوازي يا بيه ، لكن حبيت أبلغك من دلوقتي
طالعها ينتظر معرفة تلك المدة التي ستظل بها معهم ، فاسرعت في إخباره
- قدامي شهرين يا بيه !
فتنهد "عامر" بعدما هتفت عبارتها أخيراً ، ونهض عن مقعده .. خلف مكتبه بوقار وهالة من الهيبة ..، جعلت الواقفة تتراجع للخلف.
لم يتقدم منها بل أتجه نحو شرفة مكتبه الضخمة ، يُطالع المساحة الواسعة الواضحة للأعين ، دس سيجارته بين شفتيه ثم نفث دخانها ببطء ، فعادت الواقفة تطرق رأسها ..، تنتظر أوامره ، وبعد لحظات من السكون خرج صوته وهو مازال علي وقفته دون أن يلتف إليها
عامر : تكلفة جوازك هتكون هديه مني لخدمتك الطيبة لأمي ، وده بعيد عن مكفأتك لنهاية الخدمه ياحنان
تهللت اسارير حنان غير مصدقة ما تسمعه من كرم سيدها ، ثم اسرعت في الهتاف بخجل
حنان : والله ياعامر بيه ، انا بحب الهانم الكبيره أوي ، ويعز عليا فراقها ، لكن على عيني والله اسيبها
وعادت تطرق برأسها مجدداً ، تتابع حديثها وقد التف عامر نحوها ..فرأي نظراتها الخجله المرتبكة
فاكملت حنان والسعاده تملئ ملامحها ، وهي تتذكر الرجل الذي ستترك عملها من اجله وتشاركه حياته :
- بس سعد راجل طيب ومناسب عمره ليا ، الامان بوجود راجل يخاف علي الواحده مننا ويحبها بالدنيا يابيه !
وبرغم إنه لا يستلطف تلك الكلمات ، إلا إنه ابتسم على حديثها بعدما رأي صدق المشاعر التي تتحدث بها خادمته البسيطه ، تغللت الكلمات داخل قلبه , الذي لا يؤمن بالحب وتضحيات النساء من أجله ، ولكن سرعان ما تلاشي كل شئ داخله ..متمتماً بعدما عاد لمقعده :
- مبرووك ياحنان !!
..................................................................
أشتدّ هطول الامطار، وسقطت قطراتها بغزاره وصوت الرياح أخذ يتعالا حولها ، فاصابت قلبها تلك الرجفة ، فشدت من ضمها لجسدها أكثر ..، وقد جلست علي إحدى الحجارة الضخمه امام منزل عمتها
ارتجف جسدها بشده بعدما اصبح مبتلاً والمياه تتقطر من ثيابها ..، احاطت جسدها بذراعيها , لعلها تمنحه الأمن قبل الدفئ الذي غادره من شدة البرودة ..، انسابت دموعها بغزارة كحال هطول الأمطار التي تتدافق فوقها ..، ارادت الصراخ ولكنها لم تستطيع ، فكورت كفيها وقد أرتعشت شفتيها كحال جسدها
اتسعت عينين "جنه" فزعاً وقد وقفت علي أعتاب باب المنزل تنظر إليها في صدمه ..، ثم اسرعت إليها تسألها بذعر
- صفا ، صفا ايه اللي بتعمليه في نفسك ده بس
وجثت علي ركبتيها امامها وقد تشبع جسدها ايضا بماء المطر المتدفقة بقوة هذه الليله
- ليه سابوني ياجنه لوحدي ، ليه مامتش معاهم قوليلي ليه
هتفت بها وقد أخذ جسدها يرتعش ، طالعتها "جنه" تُشاركها ألمها , ثم ضمتها إليها بقوة لعلها تمنحها الدفئ
- اصرخي ياصفا طلعي اللي جواكي كله ، متموتيش نفسك بالبطئ
صفا : انا انكسرت ياجنه ، انا دوقت فعلا مرارة الدنيا وشوفت قلبتها في غمضت عين
ونهضت من فوق الحجر بعدما ازاحت ذراعين جنه عنها .. وسارت بضعة خطوات ثم رفعت ذراعيها عالياً ، وهي تُحدق في هطول الامطار التي ازداد انسيابها بغزارة ، وقد شاركها صوت الرعد بنوره القوي في صراخها
- ليه ، ليه مروحتش معاهم وسبوني لوحدي أموت كل يوم
ارتخت ساقيها بعدما لم تعد تشعر بهما ، فسقطت علي ركبتيها وهي واضعه بيدها فوق صدرها من شدة حرقتها، متمتمه بأيمان قد قذف في قلبها
- اللهم لا تحملنا ما لا طاقة لنا به
وظلت تردد الدعاء حتي وجدت جنه تضمها اليها مجدداً ، ثم ساعدتها علي الوقوف والدلوف نحو المنزل.
.................................................................
•تابع الفصل التالي "رواية سطور عانقها القلب" اضغط على اسم الرواية