رواية الماسة المكسورة الفصل الثاني و السبعون 72 - بقلم ليلة عادل
رواية الماسة المكسورة الحلقة الثانية والسبعون
[ بعنوان: حين لم يعد التراجع ممكناً ]
قسم قنطرة شرق، الثامنة مساءً
وصل عمار وأصدقاءه إلى القسم، يقفون أمام مكتب الضابط، نظراتهم متوترة وصمت ثقيل يخيم عليهم.
الضابط جالسًا في مكتبه، ينظر إليهم بتعبير لا يُقرأ وهو يمسك البطاقات الشخصية بين يدة.
رفع عينيه تسال وهو يشير بيدهر: الشنطة دي بتاعة مين؟
رامي بسرعة: الشنطة بتاعتي يا باشا، لكن الحاجة اللي جواها مش بتاعتي.
الضابط اتكأ للخلف: أمال بتاعة مين يا رامي؟
رامي تهرب بنظره: والله ماعرف، إحنا كنا أربعة في العربية.
الضابط لف وجهه لباقي الشباب وسأل: حد فيكم يعرف الشنطة فيها إيه؟
نظر الجميع لبعضهم، ثم قالوا في صوت واحد: إحنا مانعرفش حاجة يا باشا، ملناش علاقة بيها.
قال أدهم فجأة: الحاجات دي بتاعة رامي.
الضابط: متأكد؟
أدهم بتأكيد: أيوة.
رامي مسرعًا: ده كذاب، يمكن هو وملبسها فيا.
الضابط: عندك أدلة على كلامك يا أدهم؟
أدهم هز رأسه بلا: لا.
الضابط نظر إلى عمار ودياب وسأل: طب حد فيكم عارف حاجة؟
دياب نظر لأدهم مستغربًا: إحنا ماشفناش حاجة والله، بس الحاجة مش بتاعتنا.
عمار بتأكيد: والله يا باشا إحنا منعرفش أي حاجة.
الضابط بهدوء، تمتم: يعني انتم مصممين على أقوالكم؟ وإنت يا أدهم، مصر إن الحاجة بتاعة رامي؟ وإنت يا رامي مصر إنها مش بتاعتك؟ وانتوا الاتنين مصرين إنكم ماتعرفوش حاجة؟
أومأ الجميع برؤوسهم، صمت متوتر يملأ الغرفة.
الضابط ببرود قاتل: طب تمام، حلو أوي كده، كل الكلام ده تقولوه في النيابة بقى، وهي اللي تحدد.
رفع رامي صوته بتحد غاضب: إنت عارف إحنا ولاد مين؟!
ابتسم الضابط بسخرية: ولاد اللي ولاده يا حبيبي، أنا هنا بنفذ القانون، مش بدوّر على نسبك.
رفع عمار يده باحترام: ممكن اعمل مكالمة؟ مكالمة واحدة بس.
أومأ له الضابط بالموافقة، أخذ عمار نفسًا عميقًا، عقله يدور بين الأسماء: سليم؟ ماسة؟ لا… بعد لحظة حسم، اتصل بسعدية.
فتح الخط وقال بصوت مرتبك: ألو… ماما؟
جاء صوت سعدية من الإتجاه الآخر وهى تجلس على المقعد بهدوء: إيه يا عمار ؟! لسه بالطريق؟
عمار بتوتر: ماما… أنا في القسم.
توقفت سعدية، وارتفع صوتها فجأة مذعورًا: يا لهوي! القسم ليه؟!
حاول عمار تهدئتها: ماما بالراحة، ماتصرّخيش كده، اسمعيني بس.
صرخت سعدية بهلع وهي تتحرك في الصالون: أسمع إيه؟! أعمل إيه دلوقتي؟! الله يسامحك يا بني، أقول إيه لأبوك العيان ده.
عمار بسرعة: ماما، أنا عايز محامي.
اهتزت سعدية بتوتر: هجيبلك محامي إزاي؟! أنا مش عارفة أعمل إيه، قلبي هيقف! عملت إيه؟! إنت فين؟
عمار وهو يمرر يده في شعره: في الإسماعيلية، قسم أول قنطرة شرق، متاخد في مخدر،ات.
شهقت سعدية: مخدرا،ت؟! يا لهووي يا لهوي!
عمار موضحًا: مش بتاعتي والله! هاتلي محامي بس، شوفي سلوى.؟
سعدية وهي تنهار: اقفل! اقفل!
أغلقت الهاتف، يدها ترتجف، والخوف ينهش ملامحها، اخذت تتحدث مع نفسها، تدور في الصالون بعشوائية: أعمل إيه دلوقتي؟!
ظلت تهز بالهاتف بين يديها، تشعر أن قلبها على وشك التوقف وهي تقول: أكلم مين؟ سليم؟ البت مزعلاه، الله يسامحك يا بني… طب أطلع لمجاهد؟ والله يطب ساكت.
فجأة توقفت، كأن ضوءًا ضرب عقلها: أكلم مكي… صح، مكي.
اتصلت بسرعة، وعندما رد، قالت بصوت مرتجف: ألو؟ أيوه يا مكي، أنا آسفة، قلقتك.
جاءها صوت مكي هادئًا من الحديقة القصر: ماتقوليش كده، حضرتك تكلّمينى في أي وقت.
سعدية تكاد تبكي: معلش يا بني، الولا عمار اتاخد في القسم! مش عارفة أعمل إيه!
تجمد مكي قائلا بذهول: في القسم ليه؟!
سعدية وهي تلهث: معرفش والله، بيقول لقوا مخدرا،ت بس مش بتاعته، كان مسافر مع أصحابه، مش عارفة أقول لمجاهد إيه؟! ويوسف صغير، مش هيعرف يعمل حاجة، معلش يا بني، والنبي شوفه.
مكي محاولًا تهدئتها: اهدي كده خالص وعد إنه هيبات عندك النهاردة، وماتجيبيش سيرة لعمي مجاهد.
سعدية بصوت منكسر: أنا مش هنام! والنبي يا مكي، طمّني عليه، أنا مش قادرة حاسة قلبي هيقف.
طمأنها مكي: لا، اهدي خالص ماتقلقيش، عرفتي هو فين بالضبط؟
سعدية وهي تبكي: قاللي، إسماعيلية قنطرة حاجه كدة مش فاهمة.
مكي: طب أقفلي واهدي، ماتقلقيش.
أغلق الخط معها، والتفت فورًا إلى هاتفه، واتصل بإسماعيل.
بنبرة حازمة: أيوه يا إسماعيل؟ اصحى وفوق دلوقتي حالًا، تعرفلي عمار أخو ماسة في أي قسم في قنطره؟ متاخد مخدرا،ت أنا هكلم سليم… لا، ماعنديش أي معلومات.
💞_________________بقلمي_ليلةعادل
في جناح سليم وماسة
كان الصمت سائدًا كأنه سحابة ثقيلة خنقت أنفاس الغرفة، سليم ممدد على الأريكة، عيناه نصف مغمضتين، بينما جلست ماسة على الفراش، ضامّة ساقيها إلى صدرها، رأسها منحنٍ على ركبتيها، وجسدها يرتجف بصمتٍ لا يُحتمل، بعد عودتها من منزل عائلتها لم تكن عادية، ورفضهم لفكرة الطلاق زاد من اختناقها.
