Ads by Google X

رواية محسنين الغرام الفصل الرابع و العشرون 24 - بقلم نعمة حسن

الصفحة الرئيسية
الحجم

    

 رواية محسنين الغرام الفصل الرابع و العشرون 24  -  بقلم نعمة حسن

 ~ تستجيرين بالرمضاء من النار ؟! ~

ــــــــــــــــــــــــــ

دخل فريد إلى الغرفة المتواجد بها والده بناءً على طلبه في رؤيته كما أخبرته الممرضة.

كان سالم مستلقيًا فوق السرير بتعب، وقد بدت حالته غريبة ومضطربة لأول مرة .

توقف فريد عند الباب، فأشار إليه سالم بالاقتراب وهو يقول:

ـ تعالى يا فريد ..

تقدم منه فريد بهدوء، وجلس على المقعد المجاور له، ثم نظر إليه في انتظار ما سيقوله، فنظر سالم إليه وهو يتنهد بهدوء ويقول:

ـ إنت كان عندك حق في اللي قلته .

صمت سالم، وأخذ فريد ينظر إليه بصمت مماثل، يتبين ملامحه المرسوم عليها الضيق، وفي قرارة نفسه يتعجب أمر ذلك الرجل، هو حتى غير قادر على قول آسف..

ـ أنا جيت عليك وحملتك فوق طاقتك، وكمان غلطت لما مصدقتش وجهة نظرك في شريف.. أنا كلفت نادر يفتش حواليه واكتشفت إنه فعلا وراه بلاوي.

ظل فريد على نفس حالة الصمت لا يبدي أي رد فعل، بينما تابع والده وقال:

ـ أنا معترف إني قسيت عليك يومها لما قلت..

صمت وحمحم بضيق وانزعاج، فقال فريد بنبرة بدت في ظاهرها جليدية ولكنها تخفي نيران مشتعلة بجوفها:

ـ لما قلت لي إني مريض نفسي مش كده ؟!

نظر إليه سالم وأومأ بندم ، فابتسم فريد ابتسامة ساخرة وأردف:

ـ بس حضرتك مقولتش حاجة غلط. أنا فعلا مريض نفسي.. حتى لسه جاي من عند دكتور رؤوف خلف حالا .

نظر إليه سالم متفاجئا، فتابع فريد بجدية تتسم بالقسوة:

ـ أكيد الإسم مش غريب عليك مش كده؟ رؤوف خلف دكتور العيلة .. حافظ تاريخنا المرضي كله.. إذا كنت أنا ولا نسيم ولا أمي الله يرحمها .. ما احنا للأسف كلنا مرضى نفسيين بفضل حضرتك.

طالعهُ سالم بصدمة، فتحدث فريد قائلا:

ـ مستغرب مش كده ؟! متوقعتش إني أقول كده ؟! مستني مني أمجد وأعظم فيك كالعادة.. أو أنافقك مثلا وأقوللك غير كده.. أقوللك إن المرض النفسي ده مش بسببك وإنك بريء منه ؟! أقوللك إن أمي مانتحرتش بسببك؟ وإن نسيم مانتحرتش بسببك؟ وإني مش بعاني بقالي عشر سنين بحالهم من الوسواس القهري بسببك ؟!

تغضن وجه سالم باستياء وقبل أن يجيب كان فريد قد قاطعه قائلا:

ـ المشكلة إنك عارف إنك السبب الرئيسي في كل ده ومع ذلك بتنكر .. عارف إنك ظلمتني وزرعت فيا الخوف والشك لحد ما بقيت مريض بشك في كل حاجه حواليا ، وظلمت نسيم لما سودت حياتها وحرمتها من الإنسان اللي بتحبه ، مع إنها مكانتش هتهرب معاه لو إنت وافقت بيه وجوزتهم ، لكن إنت وقفت في طريق سعادتها زي ما بتقف في طريق سعادة أي حد مننا..

أطرق سالم رأسه بضعف، وبدأ يشعر بالاضطراب ، ببنما كان فريد قد انفجر أخيرا ولم يعد بمقدوره الصمت

ـ أنا عايز أعرف بس.. حاجة واحدة نفسي أفهمها، ليه بتكره نسيم للدرجة دي ؟! هي مش بنتك ؟! وأنا هنا مش بتهكم على فكرة، أنا فعلا بقا عندي إحساس إنها مش بنتك .. مهو مش طبيعي تعاملها بالقسوة دي ، طيب أنا وعمر ممكن أحط مبررات لقسوتك معانا .. زي إنك مثلا راجل متمسك بعاداتك ونشأتك في الأرياف وشايف إن الراجل لازم يتشد عليه ويطلع عينه عشان يكون راجل.. مع إن ده مفهوم مش صح أبدا ، لكن ما علينا.. نسيم بقا.. البنت الوحيدة.. ليه تكون قاسي عليها بالشكل ده وتحاول تبعدها عنك من صغرها إلا لو كانت لا تعني لك شيء.

اهتز قلب سالم وذاب من حوله الجليد وقال مصححًا تلك الفكرة التي يعلم أنها لن تزول عن رأس ابنه إلا بتأكيد منه :

ـ نسيم بنتي ومن صُلبي زي ما انت وعمر ولادي..

ـ أومال في إيه بقا ؟! ليه بتعاملها بالطريقة دي مع انها أكتر حد محتاج يتحب ..

ونهض من مكانه واقترب من والده ، ثم نظر إلى عينيه بقوة، وكبح دمعاته بقوة أشد وهو يقول برجاء:

ـ أرجوك لو في قلبك شوية حب ولو صغيرين اديهم لنسيم.. أنا عن نفسي متنازل عن نصيبي في الحب ده وأظن عمر كمان مبقاش فارق معاه، لكن نسيم لأ.. حرام.. نسيم خسرت كل حاجه.. أرجوك حاول تحبها أرجووووك .

وغادر الغرفة باندفاع ، لقد نفذ صبره واعتل فؤاده ، وهو الآن أحوج ما يكون لرؤيتها.. هي فقط من ستطيب هذه الآلام وترمم المكسور منه .

***

في نفس التوقيت..

كانت نغم قد صعدت إلى الطابق العلوي حيث تتواجد كلا من زينب ، وچيلان التي كانت تستعد للانصراف بالفعل..

هنا نطقت زينب التي قالت:

ـ نغم انتي لسه هنا؟ ده أنا قلت إنتي مشيتي..

اقتربت منها نغم وهي تجر قدميها بتعب وتقول:

ـ همشي أروح فين بس يا خالتي ؟!

ـ ترجعي الڤيلا ترتاحي.. انتي هنا من امبارح ومنمتيش، على الأقل خدي شاور وغيري هدومك وارتاحي ساعتين والصبح تعالي.

ـ لأ مش لازم.. خليني هنا معاكي..

ـ نغم اسمعي الكلام من غير مناهدة إحنا كلنا تعبانين، ارجعي مع چيلان هانم والصبح تعالي..

