رواية خطان لا يلتقيان الفصل السادس عشر 16 - بقلم رغد ايمن
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
[سُورَةُ البَقَرَةِ: ١٨٥].
____________________
نَسماتٌ لَطيفةٌ تُداعِبُ الوجوه، وأصواتُ الأطفالِ يُمسكون بأيديهم النقود، بينما يلتفّون حول "عُديّ" ويستعدّون للذهاب لإحدى المكتبات القريبة حتى يقوموا بشراء زينة رمضان التي سيُعلّقونها في الحارة..
ولأن المكتبة كانت قريبة، فلم يَخشَ "عُديّ" على الأطفال، ونأىٰ يسيرُ بجانب صديقه الصغير "يُوسُف".. فتشبّث الأخيرُ بيده الكبيرة، ويكأنه يُحكمُ الإمساك بطوق نجاته من شرور الدُنيا..
قبل أن ينظر له بابتسامةٍ واسعة، ظهرت بلمعةِ عينين الزرقاوين، قبل أن تظهر على شفتيه، وتحدّث:
- عارف يا بابا "عُديّ"! أنا لما بشوف باقي الأطفال بيحبّوك ازاي، ببقى فخور بيك!
اه بتضايق من جوايا إن حد تاني بيحبّك غيري، بس مش مشكلة!
قال جُملته الأخيرة ببعض الغيرة والتملّك الطفوليّ، فقهقه "عُديّ" بخِفّة، قبل أن يتوقّف عن السير ويميلُ مُقبّلاً رأس "يُوسُف" بلُطف.. ثم ينظرُ له تارةً، وللطريق تارةً، وهو يقول بابتسامة واسعة بينما يغمزُ له بعينه:
- بس أنا مش بيفرق معايا غير حُبّ جَميل الاسم والملامح ليّا، وده بالنسبة ليَّا، كأني معايا الدُّنيا بحالها.
تلألأت الدموع بزرقاوتي "يُوسُف" من تأثره وسعادته بحديث والده الاجتماعيّ!
ليست تِلك المرّة الأولى التي يُخبره بها "عُديّ" بمثل ذلك الحَديث، إلا أنّه كُلّ مرّةٍ يفعلُ بقلبِ الصَبيّ فِعلَ الضِماد اللطيف..
يقومُ بمُعالجةِ نُدوبٍ ونَتوءاتٍ بالقَلب، لَم يتسبب بِها أصلاً!
- وبعدين يا أبو عيون زرقا أنتَ، مش آن الأوان بقا تندهلي "بابا" بَسّ، ولا حد مِهددك تقولي يا "بابا" فـ مش طايق تقولها منغير اسمي؟!
تحدّث بها "عُديّ" بحاجبٍ مُرتفع، يمزحُ مع الصَّبيّ ويُشاغبه.. قبل أن يتوقفا عند المكتبة، وقد كان باقي الأطفال في انتظارهم..
فيما أجاب "يُوسُف" على سؤال الآخر بابتسامةٍ خجول بعض الشيء، بعدما ضحك على سخرية الآخر:
- لأ، بس أصلي اتعوّدت على كدة ومخدتش بالي.. أنا آسف يا بابا.
رقّت نظرات "عُديّ"، قبل أن ينتبه للأطفال الآخرين.. فاعتذر بنظراته للصغير، ثم أولاهم انتباهه يرى ما أشكال الزينة التي يرغبون باختيارها.. ولا ينسى بالطبع سؤال "يُوسُف" معهم..
لم يغفل "عُديّ" أن عيني الصّبيّ كانتا مُعلّقتين بفانوسٍ مُعيّن.. ومع ذلك فإنه لم ينطق بكلمةٍ، سوى أن يتحدّث مع رفاقه بابتسامةٍ وحماس!
تنحّى "عُديّ" بصاحِب المكتبة يُحدّثه على انفراد، بينما يُشير في الخَفاء على الفانوس الذي أحبَّه "يُوسُف".. قبل أن يهمس له بابتسامة:
- مَعلش يا عَم "صالِح" أستأذِنك تشيله عَندك وتلفّهولي في ورق هدايا حِلو زيّك كِدة.. وبردو الفانوس التاني اللي لونه أحمر ده.
أنهى حديثه، بينما يُشيرُ بعينيه على فانوسٍ آخر أحمر اللون، وقد خَطَر بباله ما إن وقعت عيناه عليه، أن يجلبه كهديّةٍ لزوجته "ريتاچ"..
ابتسم الرجل الكبير في السنّ لـ"عُديّ"، ثم شرع يُعِدُّ له ما طلبه منه..
أما "عُديّ"، فقد ابتسم لصغيره ولبقيّة الصّبية، ثم أمسك بيد "يُوسُف" ليعودوا للشارع الذي يقطنون به حيثُ سيُعلّقون الزينة..
____________________
على الجانب الآخر، وبمنزل "عُديّ".. كانت "ريتاچ" واقفةٌ بالمطبخ، تقوم بتقطيع البصل حتى تُعِدّ تِلكَ الأكلة المِصريّة التي يُحبّها زوجها، قبل شهر رمضان.. والتي قد اجتمع أغلبيّة الشَّعبِ المِصريّ بقانونٍ غير مكتوب على عدم تناولها بشهر رمضان..
(الكُشري)..
لم تكن مُنتبهةً لِمَا تفعله، فغشاوة الدموع على عينيها جِرّاء البصل كانت خيرُ مُعينٍ لعقلها لجعلها لا تنتبه لِشيءٍ سوىٰ لدوّاماته!
مُنذُ فترةٍ وهي تُلاحظُ شُرود "عُديّ"، وحُزن عينيه!
