رواية خطان لا يلتقيان كاملة بقلم رغد ايمن عبر مدونة دليل الروايات
رواية خطان لا يلتقيان الفصل الاول 1
1- الخاطِفُ اللطيف.!
مرةً في حَيّنا..
زارتنا فتاةٌ غاضِبة!
_______________
كان جالِساً يقرأ في مُصحفه، صغير الحجم بصوتٍ هادئ رخيم.. مُرتدياً جِلباباً أبيض اللون، وقد هَذَّب شعره الأسود بعناية..
دقائق، حتى سمع صوت القرآن يصدحُ من مُكبّر المَسجد، مُنبّئاً باقتراب موعد صلاة الجُمعة!
ختم الآية التي كان يقرؤها، وأغلق المُصحف مُقبّلاً إياه بهدوء.. ثم قام من مكانه ووقف أمام المِرآة يُتمِّمُ على هيئته، قبل أن يضع مُعطّره، ويخرج من غُرفته بخطواتٍ مُتمهّلة!
- ماما أنا رايح المسجد، عايزة حاجة وأنا راجع؟
قالها بهدوءٍ وأدب، وهو يقفُ أمامها حيثُ جلست على الأريكة الكبيرة بغُرفة المَعيشة، وهي تتحدّثُ مع خالته باهتمام!
هزّت له رأسها علامة النَّفي، مُكملةً استماعها للمُكاملة..
قهقه بخفوتٍ وهو يرتدي خُفّه.. ثم اتجه كي ينزل على درج العمارة..
وما إن خَطى قليلاً في الشَّارع، حتى وَجدَ العَّديد من الصِّبيان، يلعبون بالكُرة..
رأوه قادماً، فتهللت وجوههم وركضوا نحوه وهم يصيحون بحماسٍ سَعيد:
- عمو "عُديّ"، عمو "عُديّ"!
ضحك هو بسعادةٍ، ثم سَلَّم عليهم جميعاً، وهو يعقدُ حاجبيه بتعجّب بعدما رأى معهم صبيّاً لم يَره من قبل!
حيّاه، وقد تذكّر أمر الصلاة بعدما سمع الآذان الأوّل، وخَشي أن تَفوته الخُطبة.. فأخبرهم بابتسامةٍ واسعة:
- يلا يا أبطال عشان نروح نصلّي الجُمعة، ولا ايه؟!
أومأوا له بحماس، وهم يتسابقون تجاه المَسجد، أيُّهم سيصلُ أولاً!
التفتَ بعينيه تجاه ذلك الصبيّ الجَديد، الذي تسحَّب بخُطىً حَذِرةً، ليعود..
فاقترب "عُديّ" مِنه، وابتسم قائلاً بلُطف:
- اسمك ايه يا بطل؟
- "يُوسف" يا عمو!
أجاب بها الآخر بسُرعة..
فأخبره "عُديّ" بابتسامةٍ جميلة، وهو يَمُدُّ له يده بليِن:
- طيب يا جميل المُسمّى والمَلامح، مش ناوي تروح معانا للمسجد عشان ندخل الجَنّة مع بعض؟ وكمان أنا هحكيلكم مواضيع جميلة بعد الصلاة!
ومتخافش والله، هوصّلك بنفسي لحد البيت!
قال جُملته الأخيرة، لما رأى نظرات الصبيّ الخائفة المُترددة.. ثوانٍ، وشعر بلِينه..
فأمسك يده، واتجها سوياً تجاه المَّسجد!
_______________
بعد انتهاء الصَّلاة، وخُروج أكثريّة المُصلّين خارج المَّسجد..
جَلس "عُديّ" وحوله الصِبية الذين التقى بهم، ومعهم "يُوسُف".. ثم بدأ حديثه بسؤالٍ هادئ وهو ينظرُ لهم:
- هسأل سؤال، واللي عارف الإجابة يرفع إيده بهدوء.. تمام؟
ما إن رأى إيماءات رؤوسهم المُطيعة، حتى سأل وهو يُجيلُ ببصره بينهم:
- مين فيكم يقولي ايه هي أركان الإسلام؟
رفعوا جميعاً أيديهم، فاختار "يُوسُف" من بينهم لكونه جديداً معه.. فأخذ الصبيُّ يَعُدُّ على أصابعه وهو يقول:
"شهادةٌ أنّ لا إله إلا الله، وأن مُحمداً رسول الله.. وإقام الصَّلاة، وإيتاء الزَّكاة، وصومُ رمضان، وحَجُّ البيتِ لمن استطاع إليه سبيلاً"..
حيّاه "عُديّ" بابتسامةٍ واسعة، ثم أكمل:
- معنى كدة ايه؟! معنى كدة إني كـ مُسلم، مُطالَب مِني إني أؤمن بالأركان دي، وأنفّذها كمان!
يعني أنا كـ مُسلم، لازم أكون مُحافظ على صلواتي في أوقاتها وأؤديها زي ما سيدنا مُحمد ﷺ، كان بيؤديها!
