رواية غناء الروح الفصل السابع و العشرون 27 - بقلم زيزي محمد
الفصل السابع والعشرون
الفصل السابع والعشرون...
مرت الدقائق عليهما داخل السيارة ثقيلةً خانقة، وهي تتشبث بيزن كمن يودع أنفاسه الأخيرة، بينما هو ظل صامتًا، شارد الذهن، غارقًا في تفكير عميق حول تلك المصيبة التي حلت بهما، قطع عليه شروده همسها الخائف بجانبه:
-يزن، هما هيعملوا فينا إيه؟!
-معرفش.
أجابها باقتضاب، فاغتاظت من هدوئه الذي بدا لها غير مبرر وسط هذا الخطر الداهم، غير مدركة أنه كان يحاول كبح جماح أي تصرف متهور قد يجر عليهما الويلات، واضعًا سلامتها نصب عينيه، غير أنها لم تحتمل الصمت أكثر، فتجرأت ونادت على الرجل الذي تولى مهمة اختطافهما، قائلة بحبور غريب:
-حضرتك انت واخدنا على فين؟!
-اسكندرية عند المعلم طلقة.
أجاب الرجل دون أن يكلف نفسه عناء النظر إليها، فصاحت باستنكار، أفزع حتى يزن نفسه:
-لا اسكندرية لا، أنا ماقدرش أسافر معاكم، اقف ونزلني هنا.
رمقها الرجل بنظرة غاضبة وهو يجيبها بخشونة:
-انتي طالعة فسحة يا روح ***، اقعدي ساكتة، يا أما هافرغ ده في دماغك.
رفع يزن أحد حاجبيه باعتراض واخشوشنت نبرته بقسوة:
-أنت بتشتمها ليه، لم نفسك يا عم، أحسنلك.
بلمح البصر، أشار الرجلان بالسلاح نحوه، فخفق قلبها خوفًا عليه، خاصةً أن نظراته كانت تنذر بانفجار وشيك، همست إليه برجاء وهي لا تزال تحتضن ذراعه:
-خلاص يا يزن، خلاص سيبك منه.
-طيب سكتها يا اخويا، عشان مسكتهاش طول حياتها.
تدخل أحد الرجال قائلاً:
-خلاص أحمووو، عديها بقى.
زفر الرجل بقوة والتفت إلى الأمام، بينما سيرا حاولت تهدئة يزن، فهمس لها بغل مكبوت وهو ينظر إليها:
-اسكتي خالص لغاية ما نوصل ونشوف عايز مني إيه.
همست إليه بخوف تجلى بوضوح في عينيها:
-أنا خايفة من بابا وخايفة يقلقوا عليا لو اتأخرت.
زم شفتيه بضيق وهمس مجددًا:
-انتي المفروض تخافي من اللي احنا فيه، الباقي كله سهل، بس نخلص بس من الحوار ده.
هزت رأسها بتفهم وعادت بجسدها إلى الخلف، تحاول الاستكانة بينما قلبها يهوي في فوهة جحيم الخوف، ولم تدرك أنها لا تزال تتشبث بذراعه كأنها تتشبث بطوق نجاة، أما هو فلو وصل به الأمر لاحتضانها لحمايتها لفعل، إلا أنه تشبث بهدوئه الظاهري، متعجبًا من شدة خوفه عليها، خوف لم يشعر به حتى على نفسه.
مرت الساعات ثقيلةً وهما في الطريق، حتى وصلا أخيرًا إلى الإسكندرية، كانت المرة الثانية التي تطأ قدماه فيها تلك المنطقة، حيث كان المعلم "طلقة" قد أراد تزويجه ابنته رغمًا عنه، والآن ها هو يعود إليها مجددًا، ولكن بظروف مختلفة، وهي تتشبث بكفه وتسير خلفه، تُساق كما تُساق الأضاحي، تحت أعين رجال المعلم.
لكنهم لم يتجهوا هذه المرة إلى بيت المعلم طلقة، بل قادوهما إلى مخزن مهجور قريب، تفوح منه رائحة الرطوبة والصدأ، لفت انتباه يزن استعدادات قائمة لحفل زفاف شعبي بدا أنه سيُقام قريبًا في الحي.
دخلا معًا إلى المخزن، وأمرهما المدعو "أحمو" بالجلوس على مقعدين خشبيين متآكلين في انتظار قدوم المعلم طلقة، ثم جلس هو أيضًا بالقرب منهما، مما أضفى على الجو مزيدًا من التوتر والرهبة، لم يتبادلا كلمة واحدة، خوفًا من إثارة غضب الخاطفين، حتى دخلت عليهم سيدة ثلاثينية، اتضح سريعًا أنها زوجة "أحمو".
قالت السيدة والتي تدعى "غزالة" بنبرة غاضبة:
-حلو أوي ماتردش على اتصالاتي أحموو، بس عرفت أجيبك.
رفع "أحمو" نظره إليها قائلاً بخشونة ظاهرة:
-جرى إيه يا غزالة؟!، ما تظبطي نفسك، هو أنا كنت بدلع ما أنا كنت في شغل.
