Ads by Google X

رواية غناء الروح الفصل الثامن و العشرون 28 - بقلم زيزي محمد

الصفحة الرئيسية
الحجم

   

 رواية غناء الروح الفصل الثامن و العشرون 28 - بقلم زيزي محمد

 الفصل الثامن والعشرون
                                    
                                          
الفصل الثامن والعشرون.



ثوانٍ قليلة مرت، لكنها كانت كفيلة بأن تزرع الرعب في قلوب الجميع، صرخ المعلم طلقة بخشونة وقد رفع سلاحه مهددًا:



-سيبها يا كلب قبل ما أنسفك مكانك!



لكن الرجل الجريح ضغط المطواة أكثر على رقبة سيرا وهو يصرخ بجنون:



-لو قربتوا خطوة هموتها، عليا وعلى أعدائي!



ارتعشت يد يزن لا إراديًا، واصطكت أسنانه وهو يرمق الموقف بعينين تتقدان بالغضب والهلع معًا، كان يعلم أن أي تصرف أرعن قد يكلف سيرا حياتها... وعقله الذي لطالما تغلب على كل المصاعب كان يكاد ينفجر الآن، يبحث عن مخرج.



حدق في عينيها... تلك العيون التي طالما قرأ فيها ألف رسالة بلا كلمات، قرأ الآن الخوف والاستغاثة، ابتلع ريقه واتخذ قرارًا دون أن يفكر.



خطا للأمام بجرأة، رافعًا كفيه في استسلام مزيف، ونطق بصوت مبحوح، لكنه حازم:



-استنى... استنى... بص لي وخليك معايا.



تحرك ببطء شديد، يتفادى نظرة الغضب المشتعلة في عيني الرجل الذي أخذ يصرخ:



-ما تقربش يا حلو.... أقسم بالله أقطع رقبتها دلوقتي!



توقف يزن على بعد خطوة واحدة، وبنبرة تحمل خليطًا من الحنق والرجاء، قال:



-خلاص... خلاص، سيبها وأنا أضمنلك تخرج من هنا سليم.



لم يجب الرجل، كان يلهث وهو يحدق بجنون في وجوههم جميعًا، فيما جسده ينزف بقوة ويهتز من الإنهاك، رأت سيرا الفرصة تتشكل في عيني يزن، فرصة صغيرة... لكنها ربما تكون خلاصها الوحيد.



التفت يزن إلى المعلم طلقة يأمره بنبرة صلدة قوية:



-نزل سلاحك.



التقط المعلم طلقة الإشارة بسرعة، وأخفض سلاحه متظاهرًا بالاستسلام، فيما دفع "حمو" كرسيًا نحو الرجل من بعيد:



-خد الكرسي واقعد، مفيش حد هيقربلك، خلاص المعلم نزل سلاحه.



وما إن انشغل الرجل بنظره إلى الكرسي للحظة خاطفة...حتى اندفع يزن كالرصاصة!
بسرعة خاطفة، أمسك معصم اليد التي تمسك بالمطواة، وثنى ذراع الرجل إلى الخلف بقوة، دفعه بعيدًا عن سيرا التي تدفقت دموعها من هول المفاجأة والخوف، صرخة ألم مروعة انطلقت من فم الرجل مع صوت طقطقة خافتة وهو يسقط أرضًا، مطروحًا تحت رحمة قبضات رجال المعلم طلقة الذين اندفعوا فوقه كالذئاب.



أسرع يزن إلى سيرا، كاد يجذبها إلى صدره بحركة عفوية وغريزية، ولكنه استسلم وأمسك بيديها يقبلهما بهدوء وهو يضغط عليهما، هامسًا بجنون:



-خلاص... خلاص أنا معاكي... مش هسيبك.



ثم وضع نظر في عينيها المرتجفة يسألها بقلق:


 
                
-انتي كويسة؟



بكت سيرا بحرقة، دفنت وجهها بين كفيها دون أن تكترث لأي شيء آخر، فقد كانت لحظة نجاة من موت محقق، لحظة لم يعد يهم بعدها مظهر أو كلام أو كبرياء.



دوى صوت المعلم طلقة وهو يصرخ برجاله:



-اربطوه زي الحمار... وخلوه عبرة للي يحاول يمد إيده على ضيفنا!



لكن يزن لم يكن يسمع سوى أنفاس سيرا المرتجفة، ودقات قلبها المتسارعة التي تطابق نبضاته المجنونة، لحظة صمتت فيها الدنيا بأسرها....لحظة لا تنسى.



                            ****
في داخل الغرفة التي استضافهما بها المعلم طلقة، وبعدما انتهت الأحداث الجنونية في الصالة، استقرت سيرا على مقعد صغير بجانب الفراش، تحدق باندهاش نحو يزن، الذي كان جالسًا فوق الفراش، تتدلى قدماه للأسفل، مسندًا رأسه إلى الحائط خلفه ومغمضًا عينيه، راقبته برهة قبل أن تقترب بجسدها الحائر، تهمس إليه بصوتها القلق:



-يزن...انت نمت؟!



حرك رأسه نفيًا وهو لا يزال مغمض العينين، مجيبًا بكلمة واحدة:



-لا.



ضيقت عينيها بتفكير، وهي تضع يدها أسفل ذقنها، تسأله بفضول وحيرة:



-امال مغمض عينيك ليه؟!



تنهد بثقل واضح، كأنما يحمل فوق كتفيه هموم الأرض، ثم أجاب وهو يحافظ على وضعيته الكسولة:



-بفكر.