رُغم أنّه دائماً ما يُخفي ذلك بلعبه مع "يُوسُف".. أو مُزاحه معها أو مع والدته.. إلا أنه من الواضح أنّ عقله لَم يَكتفِ بجَعل الضَّجيج داخله، بل أصرّ بسماجة على ظهور ذلك على عينيه وشروده!
تعلمُ السبب؟! للأسف!
وللأسف فهي حتى الآن لا تجرؤ على الحَديث مع "عُديّ" عنه حتى لا تجرح رجولته!
خرجت "ريتاچ" من حيّز عقلها، بعدما شعرت بيدٍ تلمسُ كتفها..
ورُغماً عنها فقد انتفضت وشهقت بخفّة، إلا أنّها هدأت حينما رأت والدة "عُديّ" تبتسمُ لها وتُخبرها:
- عمّالة أنادي عليكِ من بدري، بس شكلك سَرحانة.
غسلت "ريتاچ" يديها من أثر البصل، وقامت بتجفيفها بسرعة.. وأمسكت بكفّ الأخرى بابتسامةٍ مُتأسّفة وهي تُجيبها:
- حقّك عليَّا، أنا فعلاً سَرَحت شوية.. حضرتك كُنتِ عايزة حاجة؟
طبطبت والدة "عُديّ" على كفّ "ريتاچ" وهي تُخبرها بابتسامة حنون:
- كُنت بسألك لو عايزة حاجة من تحت، هنزل أجيب شوية طلبات عشان رمضان كُل سنة وأنتِ طيبة.
نبض قلب "ريتاچ" لتلك المرأة الطيّبة الحَنون.. ولِمَ تتعجّب، فمن أين أتى "عُديّ" بحنانه إذاً؟!
- عايزة سلامتك، أنا الحمد لله "عُديّ" مش مخلّيني مِحتاجة حاجة.
قالتها "ريتاچ" بأدب، فضحكت الأخرى وهي تُمازحها قائلة:
- كِدة كِدة دي فلوسه، وكُلّنا في بيته.. قولي لو عايزة حاجة فُرصة مش هتتعوّض.
ضحكت "ريتاچ" معها، ولكن يبدو أن شرودها ظهر لوالدة "عُديّ"، التي قالت بهدوء مُنافٍ لمرحها السابق:
- مالك يا "ريتاچ"، أنتِ متخانقة مع "عُديّ"؟
تحاشت "ريتاچ" النظر لها، فهي ورُغم أنها لم تتشاجر معه.. إلا أنها لا تُريدُ إفشاءَ سِرّ بيتها.. ولو كان لأُمّه!
- أنا اه قبل ما تتجوّزي الواد ابني مكنتش بطيقك، بس ده عشان كُنتِ دايماً بتزعقيله وعايزة تخانقي معاه.. بس بعد ما عرفت إنك أُمّ وخايفة على ابنك، حطّيت نفسي مكانك.. وحبّيتك والله.. بس لو هو مزعّلك قوليلي وأنا.. هقف في صفّه طبعاً ده ابني!
أنهت الأم حديثها بمُزاحٍ، جعل "ريتاچ" تضحكُ بسببها..
قبل أن تبتلع ريقها وتُخبرها بنبرةٍ مُتهدّجة:
- "عُديّ" يزعّلني؟! ده أحنّ عليَّا مِن نفسي والله! عُمري ما نِدمت على حاجة، زي ما نِدمت إني معرفتش "عُديّ" مِن زَمان، وإنه مش أبو "يُوسُف"..
حتى وهو مش أبوه، بيحبّه وبيراعيه وبيهتمّ بيه أكتر ما أبوه كان بيعمل، وهيعمل.
أنهت حديثها، وهي تُولي والدته ظهرها لتقوم بوضع البصل في الزيت..
كانت غير راغبةٍ بالحديث أكثر، إلا أنّ والدة "عُديّ" سألتها بنبرةٍ ظهر بها الاهتمام والهدوء:
- امّال مالكم يا حبايبي؟ هو عينه دَبلانة وزعلانة، وأنتِ سَرحانة ومش مركّزة! حتّى "يُوسُف" خَد باله وجِه سألني.
ابتلعت "ريتاچ" ريقها، وهي تقوم بتقليب الطعام على النار..
أصابها التردد بين إخبار والدته عَلّها تُساعِدها، أو الإحجام حتى لا يغضب زوجها..
ثوانٍ من الصمتِ مرّت، قبل أن تنظر "ريتاچ" لوالدته وهي تتنهّدُ بثِقَلٍ، وتقولُ:
- مُشكلة "عُديّ" أنه مِحمّل نفسه فوق طاقته! بيفكّر كتير، ومتضايق عشان فاكِر الناس التانية مِتضايقة على حاجة مش بإيده أصلاً!
أنهت "ريتاچ" حديثها وهي ترجو بداخلها ألّا تكون قد قالت ما يُغضبُ زوجها..
إلا أنّ الأم أُمّ! فَهمت ما بين طيّات حَديث زوجة ابنها، فجلست على كُرسي من كراسي الطاولة، وسألتها مرةً أخرى بهدوء:
- موضوع الخِلفة صَح؟
- والله أنا عُمري ما كلّمته في الموضوع ده، ولا جِبتله سيرة لأي حاجة.. بالعكس والله كُنت مبسوطة أنّه بيعامل "يُوسُف" كأنه ابنه عشان يتشغل وميكونش متضايق، بس مش عارفة ايه اللي خلّاه يفكر فيه تاني!
كذا قالت "ريتاچ" بسُرعة، كمن ينفي عن نفسه تُهمةً ما.. بينما تتزاحم الدموع في عينيها والثِقل على قلبها..
