رواية غناء الروح الفصل الخامس و العشرون 25 - بقلم زيزي محمد
ءالفصل الخامس والعشرون
الفصل الخامس والعشرون...
وصل نوح إلى المكان المنشود الذي أرسلت إليه حسناء عنوانه في رسالة نصية، يقود سيارته بسرعة جنونية، مستحضراً في ذهنه صورة ابنته عله يجدها أخيرًا، غير أن آماله تحطمت ما إن رأى حسناء وخالها يقفان بمفردهما، دون أثرٍ للطفلة، فتوقف فجأة، وهبط من السيارة بخطى متسارعة، وبنبرة امتزج فيها القلق بالرجاء:
-إيه وصلتوا لحاجة؟!
أجابته حسناء بنبرة ناعمة، وقد تعمدت أن تبتسم له ابتسامة حالمة، تُخفي وراءها مآربها الحقيقية:
-اهدى يا دكتور عشان خاطري، أنا خايفة عليك أوي بجد لتتعب زي ما تعبت قبل كده.
رفع خالها أحد حاجبيه في اشمئزاز ظاهر، وقد بدا عليه الضيق من أسلوبها الماكر، فهو يدرك تمامًا نية ابنة أخته في الإيقاع بهذا الرجل وسلب ماله، طمعًا في مكانة اجتماعية مرموقة كانت تحلم بها دومًا.
-نتكلم في المهم.
قالها بصرامة، فوجه حديثه مباشرة إلى خال حسناء، متجاهل ابتسامتها المصطنعة، وقد بدا عليه الإحراج مما يشعر به من خيبة أمل في الموقف، إلا أن أمل إيجاد ابنته ظل يشده للمضي قدمًا، رغم شعوره بالخديعة.
قال خالها وقد بدا عليه التردد، يحاول أن يبرر موقفه:
-أنا يا دكترة لفيت على كل حبايبي لامؤاخذة في الإجرام ده، وفيهم ناس كده ساعدوني بس موصلتش لحاجة....
قاطعه نوح بحدة، وقد ظهر الغضب في صوته بشكل لا لبس فيه:
-أنت جاي تقولي أنك موصلتش لحاجة؟! انتوا مجانين.
حمحم خالها بخشونة، محاولًا ضبط إيقاع الحديث مجددًا، وقال بصوت أجش يحمل نبرة إجرامية خالصة:
-ليه بس الغلط ده يا بيه، ما تتكى على الصبر، موصلتش لحاجة في الأول، بس بعدها في حد حبيبي كلمني وقالي إنه يقدر يجبهالي وعارف مين خطفها، بس يمين الله ما قالي اسمه إيه أصله راجل ***** بس اعمل إيه إن كان لك عند الكلب حاجة قوله يا سيدي.
زفر نوح بغيظ شديد، وقد توهجت بشرته باحمرار طاغٍ من فرط الغضب المتصاعد بداخله:
-ها يعني طلباته إيه؟
أجابه خال حسناء وقد بدت على وجهه ابتسامة واسعة تخفي خبثًا دفينًا:
-اهو أنت كده دخلت في الدوغري والمظبوط، عايز نص مليون جنية يا بيه لامؤاخذة، وحياتك يا دكترة كان عايز أكتر بس أنا قولتله لا لازم تعمل تخفيض للدكترة ده أول مرة يجيلنا في حاجة.
أطلق نوح أنفاسه الغاضبة، ثم قال دون تردد، وقد بدا مستعدًا لفعل أي شيء في سبيل استعادة ابنته:
-طيب تمام، لو اديته الفلوس بنتي هتكون عندي في خلال قد إيه؟!
رد خال حسناء بنبرة واثقة:
-خلال ساعة ساعتين بالكتير.
ابتسم ابتسامة عريضة، وما كاد يتمها حتى لكزته حسناء بخفة على ذراعه، في محاولة لضبط تصرفاته المبالغ بها.
-طيب أنا ساعة بالكتير والفلوس هجبهالك بس واقسم بالله لو بنتي مجتش...
تدخلت حسناء بسرعة، محاولة تهدئته بنبرتها الرقيقة التي تتقن استخدامها:
-لا لا أنا أضمنلك الموضوع برقبتي، لو مكنتش واثقة إن خالي هيقدر يجبلك بنتك مكنتش هتدخل.
أومأ نوح بإيجاز، ثم استدار متوجهًا نحو سيارته ليغادر، إلا أن خال حسناء استوقفه قائلاً بصوت لا يخلو من الطمع:
-رايح فين يا دكترة ده أنت أبو المفهومية، وبوقي لامؤاخذة هتحليه بإيه؟!