بللت طرف شفتيها بتوتر، قبل أن تعود بنظرها نحو الباب المغلق عليهما، ثم سألت بنفس حيرتها:



-بتفكر في أيه؟



فتح عينيه ببطء، واستدار برأسه نحوها، وهو يردد بنبرة حانقة مشبعة بالغضب:



-في المصيبة اللي احنا فيها.



أومأت برأسها بتأكيد، ثم وضعت رأسها بين يديها، تبرز همها الثقيل بهدوء شديد تعجب منه، وهمست:



-ايوه فعلاً احنا في مصيبة، لازم تتصرف وتطلع تنام برة.



انتفض يزن في جلسته، معتدلًا بجسده، يرمقها بنظرة غيظ، مستنكرًا تفكيرها الضيق:



-نعم؟! هو ده بالنسبالك مصيبة؟ سيرا أنا بفكر في اللي هيحصل بكرة وأهلك وأهلي ما يعرفوش احنا فين، وازاي هوصل لسليم أو زيدان والمجانين اللي برة مانعين عني التليفونات.



زمت شفتيها بضيق واضح، كأنها تتعمد إلقاء كل كلماته عرض الحائط، ثم تحدثت بنبرة صارمة، رغم أنها منذ قليل كانت ترتجف كالفرخ بين يدي المجرم:



-ده كله نفكر فيه واحنا مش مع بعض في اوضة واحدة!! غلط نقعد مع بعض وحرام.



ابتسم ابتسامة مقتضبة، وهو يمنع نفسه بصعوبة من أن يضرب رأسها اللعين، كانت تغضب لمجرد جلوسهما معًا في غرفة واحدة، بينما هو يشعر بالراحة والأمان لقربها منه، بعيدًا عن هؤلاء المجانين:




        
          
                
-انتي مش واثقة في نفسك؟!



رمت الوسادة في وجهه بقوة، ترد عليه بنبرة حازمة لا تخلو من العصبية:



-بقولك حرام.



أبعد الوسادة عن وجهه بقوة، ثم هتف من بين أسنانه، وهو يشير بيده نحو الخارج، يذكرها بحجم المصيبة:



-طيب اعمل إيه؟! الراجل أصلاً شاكك فينا، وأنا معنديش استعداد البس في بنته لو عرف اننا مش متجوزين هيجوزهالي.



نظرت إليه بشماتة ظاهرة، وضحكت ضحكة ماكرة وهي تردد بعنفوان أنثوي جريء:



-من أعمالكم سلط عليكم.



احتقن وجهه غضبًا منها، فاقترب منها غاضبًا، وألقى الوسادة فوقها متمتمًا بحدة:



-يا شيخة؟ والله ليكي لسان دلوقتي ومن شوية كنت مرعوبة ومتعلقة في دراعي زي الفرخة.



ثم زفرت ببطء، وقالت برجاء صادق:



-إيه فرخة دي!! حسن الفاظك....



ثم زفرت ببطء، وقالت برجاء صادق:



-يزن فكر معايا بجد.



تصنع عدم الفهم، متعمدًا إغاظتها، فقال بمكر:



-في إيه؟!



زمت شفتيها بضيق ظاهر، ونظرت له نظرة شرزة، قبل أن يتنهد بدوره بقوة، ويعود إلى جلسته، مغمضًا عينيه مجددًا بتصنع هادئ:



-طيب لو لقيتي فكرة حلوة، قوليلي أنا معاكي اهو.



مرت الدقائق ثقيلة عليهما، كلاهما على حاله؛ هي تفكر بجنون، تجبر عقلها على استخراج مخرج من تلك الورطة، وهو مستمتع فقط بجلوسها قريبة منه داخل الغرفة، مطمئنًا لوجودها بجواره، بعد وقت بدا وكأنه دهر، نهضت سيرا تتحرك بتوتر داخل الغرفة الواسعة، تمشي ذهابًا وإيابًا كأنها تنتظر إلهامًا يهبط عليها، وفجأة التفتت إليه بحماسة مفاجئة، وكأن فكرة خطرت على بالها، فاقتربت منه على عجالة، تهزه بقوة وهي تهتف:



-انت نمت؟! قوم.



لم يجبها بادئ الأمر، فعاودت تحريكه بغيظ أكبر:



-يزن...يزن قوم.



فتح نصف عينيه، وابتسامة حمقاء ارتسمت على وجهه، فسارعت بالاقتراب أكثر، تهمس إليه بخطتها الساذجة:



-إيه رأيك لو ضربتني؟



فتح عينيه على اتساعهما مندهشًا، ثم قال بحماس ظهر واضحًا في صوته:



-موافق، تعالي بقى عشان انتي خنقتيني.



ورفع يده ليمسك بذراعها، لكنها ابتعدت عنه بسرعة، قائلة بغضب وهي تزيحه بعيدًا:



-إيه حيلك حيلك، أنا اقصد نمثل فيقوموا يفصلوا ما بينا ويبعدونا عن بعض.



أعاد خصلات شعره المبعثرة إلى الخلف بحركة فوضوية ساحرة، فبعثرت تلك الحركة البسيطة كل ما تبقى من رباطة جأشها ومشاعرها، لكنها تماسكت حين فاجأها بسؤاله:




        
          
                
-والسبب إيه عشان اضربك؟!



مطت شفتيها بتفكير وهي تسرد ما يجول بخاطرها بصوت مرتفع كأنها تناقش نفسها:



-اممممممم، يا ترى إيه السبب؟...الراجل بيضرب مراته ليه؟ خيانة؟...لا أنا مخونش!!!



لم يمنحها فرصة التفكير أكثر، إذ اقترب منها بلمح البصر، وهمس أمام وجهها المصعوق من قربه:



-لا مش هضربك ، هقتلك.