رن الهاتف فجأة، فقطع الصمت كطعنة في نسيج الروح، رفع سليم الهاتف، نظر إلى الشاشة، ثم أجاب بصوت مبحوح: أيوه يا مكي، عايز إيه؟
جاءه صوت مكي مترددًا، يحمل نذيرًا لا يُطمئن:
عمار محبوس في القسم!
جلس سليم منتصبًا فجأة كأن صاعقة ضربته: إيه؟! عمار في القسم؟! بيعمل إيه؟!
لم تكن ماسة بحاجة سوى إلى سماع الاسم انتفضت من مكانها، عيناها اتسعتا، وجسدها ارتعد: عمار؟! مالُه؟!
نهض سليم مسرعًا، وأشار بيده محاولًا تهدئتها: اهدي، خليني أفهم.
اقتربت منه، قبضت على يده كالغريق، نظراتها تستنجد، وصوتها يختنق في حنجرتها: ماتَخبّيش عني قولي! عمار ماله!
حاول سليم أن يبقي نبرته هادئة: معرفش حاجة لسه… اصبري خليني أفهم.
لكن ماسة، تملك بها الخوف، صاحت بدموع وذعر: في القسم؟! ليه؟! ليه؟!
سليم بنبرة تحمل طمأنينة: يا حبيبتي اصبري، سبيني أفهم، اصبري لحظة.
عاد إلى الهاتف، وضعه على أذنه مجددًا: ايه يا مكي، عرفت حاجة؟
تنهّد مكي: لسه، كلمت إسماعيل أول ما يعرف هيتصل بيا.
سليم: طب هلبس وأنزل لك.
أغلق الخط، التفت إلى ماسة، نظر إليها بعينين تحاولان أن تمنحاها الأمان: بصي، أنا لسه مافهمتش، ومكي كمان مش عارف حاجة، هنزل أروح له، ماتقلقيش… حتى لو قاتل قتيل، هخرّجه لك. اصبري، متخافيش.
كانت ماسة تائهة في دوامة من الذعر، تتلفت حولها كأن الجدران تضيق عليها دموعها تغشي الرؤية، وعقلها لا يعرف للسكينة طريقًا، فكرة واحدة تسيطر على كيانها: رشدي، خلف ما حدث؟ هل بدأ يُنفذ تهديداته؟
بصوت مبحوح، متلعثم، بالكاد يُسمع: يعني إيه مافيش؟! يعني إيه مافيش؟! أخويا اتحبس؟! بسببي؟! هو كمان؟!
دارت الدنيا بها خفتت رؤيتها، وضاق صدرها عن تنفس الهواء، وقبل أن ينطق سليم بكلمة أخرى، انهارت على الأرض مغشيًا عليها من شدة الهلع.
اتسعت عينا سليم، وصاح بقلق رجولي لا يخلو من الذعر: مــــاسة!
أسرع نحوها، حملها بذراعيه إلى الأريكة، هرول إلى التسريحة، التقط زجاجة عطر، عاد إليها رشّ على يده منه، وعاد يمرره تحت أنفها: ماسة فوقي، يلا افتحي عينك يا عشقي، يلا
بعد لحظات، بدأت تتنفس ببطء، فتحت عينيها تدريجيًا، فتنهد سليم بارتياح، همس إليها بلطف: ها، يا حبيبتي؟ فوقي بالراحة، ماتخافيش اهدي مالك بس فيكي ايه؟!
ماسة وهي تمسك بيده ببكاء يائس: وحياتي يا سليم تخرّجه معملش حاجة، أنا متأكدة، والله متأكدة!
ثم وضعت يدها على صدرها تبكي بحرقة ودموع تتوسل: ورحمة حور خرّجه، أرجوك.
ضمّ سليم وجهها بكفيه، ونظر في عينيها مباشرة:
بس اهدى خالص بـــس هشششش، أكيد هخرّجه، متخافيش هيبات النهارده معانا هنا وعد، إيه الخوف ده كله؟
نظرت إليه بضعف، عيناها ترتجفان، ثم ارتمت على صدره تبكي كمن أُنهك حتى لم تعد الدموع تكفيه.
ضمّها سليم إليه، بينما عقلُه مشغول، يتساءل بصمت:
ما الذي أصابها؟ لماذا هذا الهلع؟ هناك شيء يتجاوز عمار وحادثه والدها، شيء لا يُقال، لكنه حاضر في كل تفاصيلها.
همس لها وهو يربت على ظهرها: عشقي، اهدي، ماتخافيش مش سليم وعدك؟
ابتعدت عنه قليلًا، وهزّت رأسها بإيجاب وبضعف شديد.
فأجابها بحنو: خلاص، استنيني هلبس وهرجعلك بيه متخافيش يا وردتي.
طبع قبلة على جبينها، ونهض متجهًا إلى غرفة الملابس.
جلست ماسة على الأريكة، تنظر أمامها بعيون زائغة، والغضب يغلي في أعماقها، رأسها يعج بالأسئلة، تتضارب الأفكار داخلها كأمواج لا تهدأ.
بعد قليل، خرج سليم من غرفة الملابس وهو يرتدي قميصًا أسودا وبنطالًا داكنًا، اقترب منها، وضع يده على خدها وقال بهدوء وعينيه تتفحص ملامحها: مش هتأخر عليكي، هخلي سحر تعملك ليمون.
هزّت رأسها بصمت، فظل يرمقها بنظرة متعجبة وهو يزمّ شفتيه، ثم تحرك نحو الباب وغادر.
ما إن خرج سليم من الغرفة، وأغلق الباب خلفه، حتى قفزت ماسة من مكانها، هرعت إلى الدريسنج، فتحت درجً الملابس الداخلية أخذت تلقي ما به بجنون، وأخرجت هاتف رشدي الذي كانت تخفيه.
دخلت إلى المرحاض، فتحت مياه الدش كأنها تستحم، ثم ضغطت على الاسم المحفوظ.
لم تمضِ ثوانٍ حتى جاءها صوته، كعادته ممزوجًا بالغزل المقيت من غرفته: ست الحُسن!
ماسة بضيق حاد ونبرة غليظة: ليه عملت كده؟! ليه بتعمل فيا كده؟! مش إحنا اتفقنا؟!
رشدي بصوت هادئ، كمن يتصنّع البراءة: عملت إيه؟
صرخت ماسة به، الغضب يكاد يحرق لسانها: ما تستهبلش يا رشدي!
أكملت هى تتحدث بضعف وتوسل:
عشان خاطري سيبه، وحياة أغلى حاجة عندك، لو في حاجة عندك غالية، ارحمني! قلتلك هنفذ لك كل اللي انت عايزه.
رشدي، متعحبا: يا بنتي فهميني كده بالراحة… والله ماعملت حاجة.
ماسة بسخرية مرة: يا سلام؟! عايزني أصدق إنك مش ورا موضوع عمار؟
رشدي بهدوء، لكنه قال بشك: موضوع عمار؟ لا والله، أول مرة أسمع منك دلوقتي، إيه اللي حصل؟
ماسة، تحاول تمالك نفسها: ماعرفش بالضبط، بس اتقالي إنه محبوس في القسم.