رد نوح سريعًا، وقد بدا أن عقله لم يعد يتحمل أكثر:
-اللي انت عايزه، طالما بنتي هتكون في حضني النهاردة.
ضحك خالها ضحكة قصيرة، وقال:
-مش أقل من ١٠٠ ألف جنية، اه لامؤاخذة عندي عيال عايز أربيهم....
قاطعته حسناء بغضب، وقد بدا التوتر على ملامحها وهي تتمتم من بين أسنانها:
-أنت بتقول إيه يا خالي، فلوس إيه؟ احنا نخدم الدكتور بعنينا.
نظر إليها نوح بامتنان ثم قال بحسم:
-ده حقه يا حسناء، المهم إنه يجبلي بنتي، ساعة وهكلمك.
ثم غادر الموقع مسرعًا، تاركًا خلفه حسناء التي لم تستطع كبح غيظها، فاستدارت نحو خالها وصرخت فيه بعصبية:
-ما تقوله أحسن إننا اللي خاطفين بنته؟! ده كده اتأكد، قولتلك بلاش طمع يا خالي وأنا هديك اللي فيه النصيب.
مال خالها برأسه نحوها، وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة ساخرة، ونظرة قاسية متوحشة تنبع من إجرام راسخ في أعماقه:
-اه اللي فيه النصيب ده اللي هو كام يا بنت اختي، ملاميم ٢٠ الف جنية، وانتي واخدة في بطنك نص مليون جنية يا بنت اللعيبة.
عقدت ذراعيها بحنق ظاهر، وردت بعنفوان لا يخلو من الحنق:
-بس ده مكنش اتفاقنا، انت كده بتقوله اننا عاملين حوار عليه وعايزين أي فلوس!!
ازدادت حدة نبرته وهو يحسم النقاش:
-فيها لاخفيها يا بنت اختي، وبعدين دول ١٠٠ الف جنية عُمي لا راحوا ولا جم.
استنشقت هواءً عميقًا، تحاول السيطرة على أعصابها المتفلتة، ثم قالت بتهديد صريح:
-واقسم بالله نوح لو طار من ايدي، ما هيكفيني فيك روحك، لو كلمك قولي كل حاجة قبل ما تتصرف من دماغك، مش ناقصة عك.
ثم غادرت المكان بخطى غاضبة، تاركة خالها واقفًا ينتظر اللحظة التي يحصل فيها على المال، ويتخلص من تلك المصيبة الصغيرة التي تركوها في مخزن أحد معارفه من أهل الإجرام.
****
سارت سيرا في الطريق المؤدي إلى البرج السكني الذي يقع فيه عملها، تتقدم بخطى ثقيلة يغلفها التوتر، تخشى لقاء يزن، إذ لم تحسم أمرها بعدُ بشأن تقبله أو رفضه، كلما حاولت أن تُقنع نفسها بالقبول به، متأثرة بأحاديث أخواتها وإلحاحهن، عادت أدراجها نادمة، حانقة، تنبذ الفكرة وتحتقر ذلك العابث الذي يتلاعب بالفتيات كما يتلهى باللب السوبر.
زفرت بغيظٍ وغضب، ولأول مرة تشعر بالضعف يتسلل إلى ملامحها؛ لم تعتد هذا الارتباك في قراراتها، ولكن ما يُوجعها أكثر، هو أن الأمر طال مستقبلها وشريك حياتها، لقد سئمت من الضغوط المتواصلة، نقمت على أخواتها، ونقمت على مرض والدها الذي كبلها بالعجز....
هل ستصمت وتحظى بزواج تعيس ينهك روحها؟
لا... لن يحدث!
قررت أن تلتزم الصمت والهدوء حتى وإن تمت الخطبة، وستنتظر حتى يطمئن قلبها على والدها، ثم تبلغه بقرارها في فسخ هذه الخطوبة، وفي تلك الأثناء، ستحرص على مضايقة يزن بكل وسيلة، ولن تفوت فرصة تُشعره بمرارة الندم حتى يكره النساء جميعًا.
في خضم شرودها، اقتربت منها سيدة أربعينية، طويلة القامة، ترتدي نظارة طبية وكمامة تغطي فمها وأنفها، بدا عليها الضعف والحيرة، فقالت برجاء:
-يا بنتي ممكن مساعدة بسيطة لو مش هعطلك.
رفعت سيرا رأسها ونظرت إليها بلطف، أجابت بهدوء:
-لا خالص مفيش أي عطلة، اتفضلي قولي.
