رواية خطان لا يلتقيان الفصل الثالث عشر 13 - بقلم رغد ايمن
13- كأسٌ، دوّارة!
"من الاغترار أن تُسيء، فيُحسن الله إليك، فتترك التوبة توهماً أنك تُسامح في الهفوات!".
- أبو علي الروذباري.
_______________
صَعدَ "عُديّ" على السُلَّم، ورُغماً عنه لا تُبارحه تلك الرِّسالة التي أرسلها له ذاك الحقير!
يعلمُ الله وحده حجم المُجاهدة التي يُجاهِدُ بها شيطاينه، كي لا يُصدِّقَ حرفاً منها..
ورُغماً عنه أيضاً لا يدري حقاً، فهو بالفعل لا يعلمُ الكثير عن "ريتاچ"!
كان الحنقُ هو ما يتملَّكُ مِن جوارحه، وهو يفتحُ باب الشَّقة بمُفتاحه.. حتى أنه نَسي أن يرنّ الجرس ككلِّ مرة..
ولكن، من يلومه لانشغال ذِهنه؟!
ألقى السَّلام بصوتٍ عالٍ، حتي يُنبّه أفراد المنزل..
ثوانٍ، ووجدَ "يُوسُف" يركضُ نحوه بحماسٍ سعيد..
وفي ثوانٍ أيضاً، ألقىٰ "عُديّ" همومه بعيداً، وهو يلتقطُ الصغير، حامِلاً إياه.. قبل أن يُقبّله قُبلاتٍ مُتفرّقاتٍ بأنحاء وجهه..
كان الصغير يُخبره أنه فعلَ كما أخبره، وأنه أنهىٰ مُذاكرته وواجِباته..
وما كان من "عُديّ" إلا أن يبتسم بوجهه، ويصيحُ مُفتخراً بإنجازاته الصغيرة مِثله..
قبل أن يسأله:
- امّال فين ماما يا "يُوسُف"؟
وما كادَ يُنهي آخر حديثه، حتى رأى "ريتاچ" تخرجُ من الدّاخل..
ويا وَيلَ قلبه من مَظهرها!
شعرٌ أسود مُجعّدٌ بعض الشيء، وقد ظهرت عيناها العسليّتان أكثر، بذلك الكُحل الذي زيّنته بِهما..
مَظهرٌ بسيطٌ جِداً، إلا أنه سَرقَ أنفاسه وقلبه!
رُبَّما لأنها أوّل مرّةٍ يراها بشعرها، وتضعُ ذلك الكُحل الذي أُغرم به!
ابتلع ريقه، وهو يُسلِّمُ عليها بابتسامةٍ، وعينان تَجولان بكُلِّ راحةٍ على مَظهرها..
ناسياً أو مُتناسياً، ما أخبره به "شهاب".. والمبلغ المَطلوب!..
انسلَّ "يُوسُف" من بينهما بخُبثٍ، يعودُ للداخل..
فنظر "عُديّ" لأثره، وهو يضحكُ.. قبل أن يعود لينظر لها، وتحديداً عسليّتيها..
استجمع حروف اللغة، ونَحّى تردده وحرجه جانِباً.. مُظهِراً شخصيّة "عُديّ" المُخبّأة، وهو يقول بهمس:
- Merde, je suis tombé amoureux de tes yeux.. Y a-t-il un sauveur?
(تباً، لقد وقعتُ بعِشق عينيكِ.. فهل من مُنقِذ؟).
لم تفهم "ريتاچ" بالطَّبع ما قاله، إلا أنها رجّحت أنه يمدحها، بسبب نظراته ونبرة صوته الهامِسة..
فاحمرّت وجنتاها..
ابتسم هو باتّساعٍ على خجلها، ويكأنها ليست أمّاً لطِفل!
أنهىٰ "عُديّ" سيادة الصَّمت، قائلاً بهدوء، بعدما أعادَ له شيطانه كلمات تلك الرِّسالة الحقيرة:
- بعد ما نتغدّى، حابب أتكلم معاكِ في كام نُّقطة كدة.
أومأت له "ريتاچ" برأسها، وهي تقول ببعض الحماس:
- أنا كمان عايزة أقولك حاجة مُهمة!
نظر لوجهها لثوانٍ، قبل أن يومئ برأسه بصمت وابتسامة فاتِرة بعض الشيء..
