Ads by Google X

رواية اسد مشكي الفصل الثامن و الثلاثون 38 - بقلم رحمه نبيل

الصفحة الرئيسية

 رواية اسد مشكي الفصل الثامن و الثلاثون 38 - بقلم رحمه نبيل

الثامن والثلاثون| الخامس عشر من مُحرم |
‏فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ مَا تَعِيشُ بِذِكْرِهِ
‏فَالْمَرْءُ فِي الدُّنْيَا حَدِيثٌ يُذْكَرُ.
صلوا على نبي الرحمة .
قراءة ممتعة 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رفع عيونه ببطء صوب المرأة التي توقفت أمامه يرمقها بتردد، ورغم أن لا أحد في المكان توجه له بما يشعره بالأمر، لكن في هذه اللحظة كان إلياس لا يشعر بالراحة في هذا المكان، وشعر لوهلة بالندم على المجئ .
نظر صوب فاطمة ثواني وكأنه يفكر في الهرب بها من المكان، وبالفعل كان على وشك فعل الأمر، لولا تحدث تبارك بهدوء شديد حينما أبصرت شحوب ملامحه واعزت قلقه الظاهر على زوجته كما سمعت من مهيار :
_ لا تقلق يا سيد ستكون زوجتك بإذن الله بخير، فقط ساعدنا لنأخذها إلى الداخل حتى نــ
_ لا ....
كلمة واحدة قاطع بها إلياس حديثها لينظر لها بتردد وقد أدرك ما فعل منذ ثواني .
أما عن تبارك فحدقت به بعدم فهم، ومن ثم نظرت جوارها لمهيار الذي تحفزت ملامحه وهو يرمق الرجل بريبة، ليتدخل الحكيم في هذه اللحظة وهو يحاول أن يحسن بعض الشيء من صورة إلياس التي يقسم أن يفسدها كل ثانية.
_ اعذريه سمو الأميرة هو لا يقصد أي إهانة بالطبع، هو فقط متوتر ويكاد يُجن منذ ما حدث لزوجته، المسكين تزوج لتوه ليُصدم بحالتها، هيا ...هيا يا ولدي أحمل زوجتك للداخل كي نساعدها هيا .
نظر لهم إلياس برفض ولم يكد ينطق كلمة إضافية حتى سمع صوت الحكيم يردعه عن أي تراهات ينطق بها، ومن ثم زجره بنظراته موبخًا:
- تحرك وأحضر زوجتك كي تطمئن عليها إلياس وتوقف عن قلقك هذا، سمو الأميرة هنا لتساعدك.
نظر لهم إلياس ثواني برفض ظاهري جعل تبارك تشعر بالريبة منه، لكنها تماسكت فماذا يمكن أن يفعل وهو في قلعة سفيد ؟!
ابصرته يتحرك بهدوء صوب العربة يسحب منها جسدًا صغيرًا مغطى بالكامل من رأسه لأخمض قدميه، ومن ثم نظر لهم يتحدث بصوت خافت:
_ إلى أين ؟؟ 
أشارت له تبارك بهدوء صوب المشفى الخاص بالنساء :
_ من هنا رجاءً أول غرفة تقابلك على اليسار وأنا قادمة لفحصها .
هز رأسه برتابة وتحرك يحملها بين يديه وهو يحدق في وجهها بحزن والهم يرسم خطوطًا واضحة فوق معالم وجهه، ليسلب تعاطف وشفقة تبارك عليه وهي تبصر مقدار معاناته لأجل زوجته، تنهدت بصوت مرتفع تراقب الحكيم وهو يتحرك ليسحب العربة بعيدًا عن الساحة، ولم يتبقى سوى هي ومهيار .
_ هذا الرجل مريب بشكل كبير .
استدارت تبارك صوب مهيار تحدق فيه قليلًا قبل أن تعود بعيونها صوب الطريق الذي سلكه إلياس:
_ ظننت أنني الوحيدة التي لاحظت الأمر، على كلٍ أعتقد أن هذا بسبب مرض زوجته، أعانه الله.
صمت مهيار وهو ما يزال يحدق في الطريق :
_ لا أدري ربما، على كلٍ سأرافقك للمشفى وانتظرك حتى تنتهين من فحصها وأعلم ما سنفعل معها، الحكيم أخبرني أن غيبوبتها مستمرة منذ يوم وأكثر، وهذا مقلق خاصة أنه أشار إلى أنها تعاني نزيفًا قويًا في الرأس.
_ وما سبب النزيف يا ترى !!
_ لم يخبرني، لكننا سنعرف ذلك بعد ثواني .
همست تبارك بصوت منخفض :
_ تبدو الفتاة صغيرة، جسدها وهن وبشدة ربما لم تتحمل الأمر وكان هذا سبب الإغماء .
_ دعينا نتأكد بأنفسنا، هيا لنلحق بهم .
سارت معه تبارك وهي تفكر في حالة تلك المسكينة التي سقطت ضحية الإعياء بعد زواجها بقليل من الايام كما أشار الحكيم :
_ مسكينة، عسى الله أن ينجيها من أي سوء ويتلطف بقلوب من يحبها ....
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
_ هونها عليك يا أخي.
تنفس المعتصم بصوت مرتفع وهو ينظر حوله بعجز بعدما تحرك مع زيان صوب العاصمة كي ينتشل المتبقيين من المندسين ويساعد في نقل المصابين من التسمم، وايضًا يبحث عنها بين الطرقات .
وزيان يراقبه كالمجنون يدور بعيونه في المكان يناجي الجدران يسألهم عن " فاطمة" ولو استطاع لحدثهم يستعطفهم بحالته، يشعر بانقباضة صدر، يخشى أن تكون قد أُصيبت بأذى يفقده إياها.
_ والله لن تهون بسواها زيان، أنا حياتي أصبحت....لم تعد هناك حياة من الأساس.
همس الكلمات الأخيرة بروح خالية من أي علامات توحي بوجوده بينهم في هذه الحياة يدور حول نفسه يراقب الجنود منتشرين في الإرجاء وزيان يتابع نقل المصابين للعربات.
_ اصبر وما صبرك إلا بالله، ستعود فلا مكان لها سواك حسب ما أعلم، كنت كل عائلتها وما لها سواك .
دار المعتصم بعيونه في المكان يهتم بقهر :
_ لست بحالٍ أفضل منها زيان، فما لي سواها، ثم أنا اشعر يقينًا أن الأمر لم يكن بإرادتها، هذه المرة هي ليست بخير، اقسم بالله أن انقباضة صدري تكاد تخنق خفقاته و....
فجأة توقف عن التحرك بشكل غريب وقد اتسعت عيونه بقوة يحاول أن يتنفس بشكل طبيعي، وزيان يراقبه بقلق وخوف يضغط على كتفه بتسائل :
_ ما... مابك يا المعتصم هل أنت بخير ؟! ما بك ؟! 
ابتلع المعتصم ريقه بصعوبة وهو يحاول التحدث بشكل طبيعي، ثم نظر صوب زيان يهمس بصوت مختنق وكأنه فقد قدرته على الحديث :
_ لا ....لا ...هي ...هي لها عائلة، هي لديها عائلة.
تعجب زيان من كلماته يحاول فهم ما يقصد، بينما المعتصم ارتجف بقوة وقد شعر بالمكان يدور حوله وهو يكتشف الآن ما اغفله في خضم رعبه وقلقه عليها وسخطه على حالها، يهتف بحرقة :
_ لديها عائلة، لديها عائلة...
تراجع بظهره بعيدًا عن زيان الذي حاول معرفة ما يقصد المعتصم، لكن الأخير لم يمتلك حتى الوقت بالتوضيح وهو يسارع صوب حصانه يمتطيه، ومن ثم انطلق به بشكل مرعب وعيونه قد بدأت تشتد بشكل مخيف، ينظر أمامه والجحيم يرافقه ..
دقائق طوال استمرت لنصف ساعة حتى وصل للقصر ليترجل عن الحصان بسرعة كبيرة يتحرك صوب الجنود المداومين على حراسة البوابات يصرخ بنبرة هلعة وهو يقتحم غرفة المراقبة :
_ اعطني دفاتر المغادرين من القصر لليومين السابقين.
نظر له الرجل والذي انتفض عن مقعده برعب من مظهر المعتصم والذي كان أحمر العينين مبعثر الخصلات، وكأنه يخفي قاتل خلف قناع اللطف والهدوء.
ولم يكد يستفسر حتى ضرب المعتصم المقعد أمامه بجنون :
_ اعطني ذلك الدفتر اللعين .
تحرك الرجل بسرعة يحضر له ما طلب، بينما المعتصم يقف في مكانه وكأنه يقف على جمر، كيف كيف غفل عن الأمر، كيف غفل عن وجوده المفاجئ واختفائه المفاجئ ؟!
عاد له الرجل بالدفتر لينتزعه المعتصم من بين أنامله يقلب صفحاته بسرعة للتاريخ الذي اختفت به فاطمة وما يليه، يمرر عيونه على الكلمات بسرعة كبيرة وبسبب توتره لم يستوعب نصف المسجل أمامه من شدة لهفته وكأن ضباب مشاعره غطى عيونه، ليظل يقرأ مرة واثنتان وثلاثة بعجز .
رفع عيونه بعجز شديد ينظر للرجل أمامه وقد شعر أنه لا يستطيع القراءة، فقد قدرته على التحكم بكافة أطرافه، يمد يده بالدفتر صوب الرجل يتحدث بصوت خافت مرتجف :
_ هل .... أخبرني إن خرج في هذا اليوم شخص يُدعى إلياس فأنا لا ابصره جيدًا ؟
نظر له الجندي بشفقة، يمسك الدفتر وأخذ يفحصه بشكل محموم واهتمام شديد، حتى رفع رأسه بلهفة كبيرة وهو يشير صوب تاريخ ووقت معين يجاوره عدة اسماء يهمس بأمل :
_ هذا هو سيدي ؟!
اقترب منه المعتصم وهو يركز على الاسم يحاول أن يمحو غشاوة عيونه التي تغطيها بقوة وفكرة أن تكون زوجته كل ذلك الوقت بين يدي ذلك المختل تنحر المتبقي من تماسكه، ابصر اسم إلياس يتموج أمام عيونه وجواره وقت الخروج نفسه الوقت الذي اختفت بعده فاطمة...