نظرت نغم إلى چيلان وكأنما لدغها عقرب وقالت:

ـ لأ.. أنا هفضل معاكي..

نظرت إليها زينب بنفاذ صبر وقالت:

ـ مش هينفع، وقعادك هنا ملوش لزمة طالما أنا موجودة ، اسمعي الكلام وامشي مع چيلان هانم لأن أكيد فريد بيه هيفضل مع سالم باشا الليلة ، وعمر بيه أهو مشي.. هترجعي مع مين بقا ؟!

نظرت نغم مجددا إلى چيلان التي فاجئتها إذ قالت:

ـ أنا مستنية تحت، بس يا ريت متخلنيش أستنى كتير.

وقفت نغم تتطلع في أثرها بحيرة وتردد، آخر ما قد ترغب فيه الآن أن يجمعها مكان بتلك المتعجرفة قليلة الحياء التي كانت تتحدث عن علاقتها بفريد بكل بساطة، ولكن رغبتها في الارتياح الآن وأخذ حمام دافيء تفوق رغبتها في أي شيء آخر ، لذا تنهدت باستسلام ونزلت لكي تغادر برفقة چيلان.

رآها فريد الذي كان يقف في بهو المشفى يحاول تنظيم أنفاسه بعد تلك المواجهة الضارية مع والده التي استنزفت ما تبقى من طاقته، ولكنه لم يرغب في استوقافها بعد أن رآها تستقل سيارة چيلان فعلم أنها ستعود إلى الڤيلا، وكم شعر بالراحة لذلك الاحتمال لأنه يعرف أنها بالتأكيد تحتاج للراحة ولو لقليل .

***

ركبت نغم بجوار جيلان وهي تشعر بالضيق والقلق، ولكنها حاولت أن تبدو هادئة قدر المستطاع، بينما انطلقت چيلان نحو وجهتها بصمت.

ـ وبعدين ؟!

تساءلت چيلان فجأة، فقالت نغم متعجبة:

ـ وبعدين في إيه ؟!

ـ في محاولاتك الفاشلة..

نظرت إليها نغم باستغراب، بينما كانت چيلان تنظر إلى الطريق أمامها بتركيز ، فقالت:

ـ مش فاهمة قصدك ؟! ما تجيبي من الآخر ؟!

ـ شيلي فريد من دماغك تماما.

قالتها چيلان وهي تنظر إليها نظرات تفتعل الثقة والتحدي، فأجابتها نغم بتوتر جاهدت لتخفيه :

ـ ومين اللي قال لك إني حاطة فريد في دماغي ؟؛

ـ فريد ؟! هه.. بالنسبة للناس الغريبة اللي زيك المفروض بيقولوا فريد بيه ، شايفة إنك كل يوم بيعدي عليكي في الڤيلا بتتجاوزي حدودك أكتر من اليوم اللي قبله، لدرجة إنك رفعتي التكليف وبقيتي تقولي فريد من غير ألقاب .

تنهدت نغم بملل فتابعت چيلان قائلة بحدة وقد عمتها الغيرة:

ـ واضح أوي إنك شرشوحة من الشارع، وواضح كمان إن حد زقك على فريد عشان شيء معين، وواضح إنك بتحاولي تلفي على كل اللي في الڤيلا وتكسبيهم لصفك، بداية من الباشا الكبير لما قررتي تتنازلي وعمر يخرج، وبعدين اتبرعتي لنسيم بدمك عشان تكسبي تعاطفهم وخصوصا فريد ، اوعي تفكري إن كل الموجودين مش فاهمين إنتي بتحاولي تعملي إيه ؟! بس أحب أقوللك كل ده عالفاضي .. فريد لا يمكن يبص لواحدة زيك مش معروف لها أصل من فصل قاعدة عالة عليه وعلى أهله، وإذا كنتي مفكرة إنه بيكلمك بأسلوب لطيف لأنه معجب بيكي تبقي غبية، كل الحكايه إنه بيستدرجك عشان يعرف اللي وراكي مين !

اهتزت حدقتي نغم وتسرب الجليد إلى قلبها، فأدركت الأخرى أنها قد حققت هدفًا سديدًا لذا تابعت:

ـ عشان كده بلاش الشويتين اللي بتعمليهم قدامه دول.. متذليش نفسك أكتر من كده لأنك مهما قعدتي في الڤيلا عمرك ما هتبقي واحدة مننا..

التمعت عينا نغم بمرارة، وتساءلت بتماسك تحسد عليه:

ـ ومين اللي قاللك إني عايزة أبقا منكم ؟! ده انتوا عيلة ما يعلم بيها إلا ربنا ، وعلى العموم اطمني أنا لا بفكر أكسب حد ولا أقرب من حد.. أنا كده كدة ماشية..

ابتسمت الأخرى ابتسامة متألقة وهي تردف:

ـ يا ريت تخليكي قد كلامك فعلا وترجعي على المكان اللي جيتي منه، هيكون أفضل للجميع.. وحاجة أخيرة عايزاكي تفهميها، إوعي تفكري إنك هتقدري تخلي فريد يتعلق بيكي، لأن ببساطة أنا وفريد بنحب بعض وهنتخطب قريب.

حاولت ردع زتلك الرغبة في البكاء، إن بكت الآن سينكف أمرها، ستظهر وكأنها عاشقة واقعة في الحب ، وهي ليست كذلك أبدا.. كل ما في الأمر أنها رأت فيه السند والأمان.. هذا كل شيء.

فنظرت إليها ورسمت ملامح حادة على وجهها وهي تنظر إليها وتقول:

ـ واضح إنك فاهمة كل حاجه غلط، أنا لا عايزة أخليه يتعلق بيا ولا أنا شاغلة بالي بيه من الأساس، كل اللي في دماغك أوهام.

مطت چيلان شفتيها قائلة :

ـ أتمنى .

والتزمت كلا منهما الصمت، إلى أن توقفت چيلان أمام باب الڤيلا، فترجلت نغم ودخلت غرفتها ، أو غرفتها المؤقتة بالأحرى ، ووقفت تتأملها بحزن، لقد تعلقت بشدة بهذا المكان، بالرغم من أنها كانت تعرف جيدا أنها ستفارقه عاجلا أو آجلا ، ولكن معرفتها لم تمنعها من التعلق وبث حبها لكل تفصيلة في تلك الغرفة وذلك المنزل بالكامل..

والآن.. عليها أن تضع نصيحة چيلان نصب عينيها، ستدعها من التغابي وتصنع عدم الادراك، كل شيء حولها واضح، كل شيء يدعوها للفرار من هنا .

الأمر واضح، ذلك الفريد الذي كان يطلب منها أن تبقى لأجله انضح أنه على علاقة بچيلان، وخطوبتهما في القريب العاجل ، وبينهما علاقة ، وكما قالت چيلان.. من المؤكد أن كل ذلك النبل واللطف لكي يستدرجها ويعرف من وراءها ليس أكثر، وهذا يعني أنه لم يصدقها ولم يثق بها كما ادعى.