يُؤلمها حالُ زوجها، ولا تستطيعُ أن تفعل شيئاً!
تحدّثت والدة "عُديّ" بذات الهدوء:
- من غير ما تقولي يا بنتي، أنا واثقة إنك مُستحيل تكلّميه أو تضايقيه، عشان أنتِ قلبك نضيف.. بس ليه مجرّبتيش تُقعدي معاه وتفهّميه إن الموضوع مش فارقلك؟!
ابتلعت "ريتاچ" ريقها، مُجيبةً عليها وهي تُطفئ الموقد وتتجه للجلوس على كُرسي آخر:
- خايفة أنه يفهم كلامي غلط! خايفة أجرحه غصب عني، وأنا نيتي مش كدة خالص والله! أنا بحبه والله يا طنط، عشان كدة خايفة عليه.
ظهر صوتها مُضطرباً خائفاً، يعكسُ ما بقلبها من ألم..
فربّتت الأخرى على كفّها وهي تُخبرها بابتسامة:
- يبقى أنتِ كدة لِسّة متعرفيش ابني كويس! متخافيش، هو مُستحيل يفهمك غلط.. "عُديّ" بيحبّك، يعني حتى لو قُلتِ كلام يزعّل.. هو هيحُطّلك ألف مُبرر إن لسانك خانك في التعبير!
ربّتت مرةً أخرى على كفّها، قبل أن تقوم مُتجهةً للخارج..
تاركةً "ريتاچ" تُفكّرُ في حديثها، وتنوي الحديث معه بهدوء حتى يكفَّ عَن العَيشِ داخل أفكاره السوداء!
___________________
- من غير موسيقى يا "أَوْس" الله يرضى عَنَّك، مش عايزين ناخد ذنوب واحنا أصلاً فينا اللي مكفّينا!
صاح بها "عُديّ" ببعض المرح، بينما يقفُ على سُلَّمٍ أعاره له أحد الجيران، ويقومُ بتعليق حِبال الزينة التقليدية ذات اللون الفِضيّ، والتي تُصدرُ صوتاً مُحبباً للقَلبِ مع اصطدامِ نسماتِ الهواء بها..
بينما في الأسفل، حيثُ يقفُ "أَوْس المُحمَّدي" -ذلك الكاتِب الذي تعرَّف عليه "عُديّ" بَعد صلاة جُمعة الأسبوع الفائت- مع باقي الصبية و"يُوسُف"، يُغنّون مع تِلكَ الأغاني الرمضانيّة، والتي حذّرهم "عُديّ" -وما يزال- من أن تكون خاليةً من الموسيقى..
كانت شخصية "أَوْس" مُقاربةً لـ"عُديّ" إلى حدٍ كبير..
نفسُ الهدوء، الاثنان يُحاولان أن يكونا قريبَين من الله ﷻ..
رُبَّما كان الاختلافُ في الهيئة.. فـ"عُديّ" فارِعُ الطُّول، أقرب للنُّحول..
بينما "أَوْس" فطُوله مُناسِب لبِنيته المتوسطة..
- يا جميل الاسم والمَلامح، ابقى فكّرني لمّا أنزل بالسَلامة أحكيلك أنتَ والأولاد عن قصّة التّابعيّ "أُوَيسُ بن عامر القَرنيّ".
كذا صاح "عُديّ" ببعض المَرح، فهكذا هو مُذ صعد على هذا السُلّم، يُحادِثُ "يُوسُف" بين حينٍ وآخر حتى يزول الخَوف الذي سكن قلب الصَّبيّ من صعود والده الاجتماعيّ في هذا الارتفاع -المَهول بالنسبة للصغير-..
"بِـالـنُّـورِ جِـئـتَ وبِـالـسُّـرُور، ولَـم يَـزَل لَـكَ فِـي نُـفُـوسِ الـصَّـالِـحِـيـنَ مَـكَـانُ!
رَمَـضَـانُ أَهـلاً.. مَرْحَـبَـاً رَمَـضَــانُ"
كان "عُديّ" ينزلُ من على السُّلّم المعدنيّ بحذر..
وما إن اقترب من الأرض، حتى ساعده "أَوْس" بمَدّ ذراعه له حتى يتّكئ عليه..
- اه يا ضَهري! الواحِد شكله كِبِر في السِّنّ ولا ايه ياض يا "أَوْس"!
قالها "عُديّ" بمزاحٍ، وهو يُقبّلُ رأس "يُوسُف"..
فأجابه "أَوْس" بجِديّةٍ مُبطَّنةٍ بالمُزاح:
- متقولش كِدة يا مَولانا، أنتَ كِدة كِدة كِبير في السِّنّ!
لكزه "عُديّ" في كتفه بخِفّة وهو يضحكُ معه، قبل أن يرفع رأسه يَجولُ بعينيه على الزينة التي قامَ بتعليقها بمُساعدة "أَوْس" وباقي الأطفال..
- بابا، هتحكيلنا قِصّة سيدنا "أُوَيسُ بن عامِر"؟
قالها "يُوسُف" بصوتٍ مُتحمّس، فنظر إليه الآخر بابتسامةٍ واسِعة مُجيباً عليه:
- طَبعاً يا صديقي، وكمان عَمّو "أَوْس" هيساعدني ويحكي ليكم معايا ما نسيتُه من القِصّة.
أنهى حديثه، وهو يغمزُ لـ"أَوْس" بمَكر، ففغَر الأخيرُ فاه بصَدمة!
لقد استغلّ "عُديّ" إسراره له بأنه يَرغبُ في تَعليم الصِّغار شيئاً ينفعهم في دينهم، ولكنه يخشى الخطوة، ومن أنه لا يستطيعُ الشَّرح بشكلٍ جيّد!