انهار المعتصم وقد تأكدت ظنونه، يهتف بصوت مرتجف :
_ هل ...هل فتشتم العربة ؟؟ 
نظر له الجندي ثواني دون رد ليدرك المعتصم رده فتكون ردة فعله هو ضربة قوية لكل ما وقع أمامه يصرخ بجنون:
_ لعنة الله عليه إن كان السبب، ليلعنه الله إن مسها، لعنة الله عليه، كيـــــــــــف ...كيــــــــف خرج وأنتم جالسون دون تفتيش، كيف؟!
تنفس بعنف وقد شعر بجسده يشتعل بنيران الغضب ينظر حوله بجنون يفكر من أين سيحضره الآن، كل ما يعرفه عنه أنه يسكن سفيد ...
ابتلع ريقه وقد همس بإصرار وقهر :
_ لا بأس....لا بأس، حتى لو اضطررت لقلب سفيد رأسًا على عقب سأفعل ...سأفعل ......
ـــــــــــــــــــــــــ
تجلس في الشرفة الخاصة بها ارضًا تراقب السماء بأعين منطفئة، تضم قدميها لصدرها وهي تستند برأسها عليها شاردة لا تشعر بما يدور حولها .
تشعر أنها في كابوس، ما تزال حتى هذه االحظة تبكي طفلها، ترثي نفسها، صغيرها الذي لم تبكيه لحظة على مرأى أحدهم، كانت الجدران هي أكثر من يشهد انهياراتها عليه .
القهر في نفسها يزداد، تتخيل ما حدث معه قبل موته، شعوره الذي شعره اثناء قتله، صدمته أن الفاعل والده، لم تعرف كيف قُتل ولا تريد أن تعلم كي لا تصاب بنوبات هلع، ويرافقه موته أثناء كوابيسها، تكفيها أحلامها التي تسيل منها دماؤه .
_ في الجنة يا صغيري، كنت ....رجلي ورفيقي، مت رجلًا صغيري، أثق أنك كنت ستكون رجلًا قويًا للغاية لاتشبه والدك في شيء، لكنها رحمة الله بك أن رحمك من خزي حمل اسمه المتبقي من حياتك، يكفيني أنا أن احمل خزي الزواج بهكذا رجل .
اغمضت عيونها وهي تحاول إبعاد صورته عنه عيونها واصواته الهامسة لها ما تزال تتردد وهو يلقي على مسامعها كلمات حادة كل يوم ليحطم منها أكثر وأكثر ظنًا أنه سيحصل على فتات من تحطيمها يجيد تشكيلها لاحقًا، ولم يعلم أنه سينال شظايا تقطع كفيه وتخضبهما دماءً .
" ماذا تظنين نفسك أنتِ يا امرأة ؟؟ تتحدثين بهذه الوقاحة و...."
" أميرة سبز "
كانت كلمات باردة قاطعته بها وهي تنظر له بهدوء وملامح جامدة للغاية، وهو يراقبها بشر، لتهتف هي دون أن تعطيه فرصة التحدث حتى :
" من أظن نفسي ؟! أميرة سبز، والسؤال هنا هو من تظن نفسك انت ؟؟ اعطني شيء يميزك عدا كونك زوجي أنمار"
ختمت حديثها وهي تبتسم له بسمة مستفزة تراقب وجهه الذي اشتد احمراره وقد وصل لحافة غضبه يكاد ينفجر مما يحدث .
فجأة تراجع جسد توبة ساقطًا على الفراش خلفها بقوة حينما تلقت منه صفعة تبعها صرخته المرتفعة:
" أنا ابن المستشار الأول للملك أيتها الـ****، وإن ظننتي أن زواجي منكِ ميزة تضاف لي، فزواجي منكِ شفقة مني على حالتك البائسة أيتها الولهانة"
رفعت عيونها له ترمقه بشر قبل أن تنتفض صارخة في وجهه:
" لا بائس في هذه الغرفة سواك أيها الـحقير، تلقي زوجتك بالسوء جزافًا أيها الحقير، أنا الأميرة توبة تتهمني بشرفي يا عديم الشرف والنخوة، وأنت تبطش كالحيوانات أينما وجدت امرأة ؟؟"
بصقت ارضًا وهي تهتف بصوت غاضب وقد التمعت عيونها بالشر :
" كلماتك هذه آخر كلماتك ستنطقها وأنا على اسمك، فلن أحيا ثانية واحدة مع نصف ذكر، سأكون ملعونة إن سمحت لك بلمسي مجددًا أيها الحقير "
ختمت كلماتها ترفع حجابها تضعه على رأسها وهي تتحرك بسرعة كبيرة خارج الجناح وقد قررت قرار لا عودة فيه، لن تظل زوجته يومًا إضافيًا ليس بعد ما فعل، لكن ما كادت تصل غرفة والدها حتى أبصرت حالة الاستنفار بالقرب منها لتهتف بهلع ورعب :
" أبي ؟؟؟"
تنهدت بصوت مرتفع تسحب نفسها من تلك الذكريات السيئة تحاول أن تبعد كل ذلك عن عقلها، كل ما مرت به من بعد ذلك اليوم وسقوط والدها في غيبوبة لا تنتهي، وتعاون الجميع مع أنمار ليتسلم أمور البلاد دون الرجعة لها ..
أبعدت كل ذلك عن رأسها وهي تبدل صورة أنمار التي تشعرها بالاختناق، بصورة أخرى جعلتها تبتسم دون وعي وهي تهتف باشتياق وخوف:
_ نـــــــــــــزار .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
_ نزار ...نزار هل تسمعني ؟! نزار يا أخي هل تسمعني أرجوك اجبني .
أصوات تأتيه من بعيد وشعور قوي بالوجع يسكن كل جزء من جسده، عظامه يشعر بها متحطمة، ووجع كبير في يديه وهو يشعر أنهما ستخلعان من مكانهما .
فتح عيونه بصعوبة ليبصر أمامه وجه الوليد وهو ينظر له بخوف يهتف بكلمات لا تصل له، فقط همس دون وعي :
_ أنا عطش ..
هتف الوليد بسرعة وهو يحاول تحريره من القيود التي تربطه بالحائط بعدما تم الإمساك به في محاولة لتسريب خطة أصلان وتم سجنه في هذا المكان وتعذيبه دون رحمة .
_ فقط دعني اساعدك للخروج من هنا، كان ....كان قرارً خاطئًا منذ البداية، دعنا نخرج من هنا .
رفع نزار له عيونه بصعوبة وهو يحاول التحدث، لكن الوليد لم يمنحه فرصة وهو يسارع في فك أسره، ومن ثم حمل جسده أعلى ظهره يتحرك به بسرعة كبيرة من المكان، سرعة لا تناسب حمله لوزن نزار، لكنه كان يدرك أنه إن لم يخرجه في هذه اللحظة من الجحر فلن يستطيع الخروج ولن يسامح هو نفسه لتعريضه للخطر .
يتحرك وهو يبكي بخوف عليه، لا يزال يتذكر كلمات أحد رجاله الذين يعملون تحت أمرته في الجحر وهو يهتف له بلهفة :
" سيدي لقد أمسك أصلان بالامير نزار وقد كان في حالة يرثى له وأخذه للسجون ولا يبدو أنه ينتوي له خيرًا "
تحرك يحمل فوق ظهره نزار وهو يسير خلف اثنين من رجاله الذين يؤمنون له الطريق، يهمس كلمات غير مفهومة على مسامع نزار :
_ لو علمت أن سيري في هذا الطريق سجعلني أخسر الشخص الوحيد المتبقي لي في الحياة ما وطأته، فقط لا تتركني يا أخي.
كان يهذي بكلمات غريبة ونزار يعي لكل ما يحدث، لكن الوجع في جسده جعله عاجزًا عن الرد بكلمة واحدة .
وصل به الوليد لمكان غريب لأول مرة يبصره ومن ثم وضعه على الحصان وهو يربت على ظهره يهمس :
_ لا بأس يا أخي، لن اسمح لأحدهم باذيتك ليس وأنا حي .
_ إذن سيكون وأنت ميت يا الوليد..
توقفت يد الوليد عن التربيت على ظهره نزار الذي لم يتمكن حتى من فتح عيونه لينظر إلى المتحدث والذي كان يدركه فقط من صوته، حاول رفع رأسه حتى وفشل، ولم يصل لمسامعه سوى صوت الوليد وهو يهمس له :
_ اذهب لسبز واختبأ هناك هي اقرب لك، اختفي عن الوجود وعش حياتك يا أخي وتذكرني في دعواك لعل الله يغفر لي .....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
توقفت أمام ملجأه وهي تتنفس بصوت مرتفع وكأنها تحاول شحذ قواها لمواجهته تدرك أنه الآن في أكثر لحظاته قهرًا وضعفًا، وبدراسة شخصية زوجها العزيز، فهذه واحدة من اللحظات التي يرفض كليًا مشاركتها أحدهم، لكنها ليست أحدهم .
مدت يدها تفتح مقبض المنزل الذي يجلس به خلف القصر، لكنها تفاجئت به مغلقًا، ضيقت ما بين حاجبيها وحاولت فتحه مرات عديدة وفشلت، لتتنفس بشكل عميق وهي تطرق الباب بهدوء :
_ أرسلان أنت في الداخل افتح هذا الباب .
لكن لا رد، لا صوت وصل لها يخبرها أن هناك أي أحد في الداخل، فقط هدوء الليل المريب والقمر الذي يتوسط السماء منبئًا ببداية الأيام البيض التي تتوسط الشهور الهجرية، وتحديدًا منتصف مُحرّم .
نظرت صوب القمر ثواني وكأنها تذكرت فجأة شيئًا، كلمات متناثرة بالفارسية عن شيء سيحدث في منتصف الشهر، منتصف الشهر ؟! أي غدًا ؟! أم اليوم حيث الليلة الأولى من نصف الشهر ؟
طرقت الباب مجددًا بجدية وصوت متلهف :
_ أرسلان افتح هذا الباب هناك ما احتاج لاخبارك إياه، افتح ودعني ادخل رجاءً، أرسلان هل تسمعني حتى ؟! أرسلان افتح هذا الباب ارجوك، لا تفعل هذا بي وتنبذني بعيدًا عن حياتك، أرسلان اترجاك....
وفي ظلام الحجرة في الداخل .