رشدي، بدهشة حقيقية: أنا ماعرفش! اديني دقيقتين كده أشوف، يمكن ماما عملت حاجة، بس الموضوع ده مش تبعي خالص.
صاحت ماسة بيأس ورجاء: عشان خاطر ربنا يا أخي، لو أنت اللي وراها طلّعه، والله هعمل لك كل اللي إنت عايزه.
رشدي بلطف زائف: يا ستي قلتلك، اصبري هعرفلك.
أغلق الهاتف، بينما جلست ماسة على حافه البانيو، ترتجف، وتنتظر مُر الدقائق.
في مكانٍ آخر في غرفة رشدي.
اتصل رشدي بوالدته، التي كانت جالسة مع عزت في غرفتها يحتسون العصير ويشاهدان التلفاز:
بقولك ايه يا ماما… لو الباشا جنبك، ما توضحيش الكلام، انتي حبستى عمار؟
فايزة ردت فورًا: لا طبعاً.
رشدي: طب صافيناز؟
فايزة بحزم: ولا صافيناز بتأكيد، ايه حصل؟!
رشدي بابتسامة جانبيه: يبقى قضاء وقدر، بعدين هفهمك عشان الباشا، سلام.
أغلق الهاتف، ثم أعاد الاتصال بماسة.
ردّت عليه بصوت مرتعش: ها يا رشدي؟
رشدي بثقة وابتسامة تُسمع في نبرته: لا يا ست الحُسن، مش إحنا اللي وراها… قضاء وقدر.
ماسة شهقت: اشمعنا دلوقت؟
رشدي ضاحكًا: ده من حظي، متقلقيش، سليم هيخرجه يا ست الحُسن والجمال، بس أتمنى مايستخدمش القضية دي ضدك.
ماسة تمتمت: إنت فاكر إن سليم وس،خ زيك.
ضحك رشدي وقال بالتركية بمزاح مقيت: يوك يوك، الألفاظ دى ماتطلعش منك يا وردة.
ماسة بقوة بنبرة غليظه: أنا فعلاً وردة، بس كلي شوك مليان سم، والله العظيم اللي منعني عنكم أهلي.
رشدي وهو يضحك: والله التهديد طالع منك سكر، احنا لو كنا اتجوزنا كنا هنبقى كابلز مفاجأة… يلا ابقي بلغيني بالجديد، باااي باااي ست الحسن والجمااال.
أغلقت الهاتف بعينين غامت بسواد الغضب، قبضت علي هاتف كأنها تود تحطيمه، ثم وضعته بعيدًا، تواقفت تحت الماء بملابسها، تحاول أن تغسل ندبات الوجع التي شوهت وجهها، وآلمت قلبها.
أما رشدي فقد جلس على الفراش مبتسما، وهمس لنفسه: الله… والله جت في وقتها، كل الظروف في صالحك يا رشروش أكيد ست الحبايب راضيه عنك.
ثم أطلق ضحكته المميزة، تلك التي لا يعرفها إلا من عرف طعنة الخبث جيدًا، ثم فتح درج الكومودينو وتناول كيس ووضع قليل من المخدر عليها، واستنشق القليل وشعر بسعادة كبيرة.
حديقة القصر، التاسعة مساءً
هبط سليم إلى الحديقة بخطوات سريعة، كانت ملامحه مشدودة وعيناه تبحثان عن مكي، الذي كان يقف عند السيارات أمام الباب، يتلفت بقلق.
اقترب منه سليم وهو يتحدث بنبرة منخفضة: عرفت حاجة؟
مكي بسرعة وعيناه لا تستقران في مكان: لسه.
أشار سليم بيده دون تردد: طب يلا، ركبا السيارتين، ومعهما عدد من الحراس، وتحرك الموكب نحو الطريق.
داخل السيارة
أخرج سليم هاتفه واتصل بإسماعيل، نبرته كانت جامدة مليئه بالهيبة: وصلت لحاجة؟
أجابه إسماعيل دون مقدمات: أيوه، قسم أول قنطرة شرق، متاخد في فرد حشيش، بس بيقول مش بتاعته أجيلك؟
سليم بنبرة جامدة: خليك بس تليفونك ميتقفلش.
أغلق الخط بشدة، وضغط على أسنانه بقوة، بعد لحظة، أجرى مكالمة أخرى، بدا من نبرته أنها موجهة لشخصية كبيرة.
سليم بثقه: ألو، مكرم باشا، أخبارك إيه؟
جاءه الصوت من الطرف الآخر، هادئًا معتادًا: تمام يا سليم بيه، أتمنى المكالمة دي ما تكونش في مشكلة إن شاء الله.
سليم بصوت هادئ، ولكن فيها الكثير من القوة والثقة: لا، مافيش مشكلة، محتاج منك خدمة صغيرة، تتصل بقسم أول قنطرة شرق، وتطلب من الضابط هناك ما يقربش من الشاب اللي اسمه عمار مجاهد المسيري القضية دي تخلص قبل ما أوصل، أنا رايح آخده بنفسي.
سأل مكرم بنبرة فضول: هو متاخد بإيه؟
سليم بنبرة عادية: حشيش.
ضحك مكرم بخفة، ثم قال بثقة: ماتتعبش نفسك يا باشا، هبعتهولك بعربية لحد عندك.
سليم باعتراض: أنا حابب آخده بنفسي.
مكرم: ماتقلقش، دي قضية سهلة. اعتبر الموضوع منتهي.
أنهى سليم المكالمة، ثم نظر للسائق أمامه وقال بهدوء: اطلع على قنطرة شرق بسرعة.
استدار مكي برأسه إلى الخلف: عمار ملوش فيها.
هز سليم رأسه بإيجاب: نروح هناك، ونفهم كل حاجة.
تنفّس مكي ببطء: ما تخليك إنت يا سليم، وأنا أروح. موضوع بسيط وأنا ممكن أحله عادي، مش محتاجاك يعني.
هزّ سليم رأسه نافيًا، بمحبة: ده عمار أخو ماسة يا مكي لازم أهتم بنفسي حتى لو الموضوع منتهي بمكالمة ، بس ماينفعش.
ضاقت ملامح مكي، وكأن الغصّة علقت في صدره:
ياريتها تقدر اللي بتعمله عشانها.
ابتسم سليم ابتسامةً باهتة، نصفها تعجّب ونصفها ألم، ثم قال بنبرة أقرب للهمس: هي مقدّرة كل حاجة، بس الفترة دي مخنوقة، ولازم نعرف الأسباب…أنا شاكك في حاجة، بس مش عارف أمسكها.
نظر له مكي متعجباً ضيق عينه:
رمضان وقف العربية على جنب ..
ثم تحدث في الجهاز اللاسلكي: عثمان هنقف بالعربية تعال أقعد مكاني.
وبالفعل بحركة سريعة هبط مسرعا فتح الباب الخلفي وجلس بجانب سليم وعثمان اخذ مكانه، ثم تحركت السيارة مجددًا.