دفعته بغيظ وهي تزجره ساخطًة:



-بلطجي.



ضحك ضحكة خفيفة وهو ينهض من فوق الفراش، يهندم ثيابه المبعثرة، ثم أشار لها بيده يأمرها بالنهوض قائلًا بحماس غلب على نبرته:



-أنا هقولك بس تعالي وصوتي جامد، ماشي.



زفرت بهدوء، تستعد لدورها الذي قررت أداءه، ثم وقفت فوق الفراش، ترفع رأسها بشجاعة مستحضرة طاقتها المختزنة، وقالت بطاقة على وشك الانفجار:



-تمام أنا اصلاً مخنوقة، يلا بينا...



ثم بدأت سيرا بالصراخ فجأة، وكأن جنونًا أطلق سراحه من داخلها، فتفجرت بالصوت المرتفع، معبرةً عن ذاتها المجروحة ومأساتها المختنقة، تعجب يزن من ردة فعلها المبالغ فيها، وقال بشيء من العصبية وهو يرفع حاجبيه باستنكار:



-استني أنا مبدأتش....طيب اديكي قلم طيب عشان تبقى تصوتي بجد...



لم تتمكن سيرا من الرد، إذ اندفع المعلم طلقة وإحدى زوجاته إلى داخل الغرفة بعجلة، يتقدمان بخطوات قلقة نحو مصدر الصوت، ثم تساءل المعلم بلهجة متوترة:



-في إيه؟ بتصوت ليه؟



استغلت سيرا الفرصة ببراعة، وامتلثت في بكاء مصطنع، تتحرك صوب المعلم متظاهرة بالاستنجاد به، وأشارت نحو يزن بإصبعها، تتهمه بمكر وخبث:



-الحقني يا معلم، ابوس ايدك، قولتلك بلاش أنام معاه في اوضة واحدة، اهو ضربني وبهدلني.



ثم انفجرت تبكي بصوت أعلى، تهز كتفيها بتأثر مدروس، أما يزن فانتفخ صدره متظاهرًا بالفخر، مستعرضًا عضلاته أمام الجمع، وقال بخشونة مصطنعة:



-احسن، تستاهل أربيها....فاكرني مش هعرف المك.



ضربت زوجة المعلم كفها بكفها الأخر في صدمة مدوية، وهي تردد بدهشة ممزوجة بالتحسر:



-لا حول ولا قوة إلا بالله ما أنت كنت هتموت عليها برة، دلوقتي بتضربها عادي وعايز تربيها.



مطت سيرا شفتيها بحزن مبالغ، وأمسكت بعض المواضع من جسدها وكأنها مصابة، ثم قالت بألم كاذب:



-ده قدامكم بس، لكن في الحقيقة هو ظالم ومفتري.



ساد صمت ثقيل للحظات، قبل أن ينطق المعلم طلقة وهو يحك رأسه بعدم فهم:




        
          
                
-هو في إيه، حصل إيه لده كله!!



أجاب يزن بلهجة حازمة، يحاول استغلال تعاطف المعلم:



-بقولها تغسلي رجلي، بتقولي لا، والست اللي تقول لجوزها لا تستاهل الحرق.



رفعت سيرا حاجبيها بدهشة واستنكار، وقد فهمت المغزى سريعًا؛ فهو يعرف تمامًا أن المعلم طلقة سيحكم لصالحه طالما الأمر يتعلق برجولتهم الزائفة ومظاهر السيطرة على النساء، تدخلت زوجة المعلم بتبرم ظاهر، قائلة بسخط:



-ياختي ما كنتي تغسليله رجله، ده إيه وجع القلب ده!!



رفع المعلم يده مقاطعًا، قائلًا بنزق نافد الصبر:



-خلاص يا ولية، هي حرة هي وجوزها، طالما مش عايزة تقعد معاه في اوضة واحدة، احنا بنستأذن ابو نسب إنها لامؤاخذة تنام مع الحتة الشمال نجلااا بتي في اوضتها.



تجمدت أطراف سيرا وهي تسمع لقرار لا رجعة فيه، بينما لمعت السخرية في عيني يزن، ابتسامة خبيثة ترتسم على شفتيه، أشارت له برجاء صامت كي يرفض، لكنه رفع كتفيه إشارة إلى عجزه، واستسلم قائلاً بنبرة مستكينة:



-وأنا مش هزعلك يا معلم، وهلم الدور بس عشان خاطرك، ولما نروح بيتنا أنا هعرف أربيها.



ابتسم المعلم طلقة، وربت على كتف يزن بتقدير، قائلاً بلهجة تحمل مزيجًا من الرضا والفخر:



-تسلم يا ابو نسب...



ثم غادر الغرفة وهو يتمتم بحيرة وسخرية:



-مين كان يصدق؟! كريمة المجتمع يطلع غشيم كده، صحيح الدنيا بلاوي.



أما سيرا، فقد وجدت نفسها تندفع مرغمًة نحو غرفة نجلا، تتبع زوجة المعلم بغير رغبة، استجمعت قواها وهي تخاطب السيدة برجاء صادق وقد زادت نظراتها توسلاً:



-مفيش اوض تانية أنام فيها؟



هزت المرأة رأسها رفضًا وهي تقول بإصرار حاسم:



-لا يا اختي مفيش إلا دي، تيجي تنامي معايا أنا والمعلم.



قالتها بسخرية باردة، كأنما تضحك في داخلها على بؤس ضيفتهما الجديدة، تراجعت سيرا قليلًا، وقالت بعجز متزايد:



-طيب أنام في أي شقة، مش هو متجوز أربعة وقاعدين هنا، أنا سمعتكم بتقولوا كده.



