Ads by Google X

رواية خطان لا يلتقيان الفصل الخامس عشر 15 - بقلم رغد ايمن

الصفحة الرئيسية

 

 رواية خطان لا يلتقيان الفصل الخامس عشر 15 - بقلم رغد ايمن

                  
                                              
_______________



في إحدىٰ أُمسيات الصَّيف، حيثُ يجثمُ القيظُ على النُّفوس والأجساد..
كان هناكَ صِراعٌ بين رأيين، يُحاوِل كُلٌّ مِنهُما فَرضَ نفسه بقسوَةٍ وضَراوة!



- "يُوسُف" يا حبيبي كدة مينفعش! ازاي يعني هتروح امتحان بُكرة وأنتَ مش مذاكر أيّ حاجة؟!



قالتها "ريتاچ" بانفعال، وقد انفلتت أعصابها من الصَبيّ الذي يرفضُ المُذاكرة.. بحُجّة أنَّ "آخر مادة مش بتتذاكِر"! 



أما عن "يُوسُف"، فقد تحدّث بهدوءٍ وبراءةٍ شديدَين:
- هقول لبابا "عُديّ" إنِّك زعقتيلي، وأنتِ عارفة بابا قال ايه عن الصوت العالي والزِّعيق.



صرخت "ريتاچ" بصوتٍ مكتومٍ، من برودة ردّه.. قبل أن تقوم من مجلسها على الأرض بجانب ابنها، قائلةً بانفعال:
- أنا هجيبلك "عُديّ" يذاكرلك، عشان بصراحة أنا صِحتي على قَدّي!



وما إن خرجت من غرفة المعيشة، حتى اتّسعت ابتسامة "يُوسُف" بحماس!
فقد كان هذا هدفه مُنذُ البداية، أن يُشعِلَ ملل والدته منه، حتى تذهب لمُناداة "عُديّ"!



على أيّ حالٍ، كان هذا ما يفعله طيلة أيّام الاختبارات.. يتحجج بأيّ حُجَّةٍ، حتى تتركه والدته وتأتي بـ"عُديّ" ليُذاكِرَ له!



- خير يا جميل الاسم والمَلامِح، مزعَّل ماما ليه؟
قالها "عُديّ" بصوتٍ عالٍ بعضَ الشيء حتى يَصِل لـ"ريتاچ"، وبملامح وجهٍ تصطنعُ الحَزم.. 
قبل أن يَميل على أذن الصغير، هامِساً له بنبرةٍ ضاحِكة:
- اتحجِّجت بايه المرّادي؟



- إن آخر مادة مش بتتذاكِر!
قالها "يُوسُف" بسُرعةٍ، وابتسامةٍ واسِعة.. فقد فَهِم "عُديّ" مُنذُ المرَّة الأولىٰ، أنَّ الصَبيّ يفعلُ ذلك ليُذاكِر هو له..
وهو لم يُمانِع على الإطلاق، خصوصاً أنَّ "ريتاچ" قد رفضت ذلك الأمر قبل بداية الاختبارات..



رفع "عُديّ" صوته قليلاً، وهو يقول لـ"يُوسُف" بجِدّيةٍ مُصطنعة:
- لأ لأ يا "يُوسُف"، آخر مادّة زي أول مادّة.. كُلُّه لازم يتذاكر!



- أهم حاجة بَسّ بعد ما تخلّصوا بروڤة التمثيل دي، تذاكروا كويّس عشان "يُوسُف" ينام بَدري!



قالتها "ريتاچ" وهي تقفُ خلفهم، تسخرُ مِن أفعالهم شديدة الوُضوح لأيّ مُغفّل..
قبل أن تتركهم، وتَعود لغُرفتها مُجدداً!



نَظر "عُديّ" و"يُوسُف" لبعضهما وهما يكتُمان ضحكاتِهما بصعُوبة..
قبل أن يُحمحم "عُديّ" ويقولُ بهمس:
- أبقىٰ في سِنِّي ده، ويتقال عليّا إني بمثّل؟ يلا يا بني نخلّص المادة عشان تروح تنام.



ابتسم الصَبيّ، وهو يفتحُ الكتاب.. تزامناً مع سماعه لـ"عُديّ" وهو يقول بهدوء:
- اللهم لا سَهلَ، إلّا ما جَعلتَهُ سَهلاً.. اللهم إنّي أسألكَ فَهم النبيّين، وحِفظَ المُرسَلين، والمَلائكة المُقرَّبين..
بسم الله.




                                      
 
                
ثم أخذَ "عُديّ" يشرحُ لـ"يُوسُف" مادة الدراسات الاجتماعيّة..
أو بالأحرىٰ، كان "عُديّ" و"يُوسُف" يتناقشان.. كُلٌّ مِنهما يشرحُ جُزئيةً من أجزاء المَنهج، بينما يقومُ "يُوسُف" بحلّ الاختبارات السَّابقة في الكِتاب.. ويقومُ "عُديّ" بإعطاء أمثلةٍ عليها، من الحياة الواقعيّة..



كانَ ما يفعلهُ "عُديّ"، شيئاً يُساعِدُ قَدرَ الإمكان في تثبيت وفهم المَعلومة، بذِهن الصَبيّ..



- بابا "عُديّ"، أنا بحبّك أوي!



