رواية محسنين الغرام الفصل الثالث و العشرون 23 - بقلم نعمة حسن
~ محسنين الغرام ؟! ~
ــــــ
وقفوا جميعهم والقلق يرتسم على ملامحهم ببراعة، ينتظرون مغادرة الطبيب غرفة العناية المتواجدة بها نسيم لكي يمنحهم الخبر الذي قد يثلج صدورهم وقد يُدميها..
فريد، عمر، نغم، وحتى چيلان.. الجميع قلقون بشدة.
الجميع اجتمعوا هنا لأجل نسيم، الجميع يكنون لها المحبة الصادقة.
بعد مرور دقائق من الانتظار المميت خرج الطبيب وعلى وجهه أمارات الارتياح، تنهد وهو يبتسم برضا وقال:
ـ الحمد لله الحالة لحد دلوقتي مستقرة، درجة الوعي بترجع للمعدل الطبيعي بالتدريج والمؤشرات الحيوية منتظمة، بس فيه بعض الرضوض إلى جانب شرخ في مفصل الحوض.. ولكن الحمدلله قدر ولطف الإصابة مش شديدة، يعني مش هتحتاج تدخل جراحي، بعد ما تخرج من المستشفى تقدر تبدأ بالعلاج الطبيعي.
تنهد فريد بارتياح نسبي، ومسح على وجهه وجانب عنقه بهدوء وهو يحمد الله ، ثم عاد إلى المقعد وارتكز فوقه يلتقط أنفاسه ، فاتخذت نغم مقعدا بجواره غير منتبهة على تلك الشقراء التي حدجتها بنظرات ساخطة يملؤها الازدراء .
ربتت چيلان على ظهر عمر وهي تقول بابتسامة:
ـ اطمن .. هتبقا كويسة .
أومأ عمر متأملا، بينما فريد كان متعجبًا عدم مجيء والده إلى الآن، واختفاء زينب كذلك، فقرر الاتصال بها، لتجيبه بصوت قلق:
ـ فريد بيه، الاسعاف نقل الباشا على المستشفى وأنا مع منصور دلوقتي جايين وراهم..
تساءل متفاجئًا:
ـ إيه اللي حصل ؟!
ـ مش عارفين، جينا نصحيه مش بيصحى وجسمه كله متلج.. طلبنا له الاسعاف وجايين دلوقتي حالا على المستشفى.
ـ طيب أنا هنتظركم تحت في الاستقبال .. مع السلامه.
أنهى الاتصال وهو ينهض، ثم أشار لعمر برأسه لكي يلحق به وهو يقول بايجاز :
ـ الباشا تعب فجأة وجايبينه دلوقتي في الاسعاف.. تعالى نستناهم تحت
وغادرا أمام نظرات چيلان ونغم المترقبة.
وقفت نغم متوترة، قلبها بداخلها يتخبط بحيرة، فجذبها من شرودها صوت چيلان التي بدا وكأنها تتحدث إلى أحدهم في الهاتف وهي تقول بتوتر مصطنع :
ـ أكيد مش هتعمل كده صح ؟! إنت إزاي عايزني أقولله حاجة زي دي في وقت زي ده ؟! أوكي بنحب بعض أنا عارفه وهنتجوز ومفيش أي مشكلة ، بس الفيديو ده لو ظهر دلوقتي هيعمل مشكلة كبيرة وإنت عارف كده.. خصوصا إن أنكل سالم تعب فجأة ونقلوه عالمستشفى..
قطبت نغم جبينها بتعجب وأرهفت السمع أكثر وهي تنظر الى چيلان التي كانت تذرع الممر ذهابا وإيابا وهي تتحدث بانشغال وتقول:
ـ تخيل بقا في ظروف زي دي يشوف فيديو زي ده لابنه، ومش أي ابن.. ده فريد اللي مستحيل يصدق إنه يغلط . أكيد هيتضايق وينفعل وممكن جدا حالته تتدهور كمان.
انقبض قلبها، وغادرت الدماء جسدها فجأة، فيما اقتربت چيلان منها ووقفت على بعد خطوات وهي تقول بصوت يبدو منخفضا ولكنه وصل نغم:
ـ أوكي أنا فاهمة ده كويس، وصدقني أنا مكنتش أعرف إن حاجة زي دي هتتصور أبدا.. أنا وفريد متخيلناش إن حد يدبر لنا حاجة زي دي أبدا.