- بتُحطّني قُدام الأمر الواقع يا شيخ "عُديّ"؟!
همس بها "أَوْس" ببعض الغَيظ وهو يسيرُ بجانبه وبجانبهما "يُوسُف".. بينما باقي الأطفال يلحقون بِهم تجاه المَسجد لأداء صلاة العَصر التي يصدحُ صوتُ آذانِها في المَسجد..
قهقه "عُديّ" يَزيدُ من غيظ الآخر، قبل أن يُجيب عليه ببراءةٍ مُصطنعة بينما يمسحُ على شَعر "يُوسُف" النّاعِم:
- اخص عليك يا مَولانا، هي دي أخلاقي بَردو؟! ده بَسّ عشان اسم التَّابعيّ تَصغير لاسمك.. ولا تكون مش عارف القِصّة وبتهرب، أزعَل!
مَسح "أَوْس" على رقبته ببعض التوتر، بينما ينظرُ تجاه "عُديّ" الذي كان يخلعُ حذاءه ويَهمُّ بدخول المَسجد.. ثم أجابه:
- بصراحة ناسيها، وبردو خايف أقول للأطفال حاجات غلط.
أنهى حديثه وهو يتنهّد، بينما يَخطو لداخل المَسجد الواسِع ذي الإضاءة الخافتة والتي تُضفي سَكينةً واطمئناناً على نُفوس رُوّاده..
وقبل أن يَرفع "أَوْس" يديه ليُصلّي صَلاة تَحيّة المَسجد، شعر بكَفّ "عُديّ" تُوضع على كتفه وهو يُخبره بهدوء وابتسامةٍ لَم تنفكّ عن ثغره:
- مَتخافش يا صديقي، أنا مَعاك عامةً.
____________________
بَعد انتهائهم مِن صَلاة العَصر في جَماعة، جَلس "عُديّ" وعلى يَساره "يُوسُف"، بينما على يمينه جلس "أَوْس".. وأمامهم جلس باقي الأطفال في حَماسٍ لأنهم سيَحظون بدَرسٍ في يَومٍ آخر غير يوم الجُمعة المُعتاد..
وقبل أن يبدأ "عُديّ"، مَالَ على أذن الصَّبيّ هامِساً بابتسامة حنون:
- عارِف ليه خلّيتك تُقعد ناحية الشِّمال؟ عشان تِبقي قُريّب مِن قَلبي يا جميل الاسم والمَلامح.
اتّسعت ابتسامة "يُوسُف"، فالآخر لا يَنفكُّ عَن إخباره بمَدى حُبّه لَه.. وللحقّ، فهذا يجعله مِن أسعدِ البَشر على كَوكبِ الأرضِ!
- بِسم الله، والحَمدُ لله، والصَّلاةُ على السَّلامُ على رَسولِ الله.. ﷺ.
بَدأ بِها "عُديّ" حديثه.. ثم أكمل بابتسامةٍ، بَعدما صَلَّوا جميعهم على النبي ﷺ:
- قبل ما أبدأ، حَدّ يِعرف مِين هُمّا التَّابعين؟ يعني ايه تابعيّ؟
نظر الصّبية لبعضهم بجهل، رُبَّما لَم يكن مِنهم أحدٌ يعرفُ مَعنى الكلمة مِن سِنّهم باستثناء "يُوسُف"..
وقد أخبره "عُديّ" أكثر من مرة بلُطف أنّه، وإن كان يعلمُ ما سيتّحدث عنه "عُديّ" في المَجلس..
إلّا أنه من الأفضل ألّا يرفع يده أو يتحدث، مُبرّراً ذلك بقوله للصَّغير:
"بُصّ يا جميل الاسم والمَلامح، مِش كُل الآباء بتعلّم أولادها، ومش كُلّ الآباء عندهم وقت.. عشان كدة لو أنتَ جاوبت على كلامي في الدّروس، ممكن ولد يتضايق ويزعل.. فاهمني؟"
أفاقَ "يُوسُف" من تذكّره، على صوتِ "أَوْس" وهو يُجيبُ -أو يشرحُ بمعنى أوضح- معنى الكلمة:
- التّابعين هُمّا النّاس المُسلمين اللي وُلدوا بَعد وَفاة النَّبي ﷺ.. كَمان لو حَدّ أسلم في حياة النَّبي ﷺ، بَسّ مشافهوش.. بَردو يُسمّى تابعيّ.. فِهمتوا؟
أنهى بها حديثه بتردد، فلمّا رأى إيماءاتهم بالإيجاب، تنهّد بارتياح..
قبل أن يشعر بضربةٍ خفيفةٍ مِن "عُديّ" على فخذه، وهو يقول بنبرةٍ اختلط بها أثرُ قهقة:
- طَبعاً عَمّو "أَوْس" حَرَق عليكم اللي كُنت هقوله، بَسّ مش مشكلة!
عَندنا سيدنا "أُوَيسُ بِن عامِر القَرَنيّ"، ده يا شباب أسلَم في حَياة النَّبي ﷺ، بَسّ للأسف مشافهوش ومَلتَقاش بيه..
هُنا، وقاطعه أحدُ الصِّبية قائلاً ببعض الحَنق في صوته:
- حَدّ يبقى عايش وَقت النبي، وميروحش يشوفه! ده أنا نِفسي بَسّ أرجع بالزمن دقيقة واحدة أشوف فيها النبي ﷺ وأحضنه!