نَبَس بِها "يُوسُف" فجأةً، بَعدما تركَ قلمه جانباً.. بينما نَظر "عُديّ" له بابتسامةٍ واسعة مُتأثرة، قبل أن يُجيبه:
- والله وأنا بَحبّك أكتر بكتير يا قلب "عُديّ"!



بادله الصَبيُّ الابتسامة، قبل أن يَعودَ لما كان يفعله..
ثوانٍ، وتحدَّث "عُديّ" بهدوء؛ يجعل الصَبيّ يُفرِغُ ما عِنده من حديث:
- لو حابِب تتكلِّم، أنا كمان حابِب أسمَعك!



جُملةٌ بظاهِرها بسيطة، إلّا أنَّ وَقعها على قلبِ "يُوسُف"، كوقعِ المَطرِ على أرضٍ جَرداء!



تردد الصَبيُّ كثيراً، قبل أن يُركّز نظره على بُقعةٍ في الكتاب، مُتحدّثاً بنبرةٍ ظهر بها أثرُ الحُزن:
- أنا بَسّ افتكرت بابا "شهاب".. وجيت أقارنك بيه، لقيتك كِسبت!
أنا مُتأكد إني لما أكبر وأبقى أبّ، وجِدّ.. هحكي لأولادي وأحفادي عن بابا "عُديّ" اللي كان كُلُّ حاجة بالنسبة لي!



نزلت دموع "عُديّ"، تِلكَ التي لم يستطع تمالكها.. واقترب بسُرعةٍ، مُحتضناً الصَّغير بقوّة وحنانٍ بذات الآن!
قبل أن يمسح "عُديّ" الدمعة التي سقطت على خدّه، قائلاً بتأثرٍ ولُطف اكتسى نبرة صوته:
- وأنا مُتأكد أكتر من أي حَد، إنّك هتبقى أب حِنيّن، وجِدّ جميل مَحبوب!



ثم أكمل بمرحٍ، وهو يُحمحم؛ يُنقّي حلقه من الحَشرجة:
- يلّا بقا خَلّص اللي بتحلُّه، عشان تنام بَدري.



أومأ "يُوسُف" برأسه بسُرعة، وقبل أن يُمسك قلمه، سَمع تمتمة "عُديّ" وهو يقولُ بسُخرية:
- وعشان منتهزّقش في السِن ده!



ضحك "يُوسُف" بقوّةٍ، وهو ينظرُ في كتابه.. فضحك "عُديّ" إثر ضحكات الصَبيّ..



_______________



حيثُ استلقى "يُوسُف" على سَريره، كان يتكئُ "عُديّ" جانبه.. 
وكما طَلبَ منه الصغير، كان "عُديّ" يَحكي له قِصّة النبي يُوسُف عليه السَّلام..



- بَس يا سيدي، خلصت القِصَّة.. قُولّي بقا استفدت ايه مِنها؟



أنهىٰ بِها "عُديّ" حديثه، وهو يُولي الصَبيّ كامِل انتباهه..
صَمت "يُوسُف" لثوانٍ هذه المَرّة، مُحاولاً التفكير في استفادةٍ أخرىٰ غير تِلكَ التي يقولها بكُلِّ مرّة..
قبل أن ينظر لـ"عُديّ" بحماسٍ، قائلاً:
- عِرفت! إننا لما واحدة تيجي تِضايقنا، ندعي ربنا يِبعدنا عَنها.




        
          
                
في أيّ مَكانٍ آخر، ومَع أيّ شَخصٍ غير "عُديّ".. كان سيضحكُ مِن إجابة الصَّبيّ..
إلا أنَّ هذا هو "عُديّ"، المُختلفُ الذي ينظرُ لأيّ سؤالٍ أو جُملةٍ بمَنظورٍ مُختَلف!



لذا فإنه ابتسم باتّساعٍ وفَخرٍ، مُجيباً "يُوسُف":
- عاش والله، أحسنت يا جميل الاسم والمَلامح! بس فيه نُقطة صغيرة حابب نوضّحها قبل ما ماما تيجي تزعقلنا دلوقتي!



ما إن أنهىٰ حديثه، حتى سَمع نِداء "ريتاچ" بالفِعل، وهي تُخبرُ "عُديّ" أن يَدعَ الصَّبيّ ينام!



نظر الاثنان لبعضهما، قبل أن يضحكا بخفوت.. ثم تحدّث "عُديّ" بابتسامةٍ واسِعة:
- فِكرة إننا نَبرأ من حَولنا وقُوّتنا، إلى حَول الله وقُوّته.. مُهمة جِداً في حياة المُسلم يا "يُوسُف"!
يعني، زي ما سيدنا يُوسُف عليه السَّلام عَمل.. وزي ما كُل الأنبياء والرُّسل بيعملوا طبعاً، بس عشان دلوقتي بنتكلم عن سيدنا يُوسُف..
لما لَقىٰ امرأة العَزيز بتضايقُه، وكمان نسوة المَدينة.. دَعا رَبّنا علطول: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ}
مقالش أنا قَوي، أو أنا مُستحيل أَلين ليهم.. علطول دَعا رَبَّنا أنه يِبعده عَنهم، لأنه بَشر وممكن يِضعف -وحاشاه عليه السَّلام-..
فهمتني يا "يُوسُف"؟



شَرد المَعنيُّ بنظراته دقيقة، يستوعبُ فيها ما قاله "عُديّ" بشكلٍ جَيّد.. قبل أن يومئ له برأسه علامة الإيجاب، والنُّعاس قد بدأ يتسللُ لجفنيه..
ابتسم "عُديّ"، ومالَ عليه مُقبِّلاً رأسه ومُحتضناً إياه بحنان..
قبل أن يقوم من السرير وهو يقولُ بهدوء:
- اللهم كَما حَفظت يُوسُف عليه السَّلام من الفِتَن والبَلاءات، احفَظ ابني وصَديقي "يُوسُف" مِن فِتَن الدُّنيا، وفِتَن الآخرة.. آمين!