ناولتها السيدة هاتفًا صغيرًا وورقة كُتب عليها رقم ما، ثم قالت:
-ده تليفوني، ودي ورقة فيها رقم سجليه واكتبي باسم محمود الفار.
أخذت سيرا الهاتف والورقة وبدأت تكتب الرقم، لكن الهاتف بدا متهالكًا، فتوقفت قليلًا تحاول ضبطه، لاحظت أن السيدة تقترب منها بشكل غير مبرر، رفعت بصرها إليها تتساءل بنظراتها عن سبب ذلك القرب، لكن السيدة لم تتحرك من مكانها، وفجأة بدأت سيرا تشعر بعدم اتزان، وكأن الهواء من حولها أصبح أثقل مما تحتمل، وضاق صدرها بثقل أنفاسٍ لم تعتدها من قبل.
ابتلعت ريقها بصعوبة، وبطرف عينيها لمحت مجموعة من الفتيات يخرجن من محل بقالة قريب، بادرت السيدة محاولة التخفيف من حالتها:
-تعالي بعيد عن الشمس...
لكن سيرا، وقد أدركت ما يعتريها، دفعت نفسها بجهدٍ باتجاه الفتيات، واستطاعت بصعوبة أن تلمس ظهر إحداهن، وهم يستعدون للمغادرة، ثم تمتمت بصوتٍ ضعيف:
-ساعدوني...
تحركت السيدة خلفها بسرعة، إلا أن سيرا أسقطت الهاتف والورقة أرضًا، وقالت للفتاة التي أمسكت بها:
-معرفهاش.
تزايدت أعراض الدوار وعدم الاتزان، وبدأت تشعر بدوخةٍ شديدة تُرهق جسدها المتعب، التفتت الفتيات نحو السيدة، لكنهم فوجئن بها تهرول مبتعدة بسرعة! سألت إحداهن بقلق:
-هي الست دي كانت عايزة منك إيه؟!
وضعت سيرا يدها على صدرها في محاولة بائسة لتثبيت أنفاسها، وقالت إحداهن وهي تتلفت حولها:
-نوديها مستشفى إيه قريبة من هنا؟
استجمعت سيرا ما تبقى لها من قوى، وتحدثت بنبرة متقطعة، تكاد تخنقها:
-ود....ودوني عند الأجانص اللي ف...في آخ...آخر الشارع وهما....هيتصرفوا.
أسرعت الفتيات بها، وساعدنها حتى وصلن إلى معرض السيارات، وهناك اقتربن من أحد العاملين وقلن بقلق:
-تعرفوها؟! هي قالت نجيبها عندكم.
رمقها العامل بنظرة فاحصة، فأدرك أنها الفتاة التي تعمل في الجيم داخل البرج السكني، فرد بقلق:
-هي مالها؟! في إيه؟
وبينما كانت سيرا تحاول النطق باسمه بجهدٍ بالغ، كانت عيناها تفتشان عنه، حتى وجدته يجلس في الداخل مع شقيقه سليم، أشارت نحوهما بصوت خافت، فحاول العامل أن يفهم منها شيئًا، لكن دون جدوى، فقالت إحدى الفتيات بنفاد صبر:
-هي باين عايزة حد من اللي جوه دول.
كان أول من لاحظ ما يحدث في الخارج هو سليم، إذ كان يزن مشغولًا بترتيب أوراق خاصة بالمعرض، فقال سليم متفاجئًا وهو ينهض:
-مش دي سيرا؟ هي مالها؟
انتفض يزن بقلق، لم يفهم شيئًا، وما إن رآها تستند على الفتيات ويبدو عليها الإعياء، حتى اندفع بجنون نحو الخارج، واصطدم بجسد أخيه بقوة، مما جعل سليم يترنح للخلف وقد اعترته الدهشة....
هل من المعقول أن يزن أحبها فعلاً؟!
كيف حدث هذا في أيام معدودة؟!
هل كانت تلك الخطبة العابرة كافية لتوقظ مشاعره الدفينة؟
تحرك خلفه مذهولًا، أما يزن فلم يرَ سوى سيرا، اقترب منها سريعًا وأمسكها من الفتيات، يسألها بلهفة وقلق:
-مالك، حصلك إيه؟
وكأن رؤيته طمأنتها، فسمحت لنفسها بالاستسلام، واستسلمت لدوامةٍ سوداء سحبتها نحو اللاوعي، ووقعت في غيبوبة بين ذراعيه.
ارتعد قلب يزن، حملها بخوفٍ شديد، وانطلق بها إلى مكتبه، تحديدًا إلى أريكته المفضلة، ذلك الملجأ الذي لم يشاركه فيه أحد، لا أخوته ولا أصدقاؤه، سوى لحظات انكساره الخفية.