ثم أشار بعينه نحو يزن وسيرا الجالسين كالأصنام، غير أن غزالة لم تهتم بهما، بل تابعت بصياح حاد:
-يعني إيه أحمو محضرش شوار أختي لامؤاخذة، أنت اتجننت في عقلك يا راجل.
رد عليها بعناد قاسٍ:
-مزاجي كده، ومش هتحضريه وتمشي كلمة أبوكي عليا.
شهقت هي باستنكار لاذع:
-لا بقى كلمة أبويا هتمشي، تصدق كلامه صح، أنت مش عايزاني أحضر شوار أختي عشان أمك هي اللي قالتلك كده، أمك بتمشي كلمتها عليك أحمو.
-يعني أبوكي اللي قالك كده؟
هزت رأسها مؤكدة، وزادت بوقاحة:
-وقالي سيبك منه ابن أمه.
وقف فجأة وجذب سلاحه من خلف ظهره، قائلاً بنبرة متوعدة:
-ولما اقتلهولك هتتبسطي، طيب وديني لاقتلهولك.
ثم غادر المخزن بخطوات صاخبة غاضبة، تاركًا زوجته تنظر خلفه ببرود، وكأن تهديده لم يحرك بها ساكنًا، التفتت غزالة برأسها إليهما بنظرات فضولية، وقالت بإعجاب غريب:
-جايين في مصيبة إيه؟! ولا انتوا شكلكوا شبه بتوع السيما وبالذات أنت يا قمر.
غمزت بطرف عينها نحو يزن، الذي جلس مذهولًا من جرأتها، فأجابت سيرا بسخرية ممزوجة بالدهشة:
-حضرتك باباكي هيتقتل مش واخدة بالك ولا إيه؟!
جذبت غزالة مقعدًا، وجلست أمامهما متحفزة، تسأل بفضول طفولي:
-ها جايين في مصيبة إيه؟!
هزت سيرا كتفيها بحيرة وقالت:
-منعرفش، بس لو حضرتك مش واخدة بالك، حمو هيقتل باباكي.
نهض يزن متوترًا ليتأكد من خلو المكان بالخارج، غير أن غزالة استوقفته بسخرية:
-اقعد يا باشا المكان برة متلغم، وبعدين انت عايز تدخل المخزن ده وتخرج كده منه سليم..
استنكرت سيرا بتهكم:
-امال هيقطعونا؟
ثم أردفت باستغراب حقيقي:
بس حقيقي أنا مستغربة، باباكي هيتقتل وانتي ولا هنا.
حكت غزالة ذقنها بتفكير وهي تنظر إليهما:
-بس شكلكوا ولاد ناس، يا ترى المعلم طلقة عايزكم ليه؟ انتوا معلمين عليه لا مؤاخذة؟
ردت سيرا متحفزة:
-حضرتك هو اللي معلم علينا لغاية دلوقتي، بس باباكي...
قاطعها يزن بنظرة حادة، ثم التفت إلى غزالة قائلاً بلباقته المعتادة:
-احنا فعلاً مانعرفش، بس لو أمكن ممكن تليفونك يا قمر بس اعمل منه اتصال؟
ابتسمت غزالة بإعجاب واضح:
-ياخويا لسانك حلو زيك، بس لا حموووو يزعل مني وكله إلا زعل حمو.
همست سيرا لنفسها بغيظ:
-وباباها عادي يتقتل!!
سألت غزالة يزن بإعجاب سافر:
-انت عايز التليفون ليه يا حلو يا اللي شبه الحلاوة الطحينية انت؟
ابتسم يزن ابتسامته الخاطفة، وقال بنبرة مغوية أوقع بها تأثيره عليها:
-اتصل على حد قريبي، ولو كنتي خايفة من حمو أنا لا يمكن اقوله، معقولة أأذيكي يا قمر؟!
شبت نيران الغيرة في قلب سيرا، فلكزته بساقها تحت الطاولة، وهمست له بحدة:
-احترم نفسك أنا قاعدة.
ضحكت غزالة وهي تخرج هاتفها من محفظتها الصغيرة، وقالت وهي تقدمه إليه:
-خد بس اتصل على أرقام فودافون بس ممعيش رصيد لشبكات تانية.
أخذ يزن الهاتف وأجرى اتصالًا بزيدان، فوجده مغلقًا، أعاد المحاولة عدة مرات بلا جدوى، ثم زفر بضيق وهم بالاتصال بسليم، بينما غزالة كانت تثرثر مع سيرا بفضول لا يخبو:
-وانتي تقربيله إيه؟؟
-أنا...أبقى..
ترددت سيرا للحظات قبل أن تقول بابتسامة سمجة:
-مراته.
علقت غزالة بحماس:
-لايقين على بعض.
وفي تلك اللحظة علت أصوات جلبة بالخارج، فأدركت غزالة أن المعلم طلقة قد وصل، انتزعت هاتفها سريعًا من يد يزن قبل أن يتمكن من إجراء اتصال، وقالت برجاء:
-اوعى تقول إن أنا اديتك التليفون، أصله راجل شراني.
ما إن أنهت جملتها حتى فُتح الباب الكبير بقوة، ودخل المعلم طلقة وخلفه عدد لا بأس به من الرجال المسلحين، شعرت سيرا وكأنها انزلقت فجأة إلى قلب فيلم سينمائي مريب، فقال المعلم طلقة بصوته الجهوري:
-أهلاً يا ابو نسب، أهلاً بكريمة المجتمع.