ثم أغلق النُّور، موارباً الباب خلفه بَعدما خَرج.. تارِكاً قَلبَ الصَبيّ يقرعُ بسعادةٍ لدُعائه له!



_______________



- علفكرة أنتَ مدلَّعه أوي! الواد بقا بيغيظني عشان أنتَ اللي تقعد معاه وقت أكبر، أو عشان عارف إن أنتَ مش هتزعقله!



قالتها "ريتاچ" بغيظ ما إن دَخل "عُديّ" الغُرفة..
ابتسم "عُديّ" باتساعٍ، وهو يجلسُ على السرير باسترخاءٍ وينظرُ لها حيثُ وقفت تُصففُ شعرها أمام المرآة..
قبل أن يُجيبها ببعض المَكر والتَفكير المُصطنع:
- دي بقا أسمّيها غِيرة؟



رَفعت"ريتاچ" حاجبها الأيمن، ثم تركت المِشط واقتربت حتى تجلس على السرير مُقابلةً له وهي تُجيبه بتحدٍ وصَراحة:
- مفيش أمّ بتغير من ابنها ده أكيد! بس بجد عايزاك تقلل دلعك ليه شوية.. الواد هيطلع نرجسي! ده طبعاً بالإضافة إني عايزاك تقضي معايا وقت أكبر، مش هقول تقلل وقتك معاه، بس ايه المانع أما تقعد معانا احنا الاتنين!




        
          
                
اكتست الجِدّية مَلامح وجه "عُديّ"، بَعدما نَبهَته زوجته لآخر نُقطة!
هو يعلمُ أنَّه عيبٌ لديه، حتى والدته أخبرته أن يقضي وقتاً أكبر مع "ريتاچ" حتى لا تشعر بالضِّيق..
ورُغم أنَّه يُحاول فعل ذلك، إلا أنَّ غريزة الأُبوّة لديه تغلبُ على الأمر!



اقترب منها، مُمسكاً كَفَّها بحنانٍ كَبير، مُجيباً عليها:
- معاكِ كُل الحقّ إنك تتضايقي، حقك عليا يا أُمّ عُيون عسلي!



اكتست وجنتاها بحُمرةٍ طفيفة، وتحاشت النَّظر لعينيه.. 
فابتسم، وهو يُكمل حديثه ببعض الجِدّية:
- بالنسبة لنُقطة الدَّلع، فا أنا مش هقولِّك أعيش وأدلَّعه والجو ده..
ولكن أنا بعمل حاجتين.. بخلّيه يِعيش سِنُّه بشكل طبيعي، وحتّى دَلعي ليه على قَدر سِنُّه!
كَمان بحاول بِقَدر الإمكان أملىٰ جُوّاه الفَراغ الكِبير اللي عمله "شِهاب" في قلبه وروحه!



صَمت لثوانٍ، ينظرُ لأثر إقناعه لَها، قبل أن يُكمل بابتسامةٍ هادئة، وهو يُربِّتُ على كَفّها بإبهامه:
- ورَبِّنا يبعد عن "يُوسُف" النَّرجسية، وعَدم السَّواء النَّفسي.. اللي بييجي من كُتر الزِّعيق والعَصبيّة!



أمَّنت على حديثه، قبل أن تفطن للابتسامة الماكِرة التي ارتسمت على ثغره إثر جُملته الأخيرة..
فأفلتت كَفَّه، وهي تنظرُ إليه بملل.. ثم قَامت من السَّرير تعودُ لتصفيف شَعرها المُتشابِك قليلاً..
بينما يضحكُ "عُديّ" من خلفها باستمتاع.. وقد استلقى على جانبه الأيمن ليستعدَّ للنوم..



_______________



صوتُ آذانِ الفَجرِ يصدحُ في مُكبِّر المَسجد المُجاوِر..
دقائقُ، وكان صوتُ المُنبِّه بجوار "عُديّ" يرنّ بصوتٍ عالٍ بَعض الشيء.. استيقظ على إثره "عُديّ"..
مَكثَ دقيقةً في السَّرير إلى أن يفيق عقله، قبل أن يُمدِّدَ ذراعيه قليلاً ليمرر بعض النشاط لسائر جسده..
ثم نظر إلي اليَسار، حيثُ تنامُ "ريتاچ" لا تَعي لأي شيء.. قبل أن يُنادي عليها بصوتٍ خافتٍ بعض الشيء كي لا تَفزع:
- "ريتاچ".. يا أم عيون عَسلي، يلا قومي عشان تصلّي الفجر!