لحق به سليم وقد استبد به القلق، فالتفت نحو الفتيات وسأل بنظرة واحدة كفيلة بإخافتهن، تلعثمن جميعًا، وقلن معًا:
-والله ملناش دعوة.
ثم أسرعت إحداهن تسرد ما جرى منذ لحظة لقائهن بها وحتى وصولهن إلى المعرض.
في هذه الأثناء، كان يزن ينثر الماء فوق وجهها، ثم نثر عطره قرب أنفها بغزارة، لكن دون جدوى، صرخ في وجه أخيه وهو يتأملها بنظرة يغمرها الهلع:
-سليم مابتفوقش، اعمل إيه؟
قالت إحدى الفتيات محاولة المساعدة:
-طيب جرب رش برفيوم تاني كتير، ان شاء الله تفوق.
كاد يزن أن يحطم زجاجته الثمينة من شدة توتره، فنثر العطر بجنون حتى أوقفه سليم قائلاً:
-استنى...هتفوق ان شاء الله وأنا هكلم دكتور حالاً.....
لكن يزن لم يسمعه، فقد كان غارقًا في موجة من القلق والألم، تطرق قلبه بعنف كما لو أن طبول حرب تدق بداخله، عاجزًا عن التفكير السليم، وفي غمرة قلقه، همهمت سيرا بشيء غير واضح، فمسح وجهها برفق، وقال بنبرة مليئة بالرجاء:
-سيرا...فوقي، خليكي معايا...
فتحت عينيها ببطء، تحاول التنفس فرفع رأسها قليلًا لتستعيد بعض وعيها، ولما أدركت ما كان يُدبر لها، شهقت رعبًا، وانهمرت دموعها وهي تشير إلى نفسها بيد مرتعشة:
-كنت هتخطف، كانت هتخطفني، كانت هتبيع أعضائي.
ضحكت إحدى الفتيات بسذاجة، لكن نظرة يزن النارية أسكتتها، ثم التفت إلى سيرا وسألها بجدية:
-مين دي؟ تعرفيها؟ إيه اللي حصل؟
تدخل سليم بهدوئه المعتاد، وهو يناولها كوب ماء:
-اهدى وبلاش اسئلة دلوقتي، هي تعبانة ومش مركزة، مش هتفيدك، استنى لغاية ما تبقى كويسة وأنا هتصل بزيدان يجي.
هز يزن رأسه موافقًا، لكنه لم يبعد عينيه عنها، كان ينظر إليها وكأنها أصبحت جزءًا لا يتجزأ من كيانه، كانت تمسك بيده بقوة، وكأنها تتمسك بالحياة نفسها، فاشتعلت بداخله مشاعر لم يذقها من قبل، وبينما انشغل سليم بشكر الفتيات، اقترب يزن منها وهمس بصوته العميق:
-متقلقيش أنتي معايا، مش هسيبك.
قالت له باكية وهي تشير نحو نفسها:
-كانت هتخطفني والله أنا حسيت بكده.
مسح دموعها بأصابعه، وهمس:
-حتى لو خطفتك كنت هجيبك وهوصلك حتى لو كنتي في بطن الحوت.
انفجرت بالبكاء بين يديه، وارتجف جسدها، فشد على يدها مطمئنًا، وفجأة راودته أمنية غريبة لم تطرأ له يومًا مع فتاة...تمنى لو كانت زوجته الآن، ليضمها إلى صدره، ويمنحها الأمان الذي لم تشعر به الآن.
-أنا خايفة، قلبي بيوجعني.
-سلامة قلبك، متخافيش طول ما أنا معاكي.
ابتسم لها بحنانٍ نادر، ابتسامة كانت بمثابة مرهم على جراحها، أما في الخارج، أجرى سليم اتصالًا بـ زيدان، الذي أجاب بحنق:
-نعم، واقسم بالله أنا عارف ما هشوف شغلي بسببكم.
-اتنيل، وتعال عند يزن في الأجانص، خطيبته كانت هتتخطف.
-إيه؟ خطف؟ لا حول ولا قوة إلا بالله، معاك رقم النجدة كلمهم بقى.
ظن زيدان أن سليم يمازحه، فاشتدت نبرة سليم بشراسة:
-أنا مابهزرش...
-ولا أنا يا سليم، أنا لو اتحركت من القسم هتجازى بجد، هبعتلك واحد زميلي يشوف الموضوع ده وأنا هاتابعه بنفسي بس حاليًا أنا متكدر في قضية بنت *****.