وقف يزن يصافحه وقد تعمد إظهار استيائه من الموقف برمته، بينما كانت سيرا فارغة الفاه، وغزالة قد انسلت إلى الخارج خوفًا أن يطالها بطش هذا الرجل المتغطرس:
-بقى دي معاملة يا معلم؟
صافحه المعلم "طلقة" بقوة شديدة، وقد علت وجهه ابتسامة عريضة تكشف عن سعادته حين نجح رجاله في تحقيق مأربه:
-ماتزعلش يا ابو نسب، بس كان لازم اجيبك النهاردة لامؤاخذة ضروري...اقعد هنتكلم على الواقف.
جلس يزن على مضض، وقد اكتسى وجهه مسحة من الجمود، منتظرًا بدء حديثه، غير أن المعلم طلقة جذب انتباهه إلى وجود سيرا المرتعبة مكانها، فالتفت نحو رجاله وأمرهم بخشونة مفزعة:
-مين دي يا حمار منك له، أنا قولت تجيبوا كريمة المجتمع بس.
فزفر يزن بقوة، وأمسك يدها بتملك ظاهر، خشية أن يطالها تهور هذا الرجل الأرعن:
-دي مراتي يا معلم.
توسعت أعين المعلم طلقة بصدمة مفاجئة:
-أيه؟، انت اتجوزت؟
قبضت سيرا فوق أصابع يزن بقوة، حينما لمحت لمحة الشر المتجسدة في عيني ذلك الرجل الغريب، فأجاب يزن بهدوء غريب:
-اه من فترة.
-كده المسألة اختلفت واتغيرت ولا إيه يا جماااال.
هب جمال واقفًا خلفه، ينظر إلى يزن وسيرا بتفكير عميق، ثم ما لبث أن همس ببعض الكلمات بجانب أذن المعلم، وعلى إثر كلماته، اتسعت ابتسامة طلقة بقوة وهو يقيم الموقف بعينيه، فأشار إلى جمال بالابتعاد، وانتبه مجددًا إلى يزن قائلاً:
-مش مشكلة يا ابو نسب انت بردو هتفضل ابو نسب،
أنا لامؤاخذة عايزك في حوار كده، خدمة هتقدمهالي قصاد انت والمحروسة مراتك تخرجوا من هنا سالمين غانمين.
تصلب يزن في مقعده وهو يسأل بشك:
-ده تهديد يا معلم؟!
-اعتبره تهديد، أو اعتبره عربون محبة انت هتعمله وفي المقابل....
صمت قليلاً وهو يفكر، ثم صدح صوته بخشونة مهددة:
-الصراحة مفيش غير المقابل ده، هي أوراحكم دي مش مهمة ولا إيه يا مدام؟
أشارت سيرا نحو نفسها بتلقائية وهي تسأله ببلاهة:
-حضرتك بتكلمني؟!
هز رأسه مؤكدًا وهو يسأل بشك ساخر:
-ولا انتي مش المدام، ولا إيه؟
احتضنت ذراع يزن وجذبته بقوة نحوها، مؤكدة برأسها بقوة:
-لا المدام حضرتك، يزن شوفه عايز إيه واعمله.
قالتها برجاء خاص ينبع من قلبها المرتجف، فتنهد يزن بقوة وهو يعتدل بجسده، تاركًا ذراعه التي تعشق التعلق به كطفلة صغيرة:
-عايز إيه يا معلم؟
اقترب المعلم طلقة بمقعده وهمس بضيق وهو ينظر حوله:
-بتي...مش فايزة طبعًا، فايزة دلوقتي متجوزة...
ثم خفض صوته أكثر، وكأنه يفضي بسر دفين:
-بتي نجلاااا، لامؤاخذة أنا مخبيها عن الكل، عشان عقلها...خفيف.
رفعت سيرا حاجبيها بفضول لا تستطيع كتمانه، فسألته متعجبة:
-خفيف ازاي يعني؟؟
أطرق برأسه وهو يشرح ببساطة محزنة:
-يعني عقلها لاسع شوية لا شويتين، بس واللي خالقني مفيش أطيب من قلبها، المهم بقى يا ابو نسب، بتي دي أنا بتعاير بيها لامؤاخذة من أخويا الله يجحمه، راح فاضحني وسط المعلمين بيها، وخلاني الهزوء بتاعهم كلهم، فأنا الدم غلي في عروقي، وقولت وديني لاجوزها واعملها فرح تتحاكى بيها اسكندرية كلها، اه مش أنا اللي يتلوي دراعه.
كان يزن وسيرا يتبادلان نظرات الاستفهام، فسرعان ما صرح المعلم طلقة ببسمة إجرامية منتصرة:
-مالقتش غيرك يا ابو نسب تتجوزها ونعمل الفرح وافرح واتباهى بيك في وسط المعلمين واكبس أخويا ابن الـ ******.
ساد صمت غريب وطويل بين الجميع، حتى حمحم المعلم طلقة بخشونة قبل أن يسأل باستنكار:
-ساكت ليه يا ابو نسب؟!