ظَلَّ يُنادي عليها لثوانٍ أخرى بينما يمسحُ على شعرها المُجعّد بلُطف، إلى أن أفاقت شيئاً فشيئاً على صوته ولمساته!
وما إن فتحت عينيها، حتى نظر إليهما مُبتسماً باتساع، ثم طَبع قُبلةً لطيفةً على جبينها، قبل أن يقوم من السَّرير ذاهباً للحمام، وبَعدها يُوقِظُ "يُوسُف"..
بينما تتولّى "ريتاچ" إيقاظ والدته ووالدتها..



وبَعد مُرور ساعتين، كان جميل المُسمّى والمَلامح يسير بِجوار صديقه الأكبر، في اتجاه مدرسة "يُوسُف"..



- متنساش الدُّعاء.. "اللهم لا سَهل إلا ما جَعلتَه سَهلاً، اللهم ذَكّرني ما نَسيت، اللهم إني استودعتكَ ما حَفظت، وما ذاكرت فرُدَّه إليّ عِند حاجتي إليه يارب العالمين".




        
          
                
نَبس بها "عُديّ"، فردَّد الصغير مَعه الدُّعاء بابتسامة.. فقد كان طِيلة أيام الاختبارت يُردّده على مَسامعه، حتى أن الصَّبيّ حِين يقفُ أمامه سؤالٌ لا يتذكّره، يظلُّ يُردِّد "واجمَع عَليّ ضالتي".. أو  "لا إله إلا أنتَ سُبحانكَ إنّي كُنتُ مِن الظالمين"..



- بابا "عُديّ"، هتيجي تاخدني صح؟



قالها الصَّبيُّ بهدوءٍ، وبَعض الخَوف من أن يرفض "عُديّ" لانشغالٍ ما في عمله.. إلا أنَّ الأكبر بَدَّد مخاوفه، قائلاً وهو يُربِّتُ على قلبه قَبل أن يمسح على شعره:
- بإذن الله.. وبإذن الله بردو فيه programme "برنامج" لذيذ عامله عشان نقضّي اليوم.. ركّز في امتحانك، كدة كدة أنا هفضل فخور بيك مهما كانت النتيجة، لإن أنتَ سَعيت.. والنتيجة دي بإيد ربنا ﷻ وَحده!



"يُوسُف" صَغيرٌ نَعم! ولَكن من قال أن قلبه الصَّغيرُ لَن يطرق إثر تِلك الكلمات؟!
اقترب منه، مُحتضناً إياه بقوّةٍ تمتزجُ بالتأثر!
لم يتصوّر طيلة سنواته العشرة، أنّه سيُحَبُّ ويُفخَرُ بِه، ومِن شَخصٍ -كان- غريب!



تحدّث "عُديّ" بمَرحٍ حاول به إخفاء تأثره:
- أيوة بقا يا عم هتاخد الإجازة النهاردة!



- أنا مخطط أعمل حاجات كتـيــر أوي معاك في الإجازة!
أجاب بها "يُوسُف" بحَماسٍ تسلل إليه من كلمات "عُديّ".. فهكذا هو الرّابطُ الشُعوريُّ بَينهما!



يَسعدُ أحدهما، فيشعرُ الآخر أنَّ الدنيا لَن تَسَعه من شِدَّة سَّعادته..
يحزنُ واحد، فيُحسُّ الآخر لضِيق صَدره، أنَّ هواء العالَمِ كُلَّ قد نَفد!



_______________



حيثُ يقفُ "عُديّ" أمام السبورة، يقوم بمُراجعة منهج اللغة الفرنسية للفتيان بالمرحلة الثانوية، في ذلك المركز التعليمي الصَّغير الذي يستأجره..
إذ رَنَّ هاتفه يُنبّئه بصُدور مُكالمةٍ له!



اعتذر من الفتية، وأمسك هاتفه بسُرعة وهو يُلقي نظرة على الساعة ليتأكد أن وقت خروج "يُوسُف" لم يأتِ بَعد..
قبل أن يَجد أن المُتصل "شِهاب"!



عَقد حاجبيه، وقد سَرى بقلبه توترٌ وقلقٌ تلقائيَين.. فلِمَ يتصلُ على أيّ حال؟! 



- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..؟!
قالها "عُديّ" بنبرةٍ هادئةٍ حاول جعلها طبيعيةً غير قَلقة.. فرَدَّ الآخر السَّلام، قبل أن ينطق بنبرةٍ فاترة:
- متنساش النهاردة على معادنا، في نفس الكافيه.



ثَبّت "عُديّ" نظراته على شابٍ من الموجودين، وهو يعقدُ حاجبيه يُحاول تذكّر أيُّ مَوعِد أعطاه له.. قبل أن يرتفع حاجباه حينما تذكّر أنَّ اليوم، يوم لِقاء "يُوسُف" بوالده!



رُغماً عَنه، فقد شعر "عُديّ" بكثيرٍ من الحنق والغيرة..
والغيرة بمفهوم "عُديّ"، هي خَوفه من أن يُشارِكه أحدٌ بِحُبِّ الصَّبيّ!




        
          
                
طَرد "عُديّ" أفكاره، تِلك التي يعدُّها أنانيةً مِنه، إثر حُبّه لـ"يُوسُف"!
ثم عاد لاستكمال ما يفعله مع الطلبة، حتى يذهب لأخذ "يُوسُف" من مدرسته كما وَعده..



_______________



يَسيرُ بشرود، وقبضتيه الصغيرتين تتمسَّكُ بحقيبة ظهره التي يرتديها..
كانت ملامحه تَشي بحُزنٍ عَبَث بقلبه.. حتى أنه لم ينتبه لنِداءات "عُديّ" التي أخذ يُمطره بِها!