هوى قلبها أسفل قدميها ، وشعرت بثمة سكين في قلبها يدار بهدوء فيقتلها ببطء، وشعرت بأنفاسها تتلاحق وهي تسمعها تهمس إليه برجاء:
ـ بليز بلاش فريد يعرف بحاجة زي كده هو مش ناقص مشاكل، وأنا أوعدك أول ما المشاكل اللي في العيلة تتحل هتواصل معاك ونحاول نشوف حل.. أوكي .. سي يو.
حانت منها التفاتة نحو نغم التي أطرقت برأسها أرضا في ذهول، فابتسمت بخبث وهي تسحب حقيبتها ومعطفها، ثم نزلت إلى الأسفل وتركت نغم تتحسس أثر صفعة خذلان جديدة.
***
خرج الطبيب من غرفة الطوارىء بعد أن قام بفحص سالم، ليلتف حوله الجميع، وتساءل فريد باهتمام:
ـ خير يا دكتور ؟!
ـ خير متقلقوش، المريض دخل في غيبوبة سكر لأن مستوى السكر انخفض جدا.. دلوقتي عملنا له اللازم وإن شاء الله هيفوق بعد شوية.. عن اذنكم..
تنهد فريد براحة، فبمجرد أن تخيل أنه من الممكن أن يفقد والده انقبض والده وشعر بنصل سكين حاد ينغرس بقلبه.
توجه هو وعمر إلى الكافتيريا بالخارج ، وجلس كلا منهما ينظر في جهة بشرود، إلى أن نطق عمر قائلا:
ـ هو إحنا بنحبه ولا بنكرهه؟ إزاي مش طايقينه وإزاي كنا قلقانين عليه بالشكل ده ؟!
تنهد فريد ، وقال:
ـ إحنا مش طايقين تحكمه وتسلطه وجبروته، إنما في النهاية هو هيفضل أبونا.. محدش بيختار أهله للأسف.
أومأ عمر مؤيدًا، ثم قال:
ـ معاك حق .
اعتدل فريد بمجلسه بتأهب وهو يقول:
ـ قوللي إيه أخبارك ؟! أنا بقالي كتير مشغول عنك ومقصر معاك..
وحك جبهته بانزعاج وهو يتمتم بضيق من نفسه:
ـ أنا مقصر في كل حاجه الحقيقة.. بس اوعدك يعني إن كل حاجه هترجع زي الأول وأحسن.. إحنا بس نعدي الأزمة دي على خير ونسيم تخرج من هنا بالسلامه.
ـ وأي أزمة !! أنا متخيلتش إن نسيم تعمل كده أبدا..
نظر إليه فريد وأقرّ بضيق:
ـ اليأس يعمل أكتر من كده. الحمدلله إن ربنا كتبلها عمر جديد.
ـ معاك حق ، ولتاني مرة نغم تتدخل وتنقذنا.. أنا بقيت أتفائل بوجودها بصراحة.
ثم أسند ذراعيه على الطاولة أمامه وهو يقترب بانفتاح نحو أخيه ويقول مبتسما:
ـ بصراحة.. أنا حاسس إني بدأت أحس باعجاب ناحيتها.
انعقد لسانه بصدمة، وأخذ يحدق بأخيه بصمت مطبق، ثم تساءل ليؤكد لنفسه ما سمعه:
ـ معجب بمين ؟! بنغم ؟!
أومأ عمر مؤكدا وقال:
ـ أيوة.. وحاسس كده إنها موقعتش في طريقي صدفة، لا دي تدابير القدر يا برو..
واتسعت ابتسامته وهو يريح ظهره للمقعد من جديد وينظر إلى أخيه بحماس، بينما بقي فريد ينظر نحوه بشرود وغامت عيناه بضيق ونفور، فنهض ودخل المشفى من جديد وترك عمر يتطلع في أثره باستغراب، ثم صعد نحو الطابق الأول حيث تركها .
فوجدها تجلس بجوار زينب، يتبادلان الحديث بصمت، وما إن رأته حتى أشاحت بوجهها جانبا بطريقة جعلته يتعجب ذلك الانقلاب المفاجئ.
هم بالاقتراب منها، فارتفع رنين هاتفه معلنا عن ورود مكالمة هاتفية ، فأجاب باهتمام قائلا:
ـ مساء الخير..
ـ مساء النور بشمهندس فريد، حضرتك كنت حجزت موعد عند دكتور رؤوف النهارده وأنا بلغتك إنه مسافر .
ـ مظبوط..
ـ الدكتور بيبلغك إنه أجل سفره ومستني حضرتك النهارده في الميعاد..