هزت السيدة رأسها بحسم أكبر، وأكدت بنفس اللهجة:



-يا اختي المعلم أمر تقعدي هنا يبقى تقعدي هنا، مفيش أي واحدة تقدر تستضيفك.



لم تستسلم سيرا بسهولة، وحاولت التبرير بعقلانية، قائلة:



-يعني حضرتك عارفة حالة بنتك ماينفعش ادخل عندها أصلاً.



شهقت السيدة شهقة كبيرة، وقد بدا الجزع على وجهها وهي ترد بلهجة مشبعة بالاستنكار:




        
          
                
-لا نجلا مش بتي دي بت واحدة تانية بس ماتت قبل ما المعلم يتجوزنا احنا الاربعة، أنا عمري ما اتعاملت معها، مفيش غير المعلم بس اللي بيتعامل معها، يلا ادخلي وربنا يعينك وبعدين يا اختي مش غسيل رجله أحسن من الهم اللي هتشوفيه جوه.



وقفت سيرا أمام باب الغرفة، تتردد لحظة، قبل أن تدفعها السيدة ببطء، ثم فتحت عليها عالماً لا يشبه الواقع، كانت الغرفة شبه مظلمة، يتسلل إليها ضوء خافت من مصباح صغير في الزاوية، يلقي ظلالًا مشوهة على الجدران، وفي وسط الغرفة، جلست نجلا، فتاة ذات ملامح بريئة وعينين زائغتين، ترتدي فستانًا طفوليًا مزركشًا بالورود، وتحمل دمية قديمة ممزقة الأطراف تحت إبطها، تهدهدها كما لو كانت رضيعة.



انتفضت سيرا بفزع عندما استمعت لصوت إغلاق باب الغرفة من الخارج بالمفتاح، فشهقت برعب وخاصةً عندما التفتت برأسها ووجدت نجلا ترفع رأسها فور أن رأتها، فتهلل وجهها بسعادة عارمة أشبه بفرحة الأطفال عند رؤية لعبة جديدة، وهتفت بصوت مبحوح ومتحمس:



-لعبتيييييي!!



تجمدت سيرا في مكانها، وكادت تتراجع إلى الخلف لولا أن تذكرت أن الباب أصبح مغلقًا بالمفتاح عليها،   بلعت ريقها بصعوبة، ورددت لنفسها هامسة:



-يا ساتر يا رب...



هرعت نجلا نحوها تركض على أطراف أصابعها، وأمسكت بيد سيرا وهي تضحك ضحكة عالية أشبه بزقزقة طائر:



-تعالي نلعب... انتي لعبتي الجديدة... أنا كنت مستنياكي من زمان!



حاولت سيرا أن تسحب يدها بلطف، لكن قبضة نجلا كانت حديدية على عكس شكلها الهش، فأجبرتها على التقدم لمنتصف الغرفة بخطوات متعثرة وهي تبتسم ابتسامة مصطنعة تحاول بها مداراة رعبها:



-طيب... نلعب... بس بالراحة، بالراحة عليا يا قمر.



جلست نجلا على الأرضية فورًا، وسحبت سيرا معها بلا مقدمات، ثم قامت بنزع حجاب سيرا من فوق رأسها بعنف، فانهالت خصلات شعرها فوق ظهرها بينما كانت سيرا ترتجف بخوف وهي تراقب أصابع نجلا ترتفع نحوها ثم بدأت تمشط شعرها بأصابعها بطريقة عشوائية، وهي تردد بأغنية طفولية نشاز:



-شعرك حرير، شعرك حرير.....هقصه بالمقص الكبير.



شهقت سيرا ووضعت يدها على رأسها تحمي شعرها الغالي، قائلة برعب:



-لا لا لا، بلاش مقص! شعري كده حلو أهو، شوفيه ناعم إزاي؟!



ضحكت نجلا بفرح طفولي وهي تربت على رأس سيرا بقوة مؤلمة قليلاً، وقالت:



-لا لازم اخليكي جميلة وأحطك في البلكونة، كل الناس تتفرج عليكي وتقول الله على لعبتي الحلوة!



ثم فجأة انطلقت تهرول داخل الغرفة تبحث عن شيء ما بين الألعاب والملابس المبعثرة، وهي تهمهم بكلمات غير مفهومة، استغلت سيرا الفرصة وهمست لنفسها برجاء:




        
          
                
-يا رب يا رب ياخدوني من هنا، انت فين يا يزن؟



ولكن نجلا عادت مسرعة، وهي تحمل وشاحًا قديمًا ومقصًا صدئًا يبدو أنه كان من أدوات خياطة مهملة، ركعت أمام سيرا بجدية شديدة وهي تلوح بالمقص قائلة:



-هقص شعرك دلوقتي... تبقي شبه باربي الحلوة!



ثم أظهرت دميتها المشوهة من بين ألعابها وهي تنظر إليهة بسعادة وفخر قائلة:



-هخليكي حلوة زيها.



شهقت سيرا شهقة مدوية، وأسرعت تقبض على المقص بيد مرتجفة، قائلة برجاء مضحك:



-لا بصي، احنا نلعب لعبة تانية... تعالي نلعب مين ينام الأول، نغمض عينينا ونعد لحد عشرة، اللي ينام يكسب!



توقفت نجلا لحظة وهي تفكر بعمق بالغ على قدر طفولتها، ثم صاحت بسعادة:



-آه آه بحب اللعبة دي!!



أغمضت عينيها بسرعة وبدأت تعد بصوت مرتفع وخاطئ:



-واحد... تسعة... تلاتة... خمستاشر...خمسة وعشرين..