يجلس بهدوء مستندًا على الجدار برأسه وهو يراقب السماء التي كانت واضحة له من زجاج شرفته برتابة ظاهرية، واحتراق داخلي، ومائة فكرة وصوت يترددون في عقله، هل هو مجبر على ذلك؟! هل هو مجبر أن يحيا حياته مقيدًا بهذا الشكل ليتم في النهاية الطعن به وبشرفه، ما الذي جناه من كل هذا ؟! 
سقطت دمعة على وجنته وشعور القهر والمرارة يملئان صدره، الخذلان يتغذى على قلبه وقد اكتفى، اكتفى من كل ذلك، يشعر بفقدانه القدرة على المواصلة في كل هذا، يتساءل إن كانت هناك نهاية لكل ما يحدث له، نهاية سعيدة في مكان بعيد عن هذا.
مكان كبير ملئ بالزهور الملونة وهي تجلس في منتصفه تنتظره ليلقي بنفسه بين أحضانها ويغفى على قدمها بهدوء شديد ويلقي بالدنيا وما فيها خلف ظهره .
تنهد براحة من مجرد التخيل، وقد كان في عالم بعيد لا يسمع شيء مما تقوله سلمى في الخارج، يحيا معها داخل عقله غير واعيًا لشيء .
شعر بالضيق يتمكن من قلبه مجددًا والشيطان يوسوس له بكلمات جعلته ينتفض من مكانه يصرخ بصوت مرتفع يحطم ما حوله بشكل محموم يتنفس بقوة، يندفع بعيدًا عن المكان صوب المرحاض وقد شعر بتحكم الأفكار السوداء به، قرر الصلاة كي يبعد كل ذلك عن عقله، قرر البحث عن سكينته في المكانة الذي كان متأكدًا أنه سيجدها فيها .
كل ذلك ولم يخترق قوقعته صوت سلمى الذي ارتفع برعب من الخارج وهي تزيد من طرقها على الباب تهتف باسمه مرتعبة مما قد يفعل بذاته .
_ أرسلان لا تفعل هذا بي، افتح هذا الباب وأقسم أنني لن أتحدث معك بكلمة واحدة، فقط أكون جوارك ولو صامتة، لا تعزلني وتبعدني عنك أرسلان، أرسلان أرجوك.
ختمت كلماتها بنبرة باكية خافتة وهي تنهار ارضًا تستند على الباب تهتف بصوت مختنق باكٍ :
_ أتوسل إليك لا تفعل بي هذا، لعنة الله على عالم يحزنك أرسلان، إن نبذك الجميع، فأنا مازلت أريدك، ما زلت أريدك ولو رفضك الجميع، مازلت اتقبلك ولم يعد لي غيرك .......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد ساعات طويلة من كل ذلك :
الاجساد تتحرك في الظلام بشكل غريب، ظلال وهمسات واستنفار غريب داخل العاصمة في مشكى، ليس فقط مشكى بل كانت الحركات منتشرة في الاربع ممالك .
الاصوات تتهامس والاعين ترسل إشارات معروفة متفق عليها .
فجأة وفي ظلمة الليل وفي لحظة واحدة، منتصف الليل وبداية منتصف الشهر، ارتفعت أصوات مفاجئة ضجت في المكان.
ولم يكن ما يحدث يقتصر على مجرد أصوات صاخبة ايقظت الأموات من قبورهم، بل كانت جحيمًا فُتح على الجميع، انفجارات متتابعة بدأت تدوي في أرجاء الممالك الاربعة وفي أماكن معينة مدروسة بدقة .
وفي ثواني تحول الليل الهادئ لنهار من شدة النيران التي اندلعت عقب الانفجارات .
وقد بدأت اصوات الصرخات تعلو في المكان وكلٌ يلوذ بحياته وحياة ذويه، منهم من يمسك بيد طفله ويركض به، والبعض يهرول في الطرقات يحاول إطفاء نيران جسده، وهذا يصرخ هلعًا وهو يحمل يين كفيه جسد ابنته المحترق.
انتشرت الفوضى في الممالك في ثواني وقد بدا وكأنها إبادة جماعية لسكان الممالك ..
سفيد : 
انتفض جسد سالار بسرعة وهو يركض بسرعة في الطرقات بعدما انطلقت أبواق الانذار تضج في القصر، لا يبصر أمامه سوى دخان ونيران بدأت تملئ سماء سفيد يردد بصوت مرتفع :
_ يا الله يا مغيث يا الله يا مغيث ..
كان الجميع يركض يحاول تدارك ما يحدثه، وقد كان أول من ينطلق خارج القصر هو إيفان الذي هرول يمتطي أول حصان قابله، عيونه متسعة بفزع وكأنه يبصر اشباحًا أمامه، يتحرك بحصانه بسرعة صوب أصوات الانفجارات التي بدأت تزداد تغطي على أصوات الصرخات، قلبه يكاد يتوقف وهو يتنفس بصوت سريع يبصر الجميع حوله يهرولون للمساعدة .
فجأة توقف على بداية الطريق المؤدي لساحة العاصمة وقد انعكست النيران في عيونه لتسبب له صدمة جمدته في مكانه، يهمس بصوت مرتعب وقد شحب وجهه :
_ يا الله رحمتك بنا ...
انتفض على صوت سالار الذي كان يصرخ بصوت جهوري في الجميع وقد قفز عن حصانه دون توقفه حتى يبصر عجز الجميع عن التصرف وقد كانت البحيرات تبعد عن مكان الانفجارات وكأنهم اختاروا أماكنهم بعناية : 
_ الآبار، استعينوا بمياه الآبار، والبعض يركض لسحب مياه من البحيرة التي تتوسط المشرق، تحركوا قبل أن تلتهم النيران المزيد من المساكن .
استفاق إيفان من صدمته وهو يهبط عن حصانه يهرول بسرعة صوب المنازل يساعد الجنود في إخراج الناجيين منها وقد عمت الفوضى في المكان وهو يصرخ بصوت مرتفع :
_ للقصر ليتوجه جميع الناجين صوب القصر، الجميـــــع يتحــــرك للقصـــــر الآن........
آبى : 
_ أبي هل مازلت مستيقظًا ؟!
نظر آزار خلفه بعدما سمع صوت ابنته، يمنحها بسمة حنونة مشيرًا لها أن تقترب لتجاوره شرفة غرفته :
_ هذا السؤال الذي يجب أن أسأله أنا لكِ صغيرتي، ما الذي تفعلينه مستيقظة حتى الآن ؟!
_ لا شيء كنت فقط أقرأ بعض الكتب في المكتبة وقد طار النوم من عيوني .
صمتت ثواني وكأنها تمتلك ما تتحدث بها، لكنها مترددة في كيفية طرحه :
_ أبي هو ...هل ...هل سيعود أخي قريبًا ؟!
ابتسم لها آزار بحنان وقد كانت ابنته واحدة من القلائل في قصره الذين يعلمون حقيقة نزار وقد أبى أن يفسد في عيونها دور البطل الذي ترى بها شقيقها، أبى أن يكسر صورة ابنه في عيون شقيقته ولو كان كذبًا .
_ إن شاء الله حبيبتي سيعود قريبًا، فقط دعينا ندعو الله أن يعيده لنا بخير حال .
اقتربت منه وهي تستند على صدره تردد بصوت حزين بعض الشيء:
_ اتمنى فقد ...اشتقت له كثيرًا .
ابتسم يقبل خصلاتها بحنان مربتًا عليها بلطف :
_ وهو كذلك اشتـ...
فجأة علقت الكلمات في حلقه حينما أبصر السماء المظلمة تتحول لنهار من شدة النيران التي ارتفعت في المكان عقب صوت إنفجار قوي، انتفضت ابنته صارخة بين يديه ليضمها له آزار وهو يهمس بصدمة كبيرة جمدته في أرضه :
_ بســــــــــم الله.......
سبز : 
تحركت بين الممرات تحمل يين يديها الاعشاب الخاصة بوالدها وهي تسرح بها وكأنها تحكي لها عن صاحبها، تشكو لها شوقها له .
أبعدت عيونها عنها وهي تسير صوب الغرفة تتوقف أمامه تمد يدها لطرق الباب، لكن وقبل أن تفعل انتفض جسدها تطلق صرخة مرتفعة تزامنًا مع ارتفاع أصوات الانفجارات في الخارج .
اتسعت عيونها وهي تركض بسرعة ورعب في الممر حتى وصلت للنافذة التي تقبع في نهاية تبصر منها ما يحدث بأعين فزعة مرتعبة، وقد ارتجف صدرها لتسقط طبق الاعشاب ويتهشم أسفل أقدامها، تراجعت بخوف للخلف وهي تحاول أن تتماسك .
ركضت في الممر بسرعة وهي تصرخ باسم والدها :
_ أبـــــــي، أبـــــي ..
كان الخوف يعلو ملامحها وهي تسمع أبواق الإنذار تدوي في المكان وأصوات الصرخات تزاحمها الأجواء .
توقفت أمام باب غرفة والدها ولم تكد تطرقها حتى أبصرت جسد بارق يندفع من المكان بسرعة وهو يصرخ بصوت جهوري :
- اذهبي للملجأ الغربي توبة، خذي نساء القصر واذهبي للملجأ الغربي ..
ومن بعد تلك الكلمات تلاشى جسد بارق وهو يهرول مع جنوده للبحث عن المتسبب في الأمر تاركًا إياها تراقبه بأعين دامعة خائفة وبقوة ..
مشكى :
انتفض جسد سلمى بقوة وهي تنظر حولها بعدم إدراك لما يحدث وقد غفت دون شعور من التعب أمام باب المنزل الذي استقر به أرسلان، لكن ما بال الأرض أسفلها ناعمة بهذا الشكل .
فتحت عيونها تحاول إدراك المحيط بها، لتبصر غرفتها وفراشها وموزي جلس أمامها يتناول بعض الطعام ملوثًا المكان بأكمله وخالد معه يتحدث له بكلمات غير مفهومة .
نظرت لهم سلمى دون إدراك وهي تقسم أنها كانت أمام ملجأ أرسلان، كيف جاءت هنا ؟!
_ أنت من احضرني هنا خالد ؟!