تنهد براحة وأومأ وهو يقول:
ـ كويس جدا، بإذن الله هكون موجود قبل الموعد كمان، مع السلامة.
أنهى الاتصال وهو يزفر براحة، فلقد اتخذ قراره بزيارة الطبيب اليوم لأن ما حدث بالأمس لا يفترض أن يتم تجاهله أبدا.
نظر صوبها فوجدها تنظر إليه بقوة، وما إن تلاقت أعينهم حتى أشاحت بوجهها مجددا، بينما ظل هو على نفس الحالة، يرمقها بمقلتين تأجج بهما الخوف وهو يتذكر كلام أخيه، ويشعر بأن علاقتهما التي تحسنت للتو باتت مهددة من قبل طرف آخر .. وليس أي طرف ، إنما هو طرف مهم يملك تأثيرا كبيرا على قلبه، يربطهما ببعضهما رابطًا أقوى من كل شيء ، ألا وهو رابط الدم.
***
كانت عائشة قد أنهت جلستها للتو، وبينما هي لازالت تجلس على الفراش حيث كانت تتلقى جرعة العلاج الكيميائي أخذت تتذكر كل مرة رافقتها فيها نغم إلى هنا، وكيف كانت تنهمّ لأجلها وتجلس بجوارها ، تربت على يدها وتمسح على شعرها، تمنحها حنانًا فطريًا وكأنها أمها وليست ابنة اختها.
سالت دمعاتها على جانبي خدها، فمدت يدها تمسحها سريعا عندما لمحت حسن وهو يدنو منها، فوقف أمامها مبتسما وهو يقول:
ـ بالشفا ياما إن شاء الله.
اقترب منها وساعدها لكي تنهض عن الفراش وتعتدل بمجلسها، ثم جلس بجوارها وهو يحيطها بذراعه ويقول:
ـ إيه رأيك بقا أروح أنا وانتي نقعد حبة عالنيل ؟! من زمان أنا مدلعتكيش…
كانت تفكر في ألف شيء، لدرجة أنها لم تشعر بالرغبة في فعل شيء سوى العودة إلى المنزل والارتماء على الفراش.
ـ لأ.. مليش مزاج للنيل النهارده.. خلينا نروح المشوار المهم اللي كنت بتقول عليه وبعدها نرجع عالبيت، حاسة إن روحي مسحوبة .
قربها منه وأسند رأسها على كتفه وهو يقول بحنو لا يظهر سوى أمامها:
ـ سلامتك يا أم حسن، يا ريتني بدالك ياما..
سالت دمعاتها سريعا وهي تنظر إليه وتقول بلهفة:
ـ لا يا حسن بعد الشر عليك يا حبيبي ، ربنا ما يأذن لك بمرض أبدا يبني.
ـ طب إيه بقا ؟! هتسمعي كلامي وتيجي تتمشي معايا حبة ولا أشوفلي واحدة أمشي معاها ؟!
راقص حاجبيه بمراوغة فطالعته بنظرات لاذعة وهي تقول بتوبيخٍ فاتر:
ـ تشوفلك واحدة تمشي معاها يا صايع ؟! على أساس إنك كل يوم بتسهر لوش الفجر تبيع سبح ؟!
علت ضحكته بينما هي تتمتم بسهوٍ وهي تقول:
ـ يعني هتجيبه من بره ؟!
ـ الله !! هو الحج محمود جادالله كان بيلعب بديله كتير ولا إيه ؟! أومال إيه القصايد اللي بتقوليها فيه كل ليلة. ده أنا كنت بدأت أسأل نفسي أنا طالع فلتان لمين !
وهز رأسه وهو يضحك ساخرًا، بينما أخذت تحدق به بندم وقد أثارت كلماته حفيظتها مرة أخرى، ثم قالت بتردد:
ـ لأ يا حسن.. محمود جادالله كان أشرف وأنضف راجل في الدنيا ، ده حتى السيجارة مكانش بيشربها.
رفع حاجبه وأخذ ينظر إليها بتعجب وقال :
ـ يا شيخه ؟!
أومأت بموافقة فتمتم بعد أن تنهد :
ـ صحيح.. يخلق من ضهر العالم فاسد.
ابتلعت ريقها بوجل، أرادت أن تخبره أنه ليس والده من الأساس وأن تزيح ذلك الحِمل عن كتفها، ولكنها جبنت كالعادة وآثرت الصمت.