تعالت همهمات الصِبية المُؤيدين لقوله، فنظر "عُدّي" تجاه "أَوْس" بما مَعناه "اشرح لهم!".. فحمحم "أَوْس" بصوتٍ عالٍ، قبل أن يستأنف حديث صديقه قائلاً بهدوء:
- سيدنا "أُوَيس" مَشافش النَّبي لأنّه كان قاعِد جَنب والدته يبرّها، عشان هي مكانش ليها غيره..
وعشان كِدة النّبي ﷺ حَكىٰ عَنّه لسيدنا "عُمَر بن الخَطّاب"، وقالُّه فيما مَعناه -عشان أنا مش فاكِر الحديث كويس-
أنّه سيأتي عليكم "أوَيسُ بن عامِر".. بارّ بأمّه، كان بِه بَرَص -مَرَض جِلدي ربنا يعافينا منه-، شُفيَ مِنه إلا مَوضع دِرهم.. لو أقسَم على الله لأبرّه.. إذا قابلته، فاطلب منه أن يستغفر لك.
صَمت "أَوْس"، فاستلم "عُديّ" مِنه دَفّة الحَديث مُكمِلاً بابتسامة:
- يعني النَّبي ﷺ بيحكي لسيدنا "عُمَر بن الخطّاب" عن الشَّخص ده، مع إنّه عُمره ما قابله، بس سُبحان الله، ربنا أخبر سيدنا "مُحمَّد" عَنه..
وكمان سيدنا "مُحمَّد" بيقول لسيدنا "عُمَر" لو قابلته، اطلُب منه يستغفر ليك -يعني يدعي ربنا يغفر لك-..
وفعلاً سيدنا "عُمر بن الخطاب" كان كُلّ ما ييجي ناس من اليمن يسألهم "أفيكم أُوَيسُ بن عامِر؟" ويقول مواصفاته اللي ذكرها النبي ﷺ.
صمت "عُديّ" ينظرُ لـ"أَوْس"، فابتلع الأخيرُ ريقه مُكمِلاً بما يتذكّره من تِلك الحادثة:
- وفعلاً في مرة من المرّات اللي سيدنا "عُمَر بن الخطّاب" كان بيسأل فيها عنه، أتى له سيدنا "أُوَيس".. وبَعد ما سيّدنا "عُمَر" اتأكّد أنه هو ده الشخص اللي أخبر عنه سيدنا النبي ﷺ، طلب منه يستغفر له..
فسيّدنا "أُوَيس" وقتها استغرب جِداً، اللي هو -في تفكيره- أنا الشخص العادي جِداً، هستغفر لواحد من كبار الصّحابة، وصَحِب النّبي.
أمسَك "عُديّ" من صديقه زِمام الحديث مرّةً أخرى لَمّا رأى تلعثمه ونسيانه:
- ساعتها سيدنا "عُمَر بن الخطاب" أخبره اللي النبي ﷺ قاله عنه:
"يأتي عليكم أُوَيس بن عامر مع أمداد أهل اليمن، من مُراد ثم من قرن، كان به بَرصٌ فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدةٌ هو بَرٌّ بِها، لو أقسَمَ على الله لأبرَّه.. فإن استطعتَ أن يستغفر لكَ فافعل!".
صمت "عُديّ" لثوانٍ، ينظرُ في وجوه الصِبية مُبتسماً.. قبل أن يُكمل قائلاً ما أراد قوله:
- اللي أنا عايز أقوله يا شباب، هو إن شوفوا التَّابعيّ ده بِرُّه بوالدته خَلّاه شُفي من مرض صعب، لأ وكمان خَلّى النبي ﷺ يحكي عنه..
طبعاً أنا مش بقول لو أنتوا سِمعتوا كلام والديكم وكُنتوا بارّين بيهم هتبقوا زي سيدنا "أُوَيس بن عامر" بالظّبط..
ولكن الأكيد بِرّ الوالدين، وخصوصاً الأم.. بيفتح على الإنسان كَرم كبير من ربنا ﷻ، في الدّنيا.. وكمان في الآخرة بإذن الله.
أخذ "عُديّ" أنفاسه أخيراً، وجال بعينيه بين وجوههم.. وما إن شعر بأمارات الفهم ترتسمُ عليهم، حتى اعتدل بجلسته قائلاً بابتسامة:
- كِدة خَلّصنا يا شباب، عشان تروّحوا بيوتكم.. سُبحانكَ اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلّا أنتَ، أستغفركَ وأتوبُ إليك.
خَتم حديثه، فقام الصِبية يُودّعونه ويُودّعون "يُوسُف" و"أَوْس"..
وما إن خرج آخر صبيّ، واستقام "عُديّ" وصديقه وابنه ليرحلا من المسجد.. حتى سأله "أَوْس" ببعض التردد:
- أنتَ مش بتخاف تقولّهم حاجة غلط غصب عنك.. الموضوع ده كُل ما بفكّر فيه بيخوّفني!
ابتسم "عُديّ" باتّساع حتى بانت نواجذه، قبل أن يجيبه وهو يخرج معه من باب المسجد:
- أكيد بخاف، عشان كدة بحاول مقولّهمش غير القصص أو الحاجات اللي فاكرها كويس جِداً.. ولو حصل ونسيت وقولتلهم حاجة غلط، وربنا ذكّرني بعدها، بسرعة بصحّح ليهم المعلومة.
اقتنع الآخر بحديثه، وبينما هم يسيرون بجوار بعضهم، إذ تحدّث "يُوسُف" وهو يعقدُ حاجبيه:
- بابا ده مش طريق البيت! أنتَ هتخطفني!
شهق بآخر حديثه، فيما تصاعدت ضحكات "أَوْس" بشِدة..