أغلق سليم الاتصال في وجهه، ثم التفت إلى عصفوري الكناري يراقبهما وهما يتحدثان بخوفهما، وراح يتأملهما بتسليةٍ غريبة رغم قسوة الموقف؛ فلأول مرة يشعر بانعدام ضميره.
****
بعد مرور عدة ساعات...
كان نوح جالسًا في سيارته أمام العنوان المنشود، ينتظر مجيء خال حسناء كما أخبره في الرسالة بعد استلامه للمال كاملًا، كانت الدقائق تمر عليه ببطء قاتل، يتأرجح بين الترقب واللهفة، يشتعل داخله شوق متأجج للقاء ابنته، متمنيًا تلك اللحظة التي سيضمها فيها إلى صدره، ليغمرها بعناق طويل يعبر عن احتراق قلبه بفقدها، ورغم توقه الجارف لذلك العناق، كان يخشى أن يؤذي ضلوعها الرقيقة من فرط انفعاله وثوران مشاعره.
وفجأة، سمع صوت سيارة تقترب ببطء وتتحرك خلفه، حتى توقفت....رفع عينيه فرأى بابها الخلفي يُفتح، وابنته تترجل منه بسرعة، وتركض نحوه وهي تنادي بصوتها الرقيق الغارق في نهر من السعادة:
-بـــابي وحشتني اوي.
اندفع نوح من سيارته كمن أُعيدت له روحه، واحتضنها بقوة رافعًا إياها عن الأرض، يدور بها كالمجنون، يغمر وجهها بالقبلات التي حملت كل الحب واللوعة:
-روح قلبي وعقلي وحياتي كلها...
ثم أبعدها قليلًا، وقد ارتسم القلق على ملامحه، ليطمئن على سلامتها، بدا جسدها بخير، إلا أن وجهها ما زال يحمل آثار الحزن والبكاء، مما دفعه للسؤال بصوتٍ خرج منه القلق كالسهم:
-في حد عملك حاجة يا قلبي؟
هزت رأسها نفيًا، وقالت بصوت طفولي مطمئن:
-لا عمو اللي كان معايا، كان طيب بيجبلي حلويات بس أنا مكنتش عايزة آكل عشان انت ومامي وحشتوني، وعمو ده طيب كمان اوي.
ثم أشارت بيدها الصغيرة إلى خال حسناء، الذي اقترب منهم وهو يضحك ضحكة مفعمة بالانتصار وقال بثقة:
-اهو يا باشا بنتك زي الفل، ومحدش لمس شعرة منها.
قال نوح بامتنان وحذر وقد بدأ عقله يبحث خلف الكلمات:
-جميلك ده لا يمكن أنساه، بس عايز أسألك سؤال هو اللي خطفها يعرفني منين أو.....
لكن خال حسناء لم يترك له المجال ليكمل، فقطع سيل تساؤلاته بإجابة مختصرة بدا وكأنه حفظها عن ظهر قلب، كما لقنته حسناء مسبقًا:
-خطفها عشان جدها يا باشا الحاج فاضل مش هو اسمه كده تقريبًا، أصل اللي خطفها ده تخصص تجار أجهزة كهربائية، اه ما هو كار الخطف ده تخصصات كبيرة اوي سعاتك.
أكمل نوح استجوابه بشكّ:
-ومكلمش جدها ليه؟ كلمني أنا ليه يطلب الفدية؟
كان هذا السؤال مختلفًا عمّا تدرب عليه خال حسناء، فتلعثم قليلًا، قبل أن يستجمع نفسه ويجيب بإقناع مصطنع:
-يمكن كلمه يا دكترة وجدها رفض...أو يمكن حس إن جدها راجل بخيل لامؤاخذة فقالك بقى أبوها هيموت عليها ما نكلمه، ويا صابت يا خابت.
تأمل نوح إجابته بصمت، يقلبها في ذهنه ويقارنها بما سمعه، مما أثار القلق في قلب خال حسناء الذي بادره بقلق ظاهر:
-يا دكترة اوعى تقل بأصلك معايا لامؤاخذة، ما هو ميبقاش ده في الآخر جزاتي.
نظر نوح إلى ابنته، التي كانت قد غفت فوق كتفه بأمان، فقال بنبرة هادئة لا تعكس أبدًا العاصفة التي تدور داخله:
-متقلقش، المهم بنتي رجعتلي.
***
وصل نوح إلى منزل عائلة يسر، وأيقظ طفلته التي كانت تغط في نوم عميق داخل السيارة، ثم ترجل معها إلى باب المنزل، طرق الباب ففُتح على الفور، لتظهر يسر التي ما إن رأت ابنتها حتى صرخت بجنون، وأسرعت لتحملها وتضمها إلى صدرها، تقبلها وتبكي بحرقة، مرددة كلمات الشكر والحمد على عودتها سالمة.
