Ads by Google X

رواية غناء الروح الفصل السادس و العشرون 26 - بقلم زيزي محمد

الصفحة الرئيسية
الحجم

   

 رواية غناء الروح الفصل السادس و العشرون 26  - بقلم زيزي محمد


الفصل السادس والعشرون
                                    
                                          
الفصل السادس والعشرون..



انتفضت سيرا واقفة بغضب جامح، تطاير الحنق من عينيها وهي تحدق بحورية التي لم تترك اتهامًا إلا وأمطرته على رأسها، وكأنها تحملها ذنبًا لم تُقترفه:



-قصدك إيه بالكلام الفارغ ده؟! هكون قولتله إيه عنك؟



ارتسمت على شفتي حورية ابتسامة ساخرة، وكان بريق عينيها يوحي بغضب دفين تفجر بعد تلقيها لتلك الرسالة الغريبة، شعرت حينها بدخان الشماتة يتصاعد من الحروف وكأنه عبر المسافات ليخترقها ويصل إلى أعمق موضع في كيانها.



-معرفش، إيه وصله إنه يبعتلي رسالة زي دي يا ست سيرا إلا إذا كنتي فهمتيه إني غيرانة منك؟؟ 



استشاطت سيرا غضبًا، وارتجفت نبرتها وهي ترد بنبرة لا تخلو من التهديد:



-حورية الزمي حدودك معايا، أنا سيرا ازاي تكلميني بالشكل ده؟!



بدأت عيناها تتوهجان بدموع حبيسة، تتأرجح بين الانفجار والكبرياء، حتى سارعت فاطمة، ورغم نفورها الدائم من حورية، إلى التدخل لتهدئة الأجواء المتوترة:



-اهدوا يا بنات، ده أكيد سوء تفاهم، حورية على فكرة سيرا كانت هتتخطف النهاردة.....



لكن حورية قاطعتها بعنف، كمَن دفعت بها حماقتها إلى الهاوية دون أن تنتبه:



-يا ستي أنا ماليش فيه، أنا عايزة تبرير حالاً للرسالة دي!!



حينها، سقطت دمعة خذلان من عيني سيرا، كانت دمعة مُرة، امتزجت بالإحساس بالوحدة والخذلان، إذ إن حورية لم تكلف نفسها أن تراعي ما تمر به، فمسحتها سريعًا، وردت بجفاء قاتل:



-معرفش، عندك رقمه اسأليه.



لكن تلك الإجابة زادت من هيجان عقل حورية الثائر، وجعلتها تتفوه بكلمات جارحة متعمدة، في محاولة لتدمير الصورة التي لم تستطع أن تنال منها داخل برج يزن العالي:



-باين شهيرة أختي كان عندها حق ونظرتها كانت صح، أنتي واحدة عارفة بتعملي إيه بالظبط والتمثيلية البايخة اللي عملتيها عليا وصدمتك فيه كان حوار فيك، للأسف كنت بحسبك واحدة غير كده، بس الظاهر إن الفلوس ومنظره خدعوكي، متبقيش ترجعي تعيطي وتندبي حظك بعد كده.



التقطت سيرا الإهانة وأجبرتها على البقاء في صدرها، لكنها لم تتركها تمر دون رد، فقالت بنبرة مريرة تنضح استنكارًا:



-لولا إن في بينا عيش وملح وإنك في بيتي، كان هيبقى ليا تصرف تاني معاكي...



وبينما تصاعد التوتر إلى ذروته، تدخلت فاطمة مجددًا، هذه المرة برزانة لم يعهدها أحد فيها، إذ اعتادت إطلاق لسانها عند حدوث مثل هذه النزاعات:



-اهدي يا سيرا، حورية أكيد ماتقصد.....



إلا أن حورية قطعتها بنفور واضح ونظرة لم تخفِ استنكارها:




                                  
      
                
-لا أقصد، ومتلعبيش يا فاطمة دور المصلحة الاجتماعية، وبعدين أنا هستغرب ليه سيرا متغيرة، ما هي ماشية ورا الفنانة اللي كل رأيها سطحي زيها، ميهماش غير الشهرة والفن، مش دي اللي مابتحبيش تاخدي رأيها في حاجة ومابتسمعيش لكلامها، إيه غيرتي رأيك؟!



تلون وجه سيرا بلون أحمر قاسٍ، احتقن الدم فيه، وكأن كلمات حورية فجرت قنبلة في أعماقها، جعلتها تُجسد مزيجًا من الكره والصدمة والاستهجان، يد فاطمة التي كانت على كتفها انسحبت، ثم أمسكت هاتفها وهمست بنبرة واهية:



-ماما اتصلت كتير، لازم أمشي...



تعلقت سيرا بيدها برجاء، وكانت عيناها تنطقان بكل الألم الذي لم تجد له مخرجًا، لكن فاطمة رفضت النظر إليها، حتى قُطع ذلك الموقف المفجع بدخول مفاجئ لأبلة حكمت، التي قالت بنبرة صارمة:



-معلش يا حورية يا حبيبتي، سيرا بس تعبانة ومحتاجة ترتاح، اتفضلي انتي، وابقي زوريها في أي وقت تاني.



كان أسلوبها واضحًا لا لبس فيه، وكأنها تطردها بلطف متحفظ، رمقت حورية سيرا بنظرة أخيرة، لكنها رأت اهتمامها مُنصبًا على فاطمة، فاستدارت وغادرت، حتى وقفت على أعتاب الباب لتُفاجأ بأبلة حكمت تُوقفها وتقول:



-طول عمري نظرتي فيكي ماخيبتش، بس يا حبيبتي نصيحة مني ليكي لو محروق دمك من حاجة حاولي تكتميها ماتبقيش بصلتك محروقة كده.