نظر مكي لسليم هامسًا: طب شاركني، شاكك في إيه؟
سليم بنبرة منخفضة، لكن عينيه كانت تشع بالذكاء:
حد مهددها.
اتسعت عينا مكي بدهشة ويتك على الكلمة: مهددها !! طب مين؟ وبإيه؟ وليه؟؟
همس سليم كأنه يحدث نفسه: بأهلها… خوفها عليهم مش طبيعي.
هز مكي رأسه بعدم فهم: مين ممكن يهددها؟ وليه؟ بعيدة يا سليم.
حك سليم في خده بتردد وهو يرفع كتفه: مش عارف، يمكن أنا مكبر الموضوع، بس خوفها على أهلها بالشكل ده خلاني أفكر كده.
مكي أطرق قليلًا ثم تساءل بحيرة: طب لو فعلاً تهديد، إيه اللي هيخلي سلوى هي كمان متغيرة معايا؟ هي كمان متهددة؟ طب ومين أصلاً ممكن يهددهم؟! واللي هيهددهم ده أكيد في مقابل،ايه هو المقابل؟
صمت للحظة ثم هز رأسه برفض للفكرة: لا لا الموضوع ده مش مقنع خالص؟ هي ممكن تكون ربطت الحلم اللي شافته باللي حصل مع باباها وعمار.
لاذ سليم بالصمت، عينيه كانتا تنطقان بعدم ارتياح، وكأن كل فكرة تتراقص في عقله مثل شبح يعاوده في كل لحظة، يطارد ذهنه دون رحمة.
ثم قال أخيرًا: مش عارف، بس خوفها الغريب ده بيحسسني إن في حاجة.
سأل مكي: طب هتواجهها؟
سليم بتأكيد: أيوه، وهشوف وأعرف من رد فعلها.
هز مكي رأسه بإيجاب وكأن حديث سليم جعله يشك
قال: وأنا كمان هجرب مع سلوى، هي ممكن يجي منها، وتعرف منها حاجة عن ماسة، ماسة أذكى، وبتعرف تتحكم في نفسها، بقت نسخة منك فعلاً تربية سليم الراوي، عموماً، أنا مستبعد الفكرة، بس خلينا ورا الخيط ده… مش هنخسر حاجة.
سليم هز رأسه موافقًا: بالظبط، وكده كده، إنت اخترقت تليفونتهم، وده ممكن يسهل علينا حاجات كتير.
مكي:عموماً، لحد دلوقتي المكالمات كلها عادية جداً، مفيش حاجة تشد أو تثير الشك، كل الأرقام كلامهم طبيعي، يمكن بعد ما ماسة ترجع نكتشف حاجة.
سليم بتنبيه: أهم حاجة خليك واخد بالك كويس.
ثم التفت ناحية السائق، كانت نبرته حاسمة: رمضان دوس بنزين، مش عايزين نتأخر.
رمضان من كرسي القيادة دون تردد: حاضر يا باشا.
في فيلا عائلة ماسة العاشرة مساءً.
غرفة سلوى.
سلوى جالسة على الفراش والهاتف في يدها، ويبدو عليها القلق، بجانبها جلست سعدية، وقد بدا وجهها مصفرًا من التوتر.
حاولت سلوى تهدئها بصوت منخفض: ياما خلاص بقى، صلي على النبي، إن شاء الله مفيش حاجة، ما أنا قدامك، لسة مكلمة مكي وقافلة معاه، وقال إن هو وسليم رايحين له، وكمان كلمتلك الدكتور إللي عندنا في الجامعة، ده مستشار كبير، قالي ماتقلقيش من حاجة، بدل مالقوش حاجة في شنطت، والمحامين إللي مع سليم محامين كبار لو فيه أي حاجة قالي أكلمه.
هزّت سعدية رأسها، وامتلأت عيناها بالدموع: أنا خايفة على أخوكي عمار، طيب وغلبان. كان مستخبي لنا فين ده؟ بس يا رب، ربنا يكفينا شر المستخبي.
دخل يوسف الغرفة بهدوء، يحمل كوبًا من الليمون، وجلس بجانبها: يُا أما أهدي، وأشربي الليمون ده أبويا تحت وماينفعش يحس بحاجة دلوقتي.
تناولت سعدية الكوب بيد مرتعشة، ارتشفت منه قليلًا، وهمست بصوت خافت: استرها يا رب علينا، إحنا غلابة.
أما سلوى، فوضعت يدها على بطنها التي بدأت تؤلمها من شدة التوتر، كانت خائفة من أن يكون رشدي هو من يقف خلف كل هذا توقفت ودخلت المرحاض
في المرحاض
فور دخولها فتحت صنبور الماء، ثم أخرجت هاتفًا آخر كانت تخفيه، وبدأت الاتصال على رقم رشدي الجديد، عبر هاتف ماسة: ألو؟ أيوه يا ماسة… بقولك إيه، هو رشدي إللي وراها؟ متأكدة يا ماسة؟ طيب ماشي، هكلمك بعدين عشان، أمك وأخوكي معايا في الأوضة… سلام.
أنهت المكالمة بسرعة، ووضعت الهاتف في جيبها. شعرت بالغثيان من شدة الخوف والقلق، فغسلت وجهها بالماء، وكتمت دموعها بصعوبة، ثم خرجت مرة أخرى من الحمام، تحاول أن تخفي قلقها، بينما وجهها ما زال شاحبًا ونظراتها زائغة.
الاسماعيلية، بالتحديد القنطرة الحادية عشرة مساءً
وصلت السيارات أمام قسم أول قنطرة شرق، ترجّل سليم من السيارة بخطى ثابتة واثقة وحضور طاغي مليئ بالهيبة والقوة، يتبعه مكي والحراس، ٢٢وقف أمام بوابة القسم،قبل أن يتقدم، نظر إلى مكي.
سليم: ماتتكلمش، أنا اللي هتصرف.
أومأ مكي دون نقاش أقترب أحد الضباط من الباب، فبادره سليم بنبرة هادئة تحمل نغمة نفوذ لا تخفى:
عايز أقابل الضابط المسؤول عن القضية اللي جاية من كام ساعة، فيها اسم عمار مجاهد.
نظر الضابط له متفحصًا: حضرتك تبقى مين؟
سليم بكبرياء وثقة لا تليق إلا به: سليم الراوي.
لم يكن بحاجة للشرح، الاسم وحده كان كفيلاً بأن يفتح له الأبواب، اختفى الضابط للحظات، ثم عاد وأشار له بالدخول.
دخل سليم بخطواته الواثقة، وخلفه مكي.
غرفة الضابط
نرى عمار جالسًا على الكرسي، وجهه شاحب وعيونه متوترة.
عندما وقعت عيناه على سليم ومكي توقف بسرعة وقال بتوتر خوف: سليم! مكي أنا والله مظلوم مش حاجاتي والله يا سليم، أنا مظلوم.
سليم رفع إيده بهدوء: استنى، ماتتكلمش يا عمار.
نظر لها مكي بعينه بابتسامة طمأنينة بمعنى استنى ماتخافش.