رفع خالد عيونه لها وهو يتنفس الصعداء :
_ واخيرًا استيقظتي ؟! لقد خفت عليكِ كثيرًا منذ عاد بكِ زوجك شاحب الوجه يحملك بين ذراعيه، الغريب أنه سمح لي بالبقاء معكِ أنا وموزي شريطة ألا نتسبب في ايقاظك، وها أنتِ فعلتي دون تدخل أحدنا.
ختم كلماته ببسمة وهو ينظر لها، بينما هي نظرت له بعدم فهم تفكر في الأمر قبل أن يحمر وجهها بقوة حينما أدركت أنه لم يسمح لها بالدخول في النهاية واحضرها هنا بكل بساطة، كانت هذه الفرصة الأخيرة التي وضعتها له بالحسنى والآن استنفذ كل تحضرها ولطفها معه ، طفح الكيل....
انتفضت عن الفراش تتحرك بقوة خارج المكان وهي تحمل معطفها ولم تكد تضعه على جسدها حتى اهتز جسدها بقوة تطلق صرخة تزامنًا مع ارتفاع اصوات صرخات موزي وخالد الذي فزع من الصوت المرعب  الذي ارتفع في الخارج.
وضعت سلمى يدها على صدرها بخوف تحاول أن تتنفس بشكل طبيعي، لكن اصوات الانفجارات التالية لم تكن تساعد في الأمر بأي شكل من الاشكال، ركضت صوب النافذة تراقب منها ما يحدث تحاول فهم ما جرى في الخارج، لتبصر الجحيم وقد تمثل لها على أرض الواقع .
لأول مرة تبصر مشهدًا كهذا بعدما كانت تبصره من خلف الشاشات، الآن تراها واقعيًا كما لم يكن يومًا، واقعًا يعايشه شعب بشكل يومي تقريبًا .....
شهقت برعب وهي تتراجع للخلف ولم تكد تنطق بكلمة حتى سمعت صوت صرخات أرسلان وهو يلقي بالتعليمات للجميع وصوته الجهوري يصل لها في غرفتها :
_ سيارات الخزانات، احملوها وتوجهوا بسرعة صوب العاصمة، افتحوا خزانات المياه في العاصمة، افتحوا كامل الخزانات حتى لو اغرقتم العاصمة، تحركـــــــــــــــوا ..
وارسلان عكس الجميع، وبعد نكبة مشكى الأولى أخذ يحمي بلاده ويضع في كل منطقة خزان مياه عملاق يستمد حمولته من البحيرات والبحار التي تحيط مشكى، وكأنه كان يخشى أن يمر شعبه بما يؤرق نومهم مجددًا...... وقد كان وللأسف الشديد أنه كان.
تحرك فوق حصانه بسرعة كبيرة صوب العاصمة وسلمى تراقبه بأعين متسعة وخوف بدأ يتغذى على ثباتها لتتحرك دون وعي وبسرعة صوب الأسفل.
أرسلان ليس في حالته الطبيعية وليس في كامل عافيته النفسية بعد كل ما مر به، لا تستطيع تركه يلقي بنفسه في التهلكة ..
تحرك خالد بسرعة من فوق الفراش وهو يلحق بها مرتعبًا أن يمسها سوء، لكن ما إن خرج خلفها ليلحق بها أبصر تيم وهو يركض مع بعض الرجال يصرخ لهم بتعليمات كثير فهم منها أنه يطالبهم بمساعدة النساء وإبعادهم مع الاطفال صوب الملجيء .
نظر صوب بوابة القصر حيث اختطفت أخته أحد الأحصنة ورحلت، ومن ثم نظر صوب احد المباني التي كان يرتفع منها بكاء أطفال وصرخات كثيرة .
كاد يهرول خلف سلمى لينفطر قلبه بشدة حينما سمع صوت أحد الأطفال وهو يصرخ باكيًا :
- لا أريد أن أموت كأبي، لا أريد أن احترق مثله.
ارتجف جسد خالد بقوة وهو يهرول بسرعة صوب الصغير يلتقطه من الارض بقوة لأحضانه، ومن ثم تحرك بسرعة صوب الأطفال يقودهم أمامه بلهفة :
_ هيا يا صغار تعالوا معي، هيا تعالوا معي، هيا .
كان يقودهم بعيدًا عن كل تلك الضوضاء وقد أبصر تيم ينظر له بامتنان يشير صوب أحد الجهات :
_ خذهم لهذه الجهة ستجد هناك ملجأ مؤمن، ساعدهم يا خالد أرجوك .
هز خالد رأسه بالايجاب وهو يتحرك بسرعة محركًا الصغار معه وهو يردد لهم بكلمات هامسة مطمئنة، يحاول بث الطمئنينة بصدورهم مشفقًا عليهم أن يبصروا كل ذلك في هذا العمر مدركًا أن الصغار لن يتخطوا كل ذلك بسهولة، هذا إن فعلوا من الأساس.....
ـــــــــــــــــــــ
كانت سرعة حصانها مرعبة بالنسبة لأمراة لم تمطيه سوى مرات تعد على أصابع اليد الواحدة، لكن في هذه اللحظة كان خوفها على أرسلان،  يفوق رعبها من وضعها الراهن .
تتحكم بالحصان بصعوبة كبير ولا تعلم حتى كيف توقفه، كل ما تعلم هو أنها يجب أن تكون جوار أرسلان في هذه اللحظة وتساعده .
أبصرت حصان المعتصم يتحرك بسرعة أمامها لتتبعه بسرعة تضاهي سرعته وهي تنغز خاصرة الحصان، وقد اشتد خوفها مما يحدث وأصوات الصرخات في المكان حولها أصابها بالرعب والخوف حتى كادت تنهار لثواني لولا تماسكها وهي تهمس لنفسها بكلمات خافتة .
ابتلعت ريقها تتوقف فجأة بالحصان في إحدى الطرقات حينما أبصرت النيران التي بدأت تلتهم المكان حولها بشكل مخيف، حاولت التنفس بشكل طبيعي، تبلل شفتيها وهي تراقب ما يحدث بأعين مصدومة.
هي والتي لم تعش بمشكى سوى شهور شعرت بالقهر وقد اوجعها قلبها مما ترى، فما بالكم به وهو الذي وهب كل قطرة دماء بشرايينه لهذه البلاد .
حركت عيونها في الجميع تبحث عنه بخوف واضح، تبصر هذا يركض يحمل دلو مياه، وهذا يحمل طفل ويخرج به من منزل محترق .
وزيان يركض بجنون مع بعض الجنود يحمل المصابين بعيدًا عن الحرائق، كان يركض في الطرقات وكأنه اعتاد الركض طوال حياته، حتى أنه واثناء ركضه اصطدم دون شعور في صخرة ليسقط ارضًا بقوة يطلق تأوهًا مرتفع، لكنه عاد ونهض بسرعة غريبة يتحامل على نفسه وهو يسارع لنقل باقي المصابين .
انهارت سلمى وهي تبصر ما يحدث أمامها، وقد بدأ تنفسها يعلو بقوة تبحث عن مصدر امانها بين الجميع، لتبصره واخيرًا وهو يحمل دلاء المياه في كلتا يديه مع جنوده ويركض بها بين الطرقات محاولًا إدراك ما يمكن إدراكه.
جاءت لتساعده، لتدرك فجأة أنه طوال الوقت كان هو من يساعدها دون أن تشعر، ظنت أنها تدعمه لتعلم أن وجوده كان أكبر داعم لها في حياتها .
تراقب الجميع يتنقل هنا وهناك للمساعدة لما يمتلكون، وهي فقط تتابع ما يحدث بعيونها ولا تعلم ما تفعل، هبطت عن الحصان بشكل غير صحيح تمامًا تسبب في سقوطها، لكنها لم تأبه تفرك ركبتها بوجع، ثم تحركت في المكان تنظر حولها بتيه قبل أن تتحرك وتساعد في إخراج النساء وقد كانت تركض هنا وهناك تحمل طفل هذه وطفل هذه وتضعهم بالعربات التي تحملهم صوب القلعة، تساعد هذه العجوز وتعين هذا الشيخ .
وقد كان جسدها يرتجف مما ترى ورائحة الحريق تكاد تخنقها، تحاول مساعدة من يمكنها مساعدته وهي تقابلهم بلطف ونبرة رقيقة.
_ لا بأس تمسكي بي....دعني اساعدك يا عم هيا....امسكي يدي يا صغيرتي لنخرجك من هنا.
امسكت بيد طفلة صغيرة تسحبها بسرعة بعيدًا عن الحريق، لكن الصغيرة بكت وهي ترفض التحرك تصرخ متمسكة بالأرض أسفلها مشيرة صوب المنزل :
_ أمي بالداخل، لن أرحل دونها، لن أرحل.
نظرت لها سلمى وهي تنظر للمنزل الذي كان الحريق يلتهم جزء منه وفي طريقه للجزء الآخر:
_ لا بأس صغيرتي دعينا نخرجك من هنا، ومن ثم نخرج ماما و...
_ لا لا ... أنتِ لا تفهمين، أمي لا تستطيع السير، هي مريضة لا تستطيع التحرك ساعديها أرجوكِ، ساعديها لم أعد امتلك سواها وقد رحل أبي.
نظرت لها سلمى بصدمة قبل أن تحملها بسرعة وبالاكراه تركض بها صوب العربة تضعها هناك وهي تهمس لها بجدية :
_ ابقي هنا سوف أحضر لكِ والدتك حسنًا؟؟ اجلسي هنا ولا تتحركي.
همست بحنان، ومن ثم تحركت بسرعة صوب المنزل  ولم تبصر السيدة التي مرت بجانبها وهي تتكأ بصعوبة على بعض نساء حارتها، أخذت السيدة تسير بصعوبة حتى وصلت للعربة مع جيرانها لتبصر ابنتها التي بكت بسعادة وهي تلقي نفسها بين أحضان والدتها المتعبة :
_ أمي حمدًا لله أنكِ هنا، لقد أرسلت لكِ الخالة لتخرجك لم أرحل دونك .
ابتسمت لها والدتها بتعب شديد ولم تكن تعي كلماتها، فقط ربتت على كتفها بحب، لتلقي الصغيرة نفسها بين أحضان والدتها تستمد منها الحنان .
وقد غفلت أنها للتو أرسلت سلمى لحريق لن تخرج منه بناجٍ وربما لن تخرج هي ناجية حتى  .