عقدت حورية ذراعيها أمام صدرها، وأجابتها بتهكم خفيف:



-حضرتك قصدك إيه؟!



تنهدت أبلة حكمت، ثم قالت بنبرة هادئة لكنها مغلفة بحدة موجهة بعناية:



-قصدي اللي فهمتيه يا بنت الناس، أنا اختي اللي جوه دي خط أحمر، يمكن كانت بتفضفض عني بكلام معاكي، بس أنا مش زعلانة منها من أي كلمة، أصلها في النهاية أختي حتة مني، يهمني مصلحتها ونفسيتها، عشان كده بقولك مالكيش دعوة بأختي، ومتدخليش في أي حاجة تخصها أصل يمين الله هيكون لي تصرف مش هيعجبك، ومتقلقيش هي وفاطمة هيتصالحوا، أصل الاتنين مالهمش إلا بعض، يلا يا حبيبتي الوقت اتأخر وأهلك زمانهم قلقانين عليكي.



* أما بالداخل*



كانت سيرا قد منعت فاطمة من الخروج، أغلقت باب الغرفة بعنف، ثم اندفعت نحوها واحتضنتها بقوة، وهمست وسط بكاء متقطع:



-حقك عليا فاطمة، متزعليش مني، ماتسبنيش أنا ماليش غيرك.



فاطمة بدورها كانت تبكي أيضًا، لكنها أخفت دموعها خلف ابتسامة متماسكة:



-يا بنتي مش زعلانة، هو أنا هزعل منك يا مجنونة بردو.



ابتعدت سيرا عنها قليلًا، ونطقت بنبرة صادقة متقطعة:



-لا زعلانة وحقك، بس والله أنا ماقولتلها الكلام ده بالمعنى ده، أنا بس...كنت دايمًا بقولها إن مابحبش تفكيرك من ناحية الفن وحبك له، بس والله يا فاطمة مكنتش بقول زي ما هي بتقول كده، حقك عليا، أنا ماليش غيرك.




        
          
                
مسحت فاطمة دموعها، وقالت بابتسامة حزينة:



-عادي يا سيرا، طيب ما أنا بشتم عليكي مع أمي، واحدة قصاد واحدة.



-فاطمة أنا ماليش غيرك، أنتي مش هتزعلي مني صح؟!



سألتها سيرا برجاءٍ ممزوج برجفة، فأجابت فاطمة بهزة رأس نافيه، وقد أدركت تمامًا طبيعة حورية المركبة، بما فيها من الخير والشر، القوة والضعف،
دخلت أبلة حكمت بعصاها الشهيرة، وقالت بنبرة ذات حدة مصطنعة:



-إيه يا سيرا البت فاطمة بتفكر تزعل منك؟ 



ضحكت سيرا بيأس وهي تنظر إلى تصرفات أبلة حكمت المتطفلة على الدوام، وكأنها لا تكتفي أبدًا من التدخل في شؤونهن، رغم ما تحمله في قلبها من محبة دفينة لهن جميعًا، مغلفة بصرامة لا تخلو من الطرافة:



-لا يا أبلة، بس إيه العصاية دي؟!



ردت أبلة حكمت وهي تلوح بالعصا كمَن يهدد ولا يقصد التهديد، ماضية في طريقتها الساخرة التي اعتادوا عليها جميعًا:



-كنت بأدب بيها عيال اخواتك وعيالي، وقولت لو في واحدة عايزة تتأدب وتعقل، لتكون صدقت كلام الحربوءة اللي كانت هنا؟



أشارت فاطمة إلى نفسها باستنكار ساخر، تحاول أن تواكب الأجواء رغم بقايا الحزن التي كانت لا تزال تظلل ملامحها:



-أنا لا طبعًا، أنا هصدق كلام الثعبانية دي بردو يا أبلة؟



نظرت أبلة حكمت إليهما بفخرٍ أمومي مموه خلف جديتها الظاهرة، ثم وجهت كلماتها إلى سيرا بنبرة ذات معنى، وقد بدت وكأنها تنتزع الاعتراف من قلبها:



-شوفتي يا سيرا، جالك كلامي لما قولتلك البت حورية دي مش صافية من ناحيتك؟



صمتت سيرا، وكأنها لم تجد في قلبها رغبة للجدال أو حتى للتأكيد، فالكلمات في مثل تلك اللحظة تُستهلك بلا طائل، واختارت أن تحتفظ بردها لنفسها، وبينما كانت تمسح دموعها بخفة، لفت انتباهها أمر ما، رفعت رأسها وسألت بنبرة مستنكرة ممزوجة بالدهشة:



-هو انتي يا أبلة، كنتي بتتصنتي علينا؟



توسعت عينا أبلة حكمت في تمثيلٍ مبالغ فيه للدهشة، ثم شهقت بصوت عالٍ قائلة:



-أنا؟ أبدًا ده أنا كنت ماشية كده رايحة الحمام، الكلام وقع في وداني غصب عني، يلا هروح للعيال دول.



غادرت الغرفة بخطى واثقة كما دخلت، وخلفت خلفها ضحكة خافتة خرجت من فاطمة وهي تهز رأسها بيأس، وكأنها تؤكد لنفسها أن تلك المرأة المستبدة الحنونة لن تتغير أبدًا، مهما تغيرت الدنيا حولها.