ـ طب يلا ؟! ورايا مشوار ضروري بالليل ولازم أنجز .
ـ مشوار إيه ده ؟!
ـ بعدين هقولك .
ساعدها على النهوض، ثم اصطحبها للخارج واستقلا التاكسي برفقة فتوح، فطلب منه حسن أن يذهب إلى العنوان الذي سيمليه عليه، أمام نظرات والدته المتعجبة المترقبة بقلق.
بعد حوالي نصف ساعة، توقف فتوح أمام كافتيريا تطل على كورنيش النيل ، فترجل حسن وساعد والدته، ثم قادها نحو الداخل وسحب لها مقعدا فجلست، ثم نظر إليها قائلا:
ـ تشربي إيه يا مدام عيشة ؟!
تعجبت أسلوبه المرح ، فهو لا يمازحها إلا عندما يمهد لشيئا يعلم أنها سترفضه، أو عندما يتمتع بمزاج جيد للغاية.
ـ مش عايزة أشرب يا حسن..
فنظر إلى النادل وقال:
ـ هات لها عصير جوافة هي بتحب الجوافة..
تحرك النادل فنظر إليها حسن قائلا:
ـ هنا بقا بيعملوا جوافة مش شبه أي جوافة شربتيها في حياتك.. تحسي إن كوباية العصير نازلة من عالشجرة دلوقتي حالا.
ـ قصّر يا حسن.. عايز تقول ايه ؟!
ظهرت ابتسامته عندما أدرك أنها دومًا تفهمه وتحفظ أساليبه، فقال بهدوء:
ـ نشرب الجوافة الأول وبعدين نتكلم.
تنهدت بصمت، ثم نظرت أمامها حيث يمتد النيل والشمس تسقط أشعتها عليه في منظر طبيعي آسر للأنظار، وشردت بتعب، فيما بقي هو يتطلع أمارات العجز و الوهن الواضحين عليها بشفقة، ثم تحدث بهدوء:
ـ مآنش الأوان ترتاحي بقا ياما ؟!
نظرت إليه ثم وضعت كفًا فوق الآخر بقلة حيلة وهي تقول:
ـ يا ريت.. بس لسه العمر فيه باقي هعمل إيه .
ضحك يائسًا من ردودها التي تنافي مقاصده تماما وقال:
ـ لأ مش قصدي الراحة دي، أقصد ترتاحي في الدنيا يعني تتبغددي.
ـ أتبغدد ؟!
أومأ مؤكدا فقالت:
ـ واللي زيي لسه هيدور على البغددة لية يابني ، الحمدلله على كل حال. أنا كل اللي بفكر فيه دلوقتي إني أفرح بيك وأطمن عليك وعلى نغم.
نطقتها بعفوية، فتجهمت ملامحه، وتحركت نظراته من عليها إلى المنظر الخلاب من أمامه، ثم تنهد وقال:
ـ متشغليش بالك بينا، إحنا كل واحد فينا عارف هو عايز إيه كويس.
ـ أوقات كلامك بيخوفني يا حسن، بحس إني مش فهماك ولا عارفة اللي بيدور في راسك إيه ، بخاف منك عليك وعلى الغلبانة اللي الدنيا مش رحماها.
أطلق تنهيدة ساخرة مبتورة ، ثم قال بإيجاز:
ـ غلبانة !؟ والله ما شفت أغلب منك ولا أطيب منك بيتضحك عليكي بكلمة ونص.. عالعموم متخافيش مني ولا تخافي عليا .. أنا الدنيا عملت معايا الواجب وزيادة وخلتني أفوت في الحديد.
تنهدت بأسى وأخذت تتطلع إليه بقلق، ولكنه كان صامتا متحفظا، فلم تجد ما يفسر كلامه سوى تلك النظرة البائسة التي تشبعت بها مقلتيه..
بعد قليل .. نهض واصطحب والدته حيث يحضر لها المفاجأة، فدخلا أحد المبان الراقية التي تطل على النيل مباشرة، وصعدا بالمصعد حيث الطابق الثالث ، ثم خرجا منه وقادها نحو شقة بآخر الرواق.
ـ إنت جايبنا فين يا حسن ؟! وشقة مين دي !!
ـ ادخلي بس برجليكي اليمين وبعدين هتعرفي كل حاجه.
دخلت عائشة وهي تنظر حولها بتفحص، فوجدت أمامها شقة واسعة مجهزة بأحدث الأثاث والمفروشات والأجهزة العصرية…
ـ شقة مين دي يا حسن وجايبنا هنا ليه ؟!