بينما لوى "عُديّ" فمه قائلاً بتهكّم:
- أنتَ يا بني ايه حكاية عيلتكم مع الخَطف؟! غاويين أكشن وأڤورة وخلاص! رايحين المكتبة يا عم "يُوسُف"!
ابتسم "يُوسُف"، قبل أن يسمع قَول "أَوْس" السّاخِر، لوالده:
- اللي يشوفك وأنتَ مُهتمّ أوي بالضَّمّة على حرف السّين في اسم ابنك، ميقولش إنك مِسيو فرنساوي يا مَولانا!
- وأنا مالي يا شِيخنا بالفرنساوي، أنا مَرجعي القُرآن.. وربّنا ﷻ أنزل سورة "يُوسُف" ازاي؟ الضَّمّة على حرف السِّين!
أجاب بها "عُديّ" ببساطة، جعلت الابتسامة ترتسمُ على ثغر الآخرَين..
قبل أن يقترب من صاحِب المكتبة مُسلِّماً عليه، فابتسم الآخر وقام يأتي له بما عِنده..
- اللهم بارك يا عمّ على النّاس اللي بتجيب هَدايا.
همس بها "أَوْس" بمرح، فأجابه الآخر بسُخرية:
- وأنتَ مش ناوي تِجيب ولا ايه؟!
مَسح "أَوْس" على لِحيته الصغيرة، مُجيباً على الآخر وهو يضحك:
- اللي تبعي مش بيحبّوا الفوانيس.. كُتب، روايات، مُجلّدات.. أي حاجة في السِّكّة دي!
- بتتكلّم كأنّك مش كاتِب والمفروض بتحِبّ القراءة أنتَ كمان!
كام كدة يا عَمّ "صالِح"؟
أنهى "عُديّ" حديثه مُوجّهاً حديثه لصاحب المكتبة، بينما "يُوسُف" حتى الآن لا يفهم ما يفعله والده..
إلى أن وجده يمُدُّ له بواحدةٍ مما معه بابتسامة، فأمسكها منه الصَّبيّ وفتحها.. قبل أن يقفز بسعادةٍ حينما رأى الفانوس الذي وقعت عيناه عليه في المكتبة..
فركض يحتضن "عُديّ".. فقام الأخيرُ بالتقاطه يرفعه عن الأرض، ويحتضنه بقوّة..
ويكأنّ هذا العِناق، هو إكسيرُ الحياة لهما!
ابتسم "أَوْس" بصِدق، وقد نبض قلبه بمشاعرٍ أرادَ بشِدّةٍ أن يختبرها مع زوجته "تَغرِيد"!
- ربنا يديمكم لبعض يا شباب، بس يعني مش تراعوا النّاس اللي جنبيكم ومش عارفين يتجّوزوا لحد دلوقتي!
صاح بها "أَوْس" بمزاح، فنظر له "عُديّ" بتهكّم وأجابه:
- وايه اللي مانعك يا مَولانا، شقّتك وجاهزة، وكاتبين كِتابكم فعلاً.. ايه بقا؟!
مَسح "أَوْس" على وجهه، وهو يُجيبه بحنق، بينما يَسيرُ معهما:
- أخوها يا عمّ "عُديّ"! مزهّقني في عيشتي، وكُلّ ده ليه؟! عشان أنا من محافظة تانية، وعايز أخته تقعد معاهم أطوَل مُدّة مُمكنة!
ضحك "عُديّ" بقوّة، وهو ينظر تجاه "يُوسُف" المُبتسم وهو يتأمّل فانوسه الجديد..
قبل أن يُعيد نظره تجاه "أَوْس" مُجيباً عليه بابتسامة:
- طب ما أنتَ بردو اعقلها يا عَمّ "أَوْس"، الراجل وعايز أخته تقعد معاه شوية حِلوين قبل ما تتجوّز وتسيب أهلها وتروح مُحافظة تانية!
تذمّر الآخر، وقال له:
- يا مولانا مقولناش حاجة، بس ميوقفش حالي أنا! أنتَ مُتخيّل أنا قاعد أدعي أتزوّجها بقالي قد ايه، عشان ييجي سي أخوها ده يوقّفلي الجَوازة! والله بإذن الله لأدعي طول رمضان!
- على أخوها؟!
قالها "عُديّ" بغير تصديق، وهو يضحكُ بقوّةٍ على تذمّرات "أَوْس"، ويكأنه طِفلٌ صَغيرٌ مَنعوا عَنه حَلواه المُفضّلة..
فأجابه "أَوْس" ببراءة:
- عيب يا شيخ "عُديّ"، مش أخلاقنا بردو.. أنا هدعي الجوازة تتمّ على العيد علطول!
تصاعدت ضحكات "عُديّ" على طريقة الآخر.. قبل أن يَتوقّفوا أمام العمارة التي يقطن بها "عُديّ"، فلوّح هو و"يُوسُف" بأيديهما مُودّعين "أَوْس".. قبل أن يقوما بالدخول للعمارة..
للحقّ، فإن يومه مع صديقه والأطفال، قد خفّف كثيراً من وطأة أفكاره السَّلبيّة..
____________________
عِند "ريتاچ"، فقد كانت ترتدي بيجامةً سوداء، وقامت بتصفيف شعرها الأسود على هيئةٍ كعكة.. بينما وضعت كُحلاً أبرز لون عينيها العسليّتين، ووضعت مُلمّع شِفاه ورديّ اللون.. فكانت طلّتها بسيطةً نعم، ورُغم ذلك.. مُبهِرة!
كانت تعلم أن زوجها وابنها يصعدان على السُلّم الآن، فقد رأتهما خِلسةً من النّافذة..