تحشرج صوت يزن وهو يجيبه، يكاد لا يصدق ما يسمعه:
-مش قادر افهم، هو انت يا معلم مش واخد بالك من اللي متعلقة في دراعي دي؟ دي مراتي!
زم المعلم شفتيه في ضيق، وردد بضجر:
-اه ما أنا لما شوفتها لخبطت كل حاجة، بس عادي جمال دراعي اليمين قالي تمثل إنك هتتجوز بنتي ولما الفرح يخلص تاخد بعضك انت والسينورة وتمشوا.
صمت يزن، يفكر قليلاً في خطورة هذا الموقف، ثم نظر إلى سيرا فوجدها مرتعبة حد الغرق في ذعرها، قال بهدوء وابتسامة أدهشتها:
-طيب أنا مقدرش ازعلك وماشي موافق على كلام جمال دارعك اليمين، بس يا ريت بس اتصل على سليم أخويا ابلغه عشان.....
قاطعه المعلم طلقة بإشارة نفي قاطعة ونبرة ساخرة:
-لا...اخوك ده لا، دخلته بتربكني يا جدع، ولا اجدعها معلم يقدر يهز فيا شعره لكن اخوك ده تحسه وزير داخليه في نفسه، او رئيس جمهورية كده، لا أنا قلبي بيتقبض منه، وأنا كله إلا قبضة قلبي، المهم يلا بينا نطلع اوريك بتي نجلااااااا.
نهض المعلم طلقة يتحرك ومن خلفه رجاله كالسد المنيع، فنهض يزن وأمسك بكف سيرا، إلا أنها همست بتيه:
-يعني إيه يا يزن الكلام ده؟
همس لها بضيق وهو يساعدها على الحركة وسط الرجال:
-يعني اللي سمعتيه، هلبس في حوار زفت.
-لما اطلع برة اصوت والناس تتلم، وانا وانتي نجري بسرعة.
قالت خطتها البائسة والساذجة، فنهرها سريعًا بخفوت حاد:
-لا يا سيرا، اوعي المنطقة كلها أصلاً تبعه، بلاش مشاكل، وأنا هحاول اشوف تليفون واتصل على سليم يتصرف.
هزت رأسها بتفهم صامت، وخرجا إلى ساحة الحي الذي كان يشهد انتقالهم للمنزل باعتيادية لا تبالي، وما لبثت عيناها أن وقعتا على غزالة، واقفة وسط جمع من الفتيات، تشير نحو يزن وتهمس إليهن ببعض الكلمات، فتتسع عيونهن بالهيام، رمقتهن سيرا باشمئزاز، ودون وعي منها، تركت كفه وتعلقت بذراعه بقوة، فهمس إليها بسخرية خافتة:
-دراعي اتخلع.
ردت عليه بغيظ طفولي:
-عضلاتك طلعت فشينك يعني، كنت حاسة والله، إلا لما شوفتلك أي أكشن، بوكس كده، طيرت واحد كده، انت أكشن صامت ولا إيه؟!
رفع حاجبيه بغيظ ظاهر، فالبلهاء فسرت هدوءه خضوعًا لا حذرًا عليها، في هذه اللحظة انتبهوا إلى صوت المعلم طلقة، وهو يدخل شقته ثم يأمر المتواجدين بالابتعاد، حتى وقفوا أمام غرفة بابها خشبي تعلوه نافذة مستطيلة موضوعة عليها زجاج سميك، مال المعلم طلقة عليهما وقال بحزن طغى على صوته الخشن:
-بتي، كبدي، الحتة الشمال جوه.
امتعضت وجوه يزن وسيرا من طريقته الغريبة، ثم فتح الباب، فظهرت فتاة تبدو على مشارف العشرينات، تتراقص على أنغام أغنيتها المفضلة:
"كاك كاك صو صو صو...كاك كاك كاك صو صو صو
أنا الفرخه واحنا الكتاكيت...أنا الفرخة واحنا الكتاكيت....اكلكو إيه؟ اكلنا فتافيت...لعبكوا إيه؟ جرى وتنطيط....."
ثم ركضت الفتاة هنا وهناك، تدور بخصلات شعرها الطويلة المضفّرة بعناية، وفستانها الطويل يتطاير مع حركتها الطفولية العفوية، وما إن وقعت عيناها على والدها حتى اندفعت إليه، تمسك بيده بحماسٍ طفولي تحت أنظار يزن وسيرا المصدومتين؛ إذ لم يصدقا أن هذا الرجل الجالس أمامهما، المهاب صيته كتاجر سلاح، قد تحول في لحظة إلى راقص مهرج على نغمات أغنية طفولية قديمة.
ومع كل حركة يؤديها، كان السلاح يرتفع وينخفض في يده وكأنه كرة خفيفة بين أنامله، في مشهدٍ مضحكٍ ومثيرٍ للأسى معًا، انسحب المعلم طلقة من الرقصة بأسلوبٍ عجيب، أشبه براقص باليه محترف، رغم بطنه الكبير وشاربه الضخم وهيئته التي تليق برجل قاسٍ، لا براقص طفولي، وما إن فرغ من عرضه حتى أغلق الباب خلفه، وكأنما يخشى أن تتسرب لحظات ضعفه للخارج.