التفت سليم إلى الضابط وقال بهدوء لكن بثقة تعكس قوة شخصيته: وصلني إنكم لقيتوا فرد حشيش في شنطة واحد من أصدقاء عمار، ممكن أفهم انتم محتجزين عمار ليه؟
الضابط بنبرة دفاعية: عشان في تضارب في الأقوال، ولازم يتعرضوا على النيابة؟!
رمق سليم عمار بنظرة ثابتة لا ترمش: وإنت؟ كنت في العربية دي؟
عمار بصوت مكسور: كنت معاهم، بس والله العظيم ماليش دعوة.
سليم بحسم: طيب، تمام.
ثم نظر إلى الضابط بهدوء قاتل: بص من غير كلام كتير، إنت هتخرجه دلوقتي وتنسى القضية؟ الحشيش كان في شنطة صاحبه، وهو اعترف إن الشنطه بتاعته، يبقى عمار يخرج هو وأصحابه، وصاحبه ده مبروك عليكم.
تمسك الضابط بموقفه: النيابة هي اللي تقرر، وأنا بطمنك إن..
قاطعه سليم بهدوء جليدي: الأوامر هتوصلك بعد دقيقة، بص في موبايلك.
رن هاتف الضابط فعلًا، فتحه وبدأ يقرأ الرسالة… وتبدّل وجهه.
سليم بهدوء لا يخلو من التهديد: تمام؟ والا أعمل مكالمة كمان؟
تنحنح الضابط: تمام، يلا يا عمار، يا عسكري فكهم كلهم وخلي رامي.
نظر سليم لعمار: يلا امشي واركب العربية، وإنت يا مكي، خليك معاه
عمار بصوت مرتبك: سليم، أنا آسف.
لكن سليم لم يمنحه فرصة: لما نرجع القصر، هنتكلم دلوقتي امشي.
خرج الثلاثة من القسم وسط نظرات الضباط والجنود المتعجبة، الكل يعرف أن سليم الراوي إن حضر لا أحد يجرؤ على الوقوف في طريقه.
________💞بقلمي_ليلةعادل💞_________
قصر الراوي، الثالثة صباحاً
كانت تجلس ماسة على الأرجوحة ذات الحبال بصمت ثقيل يوجع القلب، وعيناها محمرتان من شدة البكاء، في انتظار عودة سليم، وعمار. ما إن توقفت السيارات عند المدخل حتى اتسعت عيناها بلهفة، وحين رأت عمار يهبط من السيارة، نهضت فجأة وركضت نحوه باندفاع مفاجئ وعي تقول: عمااار!
أسرعت إليه بجنون، لا تُبالي بمن حولها، كأن أنفاسها معلّقة بوجوده، كأن روحها قد عادت لتوّها إلى جسدها برؤيته، تشعر بالذنب برغم تأكيد رشدي لها.
وحين وصلت له، ضمّت جسده بقوةٍ حدّ الألم، كأنها تخشى أن يتبخر بين ذراعيها، تبكي بحرقة، وكل جزء فيها يرتجف، اخذت تتحسّس كتفه بكفّين مرتجفتين، تحاول التأكد أنه حي، أنه ليس وهماً من شوقها وقلقها وهي تقول: حبيبي! إنت كويس؟ طمّني عليك! إنت كويس؟!
ابتعدت قليلًا، وجهها غارق بالدموع، ويداها تتحركان بخوفٍ طفولي على ملامحه، تخشى أن ترى فيهما أثر أذى أو حتى خدش: طمّني بالله عليك، قولي، متخبيش عليا، جرالك حاجة؟ حد عملك حاجة؟!
أمسك عمار بيديها برفق، حاول تهدئتها، وصوته يحمل حنانًا: الحمد لله يا حبيبتي، الحمد لله، بس والله ما بتاعتي.
ردّت بلهفة، بنبرة صوت مخنوقة،فيها رجاءٌ وثقة: أنا عارفة… عارفة بتحلف ليه، أنا واثقة فيك.
هبطت دموعها على وجنتيها وضمته من جديد، بقوةٍ أكبر، وكأنها تحاول أن تحميه بجسدها، أن تحبسه بين ضلوعها، أن تخفيه عن كل الشرّ في هذا العالم. قالت في نفسها: أنا آسفة والله آسفة مستحيل أسمح لحد يقرب منك.
تبسم عمار وهو بين أحضانها، مسح على ظهرها:
يا حبيبتي أنا كويس ما تخافيش انا بخير ليه كل الخوف ده بقيتى حساسة بزيادة بقيتى شبه سعدية.
ماسة وهي ما زالت متشبثة قالت بنبرة موجوعة وخوف: خفت خفت اوي عليك خفت لاحسن يجرى لك حاجة.
كان سليم ومكي يقفان يراقبان المشهد بصمتٍ ثقيل، كلٌّ منهما غارق في أفكاره.
همس مكي لسليم بنظرات لا تفارق ملامح ماسة القلقة: عندك ح، الوضع مش طبيعي.
سليم وهو عينه لا ترفع من عليهم بقلق: مش قلتلك؟
ثم تحرك واقترب قليلاً منهم، وصوته خرج رقيقًا رغم صلابته المعتادة: شفتي بقى يا ماسة أنا قد كلمتي، قلتلك هجيبه معايا.
نظرت إليه ماسة بعينين متورمتين من البكاء قالت بشكر وامتنان: متشكرة، متشكرة أوي يا سليم.
ثم عادت تنظر لعمار: لازم تبات معانا النهاردة.
ابتسم عمار، وهزّ رأسه رافضا: مش هينفع، سعدية مابطّلتش اتصال من ساعة ماعرفِت، عايزة تطمن عليا.
زفرت ماسة، ثم مدّت يدها تتحسّس خده: طيب خلاص، ماشي، بس بكرة، تعاللي بدري وحياتي.
ثم صمتت لحظة، ونظرت في عينيه بقلقٍ متجدد، قلبها لا يزال غارقًا في الخوف تساءلت: عمار… هو إيه اللي حصل بالظبط؟
عمار موضحاً: واحد من اللي كانوا معايا، لقوا معاه حشيش.
فجأة تحوّل خوفها إلى غضب، صوتها ارتفع رغم ارتعاشه: وإنت ليه أصلاً تقعد مع حد بيشرب الحاجات دي؟!
عمار: ماكنتش عارف والله يا ماسة.
أمسكت ماسة بيده بكل ما تبقّى فيها من قوة، وعيناها تتفحّصان وجهه بتركيزٍ يائس، تبحث عن أيّ كدمة،أيّ وجع يخفيه عنها: طب إنت كويس؟ كويس بجد؟ متخبيش عليا وتقول مافيش حاجة..ويبقى فيه.
اقترب عمار منها، وطبع قبلة دافئة على جبينها، قال بصوتٍ مطمئن: والله يا حبيبتي، كويس ما تقلقيش عليا..
نظر لسليم قائلا بمزاح:
ماتيجي تشوف مراتك دي يا سليم.
سليم بمزاح مبطن: هي بقالها فترة حساسة كدة.
مسحت ماسة دموعها: الحمد لله، الحمد لله ربنا رجعك لي. عمار وحياتي عندك لو لي خاطر عندك شوية صغيرين تاخد بالك من نفسك ماشي.