ماذا بعد ؟! ماذا تنتظرين نغم ؟!ماذا تنتظرين لكي تفيقين من سباتك وتعرفين أنك وطأتِ بقدميكِ حقل ألغام ؟! إن تخطيتِ لغمًا لا بد أن تتعثري بالآخر !

بمن تستغيثين يا بلهاء ؟! بفريد من والده ؟!

فريد الذي أقحمكِ إلى حياة أهله بكذبة، وسالم الذي يريدك أن تبقي من أجل كذبة ، هل تستجيرين بالرمضاء من النار ؟!

آن لتلك الحياة الزائفة أن تنتهي، عليكِ أن تخلعي ذلك الثوب الذي لا يناسبك وترتدي ما يلائم حقيقتك البشعة.

تلك الأيام التي قضيتيها هنا لن تدوم، ومهما طالت فستنتهي، ولكن أن تنتهي وأنتِ لا زلتِ تحملين بقايا كرامتك وماء وجهك أفضل بكثير من أن تنتهي وأنتِ مجردة من كل معاني الشرف .

بدلت ثيابها وارتدت تلك الملابس الرثة التي أعارتها إياها الممرضة يوم خروجها من المشفى، ثم وقفت تتأمل تلك الخزانة المليئة بالملابس والاكسسوارات بابتسامة حزينة وهي تتذكر يوم أن اصطحبتها زينب للتبضع، وكيف كانت سعادتها يومها بتلك الأغراض وقد ظنت يومها أنها ملكت العالم كله بين يديها.

تنهدت وهي تغلق الخزانة بيأس، ثم تقدمت من الباب، فتحته وغادرت الغرفة، ووقفت تتأمل المنزل، غرفة الطعام، المائدة التي جمعتها بفريد عدة مرات، ثم خرجت، ووقفت تتأمل الأرجوحة، حينما أعطاها تصريحًا رسميا بأنها استثناء ، وأنها الوحيدة المسموح لها بالجلوس عليها..

ابتسمت بمرارة، لن تهتم الآن بالتفكير فيما إذا كان قد كذب عليها حينها أم كان صادقا، كل ما تريده هو أن تحتفظ بتلك الذكريات الجميلة في ذاكرتها وحسب.

خرجت من باب الڤيلا ولم تدري حينها أن چيلان رأتها وكانت على وشك إقامة الأفراح لأن مخططها قد نجح أسرع مما كانت تتخيل.

سارت حيث لا تدري إلى أين ستأخذها قدماها، إلى أي مكان .. لم تعد تهتم ، لقد عاشت ما هو أسوأ من ذلك ..

ستبتعد قدر الإمكان، حيث لا يوجد فريد بأوهامه، ولا حسن بظلامه، ستتواجد حيث تتواجد نغم.. نغم وحسب.

***

في الرابعة فجرا..

وقف حسن أمام باب بيته الجديد ، وفتح الباب ثم نظر إلى أمه قائلا:

ـ ادخلي ياما برجليكي اليمين ..

ثم نظر إلى نهال التي تقف مطرقةً رأسها أرضا بخجل مصطنع وقال ساخرًا:

ـ وإنتي نعمل فيكي إيه ؟! نوضيكي الأول ولا نتصرف معاكي إزاي دلوقتي ؟! اتفضلي ادخلي وربنا يستر .

دخلت وهي تنظر حولها بانبهار، ثم عادت بناظريها إليه وهي تقول:

ـ إيه الحلاوة دي يا حسن ؟! دي شقتك بجد ؟!

كرمش ملامحه بامتعاض، وأخذ ينظر إليها وهو يقول منزعجًا:

ـ صلي على النبي يا نهال، صلي على النبي وقولي ماشاء الله ده انتي لسه مولعه لنا في البيت الحيلة بقدمك النحس .

ثم تنهد وهو ينظر إلى أمه ويقول:

ـ بقولك ايه ياما، البت دي متدخلش المطبخ تاني، عايزة تطفح بطاطس محمرة تنزل تاكل في أي مطعم، أبوس ايديكي الشقة عليها اقساط لسه .

ثم نظر إلى نهال وقال:

ـ وانتي .. تقعدي في مكانك متتحركيش.. أمي هي اللي هتعمل كل حاجه.

ابتسمت وهي تتعمد استفزازه وتقول بنبرة ملتوية:

ـ ألف شكر يا أبو علي.

ـ ده مش حبًا فيكي بروح أمك الله يرحمها ، إنما أنا معنديش استعداد أجي من آخر الدنيا على ملى وشي ألاقي البيت بيتحرق عشان سيادتك حبيتي تاكلي بطاطس ، ساعتها هتاكلي بالجزمة أقل ما فيها.

نظرت إليه بغيظ، فاقترب من أمه وانحنى نحوها وهو يقول بصوت خافت:

ـ بقولك ايه يا أم حسن.. خلصينا من البت دي أنا مش متفائل بيها، أنا مش طايق أشوف وش أمها النحس ده هنا في البيت، دي قدمها شؤم .

نظرت إليه بقلة حيلة وهي تردف:

ـ هنعمل ايه بس يبني، واحدة واقعة في عرضنا هنرميها في الشارع ؟

ـ ولا واقعة في عرضنا ولا واقعة في طولنا.. جزرة وقطمها جحش. نهال دي بومة اسمعي مني..

ثم نظر إلى نهال بحدة وهو يردف متسائلا:

ـ وبعدين ما تروحي تفتحي بيت ابوكي وتقعدي فيه..

تقدمت منهما وهي تفرك بيديها بتوتر وارتباك وقالت:

ـ إزاي بس يا حسن ما انت عارف إني بِعت نصيبي فيه لمرات أبويا قبل ما أتجوز الجوازة المهببة دي.. لو كنت أعرف إن الحال هيميل بيا تاني مكنتش فرطت فيه.

ـ يعني إيه ؟! يعني وقعتي في قُرعتنا ولبسناكي خلاص ؟!

هنا برز صوت عائشة التي قالت محاولا تهدئته:

ـ سيبها لله يا حسن وأنا هتصرف.. ادخل انت ارتاح.

ـ لأ أنا نازل، هفوت الأول أشتري ليك كام حاجة كده تغيري فيهم لحد ما تنزلي انتي وتشتري اللي ناقصك .

ونهض وهو يطالع نهال قائلا :

ـ منه لله اللي كان السبب. كنا قاعدين لا بينا ولا علينا وفجأة يجينا الهم من حيث لا ندري .

وسار نحو الباب، ورمق نهال التي تقف بالقرب منه بازدراء سافر ، ثم غادر، فما إن أغلق الباب حتى أشارت إليها عائشة أن تتقدم منها وهي تقول:

ـ قربي يا نهال تعالي..