ظهرت علامات التأثر على وجه سيرا، فهتفت بعدم رضا، بنبرة خافتة ولكنها واضحة:
-بس انت كده حرام بتأذيها لو عرضتها لفرح، حرام عليكوا، مش علشان اخوك تأذي بنتك.
استدار المعلم طلقة إليها ببطء، ونظرة متحدية تقفز من عينيه، رغم اللمعان الحزين الذي لم يخفَ على أحد، وقال بصلابةٍ متهدجة بالحزن:
-ودي بنتي ومش هسمح لأي كلب يطلع عليها كلمة، مش هو بيقول بته عمرها ما هتتجوز، لا أنا بقى هعملها أحلى فرح واتباهى بيها.
-بس....
لم تكمل سيرا جملتها؛ إذ قاطعها يزن بنظرة صارمة وكلمة حادة حاسمة:
-خلاص يا سيرا، هو أبوها وادرى بيها.
رمقه المعلم طلقة بإعجاب صريح، ونبرة تخللتها مودة واضحة:
-لا حمش....عجبتني.
رد يزن بتهكم خفيف:
-لا أنا حمش اوي مقولكش.
ضحك المعلم طلقة ضحكة قصيرة ثم ضرب فوق ذراع يزن عدة ضربات ودودة قائلاً بإعجابٍ صريح:
-اه يا ابو نسب لو مكنتش اتجوزت، عليا الطلاق من مرتاتي الاربعة لكنت مجوزك نجلاااا.
وأثناء حديثه، استدار فجأة ليجد زوجاته وبعض النسوة يقفن يتابعن المشهد بفضولٍ لم يتمكن من إخفائه، فصاح بهن بخشونة صاخبة:
-يلا منك ليها، حضروا الأكل للضيوف وجهزوا الاوضة الكبيرة ليهم.
صدح صوت إحدى النساء، تسأل بفضول بريء:
-اوضة واحدة بس يا سيد المعلمين.
هز رأسه مؤكدًا، وأشار بيده في حركةٍ يائسة محبطة:
-اه ما هي مراته.
فغرت سيرا فاها بدهشةٍ واستنكار، ونظرت إلى يزن تسأله بلا تصديق:
-يعني إيه الكلام ده؟!
ابتسم يزن ابتسامة جانبية ماكرة وقال بمودة مفتعلة:
-يعني يلا يا روح قلبي على اوضتنا.
انتفضت سيرا، وقد ارتسمت الصدمة على ملامحها، وقالت في خفوت يتخلله عنادٍ شديد:
-لا على جثتي طبعًا، يقتلني أحسن.
اقترب منها هامسًا بنبرة يغلفها العبث:
-بس هتعصي أمر جوزك، الملايكة هتلعنك.
أشاحت بوجهها عنه وقالت ساخرة، تصطنع الغضب لتغطي اضطرابها:
-دي تلعني لو دخلت معاك اوضة لوحدنا.
****
في منزل سيرا...
كانت عقارب الساعة تقترب من التاسعة مساءً حين طرقت فريال باب غرفة والدها طرقة خفيفة، ثم دخلت بحذر وقد ارتسم الارتباك جليًّا على ملامحها المرتبكة، وقفت أمامه مترددة قبل أن تهمس بصوت خافت:
-بابا حضرتك فاضي؟
كان الرجل يجلس متأمّلًا، وبين يديه مصحف يتلو منه بهدوء وسكينة، أغلق المصحف برفق، ووضعه إلى جواره، ثم اعتدل في جلسته موليًا ابنته كامل انتباهه، وقال بصوت دافئ:
-اه يا حبيبتي، تعالي ادخلي عايزة إيه؟
بدت فريال وكأن الكلمات تخونها للحظة، وقفت مكانها، تتردد بين أن تصرح بما يقلقها أو أن تصمت، وقد جف ريقها من شدة التوتر، كانت تخشى أن تخبره بأن سيرا مفقودة، وأن هاتفها مغلق، وأنها لم تذهب إلى عملها اليوم، رغم أنهم قد تواصلوا مع مكان عملها وفاطمة أيضًا دون جدوى.
انتبهت من شرودها على صوت والدها الذي قطع حبال أفكارها:
-انتي عايزة فلوس يا حبيبتي؟ عيالك محتاجين حاجة؟
أسرعت تهز رأسها نفيًا، حركة سريعة حاسمة، ثم ابتسمت له ابتسامة ممتنة وهي تهمس بحب ورضا:
-ربنا يخليك لينا انت مش مخلينا محتاجين حاجة، بس...
شهقت بخوف مكبوت، وكأنها تفرغ همًّا أثقل كاهلها، ثم ألقت ما في جعبتها أخيرًا:
-سيرا مختفية، هي المفروض ترجع الساعة ٧ ولما مارجعتش قلقنا عليها اتصلنا عليها تليفونها مقفول، اتصلنا على المكان اللي بتشتغل فيه قالوا مجتش، اتصلنا على فاطمة قالتلنا مشفتهاش، ومش عارفين هي راحت فين؟
رمش الرجل بعينيه كأنه يحاول استيعاب ما سمعه، وقد بدأ القلق يتسلل إليه شيئًا فشيئًا، فعبث بأنامله في ذقنه وقال بحيرة:
-اتصلتوا على كل أصحابها، يمكن راحت عند حد فيهم أو عند حد من الجيران...