ـ دي شقتنا من هنا ورايح ياما.
نظرت إليه بتعجب وقالت:
ـ شقتنا ؟! شقتنا إزاي يعني ؟!
تحدث وهو يسير متفحصا كل تفصيلة بها باعجاب وهو يقول:
ـ شقتنا اللي هننقل فيها، خلينا نخرج بقا برة عزبة الصفيح ونقب على وش الدنيا شوية.
وأخذ يشير إلى الغرف واحدة تلو الأخرى وهو يحاول صرف تركيزها عنه وهو يقول:
ـ شوفي الأوضة دي.. دي أوضة الصالون، عشان لما يجيلك ضيوف تستقبليهم فيها، بس طبعا مش أم مرزوق وأم فتوح والكاتعة.. الأشكال دي تقابليها عالقهوة تحت. الصالون ده للناس اللي عليها القيمة.. اللي احنا منعرفهاش يعني.
وتابع وهو يشير لغرفة أخرى:
ـ دي بقا الاوضة بتاعتك يا جميل.. أوضة شرحة وبرحة وهواها بحري.. يرمح فيها الخير ميجيبش آخرها.. ببلكونة واسعة عشان تقفي فيها كل يوم الصبح تشمي الهوا اللي يرد الروح ده.. والأوضة الي جنب منك دي بتاعتي.. ثم أشار للغرفة الرابعة وهو يقول بلااكتراث مزيف:
ـ والأوضة دي بقا لما تيجي صاحبة نصيبها .
ثم استدار وهو يشير نحو غرفة المعيشة ويقول:
ـ شوفي بقا الدلع.. أنتريهك وتلفزيونك الي من الحيط للحيط.. عشان تتفرجي على عبدالغفور البرعي براحتك والصورة تبقا واضحة كده بدل التلفزيون أبو عين واحدة اللي جابلنا عمى ألوان. وفي تلاجة صغيرة أهي.. عشان تعطشي تمدي إيدك تشربي، مش لسه بقا هنروح المطبخ اللي في آخر الشقة وحوار..
ثم نظر إليها وهو يحاول تجاهل تلك النظرة المحبطة بعينيها وقال بشبه ابتسامة:
ـ ها إيه رأيك ؟!
ـ جبت الفلوس دي كلها منين يا حسن ؟!
ممم.. لقد كان في انتظار ذلك السؤال على أحر من الجمر ويعرف أنها لن تتراجع عنه أبدا .
تنهد يملأ صدره بالهواء ثم قال:
ـ ربنا كرمني واشتغلت مع ناس تقال أوي ياما.. والعز ده ميجيش نقطة في بحر العز اللي لسه هنشوفه .
طالعته بغير تصديق، وأخذت تنظر حولها بشك وهي تقول بتهكم خفي:
ـ والله ؟! وشغل إيه بقا اللي يشتري شقة زي دي ؟!
ـ شرا إيه ياما دي ايجار جديد.. والعقد معايا أهو لو مش مصدقاني.
وأخرج العقد من جيبه وناوله لها فقالت:
ـ حتى لو إيجار.. جبت المقدم منين ؟!
ـ صاحب الشغل الله يباركله عطاني مرتب شهرين مقدم لأنه عارف إني محتاج فلوس.
ـ بردو عمال تلف وتدور ومجاوبتنيش ، شغل إيه ده ؟!
ابتلع ريقه وهو يجيبها بتوتر:
ـ بشتغل في المينا.. بنقل بضايع وحاجات زي كده..
رمقته بشك، وقالت:
ـ بتنقل بضايع ولا بتهرب بضايع ؟!
اقترب منها وهو يتلاشى النظر بعينيها بمراوغة، ثم أمسك يدها وقبلها وهو يقول:
ـ تهريب إيه بس يا ام حسن هو ابنك بتاع تهريب ؟! ده شغل يمين اليمين وقرشه حلال متقلقيش.
بدا عليها الاقتناع قليلا، ولكنها نظرت إليه بحذر وقالت:
ـ بردو مش هصدقك إلا لو جيت مكان شغلك واتكلمت مع صاحب الشغل، وقتها بس أصدقك وأجي أقعد هنا وأنا بالي مطمن.
ظهر عليه الارتباك قليلا ثم قال:
ـ آه.. وماله.. عايزة تقابلي صاحب المصلحة مفيش مانع، بس مش النهارده..
وغمغم بسهو:
ـ بكرة ولا بعده أكون اتصرفت..