- يا جميل الاسم والمَلامح، مالَك يا غالي، سَرحان ليه؟!



قالها "عُديّ" بهدوءٍ حيثُ وقف أمامه، بينما يضعُ يده فوق كتف الصَّبيّ.. فانتبه له الأخير، قائلاً بنبرةٍ مليئةٍ بالحنق والضيق:
- المُدرّس اللي كان بيراقب علينا النهاردة، كان بيغششنا يا بابا "عُديّ"! أنا مكنتش عارِف أركّز، حتى لما جيت أقوله إن ده حرام وإن: "من غشنا فليس مِنّا"! قعدوا يتريقوا عليا ويقولولي "أنتَ هتعملّنا فيها شيخ؟!".



لم يُثِر اهتمام وحَنق وغَضب "عُديّ" شيء، بقَدرِ ما فعلته سُخرية الصِبية من قِطعة قلبه.. فأسرع سائلاً "يُوسُف" ببعض الغضب كَسى صوته:
- اسمه ايه اللي كان بيراقب عليك، وفين زمايلك دول؟!



وقبل أن ينفي "يُوسُف"، أسرع يُكمل لَه:
- لازم تاخد حَقّك يا "يُوسُف"، احنا مش هنخانق، لكن هعلّمك أنه أخذ حقك بهدوء وبحكمة، ده شيء مش غلط!



ظَلَّ "يُوسُف" يستمعُ لوالده الاجتماعيّ بصمتٍ وأدب، قبل أن يتنهّد ويبدأ بإخبار "عُديّ" عن اسم المُعلّم..



دقائق، وكان "يُوسُف" واقفاً مع "عُديّ" أمام مَكتب مُدير المدرسة.. قبل أن يتحدّث الأخيرُ قائلاً بهدوءٍ ممزوجٍ ببعض الحَزم:
- هندخل سوا، بس أنتَ اللي هتتكلم!



ولَمَّا رأى التوتر والتردد يلمعُ بعيني الصَّبيّ، أكمل بنبرةٍ أهدأ:
- طالما الحَقّ معاك، وطالما أنتَ معملتش حاجة غلط.. يبقى ليه تخاف؟! خلّيك واثق من نفسك، واتكلم بقوة وأدب، وأنا معاك لو اتوترت هسندك!



كانت كلمات "عُديّ" بنبرةٍ هادئة، إلا أنَّها بَثَّت اطمئناناً وقُوةً بقلب "يُوسُف"، جعلته يجمعُ قبضته، طارقاً الباب ثلاث طَرقاتٍ بأدب، ثم يفتحُ الباب بهدوء ويتقدَّمُ بخُطواتٍ ثابتة لداخل مكتب المُدير..



- اه أستاذ "عُديّ" ازي حضرتك، وازيك يا "يُوسِف".
قالها المُدير بصوتٍ صاخِب، قبل أن يدعوهما للجلوس على الكُرسيين المُقابلين لبعضهما أمام مكتبه..
ثوانٍ، ونظر لـ"عُديّ" مُتحدّثاً:
- اتفضل، أنا معاك.



أشار "عُديّ" بابتسامةٍ تجاه "يُوسُف"، بمعنى أنه هو الذي سيتحدث.. 
فحمحم الصَّبيّ وهو يبدأ حديثه ببعض التردد، ويحكي للمُدير ما حدث بالضبط..
وبين فينةٍ وأخرى تلتقي عيناه بعيني "عُديّ"، فيراهُ واسع الابتسامة، ينظرُ له بفخرٍ وحُبّ.. فتزداد ثقته بذاته ويخبتُ تردده!




        
          
                
_______________



- أنا فخور بيك جداً! عارف اسمه ايه التصرُّف اللي أنتَ عملته النهاردة ده؟



تحدَّث بها "عُديّ"، قاطِعاً الصَّمت الذي سادَ بينهما مُنذ لحظة خُروجهما من مكتب المُدير، حتى الآن وهُما يقفان بانتظار المواصلات العامة!
أكمل "عُديّ" حديثه بابتسامةٍ كبيرة، وهو ينظرُ للأسفل تجاه صغيره:
- اسمها شجاعة في الحَقّ! لإنك مش بَسّ خَدت حقك من سُخرية المُدرّس واستهزائه بأوامر رَبَّنا، قبل أن يكون استهزاءً بتبليغك!
أنتَ كَمّان مخوفتش وقُلت للمُدير، عشان هو يتصرّف معاه واللي زيُّه يَعتبروا!



كاد "يُوسُف" أن يتحدَّث، إلا أنَّ اقتراب الحافلة العامة جعلته يُحكم الإمساك بيد "عُديّ"، استعداداً للركوب بأقل قَدرٍ من الخسائر..



وما إن استقرَّ جلوسهما، ودفع "عُديّ" الأجرة لهما.. حتى تحدّث "يُوسُف" بما كان سيقوله، بخجلٍ كَسى صوته:
- بَسّ.. بَسّ حضرتك اللي خَلّتني أعمل كِدة، لكن لو كُنت لوحدي كنت هتردد وأخاف!