هزت فريال رأسها نفيًا بمرارة وأجابت بانكسار:
-مفيش حد يا بابا مسبنهوش واتصلنا عليه، وماما بتقول هي متعودة مابتروحش في مكان إلا لما بتستأذن ماما الأول....وفي حاجة كمان.
ازدادت ضربات قلبه قلقًا، وبدت علامات التوتر الشديد على قسمات وجهه، فاعتدل أكثر في جلسته وأمرها بنبرة خفيفة لكنها حادة:
-إيه؟ قولي بسرعة.
بادرت فريال، وكأن الكلمات تتدافع على لسانها:
-دهب بنت أبلة حكمت شافتها الصبح بتركب مع يزن العربية، اتصلنا على يزن تليفونه هو كمان مقفول، وأبلة حكمت بعتت حد للمعرض بتاعه قالوا مجاش، احنا قلقانين، عايزينك تتصل على اخوه الكبير تشوفه فين ويقولنا أخر مرة وصلها فين؟
كأن النار اشتعلت في صدره من هول القلق، فصاح بها وهو ينهض واقفًا:
-هاتي تليفوني بسرعة...بسرعة.
****
في منزل الشعراوي...
أخرجت شمس طاجن البامية من الفرن بعناية، تصاعدت رائحة شهية منها تغمر المكان، فابتسمت برضا وانتصار، وهمست لنفسها بسعادة:
-يزن هيعمل فرح لما يليقك على السفرة.
وضعت الطاجن بحذر على طاولة المطبخ، وكادت تلتفت لتكمل إعداد مائدة الطعام، إلا أن يدًا قوية باغتتها من الخلف، تلف حول خصرها بجاذبية، تجذبها إليه بقوة حتى التصق ظهرها بصدره الدافئ، سمعت همسه الرجولي يلامس أذنها:
-طيب وأنا ماليش في الطيب نصيب؟
رمقته بطرف عينها، مستنكرة بدلال لا تخلو من الغنج:
-سولي الحركات دي مسمحش بيها برة بيتنا، عيب افرض حد قفشنا.
دارها نحوه لتواجهه، فتلاقت أعينهما، وقال بنبرة متضايقة حاول أن يخفيها خلف قناع من المرح:
-وإيه يعني؟! هيقولوا قد إيه أنا غلبان ومراتي سيباني وواقفة بتعمل عشا وبتعمل بامية للزفت يزن.
داعبت وجهه بإصبعها بنعومة وهي تهمس بخبثٍ أنثوي:
-سولي أنت غيران؟ ده يزن أخويا الصغير.
تجهمت ملامحه، وزادت حدة صوته بالرغم من بقاء نبرة المزاح:
-أولاً الشحط ده مش أخوكي الصغير، ثانيًا هو أنا ماليش نفس في أكله تعمليهالي ولا أنا هفضل كده محدش يعبرني.
اتسعت ابتسامتها أكثر حتى كادت أن تثير جنونه، فضمها إليه بقوة أكبر، واقترب منها حتى لم يبق بينهما إلا أنفاسهما المتلاحقة، ثم سألها بصوت أجش يحمل مزيجًا من الغيرة والرغبة:
-بتضحكي على إيه؟
شاكسته بشقاوة محببة:
-بحبك وانت غيران عليا، انت كده هتخليني اعمل بامية كل يوم ليزن.
قبل أن يرد، ارتفع رنين هاتفه، قاطعًا عليهما لحظتهما الرومانسية، قطب حاجبيه بانزعاج وهو يخرج الهاتف من جيبه، زادت دهشته عندما رأى اسم والد سيرا على الشاشة، صافحته مشاعر التوجس، فاعتدل قليلًا وهمهم قبل أن يجيب بنبرة رسمية:
-الو، السلام عليكم.
صمت لحظات وهو يصغي للطرف الآخر، وقد بدأ القلق يتسلل إلى قسمات وجهه، ثم عقد حاجبيه بشدة وقال بلهجة مطمئنة رغم اضطرابه الداخلي:
-أنا معرفش حاجة، بس معلش اديني وقت بس اتصرف واشوف يزن فين، ومتقلقش ان شاء الله خير.
استمر يستمع، وعندما لمح تصاعد حدة التوتر في صوت الحاج حسني، بادره سريعًا:
-لا لا نجدة إيه، ما هو زيدان اهو موجود وبعدين استناني بس اتصرف اشوف يزن، متقلقش.
أنهى المكالمة وهو يزفر ببطء كأنه يحاول أن يلجم القلق الذي بدأ يزحف إلى صدره، لاحظت شمس توتره، فسارعت بسؤالها الفضولي:
-في إيه يا سليم؟
لم يجبها فورًا، بل كان منشغلًا يحاول الاتصال بيزن، فوجد هاتفه مغلقًا، مما زاد من توتره، اتجه مباشرة للاتصال بزيدان، ولكن المفاجأة كانت أن هاتفه الآخر أيضًا مغلق، شعرت شمس بالخطر الكامن خلف صمته، فأعادت سؤالها، ولكن هذه المرة بنبرة قلقة صريحة:
-سليم...قولي في إيه؟، قلقتني!