قبل أن يتّجه بخطواته لغرفته..
_______________
- اشجيني، كنتِ هتقولي ايه؟
قالها "عُديّ"، وهو يجلسُ بجانبها على الأريكة بغُرفته، يُولي إياها جُلَّ اهتمامه..
ورُبَّما أيضاً كُلَّ قلبه!
فشعرت "ريتاچ" بالحرارة تكسو وجنتيها..
لِمَ الحديثُ صعبٌ هكذا؟!
كانت ستُخبِره أن يستمرّا، ولكن حروفها قد احتُبست!
رَبّت "عُديّ" على كفّها، يُنبّهها..
فحمحمت، قبل أن تقول ببعض التوتر والحرج:
- كنت يعني.. قصدت أقول.. بُص، أنا بقترح إنه يعني منتطلّقش بعد ما المُشكلة تِخلص!
راقَب "عُديّ" اضطرابها، وعسليّتيها اللتان تهربُ بِهما عَنه.. بابتسامةٍ هادئةٍ، ظلّت حبيسة قلبه!
فَكّر لثوانٍ، أنه من المُستحيل أن تكون تِلك الخجول في اعترافٍ ما.. هي ذاتها الـ...!
- "ريتاچ" أنا بحبّك فِعلاً!
جُملةٌ قالها "عُديّ"، أشعرت "ريتاچ" أن قلبها توقّف عن النبض لثانيتين!
لِمَ هي بحاجةٍ لمزيدٍ من الهواء؟!
لِمَ أصبحت تشعر بحرارةٍ طفيفة؟!
ولِمَ تشعرُ أنّ قلبها يتراقصُ طرباً مع جُملته؟!!
أما عِند "عُديّ"، فقد كان يُراقبُ صدمتها وعسليتيها المُتّسعتين.. باستمتاعٍ وبعض السعادة..
فأكمل بمرح:
- طب ايه، مش هتُردّي عليا بأي حاجة خالص؟!
لوّحت بكفّها الذي لا يُمسكه، أمام وجهها.. قبل أن تُجيب ولازالت آثارُ الصَّدمة عليها:
- يعني، وأنا كمان.. هما بيردّوا يقولوا ايه طيب!
ارتفعت ضحكاته عليها، ضحكاتٍ صدرت من أعماق قلبه ولا شَكّ!
قبل أن يحتضن كفّيها بين يديه بحنانٍ، ويقول بهدوء:
- بما إني قولت اللي عندي، وأنتِ قولتي اللي عندك.. حابب آخد رأيك في رسالة كدة وصلتني.
لم تعلم، لِمَ انقبض قلبها..
شعرت أن ما يقصده هو شيءٌ سيء!
وتأكد ظَنّها، هي رأت رسالة الحقير "شهاب"، وهو يقول:
"حبّيت بس أنبّهك، عشان احنا رجّالة زي بعض.. وبردو عشان تتأكد قبل ما تدفع اللي هتدفعه عشان تحميها
واللي متعرفوش، إن "ريتاچ" دي أصلاً كانت بتتساهل كتير مع الشباب وقت الجامعة، وكمان بعد ما اتجوّزنا..
أنا عرفت ازاي؟ يباشا كنا مع بعض في نفس الجامعة، وأنا كنت بكلمها والدنيا عادي"
شعرت "ريتاچ" إثر تلك الرِّسالة، أن دَلواً من الثَّلج قد سُكِب فوق رأسها بكُلِّ قسوةٍ وعدم اكتراث!
أعادت الهاتِف لـ"عُديّ"، وهي تُناشِده بعينيها ألا يكون قد صَدَّق ما قاله ذاك الحقير..
ولم يُكَذِّب "عُديّ" خَبراً، وأسرع يقولُ بنبرته الهادئة الرخيمة:
- أوعي تُشكّي بس لثواني، إني هصدّق حرف واحد قاله الحقير ده عَنّك..
أسلوبه واضح جِدّاً، أنه بيحاول "يرمي بلاويه على الناس الكويسين".
الآن تستطيعُ "ريتاچ" أخذَ أنفاسِها بكُلِّ أريحيّة..