ابتسم "عُديّ" ابتسامةَ مَن يعلم مُسبقاً بالسؤال، قبل أن يُريح ظهره للكُرسيّ مُجيباً على شَتات الصَّغير بهدوءٍ ولُطف:
- مش عِيب إنَّك تِحسّ بتردد أو خوف، لكن العيب إنَّك تسيبه يسيطر عليك!
أنا مُجرَّد إني ساعدتك تتخلص من خوفك، وأنتَ اللي كَمّلت الباقي.. لأنك شاطر وشُجاع، يا أبو عينين زَرقا!



أنهىٰ "عُديّ" حديثه، بغَمزةٍ عابثةٍ من عينه.. فابتسم على إثرها الصَّبيّ باتساع!



ثوانٍ من الصمت، قبل أن يسأله "يُوسُف" بحماس:
- اه صح، مقولتليش هنعمل ايه النهاردة؟



انتقلت عَدوىٰ الحماس لـ"عُديّ"، الذي أجابه بابتسامةٍ هادئة:
- هنروح زيارة بِرّ والِدك، والباقي مُفاجأة لجميل الاسم والمَلامح.



هزَّ "يُوسُف" رأسه علامة الموافقة، على حين هدأ قلبُ "عُديّ" إثر قَوله "بِرّ والدك"!
وقد كان يُقاوِمُ نَفسه في كُلِّ زيارة..



أجزاءٌ مِن قَلبه تُخبره أنّ "شِهاب" لا حَقَّ له في "يُوسُف".. بَعد جَفائه وقسوته مَعه!



والجُزءُ المُتبقّي يُحاوِل التغلّب على الأجزاء الأُخرىٰ، لأنّه لن يَكون أباً صالِحاً لـ"يُوسُف" إن لَم يُشجِّعه على صِلَةِ وبِرّ والِده!



ناهيكَ أنه كَما تَدينُ تُدان، وكَما أنَّه يُريدُ مِن "يُوسُف" أن يبرَّه ويُحِبَّه إلى أبدِ الآبدين.. سيحثُّه على طاعةِ الله في بِرِّ والده!



_______________



كانَ "عُديّ" جالِساً على أريكة غُرفته، يحتسي الشاي الذي أعدّه ريثما ينتهي "يُوسُف" من ارتداء ثيابه للخروج..



ثوانٍ، حتى سمع "عُديّ" طَرق الباب، تلاه فتحه ودخول "ريتاچ" للغرفة..
تَبعها "عُديّ" بعينه، إلى أن جلست بجانبه على الأريكة.. صامِتةً واجِمة!




        
          
                
- ايه اللي مضايِقك، أنا بحب أسمعِك!



قالها "عُديّ" بهدوءٍ ولُطف، وهو يُوليها قلبه واهتمامه قبل جوارحه.. 
مُحتضناً كَفَّها بين يديه بحنانٍ حازِم.. في إشارةٍ مِنه أنها رُوحه، ولا أحد يبتعدُ عن روحِه!



فابتسمت هي ببعض التأثر والخجل من لُطف حديثه، قبل أن تتنهّد بثِقَل، قائلةً بخفوت:
- مش متضايقة، لكن مش حابّة مُقابلات "يُوسُف" وباباه! لأسباب كتيرة أوي، أوّلها إن "شِهاب" كان بيؤذيه نَفسياً وبدنياً!



صمتت لثوانٍ، وصمتَ معها الآخر بقلة حيلة.. قبل أن تُكمل "ريتاچ" حديثها ولمعةُ دموعٍ تتلألأ داخل عسليّتيها:
- عشان خاطري يا "عُديّ"، لو فعلاً بتحب "يُوسُف" متخليهوش يقعد مع باباه تاني!



تزامنت نهاية جُملتها، مع هطول دموعٍ غزيرةٍ من عينيها، وشهقاتٍ خافتةٍ تصدرُ مِنها!



انقبض قلبُ "عُديّ" لمنظرها وهي حزينةٌ تبكي، فأسرع يحتضنها بقوّةٍ، وهو يهمسُ لها بكلماتٍ تُهدّئها.. ويده تمسحُ على ظهرها بحنانٍ ولُطف!



قبل أن يبدأ حديثه بهدوءٍ أقرب للخفوت:
- والله أنا عشان بحب "يُوسُف"، فا بخلّيه يقعد مع باباه!



ابتعد عنها قليلاً، مع إمساكه بكفّها بإحكام.. إلا أنّه رأى داخل عينيها عدم اقتناع، فأكمل قائلاً:
- احنا دلوقتي بنزرع جوّاه أنه يسمع كلام ربنا، في حاجة بسيطة زي بِرّ أبوه اللي كان بيعامله وِحش.. لعلّ وعَسىٰ الزَرعة دي تتردّ لينا، ويبرّنا واحنا كُبار..
أو تفيده في حياته، ويبقى هو اتعوّد على تنفيذ أوامر ونواهي الله، حتى لو كانت بالنسبة ليه ثَقيلة، أو ضِدّ هَواه وما يُحبُّه.. فهمتيني يا "ريتا"؟



أخرجت هواءً ثقيلاً، قبل أن تسمعه يقول بنبرةٍ مازِحة:
- شوف يا أخي السِتات! لازم أيّ حاجة يقلبوها قلق وعياط وحاجة آخر نَكد والله!