عمار بابتسامة وهو يمسح على شعرها: حاضر لازم أمشي دلوقت.
سليم نظر لمكي: وصّل عمار يا مكي وطمن سعدية والكل.
تحرك مكي مع عمار، وصعدا السيارة ثم غادرا. أما سليم، فاقترب من ماسة وتوقف أمامها.
ماسة: هي كدة القضية اتقفلت خالص.
سليم بثقة: اها اتقفلت خالص، بمكالمة وحدة قفلتها.
استمعت لصوت يقول في أذنها، وممكن يفتحها بردو بمكالمة، هزت ماسة رأسها وهى تلوح بكفها وكأنها تهش ناموسة مزعجة.
دقق سليم النظر متسائلا بقلق: إنتي كويسة.
هزت ماسة رأسها بإيجاب: اممم الحمدلله كويسة!
سليم متساءلا باهتمام: طب عاملة إيه دلوقتي؟
ماسة بنبرة عادية: أنا كويسة، بقيت بتسألني عاملة إيه كتير أوي.
سليم وهو يركز النظر في ملامحها بنبرة مختنقة: وهفضل أسألك لحد ماتزهقي وتجاوبي بصراحة عن الحاجة اللي مضايقاكي ومعصباكي.
تبسمت ماسة وهي تهز رأسها بلا: مافيش حاجة معصباني.
سليم ضيق عينه بشك: متأكدة؟
نظرله ماسة باصرار داخل عينه وكأنها تريد ان تجعله يصدقها: زي ما أنا متأكدة إني شيفاك قصادي.
تنهدت وتحركت وجلست من جديد على الأرجوحة، وأسندت وجهها على الحبل. دون أن تتحدث ..
ظل سليم واقفًا يحاول سبر أغوارها ليفهم ما بها، زفر باختناق، ثم اتجه خلفها وبدأ يدفعها بخفة،
بعد لحظات من الصمت..
تحدثت ماسة بصوت منخفض وهي تنظر في الفراغ بألم تسألت: بقولك ايه يا سليم، إيه أكتر حاجة ممكن توجع إنسان في الدنيا؟
سليم بهدوء: يعني… يفقد أكتر حد بيحبه؟
هزت ماسة رأسها نفيًا بألم خنق نبرة صوتها: أنا كنت فاكرة زيك كده، بس طلع لأ.
توقف سليم عن دفعها ونظر إليها باستغراب، التفتت إليه قليلاً بجسدها، بنبرة مبحوحة، موجعة، خلقت من صوتها وجعًا إضافيًا:
عرفت إن في سببين بيوجعوا أكتر من الفقد، اول سبب الخذلان! كنت فاكرة إن افتقاد حور هو أكبر وجع ممكن أحس بيه… ولما حسيت إني هفقدك، لما كنت في الغيبوبة، حتى وإنت عايش، وشايفاك قدامي، كنت موجوعة، بسبب الرصاصة اللي في ضهرك، ممكن تخلص عليك في أي لحظة واتحرم منك، كنت بخاف أنام وأصحى على خبر يخليني أموت من الوجع عليك.
وضعت يدها على جبينها، ثم أكملت بحزن يخرج من عينيها بدموع ترفض الهبوط لكن تلك النظرات المكسورة المقهورة وصوتها الذي يصرخ وجعًا فضحها دون أن تشعر:
عرفت إن لما تحب حد أوي، حب كبير، وبعدين يخذلك وميطلعش قد ثقتك… الاحساس ده بيوجع أكتر من فراقه…فراقه أهون، على الأقل بيمشي وإنت لسه شايفه بنفس الصورة. إنما الخذلان… الخذلان بيوجع أكتر ألف مرة.
صمتت لحظة، ثم شعرت بغصّة تأكل قلبها واهتزت أحشاؤها ألمًا، ارتعش صوتها وبدأت الدموع تملا عينيها:
والإحساس اللي أصعب كمان، إنك تبقى عايز تصرخ، بس الصرخة واقفة هنا..
أشارت إلى حلقها…تابعت على نفس ذات الوتيرة:
هنا بالضبط، مش عايزة تخرج، ولو خرجت، بتطلع مُرة كلها شوك، لما نفسك تتكلم بس مابتتكلمش، تكتم دمعتك، وألمك، وصرختك جواك… ده إحساس موجع قوي ومؤلم جدًا..والله العظيم من قلبي مابتمنهاش لحد حتى الأعداء من كتر ما هو مميت.
سكتت لحظة، ثم تابعت بنبرة مريرة:
بالنسبالي، دول أكتر إحساسين موجعين، إنك نفسك تصرخ مش عارف وانك تتخذل في أكتر حد بتحبه من قلبك، يمكن في حاجات أكتر منهم، وممكن في المستقبل اكتشفهم، بس ما أتمناش والله كفاية حرام.
مسحت تلك الدمعة التي هبطت بمرارة:
بس يعني اللي أقصده من كلامي إن الإحساسين دول عرفوني إن في وجع أكتر من اللي كنت حاسة بيه قبل كده، والواحد، أهو بيكتسب خبرة من الحياة اللي مش عادلة، بالعكس دي جارحة أوووي، خصوصًا للناس اللي زيي.
ظل سليم ينظر إليها بصمت، متأملًا إياها باستغراب من حديثها الذي يحمل ألف معنى، لكنه تأكد أن هناك شيء كبير بداخلها..
تنهد واقترب منها، جلس على ركبتيه أمامها، وأمسك يديها وهو ينظر في عينيها بنبرة مليئة بالحنان والعشق: ليه حاسة بالمشاعر دي؟
نظرت له ماسة بصمت موجع، كل شيء فيها يصرخ بأن تقول الحقيقة، لكنها كما نعلم لا تستطيع التحدث، قالت وهي تنظر بعينيها بعيدًا بنبرة مكتومه:
عادي يعني، بعد كل اللي بيحصلنا، مش عايزني أصرخ؟
سليم متعجبًا وهو يعقد حاجبيه، يحاول فهم ما بها وأستدرجها: إيه اللي بيحصل لنا يا ماسة؟ أنا فاكر آخر مرة كنا كويسين، أو على الأقل بنحاول، واتفقنا على حاجات، وإنتي جيتي بعدها وغيّرتي الاتفاق، ايه اللي حصل؟ لو سمحت ماتقوليش إن هي كانت لحظة ضعف!! لأن في تناقض كبير بين كلامك وتصرفاتك يومها واللي حصل بعد كده.
ماسة بجمود تحاول الهروب: عشان ماكنتش مقتنعة ولازم تصدق انها كانت لحظه ضعف انا بحبك وبضعف قصادك وانت فاهم ده بعد إذنك اقفل الموضوع ده.
قلب سليم شفتيه بضيق زفر ثم نظر لها مجدداً، وتحدث بعقلانية وبنبرة حانية: طب اللي حصل معاكِ عند أهلك النهاردة، أنا مش عايزك تزعلي منهم، هما بس خايفين عليكي، كل اللي بيعملوه ده عشان يحافظوا على استقرار بيتك وثبات حياتك، يمكن طريقتهم كانت مؤلمة، وتعبيرهم ماكانش مناسب وغلط، بس صدقيني، ده كله خارج من حب حقيقي وخوف كبير عليكي، كلمة خذلان دي كلمة كبيرة اوي.