تقدم الجد والجدة بخطوات مسرعة، وملامحهما مشعة بالفرح، واحتضنا الصغيرة بين ذراعيهما، يتبادلانها كجوهرة ثمينة أعيدت إليهما بعد ضياع، أخذتها يسر من بينهما وهي تبكي بسعادة عارمة، تقبلها وتشمها كأنها لا تصدق أنها بين ذراعيها من جديد.
وأول من نطق بعد تلك اللحظات الصاخبة بالمشاعر، كان الجد "الحاج فاضل" فوجه سؤاله بنبرة تحمل الكثير من الفضول والقلق:
-الشرطة لقتها فين ولا مع مين، ومسكوه المجرم ده ولا لا؟
كان نوح لا يزال واقفًا على أعتاب الباب، فهز رأسه نفيًا وأجاب بصوت واثق:
-الشرطة ملهاش دخل نهائي، الموضوع كله من تحت لتحت كده.
رفع فاضل حاجبيه بدهشة، وقد ازداد فضوله:
-ازاي يعني من تحت لتحت يا نوح؟
-يعني ببساطة كلمت حد له في الحوارات دي وهو كان أسرع من الشرطة ودفعت فلوس والحمد لله جابها.
تدخلت "أمل" والدة يسر، وهي تشعر بالريبة والقلق:
-هو الموضوع هيخلص كده بالساهل يا نوح؟ ما هو الشرطة يا بني هيدخلوك في سين وجيم، ودي حواراتها كبيرة.
زفر نوح زفرة طويلة، قبل أن يجيب بنبرة غامضة أقلقتهم:
-لا ما احنا هنقول إننا لقيناها رجعت لوحدها ومنعرفش ازاي وخلاص، وبعدين متقلقوش أنا هقفل الحوار ده.
قالت يسر بجمود لم يعرف اللين:
-طيب يا نوح، سلام بقى احنا بنام بدري.
ثم أغلقت الباب في وجهه بقوة، دون أن تبالي بنظرات والدها المستنكرة، وما إن استدار لينظر إليها، حتى قالت بصوت عالٍ وكأنها تتمنى أن يسمعها... وقد فعل:
-متبصليش كده يا بابا، هو مش قال أنا هقفل الحوار ده، يبقى مشكلته هو، وبعدين ده مش بعيد يكون أصلاً هو اللي خاطفها عشان يضغط عليا ومخلعهوش بس على مين هخلعه بردو.
ثم حملت ابنتها ودخلت غرفتها، وتركتهما ينظران إليها بدهشة كبيرة، كأن صدمة الفرح قد تحولت إلى صدمة حيرة، أما نوح فظل واقفًا بالخارج، مصدومًا من فعلتها الحمقاء في حقه، أهذه مكافأته؟ لم تكلف نفسها حتى أن تشكره! بل تجاوزت حدود المنطق واتهـمته صراحةً بخطف ابنته! هو الذي ذاق ويلات الألم في فراقها، وعاش أيامًا حالكة كأنها دهور، لا يهنأ بنومٍ ولا يطمئن لقلب.
وقف في مكانه مذهولًا، يشد على قبضته، يعتصر أنفاسه بمرارة لم يعرفها من قبل، كانت كلماتها طعنات، لا توجه فقط إلى رجولته، بل إلى إنسانيته، إلى قلب أب مزقته فكرة أن ابنته في خطر، وها هي....بعد أن عاد بها الروح إلى صدرها، تصر على ما كانت تنوي فعله سابقًا... الخلع...دون حتى أن تمنحه لحظة امتنان، أو نظرة تقدير، أو حتى تفسيرًا!
حقًا، لقد أصابها الجنون، ولكن أكثر ما آلمه، أكثر من جحودها، كان وقوفه أمام الباب، كأنه شحاذ يتوسل شيئًا لا يستحقه...وهذا ما حطم ما تبقى فيه من كرامة.
****
جلست سيرا فوق فراشها، تريح جسدها المرهق من آثار يومٍ طويل امتلأ بالأحداث الغريبة والعجيبة، تلك التي انتهت بالشرطة والتحقيق معها بشأن اختطافها، مرورًا بمجيء سليم ويزن إلى منزلها لإيصالها، ثم اتفاق سليم مع والدها على خطبة بسيطة عائلية تُقام بعد غدٍ، وبحق...لم تكن تتمنى أن ينتهي يومها على هذا النحو.