في تلك اللحظة، انشغلت سيرا بهاتفها، تحاول الاتصال بيزن بنظرات قلقة وصبر نافد، وكأنها تحتاج إلى إجابة تُطفئ نيرانًا تشتعل في داخلها منذ لحظة المواجهة، لكن سرعان ما ارتسمت خيبة الأمل على وجهها، وزفرت بحدة ثم ألقت الهاتف على السرير بعصبية:




        
          
                
-قفل تليفونه، بس تمام بكرة مش بعيد، ونشوف بقى هو بعتلها الرسالة دي ليه؟



رفعت فاطمة نظرها إليها، وعلى وجهها مسحة من الحذر قبل أن تنطق:



-عايزة نصيحتي؟



رفعت سيرا حاجبيها بدهشة مصطنعة، ثم قالت بنبرة نصفها شكوى ونصفها تحدٍ:



-أكيد يا فاطمة، من امتى بتستأذنيني ولا بردو صدقتي كلام حورية!!



تنهدت فاطمة، ولم تشأ أن تزيد من توتر صديقتها، لكنها رغبت في قول ما تراه حقًا:



-مش كده يا سيرا، بس انتي دلوقتي في فترة متلخبطة، قلبك معجب بيزن...اه وماتبصليش، لسه معجبة بيه، وعقلك بيرفضه عشان اللي عرفتيه، فأي كلمة هتتقالك هتبقى بحساب، نصيحتي ترمي كل ده ورا ضهرك وتركزي وتشوفي بعينك وتقرري، متقفيش ضد قلبك وتميلي لعقلك ولا تقفي مع قلبك وتتجاهلي انذارات عقلك، خليكي متوازنة، التوازن مفيش أحسن منه.



استمعت سيرا لنصيحتها بصمتٍ مطبق، بينما كانت كلمات صديقتها تتسلل إلى قلبها برفق، وكأنها تعيد ترتيب الفوضى داخله، ثم تمتمت بنبرة مترددة:



-وإن التوازن مودنيش لنهاية احكم بيها.



هزت فاطمة رأسها بثقة، وبصوت هادئ يحمل نضجًا لم تعتده سيرا منها من قبل، قالت:



-مفيش حاجة اسمها نهاية مفتوحة، يا إما في نهاية سعيدة، يا إما نهاية حزينة، ومش لازم الحكمة تعرفيها في وقتها، بس صدقيني، هيجيلك الوقت المناسب وتعرفيها...



ثم ابتسمت ابتسامة صغيرة، وهمّت بالخروج وهي تقول:



-تصبحي على خير.



                                ***



وضعت حسناء يدها فوق رأسها بألم، بعدما تلقوا جميعًا ضربًا قاسيًا من قِبل الرجال المجهولين، الذين لم يكتفوا بالاعتداء الجسدي، بل سلبوا منهم الأموال ثم تركوهم غارقين في دوامة من الصدمة والإعياء، كان خالها أكثرهم تضررًا، إذ تمدد أرضًا وهو يتلوى يمينًا ويسارًا، يصدر همهمات وآهات متقطعة توحي بشدة الألم الذي يشعر به.



مسحت حسناء دموعها بأنامل مرتجفة، محاولةً كتم وجعها، بينما كانت آذانها تلتقط أنين والدتها وبكاءها المستمر، فجأة صرخت فيهم بانفعال وقد بلغ بها الغيظ مبلغه:



-بــــــس، اخرسوووووا.



ساد صمت ثقيل للحظات، كانت خلالها تحدق في الباب المفتوح على مصراعيه، وهو الشاهد الوحيد على خروج الرجال المسلحين بأموالها، تفكرت بتروٍ في الأمر...هل تتصل بالشرطة؟ لكنها ليست حمقاء لتورط نفسها بذلك، هل تخبر نوح؟ لكن...



قاطع حيرتها صوت خالها، الذي تمكن من النطق بصعوبة وحسرة، قائلاً بصوت متألم:



-هو أكيد الدكتور بتاعك يا ختي اللي عمل فينا كده.




        
          
                
رفعت حسناء حاجبًا بعناد، وردت بعصبية تنم عن رفضها التام للاتهام:



-ما يمكن الشمام اللي كنت سايب عنده البت، اتصل بيه كده.



أخرج خالها هاتفه بصعوبة، وبدأ يعبث به بينما يردد بتثاقل:



-لا مش هو يا أختي، الواد اخد اللي اتفقنا معاه عليه، هيطمع ليه.....إيه ده؟!



اعتدلت حسناء في جلستها، وحدقت فيه بترقب وقلق:



-إيه؟؟



أجاب بشك:



-تليفونه مقفول...



زمت شفتيها ثم قالت بسرعة وبنبرة آمرة:



-قوم يا خالي روح له، ولو مالقتهوش يبقى هو الواد ده اللي عمل فينا كده.



قالتها بغيظ واضح، فنهض خالها متكئًا على الباب، يرد عليها بحيرة:



-ولو مش هو؟ وكان الدكتور بتاعك؟



أجابته بحدة وغل:



-وربي وما أعبد لاندمه على اليوم اللي فكر يعمل فيا كده، واخطف له بنته تاني.



ضحك خالها بسخرية وهو ما زال يتكئ على الباب، وقال بنبرة تهكمية:



-لا مع نفسك يا حلوة، الناس دي نابها أزرق، سلام لامؤاخذة.