اقتربت الأخرى متصنعةً الود وهي تقول بابتسامة عريضة:

ـ نعم يا خالتي ؟

ـ اقعدي هنتكلم..

جلست فنظرت إليها عائشة وهي تقول:

ـ عايزاني أقف جنبك صحيح وأقنعه إنك تقعدي هنا لحد ما تلاقي مكان تقعدي فيه ؟!

أومأت نهال بحماس شديد فقالت عائشة بتروٍ:

ـ يبقا تساعديني نرجع نغم .

تجهمت ملامحها وتراجع الحماس رويدًا ، فتساءلت وهي تحاول ألا يظهر ضيقها:

ـ إزاي ؟!

ـ هقوللك على العنوان اللي هي ممكن تكون فيه، وانتي هتحاولي تروحي هناك وتدخلي البيت بأي طريقة وتقابليها، وتقوليلها إني هتجنن عليها وعايزة أشوفها ضروري.

ابتلعت الأخرى ريقها بتوتر، وأخذت تعبث بخصلاتها بارتباك وهي تقول:

ـ أه.. بس مين قاللك على عنوانها ؟! ولما انتي عارفة مكانها مبتروحيش تجيبيها ليه ؟!

ـ متسأليش كتير، اللي بقوله يتنفذ من سكات.

تنهدت الأخرى بقلة حيلة وهي توميء وتقول:

ـ ماشي يا خالتي. اللي تؤمري بيه .

ـ طيب.. ادخلي يلا نامي دلوقتي والصباح رباح.. وأنا هستنى الفجر أصليه وأنام.

أومأت نهال بموافقة، ثم تقدمت نحو الغرفة التي أشارت إليها عائشة وما إن أغلقت الباب خلفها حتى ابتسمت بمكر وهي تسترجع ما فعلته وتقول:

ـ و لسه.. ده أنا هلعبك على الشناكل يا ابن عيشة .

ـ استرجاع زمني ـ

كانت نهال تجلس أمام عائشة التي لازالت تستجوبها قائلة:

ـ قوليلي يا نهال، جوزك ده مش كان كاتبلك الشقة باسمك، مش كنتي قلتي كده أول ما اتجوزك ؟!

أومأت نهال وهي تمسح دموعها بمرارة وتقول:

ـ كان بيضحك عليا الواطي، فهمني إنه كاتبها باسمي وطلعت ايجار.

رفعت عائشة حاجبيها باستغراب ثم تابعت:

ـ طيب ما تحاولي تستنجدي بولاده ولا حد من معارفه، على الأقل يسيبك في الشقة ويدفعلك ايجارها.. ده أقل حق من حقوقك يعني هو انتي مش المفروض ليكي نفقة ومؤخر والكلام ده كله؟

ـ ده لو كان جواز رسمي عند مأذون يا خالتي، انما ده جواز عرفي يعني لا ليا حق ولا مستحق.

نظرت إليها عائشة بامتعاض وهي تردف:

ـ قولتيلي.. وأنا اللي كل ده مفكره إنك متجوزاه على سنة الله ورسوله طلع جواز أي كلام.. يحق له يرميكي الرمية دي.

ـ إيه الكلام ده بس يا خالتي، ماهو جواز زي أي جواز .

ـ لا يا عين خالتك اوعي تغالطي نفسك، انتي عايزة اللي تتجوز على الكتاب والسنة والناس كلها تعرف بجوازها زي اللي تكتب ورقة في السر وتوهم نفسها إنها كده في السليم ؟!

تنهدت نهال بأسى وهي تقول بانهزام:

ـ اعمل ايه بس، أهي جوازة والسلام.. ما صدقت ألاقي راجل يستتني ويعوضني عن الحرمان اللي كنت عايشة فيه، طلع راجل ولا ليه ستين لزمة.. هلهولة بيروح وييجي حسب أوامر المدام.

تنهدت عائشة وهي تقول:

ـ يلا أهو انتي عيشتي لك يومين، لبس وفسح وعز مكنتيش تحلمي بيه .

أخذت الأخرى تسترسل في تأييد وهي تتحسر على ما فاتته:

ـ وأي عز.. ده كفاية الشقة اللي كنت قاعدة فيها، دي شقة عالنيل إيجارها لوحده يعدي عشرين ألف جنية كل شهر .

لفت انتباه عائشة ما تفوهت به نهال للتو، فتساءلت قائلة:

ـ عشرين ألف جنية إيجار الشقة ؟!

ـ ويمكن أكتر..

قطبت جبينها وهي تفكر ، ثم تساءلت بصوت مسموع:

ـ على كده شقة زي بتاعة حسن تعمل لها كام إيجار كل شهر ؟!

انتبهت نهال لما تقوله فتساءلت بذهول:

ـ هو حسن عنده شقة هناك يا خالتي ؟!

أدركت عائشة زلة لسانها، فنظرت إليها بغيظ وهي تقول:

ـ خليكي في حالك ومتسأليش كتير.

ـ حاضر..

ـ وقومي يلا شوفي لك لقمة كليها أنا مفيش فيا حيل أقف أطهي لحد..

ـ حاضر.. كتر خيرك يا خالتي عيشة..

نظرت إليها عائشة بنزق وهي تقول بانفعال:

ـ و إيه اللي خالتي خالتي دي كمان .. أنا مش خالة حد.. أساسا أنا وأمك الله يرحمها كنا مش بنطيق بعض وكل ساعة والتانية نقار وخناق.. أنا قعدتك هنا وفتحتلك بيتي بس عشان أبوكي كان أعز صاحب لمحمود الله يرحمه وينور قبره، يعني إكرامًا لعضم التربة مش أكتر .. إنما لو عليا مش عايزة أشوفلك وش أنا بقولك أهو بصراحة.

لوت نهال شفتيها بحنق مستتر وقالت من طرف فمها:

ـ ألف شكر يا خالتي ماهو ده العشم بردو..

ـ تاني يا خالتي ؟!

ـ اومال أقولك إيه بس يا خالتي ؟!

ـ قوليلي يا أم حسن..

لتجيبها نهال وهي تردف باستفزاز:

ـ ماشي يا خالتي أم حسن.

وتركتها تنظر في أثرها بغيظ، ثم توجهت نحو المطبخ، ووقفت تتطلع إلى الجدران التي تتسم بشروخ تمر عبرها الفئران، وإلى ذلك السقف المهتريء ، وأخذت تتمتم بحسرة:

ـ البيت ده آيل للسقوط ولا إيه يخربيت كده !! بقا أنا بعد ما كنت قاعدة في شقة في عمارة عالنيل أجي أترمي الرمية السودا دي ؟!

وفجأة تذكرت ما قالته عائشة عن حديثها عن شقة حسن، فطرأت برأسها فكرة شيطانية ماكرة، وعملت على تنفيذها في الحال.. ستجبر حسن على الانتقال من هذا البيت الآيل للسقوط إلى تلك الشقة الفارهة رغما عن أنفه.