نظرت له بحاجبين ارتفعا، قبل أن تستعدّ للقيام بصمتٍ غاضب، فأسرع "عُديّ" بإمساك كَفَّها جاذباً إياها بالقُرب منه، قبل أن يهمس أمام وجهها بابتسامةٍ جميلة:
- يعني ده يكون جزائي إني بحاول أضحكك؟ تقومي وتسيبيني؟! طب وقَلبي!



- بابا أنا جهـ.. ايه ده! بابا "عُديّ" أنتَ هتضرب ماما؟



أنهى بها "يُوسُف" حديثه بحاجبين معقودين، وهو يرى "عُديّ" يتحدّثُ بهمسٍ لوالدته..



صُعق "عُديّ" من تفكير الصبيّ، فأسرع يقول له:
- أضربها؟! أنتَ دماغك دي منين يا بني! 



بينما أسرعت "ريتاچ" تقول لابنها بنبرةٍ مُعاتِبةٍ، وهي تنظرُ بغيظٍ تجاه "عُديّ":
- "يُوسُف" كدة عيب، اعتذر لبابا بسرعة! 
هو بابا عُمره ضربني أو حتى رفع صوته عليَّا؟!



شعر الصَّبيُّ بالندم لما قاله، فاقترب من "عُديّ" قائلاً بصوتٍ منخفض:
- أنا آسف يا بابا "عُديّ"، مكانش قصدي أقول كدة، بس أصلي افتكرت حاجة قديمة.




        
          
                
عَلِم "عُديّ" ما تذكّره، بينما يشعرُ بنظراتِ "ريتاچ" الحارقة تجاهه بمعنى "ألم أُخبِرك؟!"



إلا أنّ "عُديّ" أمسك بيد الصَّبيّ، ثم رفعه قليلاً ووضعه على حجره..
وبعدها أمسك بيد "ريتاچ" وأجلسها بجانبه.. قبل أن يقول بهدوءٍ، وهو يُوزِّعُ نظراته بين الاثنين:
- وأنا عُمري أبداً ما أرفع صوتي، أو أمدّ إيدي سواءً عليك، أو على والدتك.. اللي هي مراتي وحبيبتي كمان!
القَديم هيفضل قَديم.. اتفقنا يا جميل الاسم والمَلامح؟



أومأ الصَّبيُّ برأسه علامة الموافقة.. فابتسم له "عُديّ"، مُستأذناً منه حتى يرتدي ثيابه، ويذهبا لتِلك المُقابلة..



_______________



- ازيَّك يا "يُوسِف"؟ عامِل ايه؟



بدأ بها "شِهاب" حديثه، بعدما تركهما "عُديّ" جالِساً على طاولةٍ أخرى قريبةٍ منهما.. فأجابه "يُوسُف" بنبرةٍ هادئةٍ، أقرب للفتور:
- الحمد لله، حضرتك عامل ايه؟



هَزّ "شِهاب" رأسه، وهو يُجيبه بالحَمد.. ثم سادَ الصَمتُ بينهما، اللهم إلا من أسئلةٍ مُتباعدةٍ يسألها الأبُ لابنه.. كنوعٍ من الروتينيةِ وعدم وجودِ شَيءٍ يتحدثُ فيه مع صغيره!



ثوانٍ أخرى، وجاء النّادِلُ بقائمة المشروبات والمأكولات في كافيتريا النادي.. فأمسك "شِهاب" بها، قائلاً بلهجةٍ بِها بعضُ الحماس -المُصطنع-:
- تِشرب ايه ولا تاكل ايه؟ بُصّ، هجيبلك عصير فراولة!



شعر "يُوسُف" بضيقٍ وحُزنٍ كَسيا قلبه، وهو يُجيبُ على والده بفتور:
- أنا عندي حساسيّة من الفراولة!



بُهِت "شِهاب"، وشعر بالوُجومِ! 
رُغم أنّ رَدَّ "يُوسُف" لَم يتجاوز الخمس كلمات، إلا أنّ تلك الكلمات لَخَّصت الكَثير في علاقة "شِهاب" بابنه!



- طب بلاش الفراولة خالص، تِحبّ أجيبلك تشيز كيك، ولا آيس كريم؟



قالها "شِهاب" وهو يضحكُ بافتعال، في مُحاولةٍ مِنه لإزالة حرجه.. فاغتصب الصَّغيرُ ابتسامةً، وأجابه:
- شُكراً، لسة متغدّي في البيت قبل ما آجي، وماما كانت عاملة لينا بسبوسة.



ويكأن "شِهاب" شعر أنَّ الصَّبيّ يُغلِقُ الحَديث مَعه.. فبالأحرىٰ، كيف سيتعاملان كأي أبٍ وابنه، بَعد كُلِّ ما حَدث؟!



_______________



- بابا "عُديّ" ممكن نروّح؟



قالها "يُوسُف" بخفوتٍ وفتورٍ كَسيَا روحه قبل نبرة صوته..
ناظره "عُديّ" بصمتٍ دام ثوانٍ، قبل أن يتنهَّد قائلاً بابتسامة هادئة:
- تعالىٰ نقعد نتكلم شوية قبل ما نروّح، مش همشيّك من هنا غير وأنتَ بتضحك بإذن الله!



جلس "يُوسُف" على الكُرسي المُجاوِر لـ"عُديّ".. فقام الأخيرُ بتقريب الكُرسيّ مِنه، ثم شرع يتحدَّثُ إليه، ويمزحُ مَعه.. يَضحكُ مَعه، ويَستمعُ مِنه..
دقائق، وطلب من النادل أن يجلب لهما مُثلّجات بالفانيلّا والشوكولاتة..