انتهزت سيرا الفرصة وقفزت نحو الفراش، وغطت نفسها بالغطاء كاملاً، تتمتم برجاء:



-مش عايزة أشوف، مش عايزة أشوف...



أما نجلا، فاستمرت تعد بأرقام عشوائية، ثم فتحت عينيها فجأة وهتفت بمرح:



-فزت أنا الملكة، وإنتي لعبتي للأبد!



ثم انقضت فوق الغطاء الذي تغطت به سيرا، تضحك وتصفق بيديها كطفلة صغيرة وجدت كنزها أخيرًا، فيما كانت سيرا تحت الغطاء تتمتم:



-خلاص، أنا كده رسمي اتحولت لدبدوب.



بينما كانت سيرا تتكور تحت الغطاء ككرة خائفة، سمعت فجأة صوت تنقيب وحفر قادم من طرف الغرفة، رفعت طرف الغطاء بحذر، لترى نجلا قد فتحت حقيبة مليئة بمساحيق التجميل العتيقة، معظمها بلا أغطية، والبعض منها يبدو وكأنه عاصر أجيالًا كاملة، هتفت نجلا بسعادة وهي تلوح بفرشاة مكسورة الشعيرات:



-هعملك عروسة! تبقي أحلى عروسة في الفرح الكبير!



شهقت سيرا برعب، وقبل أن تستوعب ما يحدث، كانت نجلا قد قفزت نحوها، تمسك بوجهها بين كفيها الصغيرتين وتثبتها كما يثبت الحلاق رأس الزبون الغلبان.



-استني بس! ده ميك أب جميل، أنا اشتريته من السوبر ماركت.



لم تُتح الفرصة لسيرا للاعتراض، إذ بدأت نجلا تدعك وجهها بقوة غريبة بألوان شديدة الفجاجة، وضعت طبقة كثيفة من كريم أساس أفتح بخمسة أطنان من لون بشرتها، فبدت وكأنها قد تنكرت في زي شبح ناصع البياض، صرخت سيرا محاولة التهرب:



-نجلاااا بالراحة على وشي، ده وشي مش حيطة!!



ضحكت نجلا بصوت مرتفع وهي تلطخ أحمر شفاه بلون فاقع خارج حدود شفتي سيرا بمراحل، ثم قالت بحماس وكأنها ترسم لوحة فنية:




        
          
                
-واو! انتي شبه الكيكة بالكريمة دلوقتي!



بلعت سيرا صرخة ألمها مع كل حركة فرشاة جديدة، أما الكحل، فكان الكارثة الكبرى، اقتربت نجلا بقلم كحل مكسور وهي تقول بحماسة مخيفة:



-دلوقتي نرسم عيون كبيرة عشان تبقي زي الأميرة!!



-لا، لا يا بنتي، كفاية! أنا كده خلاص... شكلي بقيت ساحرة مش أميرة!



لكن نجلا لم تسمع، وبدأت تخط خطوطًا عشوائية فوق عينيها، لتبدو سيرا في النهاية وكأنها شاركت في مشاجرة عنيفة ضد عصابة كاملة... وخسرت المعركة.



تنهدت سيرا بيأس وهي ترى ظلها منعكسًا على مرآة مهشمة في ركن الغرفة، ثم تمتمت بسخرية مرة:



-مكنتش اقعد مع يزن وخلاص، أنا اللي عملت في نفسي كده.



وما إن انتهت نجلا من عملها الفني العظيم حتى صفقت بيديها بسعادة بريئة:



-ايوه بقى! الله! انتي لعبتي الحلوة! دلوقتي نعمل حفلة!



شهقت سيرا مجددًا، وصاحت في نفسها:



-لا لا لا، حفلة كمان؟! أنا كنت داخلة أنام مش أطلع سيرك متنقل!



ثم أمسكت نجلا بيدها وبدأت تدور بها وسط الغرفة، تغني أغنيات الطفولة بنشاز واضح، فيما كانت سيرا تدور خلفها كالدمية، تتعثر هنا وتصطدم هناك، حتى كادت تقع أكثر من مرة، وهي تهمس بيأس:



-يا رب أنا تعبت...تعبت.
                               ****



بعد جولة الرقص العشوائي العنيفة، بدأت طاقة نجلا الطفولية بالنفاد تدريجيًا، وبدت وكأنها بطارية قاربت على الانتهاء، تثاءبت بشدة حتى سال الدمع من عينيها، ثم اقتربت من الفراش وألقت بنفسها فوقه كالطفلة، تمسك ذراع سيرا وتتمتم بنعاس:



-تعالي نامي جنبي... انتي لعبتي وأنا بحب لعبتي...



أحست سيرا بقلبها ينهار، لكنها لم تجرؤ على الاعتراض خشية أن تستيقظ نجلا من جديد وتعود لحفلاتها المرعبة، فاستسلمت قدر الإمكان وجلست بجوارها متيبسة الجسد كتمثال من الرعب.



وخلال دقائق معدودة، كانت أنفاس نجلا الهادئة تملأ الغرفة، فيما بدأت شخيراتها الطفولية تعزف لحن الخلاص لسيرا.



أفرجت سيرا عن نفسها تنهيدة طويلة محملة بكل أشكال الإرهاق النفسي والجسدي، ثم همست وهي تنظر لسقف الغرفة، أثناء ارتدائها لحجابها 
 بأهمال لتُخفي شعرها المشعث:



-ياربي يعديها على خير الليلة دي...