في هذه الأثناء، افترشت والدتها الأرض بجسدها المنهك، وقالت بألم لا تخطئه الأذن:



-هتعملي إيه يا بت بطني؟ بوشك اللي باظ ده؟



كزت حسناء أسنانها بغيظ مكبوت، ثم هتفت بهدوء يقطر مكرًا:



-هتعرفي هعمل إيه.



أمسكت هاتفها بسرعة، واستجمعت تركيزها، ثم ضغطت زر الاتصال، وانتظرت حتى جاءها صوت نوح الخافت، والذي بدا عليه آثار النعاس:



-أيوه يا حسناء.



اتقنت التمثيل فجأة، واندفعت بالبكاء والأنين، متقمصة دور الضحية:



-الحقني يا دكتور....الحقني أبوس ايدك.



ضيقت والدتها عينيها باستغراب، واعتدلت في جلستها تحدق بابنتها التي كانت تصغي لصوت نوح، بينما تابعت حسناء حديثها بصوت متحشرج:



-ناس غريبة يا دكتور، بلطجية جم دخلوا علينا أنا وأمي، وضربونا....أنا عملت إيه بس لمدام يسر، والله ما عملت فيها أي حاجة، عشان تبعتهم يعلموني الأدب.



رفعت والدتها أحد حاجبيها باعتراض صامت، بينما استمعت إلى حسناء وهي تتابع باستسلام متقن:



-خلاص يا دكتور مستنياك، كتر ألف خيرك.



وما إن أغلقت الهاتف، حتى صاحت والدتها بحنق واضح:



-ولما يسأل مراته يا حلوة؟



ردت حسناء بهدوء فيه شيء من البرود، وهي تنهض عن الأرض وتجلس على المقعد:




        
          
                
-هتنكر طبيعي وأنا بقى هصر...



رمقتها والدتها بنظرات حيرة، وقالت بسذاجة:



-وليه يا حسناء ده كله؟



تنهدت حسناء بألم، وبدأت تدلك مرفقها المتورم، مجيبة بنبرة تفيض مرارة:



-كنت عايزة اسمع نبرة صوته وأنا بقوله على البلطجية واتأكدت إنه مش هو، ولسه لما يجي...



قاطعتها والدتها بسؤال قلق:



-وهتقوليله على الفلوس اللي سرقوها؟!



اكفهر وجه حسناء بغضب حاد، ثم صاحت:



-اهو انتي كده هتبوظي الدنيا، اسمعي ياما كلامي كويس، احنا قاعدين في حالنا وبلطجية دخلوا ضربونا أنا وأنتي بس اوعي تجيبي سيرة خالي، وهما ماشيين قالوا مدام يسر بتسلم عليكي وبس ولا كلمة أزيد ولا كلمة أقل.
                                ****
بعد مرور عدة ساعات...



كان الليل قد لف المدينة في عباءته السوداء، والهدوء الثقيل يخيم على الشوارع، لا يعكره سوى وقع خطوات غاضبة ارتفعت على الدرج الحجري البارد، وقف نوح أمام باب شقة والد يسر، وجهه مشدود بتجهم واضح، وعيناه تقذفان شرر الغضب المكبوت، طرق الباب طرقات حادة متلاحقة، حتى فتحه الحاج فاضل، وهو يفرك عينيه المتعبة.



وما إن وقعت عينا نوح عليه، حتى قال بنبرة هادئة ظاهرًا، متوترة باطنًا:



-معلش يا حاج فاضل بس كنت محتاج أسال يسر عن حاجات في البيت هي كانت حاطهم من زمان ومش لاقيهم.



تجهم وجه الحاج فاضل وتقلصت ملامحه في ضيق واضح، لكنه أشار له بالدخول على مضض، غير أن نوح سارع إلى الاعتراض، قائلاً بابتسامة مقتضبة:



-لا مالوش لزوم، ده كام سؤال بس...



تنهد الحاج فاضل تنهد المستسلم، ثم التفت ودخل إلى الداخل، متجهًا نحو غرفة ابنته ليوقظها، نهضت يسر بتثاقل وقد غلبها النعاس، وارتدت إسدالها على عجل، بينما صوت والدها يخبرها أن نوح بالخارج، استيقظ عقلها بالكامل بمجرد سماع الاسم، ولكنها لم تُبدِ سوى استغراب خافت، وقالت بصوت خامل:



-خلاص يا بابا روح أنت نام وأنا هشوفه عايز إيه؟



أومأ الحاج فاضل برأسه ثم انسحب بهدوء، بينما توجهت يسر بخطى مترددة نحو الباب، وقفت عند العتبة، تتعلق أطراف أصابعها بالمقبض، ثم فتحت تنظر إليه بعينين نصف مغلقتين من الإرهاق، يتملكها الفضول والريبة:



-خير يا نوح؟؟



رفع عينيه إليها، ونبرته لا تخلو من الوجوم وهو يسأل مباشرة:



-أبوكي فين؟!