فقد ظن سليم أنها حين تحدثت عن الخذلان، كانت تشير إلى ما فعلته عائلته بها، لا إلى ما سمعته عن حقيقته هو.
نظرت إليه ماسة لثوانٍ، تبادلت معاه النظرات بصمت هشّ، نظرات تعبّر عن وهن داخلي وارتباك مشاعر.
تنهدت بخفوت، ثم سحبت يدها من بين أصابعه وتحركت بخطوات بطيئة، تولّيه ظهرها.
قالت بنبرة ساخرة، تحمل مرارة اللوم ووجع الخذلان:
خوف، عندك حق، هو خوف ورفض، عارف يا سليم، أنا اتفاجئت إن أحيانًا لما تحب حد اوي، ممكن تتئذي وتئذيه معاك وإنت مش واخد بالك. أنا اكتشفت ده معاك.
التفتت ونظرت له وأكملت على ذات النبرة:
حبك، على قد ما هو جميل، وعلى قد ما بنات كتير بتتمناه، بس مؤذي، أهلي بيحبوني جدًا، وبيخافوا عليا، وأنا متأكدة إن تمسكهم بجوازنا مش عشان الطمع، وإنت لازم تبقى متأكد من ده، بس بطريقتهم دي أذوني وهما مش واخدين بالهم، يعني لولا أنك راجل محترم كنت ممكن تستغل كلام أمي بطرق سيئه وتعايرني بيها بس أنا متاكدة أنك مش كدة.
توقف سليم في مكانه، وعيناه معلقتان بها.قال بنبرة مكسورة، تحمل من العتاب أكثر مما تحمل من اللوم:
زي ما أنتي كمان بتئذيني، بكلامك، وبتصرفاتك، بنظراتك، بمحاولة هروبك، وإصرارك على إنك تمشي من هنا وبتبرري ده عشان تحافظي على حبنا، إنتي كمان حبك مؤذي، يا ماسة وأنتي مش واخدة بالك.
أخفضت عينيها، ثم استدارت نحوه دون أن تجرؤ على مواجهته كانت تهرب، لا من كلماته، بل من ثقل الحقيقة التي تعرفها جيدًا.
قالت بصوت خافت وهي تتجه نحو القصر:
سليم، أنا هطلع أنام، وشكرًا على اللي عملته مع عمار، لازم تفهم إن الأسبوع ما خلصش، وبعد اللي شفته النهاردة من أهلي، الأسبوع هيكون أكبر بكتير يمكن شهر يمكن اتنين، لحد ما أهدأ وأحس إني مرتاحة ومش موجوعة احترم قراري.
رفع سليم صوته قليلًا، لكن نبرته كانت قاطعة، تحمل في طياتها وجعًا مُخبأ لا يُفصح عنه بسهولة:
وأنا مش هقول لك تاني يا ماسة، بلاش تضغطي عليا بحبي، بلاش تجرحيني بحبي ليكي انتي ماتتصوريش اللي انتي بتعمليه ده بيجرحني قد ايه، وأنا خايف، خايف لاحسن من كتر ما أنتي عماله تجرحي فيا في أكتر حاجة ممكن توجعني يطلع مني ردود أفعال ماتمناهاش.
ماسة بجمود لم تحرك ساكنا: تصبح على خير يا سليم.
تحركت، لكن أثناء تحركها، قال سليم بهدوء قاتل وهو يشير بيديه: ماسة، هو في حد مهددك بحاجة؟
تجمدت ماسة وكأن هناك يدًا أمسكتها من تحت الأرض، اتسعت عينيها، اهتزت للحظات، تحركت عينيها بجنون، ابتلعت ريقها حاولت التماسك، التفتت وقالت بابتسامة متعجبة وهي تتك على كلمة:
حد مهددني؟ أنت بتقول ايه؟
اقترب منها سليم، نظر في وجهها وكأنه يحلل تعبيرها: حد مهددك بأهلك؟ بيا؟! يعني لو ماتغيرتيش معايا التغيرات دي هتئذيهم.
نظرت له اللحظة، كيف له أن يفهم كل ذلك؟ سليم ذكي بشدة، لكن بتلك الطريقة؟ ماذا فعلت لتجعله يشعر بذلك؟ بالتأكيد فعلت شيء
وفجأة، دخل صوت رشدي في أذنها وكأن الشيطان يتحدث داخلها بهمس وهو يهددها، وضعت كفها على أحد أذنيها، فلابد ان تقنع سليم بأي طريق وتنفي كلماته وإلا ستكون كارثة..
قالت بثبات وتمثيل متقن وهي تضحك بعلو وتتحرك:
هههههه، حد بيهددني بيك؟ إيه اللي أنت بتقوله ده؟ أنت لسه متفرج على فيلم ولا إيه؟
سليم بهدوء قاتل: ردي عليا.
اقتربت ماسة وهي تتحدث بسخرية بتمثيل متقن:
لا يا سليم، محدش بيهددني بيك ولا بيهددني بأهلي، هو أنا بشوف حد؟ ده أنت بتحرم عليا الناس غير بعد ماتعمل عليهم تحريات، قال حد بيهددني؟ شغل العصابات ده بتاعك إنت.
سليم نظر في عينيها بقوة وقال بشك: ماسة، مش هقولك تاني. لو في حاجة قولي لي ماحدش هيقدر يحميكي أكتر مني، صدقيني، إنتي اللي هتخسري يا ماسة، مش تهديد، ده توضيح. عشان كل كلمة بتطلع مني دلوقتي بقت بالنسبالك تهديد.
ماسة نظرت داخل عينيه وقالت بثقة تريد أن تجعله يصدقها: محدش بيهددني غيرك قول لنفسك بقى الكلمتين دول، كل الحكاية إن أعصابي تعبانة وبس. ولما حاولت أمشي من وراك، كنت محتاجة أرتاح عشان إنت ضاغطني مش أكتر، تصبح على خير
قالتها بنبرة متعبة، وكأنها تطفئ الحديث كما يطفئ المرء شمعةً تخنقه رائحتها، استدارت، وسارت نحو القصر بخطوات بطيئة، وكأن كل خطوة تنتزع منها جزء من روحها.
ظل سليم واقفًا، ينظر إلى ظهرها وهي تبتعد، وفي قلبه مزيج غريب من الوجع والحب والغضب، مدّ يده للأرجوحة التي ما تزال تتأرجح بخفة، كأنها تردد صدى حديثها، ولمس الحبل بصمت، قبل أن يهمس لنفسه: هو الحب لما يبقى مؤلم كده، بيبقى اسمه إيه؟ ثم تنهد، ورفع رأسه نحو السماء، كأن الليل وحده القادر على استيعاب كل هذا الثقل.
💞__________________بقلمي_ليلةعادل
جناح سليم وماسة
دخلت ماسة الجناح بعد حديثها مع سليم،
وأغلقت الباب خلفها بعنف، استندت بظهرها إلى الباب، أنفاسها متقطعة، ونظراتها تائهة، كأنها تطارد ظلها الهارب.