تحركت فاطمة بجانبها، وهي لم تتركها لحظة واحدة منذ وصولها، وقالت بحيرةٍ بدت غريبة على ملامحها:
-حقيقي أنا مش فاهمكي يا سيرا، يعني في واحدة في الدنيا تزعل عشان خطوبتها هتبقى بعد بكرة!!
أجابت سيرا باقتضابٍ لا يخلو من الحدة:
-اه أنا يا فاطمة.
رفعت فاطمة حاجبيها وقالت بانفعالٍ تلقائي:
-ليه يا بنتي؟ ما تفكك بقى من كلام العقربة حورية! يزن كان مخضوض عليكي بجد، وباين عليه إنه بيحبك...
قاطعتها سيرا بنبرةٍ شبه غاضبة، وقد ارتسم الجمود في نبرتها:
-ده أكيد أسلوب حقير من أساليبه عشان يوقعني في شباكه زي ما وقع ألف بنت غيري! أنا مش عبيطة يا فاطمة وفاهمة كويس أوي.
تبسمت فاطمة بسخريةٍ لاذعة، وهي تقول:
-متزعليش مني، أنتي ولا فاهمة أي حاجة، لو زي ما حورية ما بتقول، أكيد كنتي لاحظتي يا بنتي، وشوفتي معاه بنات... وبعدين اللي زي يزن ده لو هو فعلاً بتاع بنات زي ما حورية بتقول، عمره ما هيرتبط ولا هيقيد نفسه بحد.
جادلتها سيرا بلهجةٍ حادة، ونظرات متوترة:
-وليه ما تقوليش إنه كان بيحافظ عشان مشوفش منه إلا الصورة الكويسة؟ وليه متقوليش إن الخطوبة دي مجرد سلم عشان يوصلي...؟
قالت فاطمة، وقد خانها لسانها في لحظةٍ من الحماقة:
-أنتي مش جميلة للدرجادي إن حد يخسر حياته عشان يوصل لواحدة؟!
وما إن خرجت الكلمات من فمها، حتى وضعت يدها عليه في حرجٍ شديد، فمالت سيرا برأسها، وضحكت بتهكمٍ بارد:
-فعلاً أنا مش جميلة للدرجادي، بس أحيانًا يا فاطمة الإنسان غروره بيصورله إن الكون كله بيمشي لمزاجه وأهوائه، واللي زي يزن، ولا يفرق معاه أنا حلوة ولا وحشة، المهم أبقى مجرد عدد بيكمل بيه مسيرته.
همست فاطمة برجاءٍ هادئ:
-طيب اديله فرصة... ما يمكن فعلاً كلام إخواتك صح!
هزت سيرا رأسها نفيًا، بإصرارٍ قويٍ لا يتزعزع:
-ولا نص فرصة، بابا بس تستقر حالته وأطمن عليه وأعرف أتكلم معاه ويستوعبني، وبالمرة أقدر أمسك غلطات على سي يزن وأقنعهم بعمايله السودة.
أطرقت فاطمة قليلاً، ثم قالت بلطفٍ هادئ:
-إخواتك بيحبوكي يا سيرا، ومش عايزين غير مصلحتك. وهما مش عايزينك نسخة مكررة منهم، متزعليش منهم ومن ضغطهم عليكي.
قالتها فاطمة بهدوءٍ ورزانة عندما لمحت على وجه سيرا لمحاتٍ من نقمٍ شديد تجاه تدخل إخوتها في حياتها، هزت سيرا رأسها بتفهمٍ عميق، وقد بدأت كلمات ما تتشكل على طرف لسانها، لكنها لم تُنطق، إذ قُطع حبل أفكارها بطرقٍ على الباب، ودخلت فريال وهي تحمل أكياسًا بلاستيكية كبيرة، امتلأت بأصناف الطعام والحلوى.
رمقتها سيرا بدهشة، ثم قالت بتعجبٍ ظاهر:
-إيه ده كله؟ ومين جابه؟
أجابت فريال ببسمةٍ حالمة، ونبرةٍ متساهلة:
-خطيبك يا ستي، بعته ووصاني أخليكي تاكلي... خايف عليكي.
أجفلت سيرا من لهجتها، لكن الابتسامة تسللت إلى وجهها على غير رغبةٍ منها، وقالت بهدوءٍ زائف:
-ماليش نفس يا فيفي، بس ممكن آكلهم بعد شوية.
-بالهنا يا حبيبتي.