استغربت سؤاله المفاجئ، فالتفتت برأسها تنظر إلى الردهة المظلمة حيث كان باب غرفة والدها موصدًا، ثم عادت تنظر إليه بتوجس وقالت بهدوء:




        
          
                
-دخل ينام، في إيه؟



دون سابق إنذار، أمسك نوح بمرفقها بقوة، وجذبها نحوه لتصطدم بصدره العريض في حركة أربكتها، فشهقت بهمسة مصدومة:



-إيه ده في إيه؟؟



همس بعينين مضطربتين ونبرة تحمل مزيجًا من الحيرة والغضب:



-أنتي بعتي ناس يضربوا حسناء السكرتيرة؟ انتي الغيرة عمتك لدرجادي يا يسر؟



رمشت يسر بأهدابها غير قادرة على الفهم، بينما هو استرسل، محاولًا خفض صوته:



-هي عملتلك إيه، مش كفاية معاملتك الزبالة ليها، أنا عديتلك شتايمك ليها وشتايمك عليا لما كنت تعبان في بيتها، ومارضتش اعاتبك عشان الظروف اللي كنا فيها، بس سكوتي خلاكي تتمادي باين!!!



حدقت في عينيه الغاضبتين، وكأنها ترى فيهما انعكاسًا لشعور جديد لم تألفه من قبل ومع دفاعه المستميت عنها، لم تتمالك برودها، فمطت شفتيها بفتور أثار جنونه أكثر، وقالت بسخرية:



-هي قالتلك إن أنا شتمتها وشتمتك في التليفون؟!



قاطعته بسخرية قاسية، وابتسامة باردة كالصقيع:



 -أيوه؟ وكمان بعتيلها ناس ضربوها هي وأمها، ليه يا يسر شغل العيال الصغيرة ده بس!! هي ذنبها إيه؟! طيب على فكرة هي اللي ساعدتني ارجع لينا، يعني...



قاطعته بسخرية قاسية، وابتسامة باردة كالصقيع:



-يعني هي اللي ساعدتك أنك ترجع لينا؟!



رد بنبرة خشنة وصلدة، وقد نفد صبره



-ايوه يا هانم، يعني مكنتش خاطفها زي ما بتقولي!!!



تراجعت خطوة إلى الوراء، كأنها تتقي وقع كلماته الثقيلة، ونظرت إليه بعينين خاليتين من الحياة، وقالت بنبرة باردة:



-مش هي قالتلك إن أنا عملت ده كله، يبقى أنا عملت.



ثم استدارت ببطء، وبدأت تغلق الباب في وجهه، غير أنه وضع يده ليمنعها، متسائلًا باستنكار:



-يعني إيه؟!



دفعت يده بقوة، وبصعوبة أخفت رعشة أصابعها، وهتفت من بين أسنانها بغيظ مكتوم ونبرة تنذر بالخطر:



-يعني لو مابعدتش حالاً، هصوت واقول لبابا، إنك جاي تضربني عشان خاطر واحدة متسواش حاجة، للأسف يا دكتور نوح عملت للجربوعة قيمة بجيتك دي.



ثم دفعت الباب بقوة، وأغلقته خلفه بصدمة هزت الجدار، أسندت ظهرها إليه، وهي تحبس شهقة البكاء، وغصة في حلقها تنمو كالشوك، كانت تتوقع منه اعتذارًا بعد مجيئه في هذا الوقت المتأخر، لكنها صُدمت بهجومه الموجه لا لها فحسب، بل لما تبقى من كرامتها، مسحت دموعها سريعًا، ووضعت يدها فوق بطنها، وكأنها تستمد السكون من شيء لم يكتمل بعد، وهمست بصوت باكٍ متهدج:




        
          
                
-حسبي الله ونعم الوكيل في أبوك، مُصر يكرهني فيه.



وفي الخارج، كان نوح ينزل السلالم بخطى غاضبة، يكاد يأكل الأرض بأسفل قدميه، فتح باب سيارته بقوة، وانطلق بها بسرعة جنونية، متجاهل كل قوانين الطريق، وكأن الألم يقوده.



لكن ما لم يعلمه نوح، أن هناك مَن كان يراقبه من بعيد، عينٌ لم تغفل عن كل حركة، حتى التقط هاتفه واتصل بالعقل المدبر، بصوت متهكم يحمل في طياته نغمة تأكيد:



-تصدقي شكله يا بت يا حسناء كلامك صح، ده راح عند مراته بعد ما خرج من عندك ونزل دلوقتي وشكله متضايق وعلى أخره.



رد صوت حسناء من الطرف الآخر، وفيه نبرة انتصار واضحة:



-مش قولتلك مش هو، المهم الواد الشمام ده تقب يا خالي وتعرفه فين، ابن الحرامية ده!!



-طيب سلام....هقلب الدنيا عليا.



ثم أُغلق الخط، لتبدأ الخيوط بالتشابك أكثر فأكثر، وأصبح الوضع أكثر احتدامًا وإيلامًا...
                             ***
في صباح اليوم التالي، نهضت سيرا باكرًا كعادتها، وتهيأت للذهاب إلى عملها، وما إن خطت خارج بنايتها، حتى وقعت عيناها على سيارة يزن تنتظر أمام المدخل، توقفت للحظات، تستجمع شتات أفكارها، وتستحضر وصية فاطمة لها:
 "حافظي على هدوئك، وخلي بالك من كلامك". تنفست بعمق ثم تقدمت نحو السيارة بخطى متزنة، وطرقت على زجاجها برفق، فاستجاب يزن على الفور، فأنزل الزجاج بهدوء، أدخلت رأسها إلى الداخل وقد ارتسم الضيق على ملامحها، وقالت بنبرة جافة:



-هو أنا يا يزن مش قولتلك امبارح ماتجيش توصلني وأنت قولتلي اوك، رجعت في كلامك ليه؟



استدار نحوها، يختبئ خلف نظارته الشمسية، وابتسامة صباحية مشرقة لا تتناسب مع حدتها، لكنها كانت كفيلة بإرباك مشاعرها المتأججة:



-هو أنتي قولتيلي كده امبارح، امال أنا سمعت ليه متتأخرش يا يزن؟!