        
          
                
وبَعدما تناولا المُثلّجات بين مُزاحٍ من جانِب "يُوسُف"، وسُخريةٍ لذيذةٍ من "عُديّ" على اتساخ جانب فَم الصَّبيّ إثر المُثلّجات..
أصرَّ "عُديّ" أن يأخذ "يُوسُف" ناحية الألعاب..



_______________



حيثُما كان واقفاً بالقُرب من تلك اللعبة الكبيرة، ينتبه إلى "يُوسُف" حتى ينتهي من القفز والمرح مع أقرانه..
أخرج "عُديّ" هاتفه، وأجرىٰ اتصالاً بـ"شِهاب"..



- خير، حصل حاجة لـ"يُوسِف"؟!



بدأ بِها "شِهاب" المُكالمة، فتمالك "عُديّ" أعصابه بجهدٍ، وأجابه بهدوءٍ أقرب للبرود:
- "يُوسُف" زي الفل، باستثناء أنه سيادتك مش مُهتم بيه كما يجب، وده بيخلي نفسيته مش أحسن حاجة!



كاد "شِهاب" أن يُبرر ويتحدث، إلا أن الآخر قاطعه قائلاً بحَزم:
- لو سمحت حَسِّن علاقتك شوية بابنك، أنا بحاول بقدر استطاعتي إني أخليه يسأل عليك، وييجي يقابلك، رغم إن هو مش حابِب كدة!
أنتَ كمان ساعِد يا أخي! شوفه بيحب ايه، بيتضايق من ايه.. مين أصحابه، ايه المواد اللي بيحبها!
خلّيك ذَكي، واخلق حِوار ومواضيع واهتمامات مُشتركة بينكم، بحيث أنه زيارتكم متبقاش تقيلة بالنسبة له!



يعلمُ الله وحده ثِقَل ذلك الحديث على قلب "عُديّ".. إلا أنّه جَدد نواياه بأنه على الأقل، لا يرغبُ بإحباط وإحزان الصَّغير من تبعات تلك المُقابلات البسيطة!



ما إن أغلق "عُديّ" مُكالمته مع الآخر، حتى وجد "يُوسُف" قد أنهى ارتداء حذائه، ووقف بجانبه وقد لاحَ أثرُ فقد الطاقة على ملامحه..



ابتسم "عُديّ" باتساع، قائلاً بمُزاحٍ وهو يُبعثرُ شعر الصَّبيّ بلُطف:
- ايه الدنيا دلوقتي؟ لِعبة تانية؟



هَزَّ "يُوسُف" رأسه عِدّة مراتٍ علامة النفي، قائلاً بصوتٍ مُجهَد:
- أنا دلوقتي مش عايز غير آكل وجبة ضـخـمـة، وأنـــام نـــوم عَميـــق!



عَلَت ضَحكات "عُديّ" إثر إطالة "يُوسُف" لآخر كلماته.. قبل أن يُجيبه بابتسامةٍ واسِعةٍ، وهو يُمسكُ بيده مُتحركاً من المكان:
- واحنا عينينا ليك! وهو احنا يعني عندنا كام جميل اسم ومَلامح غير "يُوسُف" حبيب قلب "عُديّ"؟!



ثَبَّت الصَّبيُّ زرقاوتيه على وجه صديقه بامتنانٍ وحُبّ.. وقبلهما شُكرٌ للخالِق أن رَزقه بـ"عُديّ"!



وبَعد مُرور نصف ساعة، وبينما كان الصديقان ينتظران الطَّعام في صالة المَطعم، تَحدّث "عُديّ" بسُخريةٍ ومُزاح:
- شوف، رغم إن الأوردر ده هيخرب بيتي، وهنعيش طول الشَّهر على الجبنة البيضا والخيار.. بس والله فِداك يا عم!



قهقه "يُوسُف" بِخفّةٍ، قبل أن يسمع تمتمة "عُديّ" الذي شَرَد، قائلاً بابتسامة هادئة:
- والله فِداكُم كُلُّكم أيّ حاجة، المُهم تبقوا مرتاحين ومبسوطين.. وخصوصاً رُوحي أُم عيون عَسلي مشوفتش في جمالهم، أنا أصلاً من غيرها ولا حاجة!



انتبه "عُديّ" أخيراً أنه قد تَحدَّث بصوتٍ سمعه الصَّبيّ، فأخبره بجِدّية مُضحكةٍ أنّ هذا سِرّ، وألا يُخبر والدته بشيء!



إلا أنَّ الصَّبيّ ابتسم بخُبث، بِنيَّةٍ منه أنه سيُخبرُ والدته بحديث "عُديّ" اللطيف عنها.. 



يَبتلينا الله بفُقدانِ شَيءٍ، ليرزقنا بشيءٍ أفضل وأخيَرَ مِنه، لَنا!
هذا ما حَدَث مع هذان الثُنائيّ اللطيف.. 
كُلٌّ مِنهما -لا إرادياً-، يُكمِلُ الآخر، ويملأ الثَّغر الخاوي عِنده!



بِكُلِّ لُطف..
بِكُلِّ حَنان..
وبِكُلِّ الـحُـبّ!

  

google-playkhamsatmostaqltradent