وفي هذه الأثناء، كان يزن بالخارج يتقلب قلقًا، إذ لم يهدأ له بال وهو يعلم أن سيرا محتجزة مع "نجلا"،
فكر قليلاً، ثم خطرت بباله فكرة مجنونة، نظر حوله بحذر، ثم لمح كرسيًا قديمًا بجوار الحائط، فابتسم بخبث:




        
          
                
-مش أنا أهون من الجنان اللي هي فيه، اعمل إيه بس في قلبي.



حمل الكرسي بخفة وصعد فوقه متوازنًا كبهلوان مدرب، ثم تمسك بطرف الحائط مستندًا ليقترب من الشراعة الصغيرة فوق باب غرفة نجلا، مد رقبته بحذر وأطل برأسه من الشراعة.



كان المنظر بداخله يبعث على الضحك والبكاء معًا؛
سيرا جالسة على طرف الفراش بجسد مشلول من الرعب، وجهها مدهون بألوان زاهية وكأنها خرجت لتوها من احتفالية سيرك للأطفال، بينما نجلا تغط في نوم عميق وقد أمسكت بطرف ثوبها كأنها تخشى أن تهرب منها.



كتم يزن ضحكته بكل ما أوتي من قوة، وضغط على شفتيه بيده حتى لا يصدر أي صوت يفضحه، ثم همس بصوت منخفض وهو يحرك يده وكأنه يُرسل لها إشارات سرية:



-سيرا... سيرا.



رفعت سيرا رأسها ببطء وكأنها خائفة أن تكون تحلم، وعندما لمحت ملامحه من الشراعة، كادت تبكي من الفرحة، فتمتمت بصوت يختنق قهرًا:



-يزن! يزن طلعني من هنا... عشان خاطري طلعني قبل ما تصحى وتلون في وشي تاني!



ابتسم يزن بشفقة على حالتها البائسة، وهمس:



-طيب اهدي اهدي... هطلعك بس بالراحة، متخليش صوتك يصحيها.



أشارت له بعصبية وكأنها على وشك فقدان عقلها:



-بالراحة إيه بس! دي لو مأكدة عليا لما تصحى هتغيرلي هدومي، بسرعة يا يزن.



كتم يزن ضحكته وهو يومئ برأسه متفهمًا المأساة،
نظر حوله، ثم أشار إليها بحذر:



-بصي... أنا هشوف المفتاح فين، وانتي اول ما تلاقي الباب اتفتح، اجري بسرعك، ماشي؟



أومأت سيرا برأسها بعنف حتى كاد عنقها ينكسر من شدة الحماس.



بخفة لص محترف، أنزل يزن الكرسي، ثم بحث عن المفتاح ونظر حوله حتى وجده ملقى بإهمال فوق طاولة كبيرة بجانب باب الغرفة، فأخذه سريعًا ووضعه بحذر في الباب وهو يتمنى أن تنتهي تلك المهمة، وبالفعل فُتح الباب فتحة صغيرة بالكاد تسمح بمرور قطة، وأشار لسيرا بعينيه:



-يلا بسرعة قبل ما تصحى.



نهضت سيرا من على الفراش متسللة، تخطت الفوضى التي خلفتها نجلا بين الألعاب ومساحيق التجميل كأنها تمشي في حقل ألغام.
وحين اقتربت من الباب، لم تتمالك نفسها من الفرح، فانطلقت منه ركضًا وكأنها خرجت من سجن دام قرونًا.



وما إن أصبحت بالخارح حتى أطبقت يدها على ذراع يزن وتمتمت بيأس:



-خدني بعيد... بعيد أوي... مش عايزة أشوف مراية ولا ميك أب طول حياتي، خدني انت طلعت أهون مليون مرة من اللي شوفته جوه.



كادا يتحركان إلا أنها لاحظت باب الشقة، فهمست إليه بخطتها الجنونية:



-الباب هو يلا نهرب.




        
          
                
هز رأسه باقتناع، وتحرك صوب الباب بخطوات حذرة، وحاول فتحه بهدوء، وما إن أدار المقبض حتى فتح الباب قليلًا، ليجد "جمال " "وحمو" غافيين في الردهة بالخارج، فارتبك وأغلق الباب بسرعة، وهمس بقلق:



-لا احنا مش هنلحق نهرب، احنا هنموت كده.



أصابها الإحباط، وتحركت معه نحو الغرفة المخصصة لهما بخطوات مثقلة بالخيبة، لكنها لمحت هاتفًا أرضيًا قديمًا موضوعًا في زاوية معتمة من الصالة، فأشارت إليه بعينيها، وهمست بحماس خافت:



-تعالى نجرب التليفون الأرضي ده، مش هنخسر حاجة.



اقترب منها يزن بحذر، يسيران على أطراف أصابعهما كطفلين يخشيان الوقوع في المحظور، وأمسك بالسماعة المرتجفة بين يديه، وضغط على الأزرار بسرعة متوترة، انتظرا لحظات حبست فيها أنفاسهما حتى تهللت أساريره حين سمع صوت أخيه سليم على الطرف الآخر، فتنفس الصعداء وهمس:



-سليم بسرعة مفيش وقت.



جاءه صوت سليم ينفجر غضبًا كالرعد:



-انت فين يا حيوان؟ انت فين يا كلب؟، ده أنا هطلع *********** وواخد سيرا فين؟، أهلها قالبين الدنيا عليها.



ابتسم يزن رغم توتره وقال:



-يا عم اقفل الراديو ده، أنا في مصيبة ومعايا سيرا، عارف المعلم طلقة بتاع اسكندرية، اللي كنت هالبس في حوار جوازة بنته لما....



قاطعه سليم بلهفة:



-اه اه افتكرت ماله؟



أردف يزن وهو يتلفت حوله بتوتر:



-اهو خاطفني انا وسيرا وعايزاني اتجوز بنته التانية.