رمقته بنظرة استنكار واضحة، وقالت بنبرة مفعمة بالشك:



-والله؟



تعمد أن يكسو صوته الحزن، وأمال رأسه قليلًا كمن يلعب دور المظلوم، بينما الخبث في نبرته لم يكن خافيًا على من يعرفه جيدًا:



-يعني ده جزاتي، آجي أخدك عشان خايف عليكي بعد اللي سمعته من زيدان امبارح بخصوص الست اللي كانت هتخطفك.



تغيرت ملامحها فجأة، وارتفع مستوى انتباهها، ثم فتحت باب السيارة وصعدت على عجل وجلست إلى جواره، وقد تملكها الفضول والحذر في آن، فسألته بلهفة:



-ها قالك إيه؟



أدار محرك السيارة وانطلق كعادته بسرعة تكاد تلامس الجنون، وكأنها جزء لا يتجزأ من شخصيته، ثم أجابها ضاحكًا بعبث ظاهر:




        
          
                
-مقاليش حاجة، أنا أصلاً مشوفتهوش، كنت بختصر جدالك على الصبح اللي مالوش لزمة.



رفعت حاجبيها بدهشة واستهجان من طريقته اللامبالية، وقالت بلهجة تجمع بين الجدية والغضب المكتوم:



-كويس بردو، أنا كده كده كنت هركب، تصور كنت بدور عليك من امبارح بس تليفونك مقفول.



رمقها بنظرة خاطفة، ثم عاد يركز على الطريق، وأجابها بسخرية مرحة:



-إيه، لحقت اوحشك؟



قاطعته بنبرة جادة وسؤال مباشر أرادت من خلاله أن تربكه، ظنًا منها أن صراحته المفرطة ستنكسر عند أول مواجهة:



-لا، بس كنت عايزة أعرف ليه بعت الرسالة دي لحورية صاحبتي؟! غرضك إيه؟!



لكنه لم يتأثر، بل ظل العبث مطبوعًا على ملامحه، وقال وهو يضحك دون أدنى حرج:



-غرضي شريف والله، أنا قولت يمكن تنسي تعزميها، وهي حربوءة صغيرة ممكن تزعل منك، يعني نيتي كانت سليمة.



-نيتك سليمة!! تبعتلها رسالة  تعزمها فيها؟! في إيه يا يزن ما تخليك واضح وصريح؟!



عند هذه الجملة، أوقف السيارة فجأة على جانب الطريق، التفت نحوها وقد تبدلت ملامحه تمامًا، فتلاشت سخريته وحل محلها جدية مفاجئة، قال بتروٍ أربكها وأثار حذرها:



-حلو!! عايزاني أكون صريح وماله، بعتلها رسالة عشان هي بت مش سالكة، فحبيت أقصر عليها أي مسافات.



ارتبكت من نبرته الحادة، واعتدلت في جلستها، ثم نظرت إليه وهي تقول بتهكم خفيف، تخفي خلفه ارتيابًا متزايدًا:



-يزن! حورية مش بتحبك ولا معجبة بيك، خد بالك بس ليكون غرورك وصلك....



لكنّه قاطعها فجأة، وقد خلع نظارته الشمسية ووضعها بعناية إلى جانبه، قبل أن ينطق بكلمات نارية:



-غروري!! انتي تعرفي إيه عني يا سيرا غير اللي بتسمعيه منها؟! وبعدين مين قالك إن أنا فاكر أنها بتحبني، لا أنا عارف أنها مابتطقنيش، بس ليه؟ وعشان إيه؟ فاكرة نفسها أبلة الناظرة في المدرسة وبتعلمنا الأدب، وإن جيتي بصيتي ليها هتلاقي حياتها وكلها هي على بعضها مليانة غلط في غلط، فمتجيش وتنظر عليا أو على حياتي، أو على حد يخصني.



حدقت فيه بدهشة، وصدمة امتزجت بالاستفزاز، لكنها لم تترك كلامه يمر دون رد، سألته ساخرة:



-ومين بقى اللي يخصك هي نظرت عليه؟!



اقترب منها، وأشار نحوها بحركة حادة، ونبرة امتزجت فيها الغيرة بالتملك، وقد فُضح ما يحاول منذ أيام أن يُخفيه:



-أنتي، ايوه انتي تخصيني، اوعي تكوني فاكرني عيل أهبل ماشي ورا البنات وبريل على أي بنت....



قاطعته بقوة، تحاول أن تسيطر على ارتجاف قلبها الذي خانها لحظة، لكنها استعادت رباطة جأشها بسرعة، وقالت بنبرة لاذعة:




        
          
                
-حلو صراحتك دي، انت إيه بقى؟ دنجوان؟ ولا بتضحك على البنات....



ابتسم بسخرية جذابة، وأشار بيده وكأنه يوجه صفعة معنوية:



-أنا كل حاجة وعكسها، وافهميها انتي بقى.



أدار محرك السيارة مجددًا، لكن سيرا لم تمنحه تلك النهاية السريعة، فاستوقفته بنفَس مشحون بالغضب:



-لا استني، ماتتكلمش بمزاجك وتوقف بمزاجك، أنا عايزة افهم انت إيه؟، مش مكسوف مني بجد.