فسارعت بتجهيز طاولة الطّعام، ووضع الأطباق والطّعام عليها..
سمعت صوت الجرس، وبعده صوت مَفاتيح زوجها تفتحُ الباب.. فابتسمت، وغَمَر الدِّفءُ قلبها!
كانت في السَّابق تكره ذلك الصَّوت، بل لن تكذب إن قالت أنه كان يُثيرُ داخلها خَوفاً هي وابنها..
أما الآن! فكُلّ ما تشعرُ به هو الحُبّ، الدِّفء، وهدوء النَّفسِ والقَلبِ، وسَكنهما لدى خاصّة زوجها!
اقتربت "ريتاچ" من الباب بابتسامةٍ تشكّلت على ثغرها، وما إن فُتح الباب حتّى حيّتهم بسعادة..
احتضنت "يُوسُف"، وقَبّلت رأسه بحنان ولُطف..
قبل أن يُريها الصغيرُ الفانوس الذي جلبه له "عُديّ"..
أمّا "عُديّ" نفسه، فقد كان يُحدِّقُ بها، وبؤبؤا عينيه مُتّسعين.. وقلبه بكُلّ مرّةٍ يفعلها وينبهرُ من جمالها!
دخل "يُوسُف" للداخل حيث جدّتيه، يُريهما ما جلبه له والده..
فيما أعاد "عُديّ" نظره لها.. بالأحرى هو لم يُبعد نظره عنها مُذ دلف للمنزل!
اقترب، مُقبّلاً جبينها بحُبّ.. قبل أن يُخبرها بهمس وهو يغرقُ بعينيه داخل عسليّتيها:
- وحشتيني، ووحشتِ عيوني وقلبي!
لم تستطع الرَدّ عليه كعادتها، فاكتفت باحتضانه بسُرعة.. قبل أن تُخبره أن يُبدّل ثيابه حتى يتناولوا الغداء جميعاً؛ لأنها تُريدُ الحَديث معه..
___________________
بَعد انتهائهم من تناول الغداء، بين مُزاحٍ، أو حديثٍ أو سؤالٍ مُهتَمٍّ مِن قِبَل "عُديّ" لأفراد أسرته الصغيرة..
أو حتى لِوالدة "ريتاچ" يسألُ عن حالها بابتسامة..
أنهى "عُديّ" غسل يديه في الحَمّام، ثم اتجه بخطواته الهادئة ناحية غُرفته..
عقد حاجبيه بابتسامة مُتعجّبة، حينما رأى زوجته واقفةٌ تُمسك منشفة وجهه..
أخذها منها بابتسامة، وما كاد يشكرها حتى ازدادت عُقدة حاجبيه بعدم فهم أكبر، حينما تركته واتجهت لباب الغُرفة تُغلقه بالمفتاح..
- هتخطفيني ولا ايه زي ما خطفت ابنك قبل كدة؟
قالها بمزاح، بينما هي تُمسك بيده تجرّه معها.. إلى أن قاما بالجلوس على الأريكة.. فقالت حينها "ريتاچ" بحنان ممزوجٍ بالحزم:
- قُولّي بقا، ايه اللي مزعّلك مِنّي؟ أنا كدة كدة عارفة إنك مش بتزعل من ابننا، وأكيد مش هتزعل من مامتك!
قالتها دُفعةً واحدة، فلم يفهم جيداً ما تقصده لذا أجابها وهو يضحكُ بعدم فهم:
- هزعل مِنّك ليه طيّب، وأنتِ عملتِ حاجة تزعّلني؟! ليه بتقولي كِدة؟!
ابتلعت ريقها، وظلّت في ترددٍ لثوانٍ.. قبل أن تُجيبه بصراحة وبساطةٍ في ذات الآن:
- بشوفك سرحان كتير، وعيونك زعلانة.. على غير العادة عيونك بتبقى مليانة تفاؤل وحُب وحنيّة للكُلّ!
عموماً أنا عايزة أقولّك إني بحبّك زي ما أنتَ! والله، والله يا "عُديّ" أنا مش فارِق معايا خالص الموضوع اللي شاغل تفكيرك ومكدّرك ده!
صدمته بصراحتها وكَشفها له؟ هذا بالفعل ما حدث!
فقد استند "عُديّ" بظهره للأريكة، وشرد بنظره في اللاشيء..
أو بالأحرى، فقد شرد عميقاً داخل عقله!
أمسكت "ريتاچ" بكفّيه بين كفّيها بقوّةٍ تنبعُ من حنانها وحُبّها له، قبل أن تُكمل:
- أنا آسفة لو اقتحمت خصوصيّتك، بس أنا عايزاك تطّمّن زي ما طمّنتني، وزي ما طَمّنت ابني.. أنتَ ليه متضايق، هو مش "يُوسُف" ابنك بردو؟
التفت ينظر لها، وأجابها بنبرةٍ فاترة:
- أكيد ابني، بسّ أنا كان نفسي يبقى ليه أخّ أو أخت.. أنا لو عليّا، فأنا مُكتفي بيكم عن الدُنيا كُلّها، بسّ..
قاطعته بحَزم، بعدما تولّت هي منصب طمأنته كما دَوماً ما يفعلُ معها ومع ابنها:
- ربّنا مش بيدّي كُلّ حاجة يا حبيبي! ربّنا ابتلاك في النُقطة دي، وابتلى ابني في أبوه.. بسّ رزقكم ببعض، ورزقني بيكم!
"يُوسُف" مش عايز في الدُّنيا دي غير صُحبتك ووجودك، وهو لو سأل -لو-، هنفهّمه بالراحة، وهو بالعكس هيتفهّم.. ولو إنك لو عارف شخصيّته، فهو فعلاً أهم حاجة عنده وجودك.. زيك بالظبط!