تحركت سلمى بسرعة تبحث عمن يساعد في الأمر، لكنها أبصرت الجميع وقد كان مشغولًا بإطفاء الحريق، تحاول ايقاف هذا وذاك، ولا أحد يملك وقتًا للتوقف ثانية وسماع ما تريده، الجميع يهرول ليساعد بما أُمر به، نظرت صوب المنزل بعجز وهي تفكر في التراجع، لكن المرأة المريضة بالداخل وابنتها في الخارج وحدها، هل ستتحمل العيش بذنب طفلة فقدت امها وكانت تمتلك هي فرصة المساعدة ؟! 
ألا يكفيها ذنب ياقوت الذي ما يزال يخنقها، تحركت بعد دقائق تردد داخل المنزل وقد شجعها أنه لم يكن قد احترق بالكامل.
اندفعت بسرعة صوب المكان وهي تغلق اذنها عن أي أصوات قد تلقي الخوف في صدرها وتمنعها الأمر، ومن بين تلك الصرخات كانت صرخة جندي وهو يبصر أمرأة تلقي بنفسها بين النيران ليهرول لها صارخًا بجنون :
_ مـــــا الذي تفعلينه، توقفي سيدتي، لا أحد بالداخل ..
لكن كانت صرخته متأخرة وقد دخلت سلمى بالفعل، اتسعت عيون الجندي بصدمة أكبر وهو يسمع همسة رفيقه من الخلف وقد انتبه على صرخاته منذ ثواني وتعرف على هوية سلمى في ثواني متحدثًا بصدمة بالغة :
_ هــــــــل هـــــــذه الملكــــــــة ؟؟؟
كان أرسلان يتحرك مع رجاله يطفئون الحرائق وينقلون المصابين لجهة بعيدة حيث زيان وفريقه الطبي يسعفونهم، أرسلان يهرول بين الجميع وهو يبصر خرابًا آخر ووجع آخر يحاول تدارك ما يحدث، يراقب للمرة التي لا يعلم عددها دمار بلاده وخراب ما كاد أن يصلحه .
تراجع وهو يتنفس بصوت مرتفع يردد بصوت مختنق :
_ إنا لله وإنا إليه راجعون، إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنا في مصيبتنا، اللهم أجرنا في مصيبتنا 
أخذ يراقب يعيونه الجنود وهم يتداركون الوضع ويخرجون كل السكان ويفرغون المكان، استطاعوا الخروج دون ضحايا رغم بشاعة الإصابات، انقذوا الارواح وخسروا المنازل .
اغمض عيونه وهو يراقب تحرك جنوده بعيدًا ببعض الناجيين يسمع صوت المعتصم وهو يركض صوبه يتحدث يصوت مرتفع :
_ مولاي الحمدلله لم نفقد ضحايا اخرجنا الجميع في الوقت المناسب وقد كانت الانفجارات بعيدة عن المنازل، لكن الحرائق الناتجة عن الإنفجار تسببت في خراب الكثير من المنازل والغلال وكذلك الكثير من الإصابات .
تنهد أرسلان براحة جزئية وقد حمد ربه أن خطط الاخلاء التي سبق ووضعها بعد نكبتهم قد أتت ثمارها :
_ لا بأس يا المعتصم، لا بأس، خسارة الأملاك تُعوض، غدًا نبنيها مجددًا كما فعلنا سابقًا، فقط حاولوا إطفاء الحرائق كي لا تمتد للمــ
_ مــــــــــــولاي، مــــــــولاي، إنهـــــــا المــلكـــــة، الملكة ألقت بنفسها في أحد المنازل المشتعلة تبحث عن ناجين و....
كانت مجرد كلمات هلعة نطق بها الجندي، لكنها كانت بمثابة قنبلة أخرى سقطت عليهم، لكن من بين الجميع لم تصب سوى أرسلان الذي شحب وجهه وارتجف جسده وهو يستدير بسرعة مرعبة صوب الجندي يهتف بعدم إدراك وقد دارت الأرض أسفله يتحدث بصوت مرتجف لأول مرة على مسامع جنوده :
_ ملكة ؟! أي ملكة تقصد أنت ؟؟
وكأن مشكى تمتلك ملكة غيرها؟! لكن عقله أبى تصديق ما سمع، وماذا ستفعل سلمى هنا، ولماذا ستلقي بنفسها في منزل محترق ؟! هو تركها آمنة في فراشها ليعود ويجدها هناك سالمة تنتظره ليعتذر لها، ويترجاها ألا تتركه وحده .
_ الملكة... الملكة، زوجتك مولاي.
وقبل أن يتبع جملته بجملة أخرى اندفع جسد أرسلان بجنون صوب الجهة التي أشار لها الجندي، يهرول كالمجنون وهو يدفع الجميع من أمامه يصرخ بلوعة مناديًا باسمها وقد توقف قلبه عن الخفقان .
ركض وركض حتى وصل لمنزل شبه محترق بالكامل يحاول جنوده إطفاء الحرائق باستماتة، والبعض يحاول الدخول، لكن النيران كانت تأكل كل ما يقترب منها، وارسلان يراقب كل ذلك بجسد مرتجف وقد شعر بالخوف يشل جميع أطرافه يراقب المنزل أمامه وقد انعكس اشتعاله داخل عيونه بعجز أصابه لثواني .
لكن سرعان ما خرج من حالة العجز تلك وهو يسمع صوت أحدهم يصرخ بجملة أبصر بها دمار حياته " الحريق يزداد شراسة، والملكة بالداخل، ليحضر أحدكم المزيد من المساعدات" 
الملكة بالداخل .
الملكة بالداخل.
الملكة بالداخل .
المرأة الوحيدة التي سلم لها حياته، في الداخل، داخل الحريق ؟!
وعندما ضربت هذه الحقيقة مراكز الإدراك أطلق أرسلان صرخة مرتعبة يأمر جنوده باطفاء الحريق، وهو يركض كالمجنون صوب المنزل يلقي بنفسه بين ألسنة اللهب وصوته لا يتوقف عن النداء باسمها، وقد كان قاب قوسين أو أدنى من إلقاء نفسه بين أحضان الحريق لولا يد المعتصم الذي جذبه برعب بعيدًا عن المنزل يصرخ بخوف :
_ لا مولاي لا تفعل الحريق شديد، لا تفعل سوف نخرجها، أرجوك لا تفعل، سنخرجها، انتظر فقط ثواني ارجوك.
نظر أرسلان صوب المعتصم نظرة جمدت دماء الآخر داخل عروقه، لكنه لم يتحرك وقد عاونه تيم وبعض الجنود يجذبونه بعيدًا عن الحريق وارسلان يقاومهم بشراسة وهو يصرخ بهم :
_ دعوني، زوجتي بالداخل، اتركوني، هل جننتــــم ؟؟ زوجتي داخل الحريق، زوجتي بالداخل، والله لن اسامحكم والله إن مسها خدشٍ واحد لأحيلن حياتكم اجمعين لجحيم اسوء مما تبصر أعينكم الأن، اتركــــــــوني زوجتي بالداخل.
_ أرجوك مولاي فقط تمالك نفسك سوف نخرجها، لكن لا يمكننا فقدناك..
دفع أرسلان المعتصم بعيدًا وهو يلكمه بقوة صارخًا بجنون :
_ سأقتلك يا المعتصم قسمًا بالله سأقتلك إن لم تبتعد من أمام وجهي .
ختم حديثه يحاول جذب نفسه من بين أذرع جنوده، لكن الرعب الذي على وجوههم في هذه اللحظة والخوف الشديد من خسران قائدهم وملكهم كان أقوى من أي خوف أو رعب .
جن جنون أرسلان وهو يحاول الإفلات بيأس وقد بدأت صرخاته تزداد ونبرته ترتجف وهو يصرخ بهم :
_ دعــــوني لعنة الله عليكم اجمعين، دعوني زوجتي تحترق بالداخل، والله العظيم لأحيلن مشكى جحيمًا فوق رؤوس الجميع إن لم تتركوني، لأكونن أنا عدوكم  أجمعين .
تحدث المعتصم بارتجاف :
_ نحن نتدارك الوضع مولاي، أرجوك فقط اصبر سوف نخرجها، لكننا لا نستطيع المغامرة بك ومشكى لا ....
جن جنون أرسلان ليتحدث دون وعي كلمات ما كان ليفكر بها حتى في حالته الطبيعية، ولسان خوفه من فقدانها هو من يتحدث : 
_ ألا لعنة الله عليك وعلى مشكى، أنا أتنازل عنها وعنكم وعن الجميع، فقط لا أطلب منكم سواها، لم اطلب يومًا سواها، حتى الشيء الوحيد الذي اخترته بإرادتي الحرة تسلبوني إياه.
بُهت المعتصم وهو يدرك أن أرسلان محق هو أناني، لكنه مجبر على أن يكون، إن سقط أرسلان سقطت المملكة وستضيع بشعبها وتتدمر بالكامل، سيضيع شعبه بأكمله إن مس أرسلان سوء، ورغم ذلك تذكر أنه يومًا ألقى بنفسه في النيران لأجل فاطمة وسيفعلها مجددًا إن تطلب الأمر، نظر بعجز لأرسلان يدرك أنه سينفذ تهديده إن مسها سوء، لذا هز رأسه وهو يأمر الجميع بتركه .
لكن هذه المرة هم من رفضوا تنفيذ أوامره ليجن جنون المعتصم كذلك وهو يتحرك صوبهم يصرخ في وجوههم بترك الملك .
_ مابكم أنتم؟؟ هذه أوامر الملك أيها الحقير، دعه تيم هل جننت لعصيان أوامر الملك؟؟
وارسلان لم يفكر كثيرًا أو ينتظر لينتهي هذا النقاش، وهو يخرج خنجره ويصيب أول شخص أمامه وقد كان نفسه تيم الذي تراجع للخلف بصدمة ممسكًا ذراعه، يبصر أرسلان يضرب جميع من يمسك به وهو يهرول صوب المنزل المشتعل يضرب بابه بقدمه يلقي بنفسه بين النيران وقد أخذ عهدًا على نفسه، إما أن يخرج بها، أو يلحق بها ....
ـــــــــــــــــــــــــــــ
_ إيفان أبتعد، إيفان ابتعد ما بك ..
كانت صرخات سالار ترتفع في المكان بأكمله، بينما إيفان يركض حاملًا بين ذراعيه طفل شبه محترق وهو يصرخ بصوت مرتفع :
_ الاطفال في الداخل سالار، الكثيرون هناك، تحركوا واخرجوا الصغار .