صاح سليم بسخرية مدهوشة:



-هو مفيش في مصر غيرك ولا إيه تتجوز بناته؟ إيه العبط ده؟!



هز يزن رأسه بيأس وهمس برجاء:



-المهم إن زيدان الكلب تليفونه مقفول ومش عارف اوصله، سليم الفرح بكرة حاول تتصرف بس من غير شوشرة، أنا معايا سيرا ودول تجار سلاح والدنيا هنا بإشارة منهم ممكن تهد فوق راسنا، مش عايز مشاكل.



ساد صمت قصير قبل أن يسأل سليم بقلق حقيقي:



-انت كويس؟ وسيرا كويسة؟



رمق يزن سيرا بنظرة عميقة، التي كانت تراقبه تنتظر بارقة أمل، تأمل وجهها الجميل الذي شوهته آثار اللعب به بمساحيق التجميل، فزفر بضيق ومرارة وقال:



-اه كويسين، بس مضمنش بعد كده إيه ممكن يحصل، حاول تتصرف.



جاءه صوت سليم ممتزجًا بالرجاء:



-طيب خلي بالك من نفسك و خلي بالك من سيرا، ابوها هيجراله حاجة..



ابتلع يزن الغصة التي كادت تخنقه، ونظر إلى سيرا بعينين مشبعتين بالحزن إن أصابها مكروه بسببه، ثم قال بصوت محترق:




        
          
                
-متقلقش هي في عنيا، المهم أنا احتمال ماعرفش اكلمك تاني، سلام، وافتكر بلاش مشاكل وشوشرة.



أنهى المكالمة، وأغلق الهاتف بتنهيدة طويلة حُبست في صدره منذ بداية هذا الكابوس، ثم التفت نحو سيرا، محاولًا بث قليل من الخفة في الأجواء الكئيبة، ابتسم بخفوت، وأشار برأسه بمكر وهو يقول:



-تعالي امسحي الهباب اللي على وشك ده، وانتي شبه البلياتشو كده.



سحبها عبر الممرات، عائدين إلى الغرفة، بينما كانت تسير بجواره متوجسة من الموقف برمته، دخل الاثنان، وأغلق يزن الباب خلفه بحذر، ثم التفت ينظر إليها نظرة متفحصة، فبادلته سيرا نظرة غاضبة حذرة، وقالت مهددة:



-لو ضحكت، والله العظيم أرجع أوضتها بنفسي.



رفع يزن يديه في استسلام ساخر، وابتسامة خبيثة ترتسم على وجهه:



-لا لا...هو أنا اقدر اضحك عليك يا جميل وانت في قمة شياكتك وأناقتك.



رمقته بنظرة جانبية غاضبة، تحمل من التهديد أكثر مما تحتمل الكلمات، ثم تنهدت بتعب، وألقت بنفسها فوق أقرب مقعد، متنفسة أخيرًا بعض الراحة بعد ساعات من الرعب والضغط، قالت وهي تغمض عينيها بإنهاك:



-تصدق... كنت هنسى يعني إيه الواحد يحس إنه بني آدم.



اقترب منها يزن بهدوء، وجذب من جواره صندوقًا ورقيًا صغيرًا يحوي مناديل ورقية، ناولها إياه بلطف ساخر:



-امسحي وشك عشان نقدر نتعامل مع بعض.



تناولت المنديل منه بعنف مكتوم، وبدأت تمسح وجهها بحركات هستيرية، هامسة بغضب عفوي:



-الله يخرب بيت الميك أب وأيامه...



أما يزن، فقد جلس أمامها، متكئًا على المقعد الآخر، يراقبها بعينين تحملان مزيجًا من السخرية الخفيفة والارتياح، ارتياح لأنه استطاع أن ينقذها من هذا الكابوس الطفولي، ولو بأقل الخسائر الممكنة، رغم إدراكه أن القادم قد يكون أصعب.
                            ***



ارتمى والد سيرا بجسده المرهق فوق الأريكة الكبيرة في الصالة، يحدق في الفراغ بعينين زائغتين، تحاصره الصدمة من كل جانب، جلست أبلة حكمت إلى جواره، تضع يدها فوق رأسها بحزن شديد، وكأنها تحاول أن تحبس دموعها قسرًا، كان الجميع في حالة من الذهول، وقد خيم الصمت الثقيل على الأجواء، لا يقطعه سوى شهقات مكتومة بين الفينة والأخرى.



قطع صافي زوج حكمت السكون بصوته المتفكر، قائلاً وهو ينظر إلى الحاج حسني:



-يعني هو أخوه، قالك إيه بالظبط يا حج حسني؟



رد الحاج حسني بأنفاس متقطعة، يشوبها الإنهاك والعجز:



-قالي اللي حكيته، بيقولي سيرا مخطوفة هي ويزن... ويزن عرف يوصل له، وهو لسه ما يعرفش مين اللي خطفوها وباين موضوع الخطف اللي كانت هتتعرض له في الشارع بسببه.




        
          
                
رمق الجميع بعضهم بعضًا بعيون قلقة، قبل أن تبتلع شاهندا لعابها بصعوبة، وتقول بصوت خافت مرتجف:



-طيب نبلغ الشرطة يا بابا، وهما يتصرفوا.



انفجرت فريال بالبكاء، وتحدثت وسط شهقاتها بحيرة ويأس:



-طيب ما اخوه ظابط كبير في الشرطة وأكيد بيتصرف ما اخوه هو كمان مخطوف.