ثم خرجت فريال من الغرفة، وما إن أُغلق الباب خلفها، حتى التقطت سيرا هاتفها وأجرت اتصالًا سريعًا بيزن، كانت تنتظر رنين الهاتف بفارغ الصبر، وما إن أتاها صوته حتى صاحت بعصبيةٍ أدهشت فاطمة:
-أنت باعت الأكل ده كله ليه؟ حد قالك إن مفيش أكل في بيتنا؟!!!
رد يزن بصوتٍ بدا مندهشًا:
-إهدي، إنتي متعصبة ليه؟ عادي جبتلك حاجات حلوة... كل البنات بتحبها...
توهج وجه سيرا بالغضب، وحدقت في الهاتف وهي تردد بعصبيةٍ تنم عن استنكارها:
-كل البنات؟ وأنا بقى مش زي البنات يا يزن! وماتعاملنيش زي البنات! وأول وآخر مرة تتعدى حدودك معايا.
اخشوشنت نبرته فجأة، وقال بنبرةٍ شبه حادة:
-إنتي مجنونة؟ دي جزاتي يعني على اللي بعته؟ أنا اتصرفت بعفوية، إيه كل الهجوم ده؟
لم يدرك يزن أن سيرا شعرت بالتقليل من شأنها، شعورٌ غريب تملكها، لم تستطع إدراك حجمه ولا السيطرة عليه، بدأت تنقم عليه ماله وسيطرته، تلك السيطرة التي تمنتها في بادئ الأمر.
أشارت إليها فاطمة بالهدوء، وهمست بنبرةٍ صادقة:
-مغلطش يا سيرا على فكرة.
أطلقت سيرا زفرة قوية، ثم قالت بهدوءٍ مصطنع يخفي الكثير:
-ما تتصرفش معايا تاني يا يزن بعفوية، لو سمحت، وحتى لو كنا مخطوبين، أو هنتخطب، فياريت ما تفكرش إنك هتصرف عليا...
صمتت لحظة، ثم تابعت بأمرٍ واضح:
-واه كلامك اللي كان هنا لبابا، إنك تيجي توصلني كل يوم الصبح وتروحني من الشغل، مش هيحصل أوك؟؟
طال الصمت من الطرف الآخر، قبل أن يتفوه بنبرة واحدة:
-أوك... سلام يا بيبي!
أغلقت سيرا الاتصال، وألقت بالهاتف بعصبيةٍ شديدة، وهي تتلفظ بغضبٍ مكتوم:
-بيبي تاني؟!!! بيقولي بيبي... بيبي لما يلهفه... ابن..... هي أمه اسمها إيه؟!
ولم تكد تكمل جملتها حتى طرق الباب مجددًا، ودخلت شاهندا هذه المرة، بوجهٍ حاد ونبرةٍ مملوءة بالاعتراض:
-حورية صاحبتك جاية تشوفك... اتفضلي يا قمر.
دخلت حورية بوجهٍ جامد، وعينيها ممتلئتين عن آخرهما بالكلام، وعندما غادرت شاهندا، رفعت هاتفها أمام سيرا وهي تقول بنبرةٍ يغمرها الغيظ:
-أستاذ يزن باعتلي رسالة بيعزمني فيها على الخطوبة؟ أقدر أفهم حضرتك فهمتيه إيه عني؟؟؟ عشان يبعتلي رسالة زي دي؟!
***
في منزل حسناء...
وضعت المال المتفق عليه أمام خالها، الذي نظر إلى النقود بعدم رضا، وقال بامتعاض:
-شايفة يا أختي عمايل بنتك؟ يعني جبتلها الفلوس لغاية عندها، وفي الآخر جاية ترميلي عشرين ألف جنيه؟!
قالت والدتها بغيظٍ مكتوم، وهي تنظر إلى ابنتها بنظرةٍ لم تخلُ من التوبيخ:
-ادي خالك عشرة كمان يا حسناء.
لكن حسناء اعترضت والدتها بلهجةٍ حازمة:
-ولا جنيه زيادة، وبعدين احمد ربنا إني اديتك فلوس أصلًا! ما أنت واخد في حضنك مية ألف جنيه، أنا اتكلمت؟ ولا قلت حاجة؟!
فتح خالها فمه ليرد، لكن اندفاع باب الشقة بقوةٍ عنيفة جعلهما كالأصنام في أماكنهم، وقد ثبتت أنظارهم على الأشخاص الذين اقتحموا المكان، كانوا ملثمين، يملؤون الأرجاء بسرعةٍ خاطفة، وفور أن استقروا داخل الشقة، ارتفعت أفواه أسلحتهم النارية لتستقر فوق رؤوسهم...!
_______________
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية غناء الروح) اسم الرواية