رفع حاجبيه متعمدًا البرود، وقال بهدوء أربكها:



-وهتكسف منك ليه؟!، أنا مابعملش حاجة غلط، ولا عمري وعدت بنت بجواز ولا عمري اعترفت لواحدة بحبي، كلها علاقات تقدري تقولي عليها، مزاجية هما بيرتاحوا فيا وأنا برتاح فيهم، كل واحدة فيهم فيها ميزة خاصة وعيب، وأنا بقى بقى عندى دكتوارة في جنس حواء.



شعرت بكلماته كأنها صفعات متتالية، فعضت على شفتها السفلى بقوة حتى شعرت بطعم الدم، ثم قالت بغضب توعده:



-تصدق بالله أنا لو كان معايا سكينة، كنت غرزتها في قلبك وخلصت، إيه اللي بتقوله ده؟! بس فعلاً حورية كلامها صح عنك.



لم يفهم لماذا أصر على صدمها بحقيقته، ربما أراد أن تضع نهاية لهذا الارتباط الوليد قبل أن يتجذر، ربما أراد أن تكتشف بنفسها عيوبه، فلا تأتيه يومًا باللوم، وربما، فقط ربما... أراد أن يكون أمامها شفافًا، فتملك هي حرية القبول أو الرفض.



-حورية دي أكبر واحدة سطحية، سمعت من أختها كلام عني وراحت تردده زي البغبغان، طيب ما أنا بردو ممكن اعمل زي البغبغان واردد إنها شخصيتها ضعيفة مع خطيبها وبيهزق فيها في الرايحة وفي الجاية و.....



قاطعته وقد علت ملامحها علامات الصدمة والاشمئزاز:



-بس بس  إيه الكلام اللي بتقوله ده؟!



-هي مش هتيجي تقولك عيوبها ولا إن اهلها بيعانوا معاها في إيه، وعلى فكرة أنا عرفت من نفس الشخص اللي هي واخدة معلوماتها ثقة منها، سيرا أنا لو جيبتلك مليكة مرات زيدان لغاية عندك وعرفتها باللي حورية بتعمله معايا، هتثبتلك عكس كل حاجة هي قالتها.



ضحكت ضحكة ساخرة، وقد تلبسها الاشمئزاز من منطقه، وقالت بحدة:



-وده ليه بقى، ماسك حاجة على مرات اخوك؟



اشتد صوته، وتبدلت نبرته إلى لهجة لاذعة فيها من الغضب والرفض ما أسكتها للحظات:



-خدي بالك من كلامك معايا وكلامك وعن أهلي، كل اللي اقصده إن الحمد لله إذا كان شمس مرات سليم أو مليكة مرات زيدان فأنا علاقتي بيهم كويسة، وعمري ما اتعديت حدودي معاهم، ومن اللحظة اللي دخلوا فيها بيتنا، فهما اخواتي، فأنا مش زعلان عن أي كلمة قالتها مليكة عني لشهيرة أخت حورية، هي في الاول كانت ماتعرفنيش وتعرف الظاهر بس.




        
          
                
اعتدلت في جلستها تنظر أمامها، عقدت ذراعيها بتوتر واضح وعيناها مشبعتان بالغضب، ثم قالت بحدة ووجوم، تعبر عن امتعاضها:



-لو سمحت وصلني يلا الشغل.



لم ينبس يزن ببنت شفة، واكتفى بقيادة سيارته بجنون كعادته، كأنما يتعمد استفزازها، بينما كانت عيناه تتنقلان بين الطريق ويده الموضوعة على المقود، في حين أسند الأخرى بإهمال فوق ساقه، شعرت سيرا بالقلق يتسلل إلى قلبها، فتهوره لم يكن مألوفًا فحسب، بل بدا هذه المرة وكأنه ينذر بشيءٍ أكثر خطورة، قاطع شرودها صوته العابث، وقد نطقه بنبرة مليئة بالثقة واللامبالاة:



-مابعرفش اسوق إلا بإيد واحدة....



نظرت إليه باستنكار وقلق، وقالت:



-يعني عارف إنك بتخوفني؟!



أجابها بضحكات قصيرة ساخرة، لكن وجهه ما لبث أن عبس فجأة، نظر بحدة نحو المرآة الجانبية وهمس بقلق لم يخفَ على أذنها المتحفزة:



-إيه العربية دي، ماشية ورايا ليه؟!



شعرت سيرا بانقباض مفاجئ في صدرها، وسارعت تسأله بقلق متزايد وقد استدار جسدها نحوه:



-في إيه يا يزن؟



نظر إليها سريعًا وابتسم ابتسامة حاول أن يضفي بها طمأنينة لم تكن نابعة من قلبه:



-مفيش حاجة...انتي خوفتي ليه كده؟!



لكن كلماته لم تكد تلامس الهواء حتى انطلقت سيارة سوداء بسرعة جنونية خلفهم، فانعقد حاجباه وشد قبضته على المقود، وزاد من سرعته محاولًا الفكاك من مطاردة غامضة، سيرا لم تتوقف عن سيل أسئلتها، صوتها المرتعش يختلط بصوت المحرك المرتفع، حتى نفد صبره، فصرخ بها بقوة:



-اسكتي يا سيرا، خليني اركز.



-دول أكيد تبع الست اللي كانت هتخطفني، هيسرقوا أعضائنا....هيسرقوا أعضائنا.



على نبرته بسخرية من ذعرها وساذجتها:



-هيسرقوا أعضائك، أعضائي أنا مالها، سيبني أركز.