تحركت عيون سالار صوب المنزل الذي خرج منه إيفان، قبل أن يركض بسرعة وهو يشير لبعض الرجال بلحاقه، يتحرك بسرعة كبيرة ينقذ ما يمكن انقاذهم، وايفان يركض بشكل جنوني يحمل الاطفال ويخرجهم للعربات قبل أن يشعر فجأة بنيران تحرق ظهره ليطلق صرخة مرتفعة رن صداها في المكان ..
اتسعت عيون سالار وهو يبصر أحد الاجزاء المتداعية تهبط فوق ظهر إيفان ليطلق صرخة كما لو أنها سقطت فوقه هو، يهرول صوب إيفان يضرب الاجزاء المحترقة بقدمه يجذب إيفان بعيدًا عنها وهو يضمه له بخوف شديد يساعده للخروج من المنزل هاتفًا في الرجال حوله :
_ اسرعوا واخرجوا الأطفال اسرعوا وأخرجوهم من هنا .
تحرك بسرعة يسند إيفان الذي كان يتأوه بوجع يحاول أن يتماسك :
_ لا بأس سالار أنا.... أنا بخير ...بخير ....فقط اتركني وتولى الأمر، أخرج الصغار من الملجأ الخاص بهم، اخرجهم قبل أن يمس أحدهم سوء .
اجلس سالار في مكان بعيد عن النيران وهو يقطع سترته ينظر للحروق التي ملئت ظهره بشكل كبير :
_ أهدأ لقد حدث ما تريد اخرجناهم، أهدأ، نحن نتدارك الوضع .
أبعد إيفان عيونه عن سالار الذي أخذ يقيم جروح ظهره، ومن ثم نظر لبلاده بأعين ضبابية من الدموع يهمس بصوت موجوع على بلاده وشعبه وقد سقطت دمعة دون شعور منه وصوته خرج محملًا بغصة قهر وبسمة لا تلائم الوضع ارتسمت على فمه :
_ أتضح أن أرسلان كان اقوانا طوال الوقت، لم يكن يبالغ حينما مازحنا بأنه اشدنا بأسًا، هو كذلك بالفعل، كان....كان جبلًا ليتحمل رؤية بلاده لشهور تعاني مما نعانيه نحن في ساعات ولم ينهار ارضًا، أعانه الله واعاننا.
نظر له سالار ثواني قبل أن يحرك عيونه صوب المنازل التي بدأت نيرانها تخفت بعدما تداركوا الوضع بصعوبة ولمدة ساعات، يجلس بهدوء ارضًا يراقب الادخنة المتصاعدة واطلال المنازل بأعين شاردة :
_  لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ليتلطف الله به وبنا جميعًا، إنا لله وإنا إليه راجعون.....
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سبز .
كانت تقف في الساحة وهي تساعد في نقل الصغار والنساء المصابين صوب المشفى تساعد في إيواء اللاجئين من الحريق للغرف ترشد هذا وذاك وقد أوشكت على السقوط ارضًا تنهار مما ترى، لم تكد البلاد تنهض بعد عودة والدها لهم حتى أنهارت مجددًا .
سقطت دموعها وهي تحمل أحد الاطفال تتحرك به صوب المشفى تضعه على الفراش وهي تهمس له بكلمات لتهدأ بكاءه، تساعد الاطباء في علاج من تستطيع المساعدة .
ومن ثم تحركت صوب الساحة وقد كان خوفها على والدها قد بلغ مبلغه، أخذت تدور بين المصابين تساعدهم وعقلها يدور حيث والدها وباقي الشعب .
_ اللهم أجرنا يا الله .
_ سمو الأميرة مصاب آخر أتى، لكن حالته تبدو اسوء بكثير ..
نظرت توبة صوب العاملة وهي تتحرك بسرعة معها صوب البوابة الخاصة بالقصر تشير للعاملين بالمشفى أن يلحقوا بها بحامل لحمل المصاب، اقتربت بسرعة وهي تتحدث بصوت مرتفع لأحد النساء معها :
_ رجاءً اطلبي منهم تجهيز مبنى الضيوف لاستقبال باقي الحالات، لقد كادت المشفى تمتلئ بالجرحى .
ختمت حديثها وهي تشير للرجال بحمل المصاب والذي كان ساقطًا ارضًا تقترب منه بحذر تحاول تقدير حالته، والرجال اقتربوا يعدلون من وضعية جسده يحملونه على الحمالة، لكن بمجرد أن كُشف وجهه لتوبة شعرت بانقطاع الهواء عن رئتيها، تراجعت للخلف وقد سُحبت الحياة من جسدها فجأة، تبصر كابوسها وقد تمثل على أرض الواقع ..
_ نـ ..نزار ؟؟ 
كلمة مرتجفة هي كل ما استطاعت مغالبة صدمتها لإخراجها، تبصره أمامها دامي الجسد مبعثر الهيئة وكأنه تعرض لعذاب لمدة أيام متتالي، ارتجف جسدها كله وهي تقترب منه هامسة بنبرة باكية مصدومة :
_ نزار؟ كيف ؟؟ كيف هو ...كيف جاء هنا كيف ؟! 
ابتلعت ريقها وهي تراقبه منهارة وفي ثواني انفجرت في بكاء قوي وهي تقترب منه بلهفة شديدة تهمس باسمه بنبرة مرتعبة :
_ نزار ؟! يا ويلي نزار ما الذي حدث لك، نزار تحدث لي، نزار أرجوك.... من فعل هذا بك ؟!
كانت تخرج كلماتها باكية بصعوبة وأحد الجنود حولها أدرك هوية الرجل يهتف بصوت منخفض : 
_ لا نعلم ما حدث، لكننا وجدناه فجأة يتقدم من البوابة منهكًا قبل أن يسقط ارضًا مصابًا بجروح بليغة .
كانت توبة تسمع وهي تشعر بالوجع يتمكن منها وكأن جروحه ترسل صدى بين جنبات صدرها هي، انهارت ارضًا جوار صدره تبكي بصوت مرتفع :
_ نزار أرجوك لا تفعل بي هذا، ليس أنت، أرجوك ليس أنت أرجوك نزار .
_ سمو الأميرة هل نحمله للمشفى ؟؟
لكن توبة كانت حالتها يرثى لها لا تعي شيء سوى أنه الآن ممد أمامها لا حول له ولا قوة لا تدري ماذا حدث معه وكيف ولماذا، أو حتى طريقة وصوله لهنا .
تحدق في وجهه بوجع وهي ما تزال تتوسله التشبث بالحياة لأجلها .
أما عنه فقد كان في عالم آخر يحيا سوادًا ابتلعه بالكامل وآخر لحظات وعيه وإدراكه تمر أمام عيونه بسرعة كبيرة ودموعه تسقط جانب عيونه دون أي وعي أو شعور منه .
رفعت توبة عيونها للسماء وهي تبصر ما يحدث تهتف بصوت مرتفع موجوع :
_ يا الله رحمتك بنا يا الله .....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
_ إلى أين زمرد توقفي.
امسكت تبارك زمرد بصعوبة وملامحها تنطق بالقلق تحدق في تبارك بعدم فهم هاتفة :
_ إلى أين ؟! هل تمزحين معي بعد ما ذكرتيه منذ ثواني ؟!
ابتلعت تبارك ريقها وهي تحاول الحديث، بينما كهرمان تقف جوارها بأعين ملتمعة بالشر رغم كل ما يحدث في الارجاء، وصلتهم أنباء خمد الحرائق .
وبعدما شعروا بالهدوء يسود الأجواء ألقت تبارك جملتها التي أثارت جنون زمرد وهي تهب منتزعة خنجرها تصرخ :
_ تخبرينني أن الفتاة في المشفى مريضة وحدها تستغيث من رجل حقير اختطفها، هل تمزحين معي ؟! 
_ نعم لكن هناك ...نحن لسنا متأكدين من الأمر حتى هي لم تقل سوى كلمات معدودة لا أدري إن كانت صحيحة أم يُهيأ لها ؟!
صمتت تبارك وهي تتذكر رؤيتها لفاطمة ممددة لا حول لها ولا قوة على الفراش وقد شعرت بالشفقة والحزن عليها، لكنها قررت علاجها بهدوء والمغادرة على أية حال لتطمئن على الباقيين، ومن تعود لها لاحقًا حين تستفيق ، لولا كلمات فاطمة التي جمدتها في ارضها  ..
كانت تبارك تفحص الفتاة وهي تنظر لها بشفقة كبيرة تربت عليها بحنان وتضمد جروح رأسها، وحينما وجدت أنها انتهت تحركت بهدوء بعيدًا عنها كي تخبر مهيار ما تحتاج له الفتاة، لكن فجأة شعرت بيد تمسك مرفقها وصوت هامس يخرج من الفتاة المتسطحة على الفراش .
توقفت تبارك ترمش بعدم فهم وهي تتحرك صوب فاطمة مجددًا وما تزال تشعر بأنها مألوفة بشكل ما، لكن كلماتها التالية أصابتها بصدمة أكبر :
_ ساعديني رجاءً، لقد ...الرجل في الخارج ليس ....لقد ....اختطفني من زوجي .
أفاقت تبارك على صوت كهرمان التي كانت تتحدث بصوت العقل :
_ لا يمكنك الذهاب هكذا والهجوم عليه وأخذ الفتاة بكل بساطة زمرد .
رمشت زمرد ثواني وكأنها لا تفهم ما يقال تردد ببساطة تحرك كتفيها بهدوء : 
_ بلى يمكنني ذلك، بل وازيدك من الشعر أبيات، سوف احطم عظامه حتى يكتفي .
تنفست كهرمان وهي تمسك يد زمرد التي كانت تنتفض بغضب منذ سمعت أن هناك امرأة مقهورة في الإرجاء:
_ زمرد دعينا نفكر، لننتظر حتى يعود إيفان ونسلمه له ويحاكمه للتأكد من الأمور من جميع الأبعاد.
جذبت زمرد يدها من يد كهرمان وهي تمنحها بسمة واسعة :
_ أعان الله أخي على ما يحدث، لا يكفيه حقير كهذا يضيع عليه وقته، ثم أنا أميرة كذلك ويمكنني أن أحكم وحكمي هو أنه مذنب، رفعت الجلسة.