فقامت بتشغيل الموقد ومن ثم أضرمت النيران بالمطبخ كله وخرجت منه وهي تصرخ ، وسحبت عائشة للخارج عى الفور ، ووقفتا يطالعان النيران التي تتوهج وتتأجج أكثر فتأكل كل ركن في ذلك البيت الصغير الذي لم يصمد كثيرا أمام قوة تلك النيران العاتية.

ـ عودة للحاضر ـ

تنهدت براحة وهي تخطو نحو الفراش، ثم ألقت بجسدها عليه وهي تتنهد وتقول:

ـ الجاي كله بتاعنا يا ابن عيشة ، بس الصبر .

***

وقفت چيلان بغرفتها تبتسم إلى نفسها في المرآة بإعجاب وحماس، فها هي ذي قد حققت هدفًا لا بأس به، ولكن الخطة لا زال ينقصها بعض اللمسات الخاصة بها لكي تحعلعا أكثر إحكامًا.

غادرت غرفتها، ووقفت تتأمل باب غرفة فريد وبعينيها يلتمع المكر، ثم تقدمت منها وحاولت فتح الباب ولكنها فوجئت بكونه موصدًا، وبعد ثوان كانت قد عثرت على خطة بديلة ، فذهبت إلى غرفة سالم، دخلت وأغلقت الباب خلفها، وتقدمت من خزانته ثم فتحتها، وأخذت تحدق بخزنته وهي تحاول تخمين رقمها السري..

أغمضت عينيها محاولةً أن تصل لرقم مميز مؤلف من ست أرقام.. جربت تاريخ ميلاد سالم، فريد، عمر، نسيم، تاريخ زواجه بوالدتها، والمحصلة واحدة.. كل الأرقام خاطئة .

وقفت تهز قدميها بعصبية وهي تحاول الوصول للإجابة الصحيحة، فلمعت برأسها فكرة مفاجئة… تاريخ زواج سالم وناهد !!!

اتسعت ابتسامتها بمكر وهي تردد:

ـ أكيد طبعا.. ما الحب إلا للحبيب الأول.

أغمضت عينيها وهي تقوم بادخال رقم تاريخ زواج سالم وناهد ولكنها صدمت بكون الرقم خاطيء أيضا.

أغمضت عينيها بتفكير وهي تحاول جمع شتاتها وهي تقول:

ـ فكري يا چيچي.. فكري دي فرصتك..

وفجأة فتحت عينيها عندما حصلت على إجابة أخرى فهتفت بحماس:

ـ تاريخ تأسيس الشركة !!!!

على الفور قامت بكتابة الرقم ١ / ٥ / ١٩٩٥

فُتحت الخزنة فاتسعت عينيها بانبهار كمن فُتحت أمامه مغارة علي بابا ووجد الكنز، الكثير من حزم الأموال والأوراق الهامة وعلب المجوهرات ..

فتحت إحدى علب المجوهرات بفضول فوجدت به سلسالا من الألماس تعرف أنه لناهد، فأدركت أن كل هذه المجوهرات هي إرث نسيم من ناهد..

لم تفكر مرتين ، على الفور أسرعت إلى غرفتها وأحضرت حقيبة جلدية كبيرة، ثم عادت إلى غرفة سالم وأفرغت جميع محتويات الخزنة ووضعتها بحقيبتها، ثم غادرت الغرفة وأغلقت الباب كما كان وعادت إلى غرفتها، وقامت بإخفاء الحقيبة بغرفة ملابسها بعناية حتى لا تصل إليها الأيدي.

وبعدها تنهدت بارتياح وهي تنفض يديها ببعضهما وتلوح بأصابعها بحماس قائلةً:

ـ باي باي نغم.

***

وصل حسن إلى شقة فيفي، ففتح الباب ثم دلف ليجدها جالسةً بغرفة المعيشة، تتحدث في هاتفها وهي تسحب أنفاس نرجيلتها بعمق ثم تنفثها بقوة فتصنع أمامها سحابة دخانية .

اقترب وألقى جسده على الأريكة مقابلها بتعب، وأسند رأسه على ظهر الأريكة وهو يستمع إلى حوارها وهي تقول:

ـ يا باشا أنا تحت أمرك، وبعدين متقلقش أنا عاملة حسابي كويس، الحاجة هتكون في صفقة مستحضرات التجميل اللي هتوصلك بعد يومين.. متقلقش كل حاجه مترتبة ومعمول حسابها.. تمام يا باشا في حفظ الله.. مع السلامة.

أنهت الاتصال وهي تنظر إلى حسن بابتسامة وتقول:

ـ نورت بيتك يا ابو علي، قوللي عملت ايه النهارده ؟ وصلت كل الأوردرات ؟

كان منشغلا بتدبر أمر هوية عمر التي عثر عليها، حتى أنه لم يستمع إلى ما قالته، فنظر إليها متسائلا:

ـ الواد اللي اسمه عمر ده من عيلة مين ؟!

ـ اشمعنا ؟! بتسأل ليه ؟!

ـ حب استطلاع مش أكتر..

ـ عمر ده بقا يا سيدي حكايته حكاية، ده يبقا ابن عيلة كبيرة جدا وأهله ناس فوق أوي.. أبوه يبقا سالم مرسال صاحب شركات مرسال وأخوه فريد مرسال.. بتاع المستشفيات ودور الأيتام لو تسمع عنه .

انقبض قلبه بقوة، لقد صدق حدسه، إذًا عمر وفريد اخوه.. ووجود نغم معهم بالمشفى لم يكن صدفة، ولكنه لازال أمر يستحق التفكير، ما علاقتها بهم وما سر تواجدها معهم اليوم ؟!

ـ سرحت في إيه يا سونه ؟!

نظر إليها مدعيًا اللامبالاة وهو يقول:

ـ أبدا.. أنا بس مستغرب شاب نايتي زيه لا راح ولا جه بياخد كلام من ده ليه ؟! اومال لما يكبر شوية ولا يتجوز بقا هيعمل ايه ؟!

ـ حب استطلاع زي ما انت بتقول.. كل الشباب في السن ده عندهم هواية الاستكشاف.. عايزين يجربوا كل حاجه وأي حاجة.. خصوصا لما يبقا في ايديهم الفلوس كتير مش عارفين يخلصوها ازاي، ضيف على كده بقا إن مفيش حد بيحاسب الفلوس راحت فين واتصرفت على إيه !!

أومأ مؤيدًا حديثها وقال:

ـ على رأيك.. أهي الحياة دي ماشية بالمعكوس، ناس معاها الفلوس بالكيلة مش عارفه تعمل بيها إيه، وناس تانية بترمي روحها في الوحل عشان تجيب فلوس بس تكفي بيها احتياجاتها.. وييجي واحد في الآخر براس كلب يقوللك الفلوس مش كل حاجه..