اقتربت السيارة الأخرى منهم، حتى أصبحت بمحاذاتهم، ومن نافذتها ظهر رجل بنظرات حادة ونبرة إجرامية باردة:



-اقف، احسنلك.



شهقت سيرا بفزع، ثم صرخت برجاء:



-اوعى تقف يا يزن.



لكن الرجل لم يكتفِ بالتهديد اللفظي، بل أخرج سلاحًا ناريًا وجهه ناحيتهما، وظهر خلفه رجل آخر يحمل سلاحًا أكبر، لم تملك سيرا نفسها، فصرخت برعب هز أوصالها:



-يالهوي هيقتلونا....هيقتلونا، اقف يا يزن...لا ما تقفش يا يزن.



كان يزن حائرًا، يداه على المقود وقلبه معلقٌ بخوفه عليها، لا على نفسه، يعلم أن التهور قد يعرضها للأذى، كما يعلم أن الاستسلام قد يكون مصيرًا أسوأ، وبينما يفكر، توقفت السيارة الملاحقة فجأة أمامهم، مجبرة إياه على التوقف، التقطت أنفاسها المتقطعة وهي تشد ذراعه بتشبثٍ ملهوف، تحتمي به كمَن وجد نفسه في كابوس حي.




        
          
                
ترجل عدد من الرجال من أكثر من سيارة، واتضح أنها لم تكن سيارة واحدة، بل كمينًا حقيقيًا، اقترب أحدهم ونظر ليزن بنظرة فوقية، ثم قال بنبرة خشنة مهددة:



-انت يزن الشعراوي؟!



أومأ له يزن برأسه بثبات مصطنع، فأكمل الآخر بنفس اللهجة:



-المعلم طلقة بيسلم عليك، وعايزك... انزل يلا.



انكمشت ملامح يزن للحظة، ثم تساءل باستنكار محاولًا كسب بعض الوقت:



-المعلم مين؟



ابتسم الآخر ابتسامة ساخرة تكشف أن لا خيار أمامه، وقال:



-طلقة بتاع اسكندرية، إيه نسيته؟!



رفع سلاحه أمام وجه يزن، فأجابه بارتباك مصطنع وابتسامة مهزوزة:



-لا طبعًا فاكره هو ده حد ينساه!



-طب انزلوا يا أخويا انت وهي، هتشرفونا في العربيات بتاعتنا..



ثم أشار برأسه إلى أحد رجاله، فاستدار الآخر حول السيارة متجهًا إلى باب سيرا، وحين فتحه بادرت هي بالصراخ ونظراتها المرتاعة تفضح ذعرها:



-لا حضرتك أنا ماعرفوش، ماعرفوش.



اتسعت عينا يزن بصدمة من سرعة إنكارها له، لكنه سرعان ما استوعب الموقف حين رأى الرجل يمد يده ويمسكها من مرفقها بقسوة جعلتها تصرخ بألم، لم يتمالك نفسه، فهبط من السيارة بسرعة وهو يهتف:



-محدش يلمسها...محدش يلمسها قولت.



ركضت نحوه تحتمي به وقد اختبأت خلفه كأنما هو حائطها الأخير، دفعه أحد الرجال قائلاً بلهجة آمرة:



-طيب يلا يا أخويا، المعلم بيستعجلنا.



أجاب يزن وهو يحاول إنقاذها:



-خلوها تروح، طالما هو عايزاني، هي ملهاش دعوة.



-أيوه أنا ماليش دعوة.



لكن الرجل الآخر ابتسم بسخرية وقال وهو يثبت السلاح نحوها:



-لا...البت دي شافتنا وممكن تبلغ، هتروح معانا يعني هتروح، يلا متكترش عشان متزعلش.



شهقت سيرا برعب وقالت بتوتر واستسلام:



-خلاص هروح معاكوا وأمري لله.



تقدما نحو السيارات، وتبعهما رجلان يراقبانهما بحذر، قبل أن يستقلا السيارة، قال أحد الرجال:



-جبنا كل حاجة.



رد عليه الآخر:



-ايوه بس هي لسه تليفونها، تليفونه معايا.



أسرعت سيرا وقدمت حقيبتها وهي تقول برجاء:



-حضرتك هي فيها كل حاجة تليفوني وفلوسي وكله.



ابتسم الرجل بسخرية، بينما كان يزن ينظر إليها مصدومًا من سرعة استسلامها، لكنهم لم يمهلوهما الكثير من الوقت، دفِع كلاهما إلى داخل السيارة، وعندما حاول أحد الرجال الجلوس بجانب سيرا، صاح يزن بغيرة ودهشة:



-إيه هتركب جنبها؟! اوعى يا عم....مراتي.



فغرت فاهها بذهول، تنظر إليه وكأنها تسمعه لأول مرة، لكن الرجل أومأ برأسه قائلًا:



-حقك...اركب.



استقل يزن المقعد المجاور لها، وكان رجل ضخم البنية يجلس بجانبهما، مما جعل المسافة بينهما تكاد تنعدم، همست له برعب صادق وقد بدأت ترتجف:



-يزن، مين المعلم طلقة اللي عايزاك ده؟



أجابها بصوت خافت، وكأنه يخبرها بسر دفين:



-تاجر سلاح.



صرخت بجنون وقد أصابها الذهول:



-إيه...تاجر إيه؟



وما إن أنهت كلمتها حتى دوى صوت الرجال في السيارة في لحظة واحدة، وهم يرددون بصوت واحد:



-ســــــــلاح.



____________
قراءة ممتعة ♥️🤩🥳 

google-playkhamsatmostaqltradent