ختمت حديثها تتحرك وهي تجذب خنجرًا من ثوبها والشر ينطلق من عيونها تتوجه صوب المشفى حيث تلك المظلومة المقهورة تفكر في أكثر من طريقة إبداعية للتخلص منه، وخلفها تهرول كهرمان وتبارك التي ندمت على أخبارهم، لكن الفتاة كانت صغيرة ورقيقة وأثارت تعاطفها وبشدة .
ابتلعت ريقها وهي تتحرك خلف زمرد داخل المشفى، تبصر زوج الفتاة أو من يدعي أنه زوجها يقف أمام باب الغرفة مع الحكيم يتحدث معه بصوت منخفض وكلمات وصلت لهم :
_ عندما تأتي تلك الطبيبة فقط أخبرها أن تعطني الاعشاب وأنا سأهتم بمتابعة علاجها في المنزل .
زفر الحكيم وقد وصل لقمة غضبه من إصرار إلياس الخانق على أخذ زوجته والرحيل، وما كاد يتحدث بكلمة حتى سمع صوتًا خلفه يردد بسخرية :
_ لا بأس سنعطيك الأعشاب لتعالج بها ذاتك في المنزل، لكن لا أعتقد أن الطبيب مهيار بهذه المهارة التي تمكنه من صنع دواء يعالج ما سأفعله بك .
رفع إلياس عيونه صوب الصوت ليبصر امرأة بملامح حادة تحدق في وجهه بشر مستطر جعله يضيق عيونه بعدم فهم، لكن زمرد لم تهتم وهي تقترب من باب الغرفة تدفع جسد إلياس جانبًا بخنجرها مرددة بهدوء :
_ هيا تحرك بعيدًا عن هذا الباب وعد لمنزلك على أقدامك طالما يمكنك ذلك .
رمقها إلياس بعدم فهم أكبر :
_ هل جننتي ؟!  من هذه المرأة وما دخلك بي ؟! 
تحركت كهرمان وهي تحاول الحديث بصرامة وملامح جامدة :
_ اسمع يا سيد لقد علمنا أنك اختــ
لكن فجأة توقفت عن الحديث تفتح عيونها بصدمة وهي تشعر بيد زمرد تزيحها جانبًا تفسح لنفسها رؤية واضحة لوجه إلياس:
_ انتظري أنتِ يا ابنتي، لنرى ما يريد هذا الحقير المتبجح، فوق أنك تخطف الفتاة تقف وتتبجح أمامنا يا وغد ؟!
شحب وجه إلياس بقوة وقد بدا أن المكان حوله بهت فجأة، يحاول تمالك نفسه كي يتحدث بنبرة طبيعية لا تظهر توتره ورعبه الداخلي من اكتشاف ما فعله :
_ اخــ ...اختطاف ؟!
سخرت منه زمرد بقوة :
_ نعم اخــ...اختطاف، الفتاة في الداخل ما علاقتك بها يا هذا ولا تقل أنها زوجتك كي لا اشرحك لقطع متناثرة في الإرجاء.
تنفس بصعوبة بسبب نظراتها وهو يحاول التحدث بكلمات متماسكة .
وفي الداخل كانت فاطمة تجاهد لتنهض عن الفراش وقد كان الوهن قد تمكن منها بالكامل، تسمع أصوات النقاش في الخارج مكتومة بعض الشيء، لكن هذه كانت فرصتها الوحيدة للفرار من هذا السجن الذي صنعه لها مختل .
تحركت تستند على الجدار تبكي من شدة الوجع الذي يدور داخل رأسها، تحاول التحدث ونداء من بالخارج، لكن صوتها أبى أن يخرج، وصلت وأخيرًا صوب الباب تستند عليه بصعوبة، وهي تحاول جذبه لكن شدة ضعفها حال دون ذلك، لتتنفس بصوت مرتفع وهي تطرق على الباب بقوة ..
طرقات عالية على الباب جعلت أعين الجميع تتحرك صوبه ليشتد شحوب وجه إلياس وهو ينظر صوب وجه زمرد التي ابتسمت له بسمة مخيفة وهي تتحرك صوب الباب، ولم تكد تفتحه حتى شعرت بيد إلياس يمسك يدها مانعًا إياها، وكانت فقط ثانية لا أكثر حتى رن صدى صفعة زمرد على وجهه في المكان وهي تهتف من أسفل أسنانها:
_ إياك ولمسي يا هذا .
ومن بعد تلك الكلمات دفعته بظهره خنجرها وهي تحذره بعيونها : 
_ ابتعد من أمام الباب هيا ..
وبالفعل دفعته بقوة وهي تفتح الباب بسرعة كي تساعد تلك المسكينة تتحدث بجدية :
_ هيا اخرجي ولا تخشى شيئـ ....
لكن قطع كلماتها سقوط جسد هزيل عليها وقد كانت فاطمة تستند على الباب بارهاق شديد وبدا أنها بذلت كافة قوتها في التحرك من الفراش للباب .
وزمرد التي لم تستوعب ما يحدث مالت بسرعة تلتقط جسد الفتاة بين أحضانها برعب تضمها خشية السقوط ارضًا :
_ بسم الله ما بــ......فاطمــــــــــــــة ؟؟؟؟؟
كانت تلك كلمة نطقت بها زمرد وقد كان دورها هذه المرة لتتلقى صاعقة فوق رأسها تحمل بين يديها جسد الصغيرة فاطمة وقد كانت تبدو كما لو أنها فقدت الحياة .
اتسعت عيون كهرمان التي هرولت صوب فاطمة تهتف اسمها بعدم فهم، وزمرد أخذت تحدق بالصغيرة التي امتلكت قطعة من قلبها بلطفها ورقتها سابقًا، اشتد احمرار وجهها وهي ترفعه صوب إلياس الذي تراجع للخلف وقد فقد النطق حينما أبصر نظرات زمرد له ..
ولم تكن مجرد نظرات تلك التي وجهتها زمرد له، بل كانت مقدمات لنهايتـــــه ......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
_ نزار تماسك، نزار أرجوك...نزار فقط تماسك ارجوك .
كان صوت توبة وهي تتحرك خلف الجنود الذين يحملون جسده يتردد في عقله دون القدرة على فتح عيونه، حتى أنه لم يكن قادرًا على تحريك إصبعه، وصوت صرخات توبة باسمه تداخل مع اصوات قريبة باسمه كذلك، الصوت الاخير الذي اخترق وعيه قبل أن يدفعه الوليد بعيدًا عن الجحر ورجال أصلان.
سقطت دموعه بقوة وقد شعر أنه عاد لتلك اللحظة، حينما كان فوق الحصان يراقب بأعين ضبابية ما يفعل الوليد وهو يحارب وحده رجال أصلان يمنعهم من الوصول إليه، شيئًا فشيء بدأ وعيه يعود له وهو يحاول التحرك لمساعدة الوليد الذي سقط ارضًا وتلقى طعنة قوية في جسده، انتفض جسد نزار عن الحصان بقوة وهو يحاول التحرك يهبط من فوقه بصعوبة يتحرك صوب الوليد، بينما الأخير نهض بصعوبة يحمل سيفه .
في اللحظة ذاتها التي تدخل رجال الوليد يدافعون عنه، رفع الوليد عيونه صوب نزار يتحدث بصراخ ووجع :
_ نزار عد ...امتطي حصانك وأبتعد عن هنا و....سامحني...سامحني وأخبره أن يسامحني .
نظر له نزار بعدم فهم وقد كان جسده محطمًا من شدة الضربات التي تلقاها، يتقدم من الوليد، بينما الأخير تحرك صوبه بسرعة يتحامل على طعنته، يدفع نزار لحصانه بسرعة قبل أن يشتد الحصار عليهم ويتساقط رجاله .
_ هيا أرحل من هنا، أرحل ولا تنظر خلفك، ارحل أرجوك.
يدفعه ونزار يتمسك بيده يرفض ترك كفه :
_ تعال معي يا الوليد لن اتركك هنا، سيقتلك يا أخي لا تبق تعال معي، سأ...ستكون معي للنهاية يا رفيق هيا .
_ نزار لا تكثر من الحديث وأرحل ...
وقبل إكمال كلمات الوليد اتسعت عيونه بقوة وقد شعر بروحه تخرج حينما أحس بنصل حاد يخترق معدته .
نظر للأسفل ببطء، بينما نزار امتلئت عيونه بدموع كثيفة وقد خاف وارتعب حتى أن يهبط بنظراته للاسفل حيث اخترق السيف الجسد، اشتدت كثافة الدموع وهو يبصر ملامح الوجع على وجه الوليد أمامه، لتتحرك عيونه اخيرًا بصدمة صوب السيف الذي اخترق جسد الوليد .
أما عن الوليد فرفع عيونه صوب نزار وقد امتلئت بالدموع، بينما نزار ما يزال يحدق فيه بصدمة كبيرة، خرج منها بسرعة يلتقط جسد الوليد قبل السقوط، ليكون السقوط من نصيبهما سويًا، يضم نزار الوليد له وهو يهمس بهلع وهزيان :
_ الوليد، يا أخي أنت بخير، أنت بخير، سأعالجك، سأعالجك لا تخف، والله سأفعل، فقط ...تحرك ...تحرك معي لنخرج من هنا، هيا سأعالجك وتتوب كما اخبرتني .
كان يتحدث بسرعة وهو يحرك يده على جرحه يحاول كتم دماءه في اللحظة التي تدخل فيها أحد رجال الوليد يسدد ضربة قاتلة لمن طعن الوليد.
ونزار فقط ينظر للوليد برعب قبل أن يبكي بصوت مرتفع يضم له جسد الوليد والذي رغم كل ما فعله معه، إلا أنه لم يشعر يومًا أنه يكرهه، بل ضحى بحياته مرات ومرات لأجله، ورغم كل ما فعله قديمًا إلا أنه سامحه حينما رأى منه مساعدته ومعاونته له ونصره ولو بروحه .
_ يا أخي لا تفعل بي هذا ...لا تفعل يا الوليد ليس الآن اتوسل إليك، تب لترافقني للجنة يا الوليد أرجوك، تماسك .....
رفع الوليد نظره ينظر في وجه نزار باكيًا بقوة وقد امتلئت عيونه بالرعب :
_ أنا .... خائف...نزار أنا خائف.