وأطلق ضحكة ساخرة فقالت:

ـ واضح إنك مش في المود النهاردة.. وأنا مش بحب أشوفك كده أبدا يا حسن..

ونهضت ثم سارت نحوه وأمسكت بيده لكي ينهض وهي ترمقه بنظرات التقط مبتغاها جيدا، ثم قادته إلى غرفة نومهما وهي تقول بنبرتها المغناجة :

ـ تعالى بس كده وأنا أخليك تفك وتروق عالآخر ..

دخل الغرفة وهو يعلم ما تقصده، وبالرغم من أنه في قرارة نفسه لم يكن راضيًا، ولا متلهفًا إليها، ولكنه اضطر رغمًا عنه مجاراتها والإذعان لرغبتها.. فقد وطأ بقدميه طريقا لا رجوع منه ، طريق مظلم كلما ظن أنه بإمكانه الهروب منه أينما شاء وجد نفسه غارقًا فيه حتى أنفه .

***

دائما يقولون أن الحب يُعرفنا بأنفسنا، يسمح لنا أن نعيد اكتشافنا من جديد ، يغيرنا ، ويخلق من كل إنسان فينا نسختين، نسخة ما قبل الحب ونسخة ما بعده.. والمفترض أن نسخة ما بعد الحب تكون هي الأفضل لأننا فيها نمنح الطرف الآخر كل جميل بداخلنا، وفي المقابل نحصل على كل شيء يجعل من قلوبنا قناديل مضيئة تضيء ظلمة الليل الحالك من حولنا.

فكيف إذا كانت نسختك قبل الحب هي الأفضل ؟! هل حينها ستقبل أن تقع في فخ الحب مجددا ؟!

سارت نغم طويلا.. لا تعرف كم ميلًا قطعت.. كل ما تعلمه أنها لم تصل بعد .

الأيام تعيد نفسها ببطء، وفيما هي تحاول أن تهرب من الماضي وجدت نفسها تعود إليه طواعيةً، فماضي تعرف كيف تتفادى هجماته أفضل بالنسبة لها من مستقبل تأتيها فيه الضربة من حيث لا تدري .

وجدت سيارة تتوقف أمامها، يعرض عليها المساعدة ، ولكنها قد تعلمت مما مضى بما يكفي، لذا تجاهلته وسارت في اتجاه معاكس له، وأكملت المسير إلى أن وصلت إلى منطقة حيوية عامرة، تناقض ذلك الهدوء المخيف الذي خرجت منه للتو، فقررت أن تجلس لتستريح بعض الوقت، فلقد أنهكها السير دون توقف وأضناها فوق ضِناها أضعافا مضاعفة.

جلست على أحد مقاعد الاستراحة الموجودة على جانبي الطريق، وأخذت تتأمل بزوغ شمس يومٍ جديد..

يومٍ قد يحمل في طياته أملًا ، أو يزيد فوق آلامها ألمّا ..

يوم جديد.. ستحاول فيه أن ترمي كل ما فات وراء ظهرها وتبدأ من جديد.. ولكن هذه المرة بمفردها .

***

في اليوم التالي…

اجتمعوا جميعهم أمام باب غرفة العناية المركزة ، سالم، نادية، فريد، عمر، چيلان وزينب .

هم الآن في انتظار خروج الطبيب الذي سيبلغهم آخر تطورات حالة نسيم ، متأملين أن يكون القادم خير.

لم يغفل فريد عن اختفاءها، ولكنه أرجأ الأمر إلى كونها متعبة أو ربما لازالت نائمة بعد سهر ليلتين متواصلتين.

انفرج الباب وخرج الطبيب الذي نظر إليهم مبتسما ثم قال:

ـ الحمد لله.. آنسة نسيم فاقت وهننقلها على غرفة خاصة دلوقتي.

تلقوا جميعا الخبر بسعادة غامرة ، فأغمض سالم عينيه وهو في سره يحمد الله ، بينما قفز عمر معانقًا فريد الذي تعجب حركته البهلوانية المباغتة، في حين أطلقت زينب زغرودتها المعتادة غير آبهة بالمكان المتواجدين فيه .

ـ طيب طمنا يا دكتور ، حالتها مستقرة ؟!

ـ جدا الحمد لله.. لكن في شوية أشعات وفحوصات ضروري نعملها الأول قبل ما تتنقل أوضتها ، لكن اطمنوا الوضع مبشر جدا إن شاء الله.

انصرف الطبيب فأخذوا جميعهم يهنئون بعضهم البعض بتلك البشرى السعيدة ، ووقفوا في انتظار خروج نسيم ..

انفرج الباب وخرج بعضًا من أفراد طاقم التمريض يسحبون سريرا نقالا كانت تستلقي نسيم فوقه باستسلام، التف كلا من فريد وعمر وچيلان وزينب حول السرير يحادثونها بكلمات لطيفة داعمة أثناء انتقالها إلى غرفة الأشعة، بينما كانت هي تتجاهل جميع نظراتهم وتثبت عيناها على شخص واحد .. ترمقه بعتاب ولوم .. هذا الشخص لم يكن سوى والدها .. الذي وقف في مكانه يطالعها بنظرات يفيض منها الأسف ولكنه لم يجرؤ على الاقتراب ، فهو يعرف أنه آخر شخص يحق له الوقوف بجوارها الآن..

ليس وكمن يقتل القتيل ويسير بجنازته يا سالم مرسال !!

انتقلت نسيم إلى غرفة الأشعة، فيما أسرعت چيلان باخبار زينب أن تذهب لشراء بعض مستلزمات تزيين الغرف من أي مكان قريب، لكي يقوموا بتزيين غرفة نسيم قبل أن تنتقل إليها، آملةً أن تنال تلك المحاولة على اعجاب نسيم… و فريد أيضا .

***

وصل حسن لتوه أمام باب المشفى، وهم بالدخول ليمنعه رجل الأمن قائلا:

ـ حضرتك رايح فين ؟؟

أخذ حسن ينظر حوله بتوتر، ثم قال:

ـ داخل أشوف حد صاحبي..

ـ حد صاحبك إزاي يعني ؟! الدخول للمرضى وأهالي المرضى فقط .

ـ أيوة.. ماهو أنا.. أنا داخل أزور أبو واحد صاحبي .

ـ ومين أبو صاحبك ده ؟!

أخذ حسن يتذكر الاسم الموجود ببطاقة عمر ثم قال:

ـ اسمه سالم مرسال.

تحدث رجل الأمن بجهازه اللاسلكي إلى أحد موظفي الاستقبال، وتسائل عما إذا كان بالداخل مريض بنفس الاسم أم لا، ثم نظر إلى حسن وقال:

ـ اتفضل ..

دخل حسن وهو ينظر حوله بتوتر، لا يثق في تلك النظارة السوداء ولا الطاقية .. لقد لجأ إليهم في محاولة منه للتخفي لكي لا يراه أو يتعرف إليه أحد ، فقط كل ما يريده أن يرى نغم ويعرف طريقها فقط لا غير.