فأكمل "عُديّ" وهو ينظرُ لسريره ببعض الشُّرود:
- بس أكيد فيه سبب أنه يعمل كدة.. ليه يا "ريتاچ" ها؟
كان بجُملته تِلك، ويكأنه يُحفّزها على الدِّفاع عن نفسها..
وقبل أن تتكلم هي، قال وهو ينظرُ لعُمق عينيها:
- حابب أسمع مِنك، عشان بكره الخِداع.. ومُستحيل أيّ عِلاقة تُبنى على ذرّة شَكّ أو خِداع!
ساد الصمتُ لثوانٍ طويلة، ظَنّ فيها "عُديّ" أنها لن تتحدّث..
إلىٰ أن قالت بخفوت، وبعض التحشرج ظهر بنبرة صوتها:
- أنا و"شهاب" كُنا مع بعض في نفس الكُلّية.. كُنت مُعجبة بيه، شخص وسيم ولبسه مُهندم وتعامله شِيك..
كُنت بعيدة عن ربنا، ومكانش عندي أصحاب يوجّهوني أو ينصحوني..
صمتت تبتلعُ ريقها، وما يزالُ "عُديّ" يستمعُ لها..
يعلمُ تماماً سير الأحداث لتِلك البداية، ويُحاوِلُ جاهِداً أن يتمالك أعصابه وغضبه وغيرته التي بدأت تطفو..
- المُهم أنه في مرة كان بيسأل عن تلخيص لمادة مُعينة.. فا أنا بعتهاله برايڤت..
وطبعاً مرة في التانية بدأت المواضيع تخرج عن إطار الدّراسة، ومرة في التانية بردو بدأت المواضيع تتجه ناحية المشاعر.
قالتها "ريتاچ"، وقد بدأ صوتها يتغيّر صَوب البُكاء..
فلم يجد "عُديّ" بُدّاً، سِوى التربيت على ذراعها بلُطف.. وهو يُقاوِمُ جاهِداً، كُلّ المشاعر السلبية..
أكملت ببكاء:
- تعامله كان كويس معايا، بجد مش عارفة ليه اتغيّر كدة بعد الجواز..
كُل حاجة شَكّ، وجفاء، وقسوة.. بجد بكرهه، وبكره اليوم اللي عِرفته فيه!
زفر "عُديّ" الهواء من صدره بثِقَل..
الآن عَرَف الإجابة!
ضغط على كَفّ "ريتاچ" بمواساة، وهو يُذكّرُ نفسه أنها الآن ليست بحاجةٍ لتأنيب.. بل لتوضيح..
فقال بخفوت:
- الإجابة بكُلّ بساطة يا "ريتاچ".. (العِلاقات التي تبدأ بما لا يُرضي الله، تنتهي بما لا يُرضي أصحابها)..
مش هنتكلم كتير في النُّقطة دي، لأني أعتقد إنك عرفتِ أنه ما بينكما قبل الزواج ده كان حرام، وربنا مش راضي عنه!
- طب أعمل ايه؟ أنا تِعبت وزِهقت بجد!
قالتها بقِلة حيلة وقهر، فتنهّد مُجيباً عليها:
- جدّدي تَوبتك يا "ريتاچ".. جَدِّديها وادعي لربنا ﷻ، يغفرلك اللي فات، ويتوب عليكِ..
وربنا رحيم عفوّ غفور، وبإذن الله يتوب عليكِ ويغفر ليكِ، طالما طلبتِ العفو.
كلماتٍ بسيطة قالها، كانت بمثابة ضِمادٍ شافٍ لآلام قلبها!
ما يزالُ ذلك الرجلُ يخترقُ قلبها، من أوسع أبوابه!
لم ينتظر ردّاً مِنها..
ولكنها فاجئته، وفاجأت قلبه.. باحتضانه بقوّةٍ، وهي تُبلل كتفه بدموعها الدافئة..
وفي الواقع لم يُمانِع إطلاقاً..
بل لَفّ ذراعه، يمسحُ على ظهرها بحنانٍ ولُطف!
رُغم شعوره ببعض الضِّيق من ماضيها، إلا أنها بحاجةٍ للتربيت على قلبها في تلك اللحظة..
وبالتأكيد لن يُمانِع من فِعل ما تحتاجه "رُوحه"!
يُتّبع...
*****
- يتبع الفصل التالي اضغط على (خطان لا يلتقيان) اسم الرواية