أعاد الهاتف إلى جيبه ببطء وكأن أنامله قد ثقلت عليه، ثم التفت إليها وقد بدا العبوس جليًا على محياه، وقال بجدية قاطعة:
-سيرا مش موجودة ومختفية من الصبح وبيقولوا كانت مع يزن الصبح واهلها سألوا على يزن بردو هو كمان مختفي، وفي المعرض قالوا مش موجود ومجاش.
وضعت شمس يدها على فمها من الصدمة، ثم قالت بسرعة:
-طيب اتصل بالمعرض انت وشوف يمكن بلغهم هو راح فين، ومش عايزين يقولوا لحد، غريبة يزن مابيسبش معرض أبدًا.
هز سليم رأسه ببطء، وقد سيطر عليه شعور ثقيل بأن شيئًا غير طبيعي يحدث، فأجابها بنبرة تحمل مزيجًا من الشك والقلق:
-مش طبيعي... يزن مابيختفيش فجأة كده.
نظر كلاهما إلى بعضهما، وقد انعكست المخاوف في عيونهما، وتسللت رهبة خفية إلى قلبيهما.
****
بينما كان القلق يملأ قلوب أهلها، كان الوضع مختلفًا تمامًا لدى سيرا، التي جلست بالقرب من يزن، تراقبه وهو يتناول الطعام بأريحية شديدة، وكأنهما ليسا مخطوفين من قبل تاجر سلاح خطير.
انتقلت ببصرها إلى طاولة الطعام الكبيرة التي كان يترأسها المعلم طلقة، يأكل بنهم، مستكملاً حديثه بفخر واعتزاز:
-وهجيب الليثي وبوسي ورضا البحراوي ولو حابب أي مغني في الجمهورية قولي وأنا هجيبه.
وضعت سيرا يدها أسفل خدها في حركة ساخرة، وهمست بسذاجة مصطنعة:
-ينفع تجيبوا عمرو دياب؟
التفت الجميع نحوها بدهشة مشوبة بالذهول، وقد لاحظوا بوضوح سخريتها من المعلم، فسارعت إحدى زوجاته، وهي تضع الطعام في فمه بحركة ملؤها الخوف، تهمس بتوسل:
-إلا يااختي هما أهلك مش علموكي وجوزك بياكل تأكليه في بوقه، يا اختي بتوع القاهرة دول قلبهم جامد، احنا الاسكندرانية نحب ندلع جوزنا.
التفت يزن نحوها وهو يبتسم بمكر، والطعام في فمه، ينتظرها أن تطعمه كما تفعل النساء الأخريات، رمقته سيرا بنظرة شرسة ثم التفتت إلى السيدة قائلةً بحنق مكتوم:
-لا ما هو بيقرف اوي اوي.
ضحك يزن بخفة وهمس بإصرار:
-لا مابقرفش منك، أكليني.
ضربته بساقها تحت الطاولة وهي تحدجه بنظرة تحذيرية، لكنه لم يرتدع، بل أشار بعينيه نحو طبق الأرز بإصرار طفولي متهكم:
-أكليني رز.
ضغطت على شفتيها غيظًا وهي تلتقط الملعقة وتطعمه مرغمة، والسخط يرتسم على ملامحها، بينما ظل المعلم طلقة يرمقهما بإعجابٍ صامت، يتابع تصرفاتهما، ثم همهم معلقًا وهو يمضغ لقيماته:
-كريمة المجتمع حمش حمش يعني.
وضعت سيرا الملعقة فوق الطاولة بغيظ، ثم عادت تسند رأسها على كفها، متأملة ساعة الحائط، فإذا بها تشير إلى الثانية عشرة بعد منتصف الليل، شعرت بحلقها يضيق شوقًا لعائلتها وخوفًا من مصيرها المجهول، فتسلل الحزن إلى ملامحها، وأحست برغبة عارمة في البكاء.
في تلك الأثناء، استعد الجميع لرفع الصحون والأطباق، بينما أعلن المعلم طلقة بإرهاق وهو يتكئ على كرسيه:
-قوم يا ابو نسب ريح في الاوضة انت ومراتك.
تجمدت سيرا في مكانها، ثم فجرت بكاءها فجأة بقوة، فاستدار الجميع ينظرون إليها بدهشة، وسأل المعلم بقلق حقيقي:
-في إيه؟ مالها مراتك يا ابو نسب؟
نظر يزن نحوها بحيرة حقيقية، فوجدها تحدق بالمعلم طلقة برجاء صادق، تهمس بصوت متوسل:
-مش عايزة اقعد معاه في اوضة واحدة يا معلم، عشان خاطري.
انتقل الشك إلى نظرات المعلم طلقة، الذي بدأ يتفحصهما بعين فاحصة في ظل صدمة يزن وخوفه من انكشاف أمرهما:
-ليه في إيه؟
سارع يزن يتدخل بنظرة غاضبة وهمسة مشددة:
-إيه يا سيرا انتي اتجننتي؟
فكان يرمقها بنظراته الحادة علها تتراجع عن جنونها، لكنه فوجئ بها تهز رأسها بعناد وتنهض من مقعدها تعلن رفضها صراحة:
-اه أنا ابقى مجنونة لو قعدت معاك في اوضة واحدة.