بكى نزار وهو يضمه مرتعبًا :
_ لا ..لا تخف أخي ستكون بخير ...ستكون بخير والله سأبذل حياتي لعلاجك هيا انهض معي أتوسل إليك.
_ سامحني ..سامحني ارجوك وا....ادعو لي يا نزار، ادعو لي أن يغفر الله لي ما فعلته، لم ...فعلت ...فعلت كل ذلك لأنك كنت أحق منه بالمُلك، خفت أن يأخذه منك، وأنت... أنت... أنت أخي ... الأحق بآبى .
سقطت دموع نزار وهو يبكي بصوت مرتفع :
_ لا تتحدث، ارجوك فقط تماسك لنخرج من هنا، هيا حاول التحرك معي أرجوك لا تتركني، لم ...لم تتب بعد يا الوليد، لم تستغفر الله بعد، لا تفعل هذا بي، أردتك أن ترافقني في الجنة يا أخي، أردتك أن تفعل .
بكى الوليد برعب وخوف :
_ ادعو لي يا أخي، وا... أخبر أبي أنني.... لقد فعلت كل شيء لاجلك أخي... أنت.... أخي الأصغر... أخي.
شعر نزار بشحوب يتمكن من وجه الوليد، ليبدأ في هزه بخوف يتحدث برعب :
_ انطق الشهادة يا الوليد، انطق الشهادة يا أخي أرجوك يا الوليد..
ابتسم الوليد وقد عجز عن نطقها وهو الذي لم ينطقها يومًا في حياته، يأتي الآن ويتعلق بها في مماته؟! 
ثقل لسانه وزاغت أبصاره وهو يحدق بنظرات اخيرة في وجه نزار .
_ سألتني لماذا افعل كل هذا لأجلك ؟! 
_ توقف عن الحديث، فقط ...ساعدني لاخرج بك..
لكن الوليد كان ينظر له بأعين دامعة لا يعي ما يقال له يكمل وقد بدأت روحه تنازع للخروج من جسده :
_ لأنك... أخي...الصغير...لقد ... كنت احميك لأنك أخي... أخي الصغير الذي....لم يدرك يومًا من أنا، لقد ...لقد ... أمي كانت الزوجة الأولى له....تركها دون العلم بأنها تحمل بي ...تركها ولم يدرك أنه يمتلك ولدًا من صلبه ...تركها وتركني ولم ....لم يتبقى لي من عائلتي سواك... أنت فقط أخي... أخي من أبي، أردت حمايتك بحياتي ولم يتبقى لي سواك .
اتسعت عيون نزار وهو يشعر بقلبه يكاد يتوقف وقد كانت دموعه تهبط دون شعور والوليد ينطق آخر كلماته :
_  أرحل نزار ... أهرب ولا تدع تضحيتي تضيع ...لا تدعه يتمكن منك أخي، وسامحني ...سامحني لما اوصلتك له أخي... أنا... أسف .
لم يشعر نزار بعدها بنفسه سوى وأحد الرجال يسحبه بسرعة كبيرة يلقي به فوق الحصان مجبرًا إياه على التحرك وهو ما يزال يحدق بجثة الوليد الذي فقد آخر انفاسه برحيله، وقد كانت عيونه شاخصة عليه وكأنه يحدق به .
وحديثه الأخير يتردد في أذنه.
الوليد أخوه من والده ؟؟؟؟؟؟؟؟؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عَذابُ الهَوى لِلعاشِقينَ أَليمُ ....
وَأَجرُهُمُ يَومَ المَعادِ عَظيمُ... 
فَوَاللَهِ لا ذاقوا الجَحيمَ وَإِن جَنَوا ....
فَحَسبُهُمُ أَنَّ الغَرامَ جَحيمُ....
— صفي الدين الحلي
وهي كان كل ما يتعلق بها جحيم، الإقتراب منها والابتعاد عنها، لكن الجحيم الأكبر كان شعوره في هذه اللحظة أنه على وشك فقدانها، شعور نافس المه ألم طعنات عديدة قبل أن يُلقى بجسد الدامي في النيران حيًا .
يدور حول نفسه وهو يصرخ باسمها بجنون وقد كانت يده ترتجف برعب، ترتجف رجفة من أدرك الموت، ولأول مرة يبكي أرسلان خوفًا، للمرة الأولى في حياته بلغ من الخوف مبلغه حتى بكى مرتعبًا يهمس بغصة بكاء واضحة .
_ سلمـــــــــــــى ....سلمــــــــــى .
أخذ يدور في المنزل وقد أوشكت الحريق على ابتلاعه بكل ما فيه، ولم يكد يتحرك للداخل أكثر حتى سمع صوت نداء خافت متوجع، تحرك بسرعة صوبها وهو يدور بعيونه في المكان وقد كاد يصاب بالعمى لشدة الدخان الذي دخل عيونه.
تنفس بصعوبة وهو يبحث عنها مناديًا بصوت متوجع باكٍ :
_ أين.... أين أنتِ سلمى، سلمى ..
_ أرسلان.
سار أرسلان بسرعة خلف همستها التي وصلته، يتحرك في المكان بحثًا عنها حتى توقف جسده فجأة ثواني، ومن ثم انتفض بشكل جنوني يصرخ باسمها يراها ساقطة ارضًا وهناك قطعة أثاث صخمة ساقطة على قدمها .
ركض يلتقط جسدها بسرعة مرتعبًا وهو يبعد عنها الأثاث ينفضه بخوف، ومن ثم جذب له جسدها والذي كان قد نال نصيبه من النيران .
رفعت سلمى عيونها له تبتسم بسمة صغيرة وقد بدأت دموعها تتساقط  :
_ ظننت أنني سأموت دون أن أبصرك .
ضمها له أرسلان بقوة مرتعبًا وهو يهمس بنبرة مرتجفة باكية:
_ اللعنة علـ...لن ...لن تفعلي، لن تتركيني، لن تفعلي .
ضمها وهو يتحرك بها صوب الخارج بسرعة كبيرة وقد كاد قلبه يتوقف والنيران تحيط به وانفاسه تكاد تختفي من صدره، لكن روحه التي تسكن بين كفيه دون حركة أجبرته على الاحتفاظ بوعيه، يضم رأسها لصدره كي لا تستنشق المزيد من الدخان، يبحث لهم عن مخرج، وحينما اكتشف أن الباب الامامي كان مستحيلًا أن تقترب منه، تراجع بسرعة يبحث بعيونه عن نافذة، اتقع عيونه على جزء شبه متهاوي في المنزل لشدة الحريق، ابتلع ريقه يضمها له مقررًا استخدام جسده كدرع لها، يجذبها لصدره بقوة يحاول إخفاء كل جزء منها بجسده، ومن ثم اندفع بظهره صوب ذلك الجزء من المنزل لينهار بالكامل تحت وطأة جسده ويخرج أرسلان بسرعة كبيرة وقد امسكت النيران بكتفه ..
لكن كل ما كان يبصر أمام عيونه هو جسد زوجته الساكنة ولم يشعر بكيف خرج ولا بمن أحاط به يلقي عليهم اغطية لإطفاء تلك النيران التي طالت ثوبه، ولا شيء، لم يشعر بشيء سوى بنفسه يهوى ارضًا يجذب جسدها لصدىه بقوة وهو يتنفس بصعوبة يضمها إليه، وكأن ضمته لها سبيل النجاة من الموت .
يهمس بكلمات متقطعة وهو يتحرك بها لأحد الأركان :
_ لا تفعلي هذا سلمى، لا تفعلي بي هذا، ليس الان، ليس بعدما اوقفت حياتي عليكِ بالله عليكِ، سيكون خذلانك عظيمًا، من بين كل خذلان تعرضت له في حياتي سيكون خذلانك قاسمًا لي.
كانت سلمى تحدق فيه دون قدرة منها على الحديث وقد أصاب جسدها ما صاب من الجروح تبتلع ريقها بصعوبة وهي تربت على وجهه بحنان رغم الوجع المنتشر في جسدها :
_ لا بأس، لا بأس ستكون بخير، ستكون بـ
_ لن أكون دونك، والله لن افعل، لم أكن يومًا بخير دونك، لم أكن كذلك سلمى لقد ....تنفست واخيرًا يوم وجدتك، فلا تحرميني أنفاسي ارجوكِ .
كان يتحدث وهو يزيد من ضمها ودموعه تهبط دون شعور وهي تحاول الحديث ومغالبة تعبها الظاهر :
_ ار... أرسلان.
بكى دون شعور يهمس من بين غصته يضم رأسها لصدرها :
_ ألا روحه سليمى........
كانت كلمة صغيرة خرجت من بين شهقاته وهو يضمها يشعر بجسدها ينتفض بين يديه وقد ازداد ارتجاف جسده أكثر وأكثر، أما عنها فقد ابتسمت بسمة باهتة تهمس همسات أخيرة قبل السقوط في هوة سحيقة :
_ أنت أكثر رجال العالم وسامة لو تعلم، تستحق أن تكون الأسعد في هذه الحياة، ما بها الحياة قاسية على رجل بمثل حنانك ولطفك؟؟ 
ومن بعد هذه الكلمات سقطت يدها جوارها لينهار أرسلان في البكاء يضمها أكثر وأكثر وهو يقبل عيونها بعشق هامسًا بغصة بكاء :
_  والله لن تكون الحياة اقسى منكِ، إن تركتيني وحدي ستكون ضربتك اقسى ما تليقت طوال سنوات حياتي، والله ان اسامحك ما حييت سلمى ...
قبل وجهها وهو يرويه بدموع تسيل خوفًا كم فقدان روح بعثت بجسده بعد سنوات من الموت :
_أنتِ.....روحي سلمى، فلا تتركي رجل مسكين تعلقت روحه بكِ، ليس الان وليس بعدما بنيت حياتي على وجودك، ليس بعدما أحببتك سلمى، ليس بعدما أحببتك سليمى أرجوكِ...........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وَحَلَّتْ سَوَادَ القَلبِ، لا أَنَا بَاغيًا
سِواهَا، ولا عَنْ حُبِّهَا مُتَرَاخِيَا!
-النَّابغَة الجَعدِي.
دمتم سالمين.

  •تابع الفصل التالي "رواية اسد مشكي" اضغط على اسم الرواية 

google-playkhamsatmostaqltradent