رفعت حكمت رأسها ببطء، والدموع تتلألأ في عينيها اللتين توهجتا بحزن عميق، حاولت التماسك وقالت بصرامة مهزوزة:



-احنا مش عايزين نعك الدنيا، خلينا ساكتين لغاية ما نشوف اخوه الظابط هيتصرف ازاي يا بابا، مش هو اخوه الكبير قالك كده ونبه عليك، خلاص يبقى اخوه الظابط أدرى بشغله، ممكن احنا نتصرف ونعك الدنيا وسيرا تتأذي.



عندها علا صوت والدة سيرا، تبكي بقهر مرير وهي تتشبث بابنتها كريمة التي شاركتها البكاء بحرقة، وكأن الخوف والخسارة أصبحا كائنين يضغطان على قلوبهم جميعًا، هز صافي رأسه ببطء، محاولًا التفكير بوضوح وسط هذا الانهيار الجماعي، ثم قال بحذر وروية:



-فعلا احنا نستني ولو بكرة الرؤية مبانتش، نعمل بلاغ احنا كمان.



ساد المكان صمت مشحون بالترقب والخوف، وكأن الزمن نفسه توقف، ينتظر مصيرًا مجهولًا لا يجرؤ أحدهم على تخيله.



                             ***
في منزل الشعراوي، وتحديدًا في شقة سليم التي كانت تبعد عن شقة والدته، خيم صمت ثقيل على الأجواء، وكأن الجدران نفسها تنصت لنبضات قلوبهم القلقة، جلس سليم إلى جانب شمس، وبالقرب منهما مليكة زوجة زيدان، وكل منهم غارق في أفكاره المظلمة.



قطعت شمس الصمت أخيرًا، وقد تملكتها الحيرة والعتاب، فالتفتت إلى سليم قائلة بلهجة معاتبة:



-سليم ليه قولتله كده؟!



زفر سليم بمرارة، وأسند رأسه إلى راحتي يديه، يضغط على جانبي رأسه بقوة كأنه يحاول كبح الألم الذي بدأ ينهش دماغه بوحشية، قال بصوت مجهد، تسيطر عليه نغمة قهر داخلي:



-امال كنتي عايزاني اقوله إيه يا شمس؟! اقوله بنتك اتخطفت بسبب مصايب اخويا.



تدخلت مليكة، وهي تغلق هاتفها بأنامل مرتجفة، تحاول كبح مشاعر القلق والخوف التي اجتاحت قلبها:



-أنا بحاول اتصل على زيدان تليفونه مقفول، أنا قلقانة عليه.



انعقد حاجبا شمس بتفكير عميق:



-حتى هو كمان اختفائه مش طبيعي، يعني ولا موجود في القسم ولا حد بيقولنا هو فين..



رفع سليم رأسه، وقد احترق وجهه بلهيب القلق والخوف، ثم قال بصوت يحمل في طياته غضبًا مكتومًا:



-أنا هتجنن، هيجرالي حاجة، حاسي إيدي متربطة ومش عارف اتصرف، مش عارف ادور على زيدان، ولا اروح الحق اللي لابس في مصيبة ده.



ساد الصمت للحظات قبل أن تتدخل مليكة بصوت خافت لكنه يحمل قوة خفية، وكأنها تحارب النار المشتعلة في صدرها خوفًا على زيدان:



-لا طبعًا روح ليزن، وأن شاء الله زيدان يكون كويس، وهو لو اتصل عليا أنا هبلغك على طول.



تردد صدى كلماتها في أذنيه كنداء للنجاة، فما كان من سليم إلا أن نهض فجأة، مندفعًا نحو غرفته، يسرع في ارتداء ثيابه بحركات عصبية متوترة، لحقت به شمس، وهي تشعر بالريبة من إصراره الغاضب، وسألته بقلق شديد:



-رايح فين يا سليم؟!



توقف عن ارتداء قميصه للحظة، ثم التفت نحوها بنظرة يملؤها السخط، وقال بسخرية مرة، كأنها خرجت من جوف بركان غضب مكتوم:



-رايح اسكندرية، هروح للمعلم زفت ده ما اشوف هو عايز إيه من يزن.



 اقتربت منه شمس بخطوات مترددة، وقالت بإصرار:



-طيب آجي معاك.



نظر إليها باستغراب مشوب بالغضب، وصاح:



-تيجي معايا فين؟ انتي اتجننتي؟



لم تضعف شمس، بل زادها خوفها وتصميمها عنادًا، فأردفت بإلحاح:



-سليم المرة اللي فاتت أنا اللي حليت الموضوع لما اتكلمت مع البنت، صح ولا لا، يمكن اعرف اتكلم مع حد هناك واو اقنع البنت إنها تقف لابوها.



أطرق سليم للحظة، كأن كلماته تسحبه للتفكير، لكنها كانت لحظة قصيرة لم تُثنه عن عزمه، قال بنبرة حاول فيها أن يبدو حازمًا:



-لا حتى لو بردو مش هتيجي.



-يا حبيبي لو فكرت هتلاقي كلامي صح، صدقني، يزن مش عايز مشاكل، وده تاجر سلاح، يعني يوم ما نتكلم معاه نتكلم بهدوء وبعقل.



تنهد سليم، وكأن العالم كله انكب فوق صدره، ثم قال بنبرة قاطعة وهو يلتقط مفاتيحه:



-مش هقدر اخدك يا شمس، مش هقدر، لا يمكن يحصل اللي بتقوليه، سيبني دلوقتي عشان الحق اسافر.



رمقها بنظرة خاطفة حانية، وكأنها آخر دفقة أمل يتمسك بها، ثم انطلق خارج الغرفة، مصممًا على أن يواجه العاصفة وحده مهما كلفه الأمر.
______________
قراءة ممتعة ♥️🤩🥀




        



google-playkhamsatmostaqltradent