كان بصدد الصعود إلى السلم المؤدي للطابق العلوي فإذ به يصطدم برجل في العقد السادس تقريبا.. ذو شعر أبيض ولحية بيضاء ، كان ينزل الدرج بغير انتباه ويبدو أنه كان شاردا ..

ـ لا مؤاخذة .

تمتم حسن بها وهو يحاول تخطيه، فإذ بسالم يضع يده على سور الدرج وبالأخرى ارتكز على كتف حسن وهو يقول بضعف:

ـ من فضلك اسندني لحد ما أخرج برة .

أمسك حسن بذراعه وتمسك بها جيدا ثم قادهُ نحو الخارج ، وتقدم من إحدى مقاعد الاستراحة ثم أجلسه عليه وهو ينحني نحوه قائلا بشهامة اعتاد أن يتعامل بها مع الغرباء:

ـ إنت كويس يا حج ؟!

أومأ سالم وهو يهز رأسه عدة مرات بشرود وتعب، ثم نظر إليه وقال:

ـ متشكر..

ـ ولا يهمك.. عن إذنك.

دخل حسن من بوابة الدخول مجددا وهو يقرب لسان الطاقية من جبهته أكثر لكي يخفي وجهه قدر المستطاع، وبينما هو يبحث بين وجوه المارة والجالسين عن نغم وقعت عيناه على چيلان التي تستند إلى باب غرفةٍ ما ..

لم يستطع نسيانها، كيف وهي تملك أكثر عينين متميزتين رآهما في إمرأة ؟!

دب الأمل في قلبه، والخوف كذلك ، بما أنه رأى شقيقة عمر وفريد فهذا يعني أنه على بعد خطوات قليلة من نغم..

قرر أن يجازف أكثر، فاقترب من چيلان وأخذ يتطلع إلى وجوه المحيطين بها، هنا إمرأة فارعة الطول بجوارها ، وأمامهما سيدة قصيرة ممتلئة نسبيا، وفجأة .. وجد عمر وقد خرج من الرواق للتو .. ووقعت عينيه عليه.. فأخذ ينظر إليه بقوة، وقد وضحت نظراته أنه قد عرفه، فاقترب منه فورا وهو يتلفت حوله بخوف، ثم قبض على ذراعه وهو يدخله إلى رواق جانبي قسرًا وهو يتمتم بغيظ شديد:

ـ إنت إتجننت ؟! إنت إيه اللي جايبك هنا ؟!

نظر عمر حوله بتوتر كبير، ونزل معه الدرج واتجه نحو بوابة الخروج، وهو لايزال يحرك حسن بقوة وهو يهتف:

ـ إنت جاي تعمللي مصيبة هنا مش كده ؟!

ـ يا عم لا مصيبة ولا غيره، الحق عليا إني جيت أديك دي ؟!

نظر عمر حيث يشير ، فقطب جبينه وهو يقول متعجبا :

ـ إيه ده ؟! دي بطاقتي ؟!

ـ شوفت بقا إنك ظالمني ؟! امبارح وقعت منك وانت بتقفشني المعلوم حق الحلويات..

وغمز بعينيه في نظر ذات معنى فقال عمر بنزق:

ـ أيوة فاهم فاهم.. إنت جاي هنا تسيحلي ولا إيه يا عم حسن ؟! خلاص ماشي جبت البطاقة وطلعت راجل جدع.. أنا متشكر جداا يا سيدي يلا اتفضل من هنا !

ـ لا اتفضل إيه يا عموره هو بالساهل كده ؟! خدمة مقابل خدمة ..

ضيق عمر بين حاجبيه متعجبا وسأله:

ـ تقصد إيه ؟!

ـ تعرفني على القطة اللي كانت واقفة معاك امبارح!

جحظت عينا عمر بذهول ونظر إليه غاضبا وهو يقول:

ـ إنت اتجننت ، إنت بتتكلم بالطريقة دي على أختي قدامي ؟!

ـ يا عم مش أحسن ما اتكلم من وراك ؟! وبعدين أنا غرضي شريف يعني..

أشار عمر نحو البوابة وهو يقول بانفعال:

ـ امشي يا حسن .. خليك جدع واتكل على الله

نظر إليه حسن وهو يحاول استقطابه أكثر للوصول إلى أكبر كم ممكن من المعلومات عن عائلته وهو يقول:

ـ أنا جدع بس إنت مش جدع يا حبيب أخوك، لا مؤاخذة إنت ضحكت عليا وقولتلي أبويا وأختي تعبانين وبيتعالجوا هنا .. وإذ فجأة ألاقي أختك بسم الله ماشاء الله.. حاجة كده تحل من على حبل المشنقة واقفة قدامي. بقا بذمتك دي عيانة دي ؟! أومال اللي بصحتهم شكلهم إيه ؟!

أخذ عمر يضرب كفا بكف بيأس وهو يتمتم:

ـ لا حول ولا قوة إلا بالله ، إنت بتقر على أختي ؟!

حرك حسن حاجبيه بمراوغة وقال:

ـ أنا مش بقر أنا بعاكس.. وقبل ما تضايق أنا أهو بقوللك غرضي شريف.

مسح الآخر على وجهه بضيق، وقد وصل غضبه إلى أعلى مستوياته، ثم قال:

ـ تعرف إني شكلي كده هلغي التعامل معاك تماما ؟! على العموم اللي شفتها دي مش أختي المريضة..

أومأ حسن وهو يقول بمكر أكبر:

ـ واللي كانت واقفة معاك امبارح بردو أختك ؟! قصيرة وسفيفة هي كده وشعرها بني ..

أدرك عمر أنه يشير إلى نغم فقال بايجاز:

ـ لأ دي واحدة قريبتنا .. وبعدين ممكن أعرف إنت إزاي عندك الجرأة تاخد وتدي كده وتستفسر عن العيلة واحد واحد وكأننا معرفة قديمة مثلا ؟! ده أنا حيالله عارفك من كام يوم بس..

وضع حسن يده على كتفه وهو يقول بابتسامة زائفة:

ـ شوف مع إني عارفك من كام يوم بس حاسس إنك أخويا الصغير، عشان كده تلاقيني باخد وأدي معاك .. عالعموم مش هعطلك أكتر من كده، وألف سلامة على أختك المريضة ، والله كان الأصول أجيب ورد معايا بس ملحوقة.

تمتم عمر بانزعاج بالغ وهو يقول:

ـ لأ شكرا مش عاوزين ورد، الورد بيسحب الأكسجين ، يا ريت بس متجيليش هنا تاني .. فرصة سعيدة .

وتركهُ وغادر متوجها للدرج ، فيما ظل حسن ينظر في أثره بارتياح كبير ، فها هو ذا يتقدم من هدفه بخطوات ناجحة.. والآن أصبح على علم بشجرة عائلة هذا الوغد الذي سرق منه نغم..