أنا كـ مُسلم، لازم أصوم رمضان كامِلاً، ومينفعش أبداً أفوّت منه يوم، أو أشرب ماية مثلاً من ورا ماما.. وهكذا في باقي الأركان.
نظر لوجوههم، يتأكدُ أنهم استوعبوا حديثه.. حتى وجدَ صبياً منهم يسأله:
- طب يا عمو "عُديّ"، احنا هناخد ذنوب عشان مروحناش الحج؟ أصل ماما بتقولي بتحتاج فلوس كتيرة، واحنا لسة ربنا مرزقناش!
أنهى الصبيُّ حديثه ببعض الحُزنِ بنبرةِ صَوته، فنظرَ الباقون لـ"عُديّ" باهتمام وقد أثار السؤال فضولهم أيضاً..
فتنهّد هو بثِقَلٍ، وقد أثار سؤالُ الصبيّ شيئاً بداخله.. فقال بنبرةٍ ظهر بها بعضُ الاضطراب والتأثر:
- ربنا يغفرلنا يا "أسامة"، وبإذن الله مناخدش ذنوب! لو رجعنا تاني لأركان الإسلام، هنلاقي ايه؟ "حَجُّ البيتِ لِمَن استطاع إليه سبيلاً"..
يعني اللي يستطيع مادياً، زي أنه يبقى معاه فلوس.. وجسدياً كمان، عشان ممكن شخص يكون كبير جداً في السِن، أو عنده أمراض مش بتخليه يعرف يتحرك.. فهمتوني؟
صمتوا قليلاً ليستوعبوا حديثه، وما لَبث أن وجدهم يَهزُّونَ رؤوسهم بالإيجاب..
فقال سريعاً، بعدما شعر بتململ "يُوسُف"، ورغبته بالذهاب:
- كدة النهاردة خِلص درسنا يا أبطال، واللي عَنده سؤال يأجله للمرة الجاية بإذن الله، عشان أنا مِستعجل دلوقتي.. ذاكروا كويس، وكونوا بارِّين بوالدَيكم!
نقول دُعاء كَفّارة المَجلس؟
فقالوا جميعهم بصوتٍ واحد: "سُّبحانكَ اللهم وبِحَمدك.. نَّشهَدُ ألّا إله إلا أنتَ.. نستغفركَ ونَتوبُ إليكَ"!
وقام بعدها "عُديّ" مِن مجلسه، وهو يمدُّ يده لـ"يُوسُف" يُمسكُ بِها.. ثم حَيّا الصِبية، وخرج من باب المسجد بخطواتٍ أقرب للهرولة!
_______________
في نفس الوقت، كانت تِلكَ الفتاةُ الناريّةُ تَدورُ في صالة الشَّقة بتوترٍ وعصبيّة..
ما لَبثت أن صاحت مرةً أخرى بغيظ:
- مش فاهمة هو راح فين كدة! قولتله مليون مرة متبعدش.. خليك قُريب.. لو احتاجت حاجة نادي عليا! لكن مفيش فايدة، أدينا دلوقتي مش عارفين هو فين!
نظرت لها والدتها بنظراتٍ لم تَخلُ مِن توتّر وقلق، وهي تَقول لها:
- يمكن راح يصلي مع اللي كان بيلعب معاهم!
زفرت الفتاة الهواء، وهي تردُّ عليها بينما تتجه لغرفتها:
- الصلاة خِلصت يا ماما من تِلت ساعة.. أنا هنزل أدوّر عليه تاني!
صمتت الأم تماماً، فعلى كُلٍّ هي لن تستطيع اللحاق بها بهذا الكُرسيّ المُقيّد لها!
رأتها تخرج من غرفتها مُجدداً، وقد ارتدت عباءة سوداء اللون، وقد ألقت على رأسها حجاباً بشكلٍ فوضوي..
لم تنتبه لرقبتها التي تظهر، ولا لشعرها الأسود، الذي يأخذُ حُرّيته في الخروج للعالم.. فكُلُّ همها الآن، أن تبحثَ عن ذلك المَفقود!
_______________
وعلى الجانب الآخر، حيث اقترب "عُديّ" من البِناية التي يقطُن بها "يُوسُف" مع أسرته الصغيرة، وقد بدأ الصبيُّ يشعرُ براحةٍ مع مُرافقه..
وكيف لا، وهو "عُديّ".. مَحبوبُ أطفال الحارة، وأخيهم الأكبر..
والصَّديقُ الذي يأمنُ الآباء، بصُحبته لأبنائهم!
- يلهــواي! حرامي خاطِف الـوَاد!
التفتَ "عُديّ" بسُرعةٍ تجاه الصَّوت العالي الذي تَلا الشهقة النسائية..
ما لَبثَ أن عَقد حاجبيه بصدمة شديدة!
فقد كان الخِطاب يقصده هو!
يُتّبع...
*****
- يتبع الفصل التالي اضغط على (خطان لا يلتقيان) اسم الرواية