صمتت لثانية تأخذ أنفاسها، قبل أن تكمل بهدوء، وهي تضع كفّها على خدّه بحنان:
- لعلّه خير يا "عُديّ"، مش يمكن لو رُزقت بابن من صُلبك يكون عاقّ وميحبّكش ومش صالح؟
احمِد ربنا أنه رزقك بابن بارّ بيك، وبإذن الله يكون صالح.. والأهم إنك بتحبّه، وهو بيحبّك أضعاف.
سَرى دِفءٌ من حديثها وحنانها شملا كيانه، وصولاً لقلبه..
ويكأن كفّها التي وضعتها على خدّه، كانت تُوصلُ بين قلبها الحنون الدافئ، وقلبه القَلِق الخائف.. فأصاب قلبه عَدوى قلبها!
لم يتحدّث، لم ينطق بكلمة.. حتى كادت "ريتاچ" تظنّ أنه غضب من حديثها وتدخّلها بأموره..
إلى أن اقترب منها، ولفّ ذراعيه يُعانقها بلُطف.. قبل أن يبتعد عنها قائلاً وهو ينظرُ داخل عينيها:
- شُكراً عشان كلامك اللي خلّاني أتطمّن وأفتكر كرم ربّنا عليَّا.. ربنا يديمك ليَّا يا "رُوحِي"!
كست قليلٌ من الحُمرة وجنتيها، وتسارعت نبضات قلبها.. فقد شعرت أنّه يُبالغ في حديثه عنها!
هل حديثها قام بطمأنته؟! هي حتى لا تذكر جيّداً ما قالته، فهي لم تُخطط له وإنما نبع من قلبها وخوفها عليه!
- أنا آسفة لو كلامي ضايقك، بسّ والله أنا بحبّك وخايفة عليك من الزعل.
قالتها بخفوت وبعض الخجل، ويكأنها طفلٌ صغيرٌ يعتذر أنه كسر كوباً ما.. مما جعل "عُديّ" يضحكُ بصوتٍ عالٍ وبصِدقٍ على مظهرها كالصوص المُبتلّ..
قبل أن يميل مُقبّلاً رأسها، ثم قال بابتسامة:
- بالعكس! كلامك لطيف وفوّقني والله، جزاكِ الله خيراً.. كمان نابع من نيّة جميلة.
بادلته الابتسامة، قبل أن يتذكّر شيئاً.. فقام بسُرعة وقال:
- شوفتي بقا إني نسيت أدّيكِ هديّتك؟!
رددت "هديّتي!" في سرّها بتعجّب، فهي لا تتذكرُ أنها لمحته يحملُ شيئاً حينما جاء..
وما إن عاد "عُديّ" بفانوسها الذي اشتراه لها، حتى اتسعت عيناها، وتلألأت الدموع بهما..
أخذته منه وهي تشكره، ثم أزالت ورق الهدايا الذي لُفّ به.. وما إن وقع بصرها عليه، حتى تأثّرت بشدة أنه تذكّرها رُغم كُلّ شيء!
قطع لحظتهما تِلك، طرق باب الغرفة ومُناداة "يُوسُف" على والده..
فاتسعت ابتسامة "عُديّ"، واتجه فاتحاً الباب لصغيره.. الذي ما إن فُتح له الباب، حتى قفز مُعانقاً "عُديّ"، ومُتشبّثاً بعُنقه!
- أنا قُلتلك النهاردة إنّي بحبك؟
قالها "عُديّ" وهو يحملُ الصّبيّ، بعدما قبّله من وجنته.. فتصنّع "يُوسُف" عدم التذكّر، وقال بمكرٍ طفوليّ:
- ممكن أكون مش فاكِر! بس حتى لو كدة.. أنا بحبّ أسمعها مِنّك علطول!
رفع "عُديّ" حاجبيه لذاك المكر، قبل أن يُلقيه على السرير بخِفّة، ويقوم بدغدغته بشكلٍ جعل ضحكات الصَّبيّ تتصاعد عالياً..
ابتسمت "ريتاچ" بتأثّر.. ورُغماً عنها فقد سالت دمعةٌ من عينيها سارعت تمسحهما، وهي تحمدُ الله على تِلك النعمة المُسمّاة بـ"عُديّ"، في حياتها وحياة ولدها!
- ماما احنا هناكل ايه أوّل يوم رمضان؟
قالها "يُوسُف" وهو يلهثُ بعض الشيء من أثر الضحك..
وقبل أن تُجيبه "ريتاچ"، قال "عُديّ" ببساطة وبعض التهكّم:
- معروفة يا حبيبي، محشي ومكرونة بشاميل.. تقريباً لو معملناهمش أول يوم رمضان صيامنا هيبطل!
تِلكَ المرّة، تصاعدت ضحكات "ريتاچ" هي وابنها عالياً على قوله وسُخريته..
وتِلك المرّة أيضاً، فمن ابتسم وتأثّر وحَمدَ الله كان "عُديّ".. وهو يتأملهما بابتسامة جميلةٍ ارتسمت على مُحيّاه..
بيتٌ جميلٌ دافئ..
زَوجٌ صالِحةٌ جميلةٌ عَفيفة..
وابنٌ بمثابة صديقٍ وأخٍ صغير، يَرجو الله أن يُنبته نباتاً صالِحاً..
ويَدعو الله أن يُقال عنه هو، بَعدَ وفاته..
"وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا"!
- الـحَـمْـدُ لله!
____________________
- يتبع الفصل التالي اضغط على (خطان لا يلتقيان) اسم الرواية