يدعي فريد سالم عبدالعظيم مرسال.. لديه أخ وهو عمر، وأختين.. هما صاحبة العينين الزرقاوتين والمريضة. ونغم تتواجد معهم بناء على رابط هو لا يفهمه، ولكنه سيسعى جيدا لفهمه .

عدل طاقيته ونظارته جيدا، ثم غادر المشفى، واتجه إلى الجانب الآخر المقابل لبوابة المشفى وقد قرر أن يقيم هنا، لن يتحرك إلا إذا ظهرت نغم.. حتى لو مكثت بالمشفى شهر.. سيظل في انتظارها .. لا خيار آخر.

***

وقف فريد في انتظار خروج نسيم من غرفة الأشعة ، وهو يمسك بهاتفه في تردد، يريد الاتصال بنغم لأنه بدأ يشعر بالقلق حيال غيابها، وفي نفس الوقت لا يعرف ماذا سيقول لها إذا أجابت اتصاله.

فتقدم من زينب مستسلما وقال بصوتٍ خفيض:

ـ بعد إذنك يا زينب كلمي نغم شوفيها كويسة ولا لأ ..

فأجابته زينب بما أخافه أكثر حيث قالت:

ـ عمالة اتصل عليها مش بترد.. حتى بفكر أرجع البيت أطمن عليها .

ـ لأ مش ضروري.. كلمي حد من الموجودين في البيت يشوفوها.

أومأت بموافقة، ثم قامت بالاتصال بإحدى عاملات المطبخ وطلبت منها أن تذهب لغرفة نغم لايقاظها، لتجيبها العاملة قائلة:

ـ نغم مش موجودة ، أوضتها فاضية !

نظرت إلى فريد وقالت باستغراب:

ـ بتقول مش موجودة !!

قطب فريد جبينه متعجبا وهو يقول:

ـ إزاي مش موجودة، هتكون راحت فين يعني ؟!

فتحدثت زينب إلى العاملة مجددا وهي تقول:

ـ دورتي كويس ؟! جايز في الجنينة ؟!

ـ لأ.. الجنينة فاضية ..

أخبرت زينب فريد بما سمعته، فزفر زفرةً مثقلة بالهموم، ثم قال:

ـ طيب أنا هتصرف.

كانت چيلان تراقب تحركاته المتوترة بتشفي ، ثم رأته وهو يبتعد ويتحدث في الهاتف بصوت وصلها جيدا نظرا لكونه منفعلا :

ـ إيه ؟! يعني إيه خرجت بالليل ؟! خرجت راحت فين ؟! وإزاي تسيبوها تخرج في وقت متأخر كده ؟! لم يجد ردًا شافيًا حيث أن أمن البوابة أخبره أنه لا يملك أمر بمنعها فزمجر فريد بغضب شديد وأنهى الاتصال فجأة وهو يتوجه نحو الخارج ليستوقفه صوت نسيم التي خرجت من غرفة الأشعة للتو وكان الممرضون يقودونها نحو غرفتها الخاصة..

ـ فريد…

التفت للوراء فرآها تطالعه بوهن احتل ملامحها، فعاد إليها وانحنى نحوها وقبل رأسها بقوة رغما عنه وعن وسواسه ثم قال:

ـ حمدالله على سلامتك يا حبيبتي..

ـ الله يسلمك، رايح فين ؟!

ـ مشوار ضروري وهرجعلك.. معلش سامحيني.. اوعدك مش هتأخر عليكي.

أومأت بهدوء شديد، فغادر هو مسرعًا، بينما دخلت زينب ونادية ومعهما چيلان إلى الغرفة مع نسيم.

***

هرول فريد إلى الخارج ، استقل سيارته سريعا وانطلق بها عائدا إلى الڤيلا.. فرآه حسن الذي انطلق بدراجته البخارية خلفه.

بعد نصف ساعة تقريبا وصل أمام الڤيلا، ترجل من سيارته وركض مسرعا نحو رجل الأمن الذي يقف على البوابة، فوقف أمامه وهو يتسائل بصوتٍ جهور:

ـ إزاي تسيبوها تخرج لوحدها في وقت زي ده من غير ما حد يبلغني ؟!

تحدث الشاب وهو يطرق بعينيه أرضا ويقول:

ـ حضرتك مادتنيش أوامر بكده يا فريد بيه .

وقف فريد يمسح على وجهه بضيق وعجز، وباليد الأخرى قد تخصر في محاولة منه لاستجماع شتاته، ثم تسائل:

ـ مرجعتش الصبح ؟!

ـ لأ..

ـ كان معاها حاجة وهي خارجة ؟!

ـ لأ..

أسرع فريد بالدخول إلى غرفة الكاميرات الموجودة بالحديقة، وقام باسترجاع تسجيل الكاميرات إلى الليلة الماضية ، فرأى نغم وهي تغادر الڤيلا في تمام الساعة الثالثة فجرا، أي بعد مغادرة المشفى مع چيلان بحوالي ساعة تقريبا..وما استوقفه بحق هي ملابسها !! حيث كانت ترتدي ملابسا غريبة، تشبه نفس التي كانت ترتديها يوم أتت إلى الڤيلا !!

وقف يتأمل أثرها بحيرة وعجز، إلى أن اختفت عن مرصد الكاميرات تماما ، فخرج من الغرفة وهو يتمتم بضيق وخوف:

ـ رُحتي فين بس يا نغم !!!

دخل الڤيلا، ومنها إلى غرفتها، فتحها فوجد كل شيء بمكانه تماما.. فتح الخزانة فوجد جميع محتوياتها لازالت موجودة، حتى الطقم الذي كانت ترتديه بالأمس.. معلق بركن الملابس المستخدمة.. فزفر مجددا بقوة أكبر وهو يلعن كل شيء حوله، ثم غادر الڤيلا وتوجه إلى سيارته، استقلها وقبل أن يتحرك لمح حسن الذي يقف على بعد خطوات .. عرفه جيدا بالرغم من أنه يرتدي الطاقية والنظارة التي تخفي أغلب ملامحه، ولكنه استطاع تمييز قامته الطويلة حيث كان يقترب منه ..

نزل فريد بدوره من السيارة، وسار نحوه، إلى أن وقفا أمام بعضهما البعض كلا منهما يطالع الآخر بحقد ..

ـ وديت نغم فين يا حسن ؟

تساءل فريد وهو يمسك بتلابيب حسن بقسوة غادرة، ليجيبه الآخر حيث أمسك بتلابيبه كذلك في شر متبادل وهو يهتف بعنف شيطاني يلوح في أفق مقلتيه الشرستين:

ـ أنا اللي جاي أسألك ، وديت نغم فين يا ابن مرسال ؟!!!

ــــــــــــ

 

google-playkhamsatmostaqltradent