بصوت خافت، تمتمت وهي تلهث بذعر:
عرف منين؟ عرف منين؟ حسّ إزاي؟ عملت إيه؟ أنا عملت إيه؟ خليته يحس كده؟ ده قالّي كإنه عارف كإنه فاهم..
بدأت تتحرك داخل الغرفة بخطوات سريعةمضطربة، كأنها تهرب من شيء لا يُرى تحاول أن تتذكر، أن تفهم… ماذا فعلت ليستشعر سليم هذا ؟ هل نظراتها فضحتها؟ هل خانتها تصرفاتها؟
كان سؤاله كافي ليُفجر طوفان الذعر داخلها.
قبضت يديها وقامت بضرب جبهتها في المنتصف بضجر من نفسها كأنها تريد ان تتذكر: عملت إيه؟ عملت إيه؟ مش هينفع يحس بكده، مش هينفع يحس بكده…
وفجأة توقفت وهزت رأسها بحركة عصبية، أغمضت عينيها بقوة وكأن صفارة حادة تمزق أذنيها من الداخل، رفعت يدها قرب أذنها، تحاول صدّ ذلك الصوت الذي يقترب منها.
وجهها تغيّر… رعب، اضطراب. عيناها تتحركان في أرجاء المكان، كأنها تبحث عن مصدر للصوت.
همسٌ قاتل، كأن شيطانًا تمكّن من رأسها: لو سليم حس بحاجة، لو عرف، هقتلك، هغتصب أختك، هقتل أمك، هحرق أبوكي، قضية لأخوكي.
اهتز جسدها بأكمله. أخذت تلوح بكفها بجانب أذنيها، كأنها تحاول ابعاد بعوضة لا تكف عن الطنين. قالت بصوتٍ مختنق، مرتجف: هششش اسكت…. هشش… امشي أمشي
لكن ظل الحديث يتكرر بلا رحمة، كما لو أن كل كلمة تسحبها من أعماق روحها.
وضعت اكففها على أذنيها، وأغمضت عينيها بشدة وكأنها تحاول إغلاق كل العالم حولها قالت بصوت متصدع من الغضب، وهي تصيح: اسكت بقى… بقولك اسكت…
سقطت على الأرض، مستسلمة لذلك الهمس الشيطاني الذي يذبحها من الداخل، ضمّت بذراعيها ركبتيها إلى صدرها، ترتجف كما لو أنها تواجه عاصفة وحدها، بلا سقف يحميها، ولا جدار يسندها.
وفجأة، سكت الصوت. لكن الهواء ازداد ثقلًا.
كل شيء حولها أصبح صامتًا، إلا قلبها، ظلّ يدق بعنف داخل صدرها، فتحت عينيها أخيرًا، تتلفت بعينيها المرتجفتين، تتحسس المكان بنظرات مذعورة، تبحث عن ذلك الصوت، لتتأكد أنه اختفى.
وضعت يدها على فمها، تكتم صرخة تمزق صدرها من الداخل، تحاول ان لا تنهار، أن تصمد، لكن الألم كان أكبر من قدرتها على التحمل، شعرت بعجز موجع، وكأنها ضاعت في دوامة لا مخرج منها ولا طريقة لتصف ما يعصف بها.
بعد حديث سليم، شعرت أنها لم تعد تملك خيارًا سوى التمثيل، أن تُخفي وجعها، أن تتظاهر بالثبات، يبدو أن المواجهة معه لا تُجدي، وأن انكشاف ضعفها يزيد الأمور سوءً، لا بد من حيلة.
فجأة وقعت عيناها على السكين الموضوع بجانب طبق الفاكهة، فكرة شرسة اجتاحت عقلها، أن تضع حدًا لكل هذا العذاب، قلبها صار جمرة مشتعلة، لا تشعر بشيء سوى الاحتراق، تحركت على ركبتيها ببطء، التقطت السكين، وكأن يديها انفصلتا عن إرادتها.د، ضغطة واحدة، وينتهي كل شيء، الخوف، الألم، العجز، لكن…في اللحظة التي همّت بها بغرز السكين في صدرها، تذكّرت، عائلتها خطر رشدي الذي قد يفتك بهم.. تذكرت أنه لا أحد سيحميهم سواها، وأن موتها لن يُنهي الألم بل سيضاعفه، ثم تذكرت حكم فعلتها، أن تأخذ روحها بيدها، الكفر، النار، الطرد من رحمة الله.. فانفجرت دموعها، بحرقة وضعف ألقت السكين بعيدًا عنها، ثم أخذت ترتجف في صمت، ضغطت يديها على فمها في محاولة يائسة لتكتم ذلك الأنين الذي يهدد بانفجارها.
فيلا عائلة ماسة الرابعة صباحًا.
الصالون.
نرى جميع أفراد العائلة يجلسون في الصالون، ومعهم مكي وعمار.
بينما تحدثت سعدية وهي تبكي وتربت على كتف عمار: الحمد لله يا حبيبي إنك طلعت منها على خير.
مجاهد بغضب: إنتي كنتي ناوية تقولّي إمتى يا سعدية؟ ولا علشان رقدت خلاص تفتكري إني ماليش لازمة
سعدية بتوضيح: لا والله إنت الخير والبركة يا مجاهد، بس كنت خايفة عليك، وبعدين إخواته طلعوه منها وهو مالهوش ذنب.
مكي بهدوء: الحمد لله يا عمي، عدت على خير وأنا إللى طلبت مايقولوش.
مجاهد نظر لعمار بغضب قال بتهكم: وإنت إيه إللي ممشيك مع العيال دي؟ من إمتى وإحنا بنمشي مع عيال زي دي؟ مش شبهنا يا ابني كنت هضيع.
عمار: والله يا بابا ما كنت أعرف إنهم بيشربوا ولا الكلام ده، دول أصحابي في الجامعة، ناس محترمة.
مجاهد: مافيش مشي مع العيال دي تاني، إنت فاهم؟
عمار: حاضر
نظر مجاهد لمكي بشكر: شكرا يا مكي، ربنا يخليك يا رب، تعبناك معانا.
مكي هز راسه بإبتسامة خفيفة: مفيش أي تعب ده أخويا،( تواقف )أنا لازم أمشي.
سعدية استوقفتُه: تمشي ليه؟ ماتقعد معانا شوية؟
مكى بإحترام: معلش، لازم أروح، حمد لله على سلامتك يا عمار.
تواقف مكي، واستعد للخروج، لكن سلوى توافقت فجأة واقتربت منه نظرت له بعينين دامعتين: مكي.. شكراً لولاك عمار كان ضاع.
نظر لها لثواني بحزن مبطن قال بثبات: بتشكريني على إيه؟ عمار ده زي أخويا بالضبط، خدي بالك من نفسك، سلام.
نظرت إليه سلوى بصمت، بعينين دامعتين لم تستطيعا إخفاء الوجع، ثم قالت بصوت خافت: سلام.
أخذت تنظر الي إثارة بحزم ووجع بعينين ترقرق بدموع.
- يتبع الفصل التالي اضغط على (الماسة المكسورة) اسم الرواية