رفع المعلم طلقة حاجبه متسائلًا بريبة:
-يعني إيه الكلام ده يا ابو نسب؟
لكنها تجاهلت تحذيراته، وأجابت بجنون متزايد:
-حضرتك أنا مأمنش على نفسي مع واحد زيه بجد؟
صاح يزن باعتراض عندما فهم مقصدها الخطير:
-نعم؟!
نهض المعلم طلقة من مكانه بخشونة، واضعًا يده فوق سلاحه، وصاح بنبرة تنذر بالخطر:
-ده اللي هو ازاي يا مدام، هو مش جوزك؟!
تراجعت سيرا خطوتين إلى الخلف، وابتلعت ريقها بصعوبة، وهي تبحث بيأس عن كذبة تنقذ الموقف، ثم قالت بعفوية مرتعشة:
-آآآ...اه جوزي، بس...بس اللي قدامك ده الرحمة انعدمت من قلبه، بيضربني كل يوم يصبحني بعلقة ويمسيني بعلقة، حسبي الله ونعم الوكيل فيه.
لانت ملامح المعلم طلقة، وقد اختلطت نظراته بالإعجاب برجولة يزن الزائفة، وتابع تناوله لطعامه وهو يعلق برزانة:
-حمش حمش يعني، بس ليه كده يا أبو نسب، متخليش دراعك يسبق دماغك.
طرق يزن الطاولة بغضب مصطنع، ودس حقيقة مشاعره وسط الكذبة قائلاً بحنق:
-قليلة الأدب مبتسمعش الكلام، اقولها يمين تقولي شمال، لازم تعارضني، ينفع امنعها تكلم واحدة صاحبتها بتحب تعمل مشاكل بينا، تقوم تكلمها وتسمع كلامها من ورايا فاكراني مش هعرف، عايزة تخرب حياتنا.
أومأ المعلم طلقة برأسه مؤيدًا وهو يجذب أركيلته ويأخذ نفسًا طويلاً ثم قال:
-اه...لا له حق يعدلك لامؤاخذة، كلام الصحاب ده بيجيب ورا، طيب اسألي أي واحدة من النسوان اللي جوه دي، هتلاقي مالهمش صحاب أبدًا.
عضت سيرا شفتيها بتوتر، وهي تعود لتختلق كذبة جديدة بعدما لمحت نظرة الانتصار البادية في عيني يزن، قالت بصوت متقطع بالكاد يخفي غضبها:
-هو مش الضرب يعني بس اللي مخليني مش عايزاه اقعد معاه في مكان واحد، في حاجة كمان...
رمقها يزن بشغف، وأجبرها بصمته المستفز أن تواصل:
-بخيل...بخيل اوي بيستخسر فيا أي حاجة حتى الكلمة الحلوة.
أخذ المعلم طلقة نفسًا عميقًا من أركيلته ثم علق موجهًا كلامه ليزن:
-لا لا كله إلا الكلمة الحلوة، الست لامؤاخذة عقلها صغير كلمة بتوديها وكلمة بتجيبها، ابقى اضحك عليها بكلمتين هتلاقيها بتقولك عنيا، صنف أهبل لامؤاخذة...
ابتسم يزن بمكر، ونهض مقتربًا منها، وقد ارتسمت على ثغره ابتسامة شقية:
-عندك حق أنا لازم اقوم اصالحها وابوس راسها.
ابتسم يزن بمكر، ونهض مقتربًا منها، وقد ارتسمت على ثغره ابتسامة شقية:
-يزن، ابعد انت.....
وقبل أن تكتمل اللحظة، دوى صوت ارتطام عنيف، تبعه اقتحام رجل غارق في دمائه، سقط مترنحًا أسفل قدمي سيرا التي تيبست مكانها رعبًا، راح الرجل يصرخ برجاء يائس:
-اه الحقني يا سيد الناس، الحقني ابوس ايدك، حمو وجمال هيقتلوني...
نهض المعلم طلقة واقفًا وهو يزأر غاضبًا:
-انتوا مخلصتوش عليه ليه؟
وفجأة، ارتد الرجل بجنون، وجذب سيرا لتكون درعه البشري، واضعًا المطواة على رقبتها، مهددًا الجميع بصوت أجش ينضح باليأس والغضب:
-وديني اقتلهالك قدامكوا لو ما سبتوني أمشي!
تجمدت سيرا في مكانها، تجاهد أن تسيطر على رعشة جسدها بينما تحدق في وجهه المتسخ بالدم والغبار، وملمس نصل المطواة البارد يلتصق بعنقها، ينذرها بالخطر.
همس يزن باسمها بصوت مختنق، خرج منه بالكاد:
-سيرا...
كان صوته ينبض برعب حقيقي، كأن العالم قد انكمش من حوله حتى لم يبقَ فيه سواها، في تلك اللحظة، لم يعد يهمه الخطر الذي يحيط بهما، ولا المعلم طلقة، ولا العصابة المسلحة؛ كل ما رآه أمامه هو سيرا، وسكين تقترب من رقبتها الرقيقة تهدد أن تفقده إياها إلى الأبد.
_____________
قراءة ممتعة 🤩♥️
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية غناء الروح) اسم الرواية