قطبت جبينها وتساءلت متعجبة:
ـ اتصرفت في إيه مش فاهمة ؟!
ـ ها .. ؟! لا أقصد يعني بلغته عشان يكون موجود لأنه بيسافر أغلب الوقت مع الشحنات.. اديني يومين بس وأخدك تقابليه طالما ده هيخليكي تصدقيني.
أومأت بموافقة وقالت:
ـ بس من هنا لوقتها هنفضل في بيتنا.
نظر إليها مبتسما وهو يقول بمشاكسة:
ـ إنت تؤمر يا كبير.. إنت تأشر وأنا أنفذ.. أهم حاجة ننول الرضا.
وانحنى ملتقطا يدها وقبلها فربتت على ظهره وهي تقول:
ـ راضية عنك دايما يا حسن .. ربنا يكفيك شر ولاد الحرام وميحرمنيش منك.
وغادرا لينقلهما فتوح إلى البيت، ترجل حسن من السيارة وساعدها، واتجها نحو المنزل وهو يميل عليها قائلا:
ـ بقولك إيه يا عيوش داري على شمعتك تقيد أنا بقوللك أهو ، بلاش جو المزرعة السعيدة بتاعك انتي ونسوان الحارة ده، مش عايز حد يعرف حاجه عن إننا هننقل ، سمعتي ؟!
فأشاحت بيدها بلااكتراث وهي تقول:
ـ وهو انت شايفني فتانة ولا كتيرة الكلام يعني ؟!
نظر إليها من طرف عينه وهو يقول متهكما:
ـ لا وهو حد يقدر يقول كده لاسمح الله ؟!
وإذ بهما يجدان نهال، حيث كانت تجلس أمام الباب في حالة ترثى لها، وعلى وجهها تظهر آثار الضرب الوحشي ، مما أفزع عائشة وجعلها تتسائل بقلق؛
ـ نهال.. إيه اللي عمل فيكي كده يا بنتي ؟!
نهضت نهال وارتمت بين ذراعي عائشة وأخذت تبكي بانهيار، فربتت عائشة عليها وهي تقول:
ـ ادخلي تعالي..
كان حسن قد استطاع استنتاج بعضا مما حدث، فدخل وهو يشعر بالضيق، وأغلق الباب وجلس بجوار والدته، ثم نظر إليها وهو يقول:
ـ خير , مين اللي دشمل لك وشك كده ؟!
تجاهلته وهي تنظر إلى عائشة وتقول:
ـ شوفتي اللي جرالي يا خالتي؟ الكلب الرمة اللي محسوب عالرجالة راجل وقف يتفرج عليا ومراته بتبيع وتشتري فيا وخدت هدومي وخلت رجالتها يضربوني ويطردوني بره الشقة.. ومنطقش بحرف حتى.
ـ لا حول ولا قوة الا بالله.. مهو آخرة الغلط غلط بردو يا نهال، انتي خطفتي راجل من مراته وعياله كنتي مستنية إيه اللي يحصل في الآخر ؟!
أومأت نهال وهي تقول:
ـ معاكي حق في كل اللي تقوليه يا خالتي، أنا مش هدافع عن نفسي، أنا عارفة إني أستاهل الحرق، وكل اللي عايزاه إنك تعتبريني زي نغم.. لو نغم في موقف زي ده هتسيبيها في الشارع ؟!
تنهدت الأخرى بقلة حيلة وأردفت:
ـ أكيد لا..
هنا برز صوت حسن الءي قال مغتاظا:
ـ قصدك إيه يعني ؟! قصدك إنك عايزة تقعدي معانا هنا ؟!
ـ مؤقتا والله يا حسن.. بالله عليكي يا خالتي ما تقسي قلبك عليا، أنا كل اللي طالباه أفضل عندكو هنا لحد ما أدبر حالي وأشوف بيت أقعد فيه.
نظرت عائشة لابنها الذي هز رأسه برفض قاطع، فقالت:
ـ وبعدين يا حسن .. ميصحش كده يبني، البنت واقعة في عرضنا ومينفعش نكسر خاطرها، احنا عندنا ولايا بردو…
انحنت نهال على يد عائشة وقبلتها بقوة وهي تقول بامتنان صادق:
ـ وأنا وعد مني والله العظيم ما هعمل أي حاجه تضايقكم ولا هتحسوا بوجودي أصلا..
نهض حسن وهو يرميها بنظرات ساخطة، ثم قال مغتاظا:
ـ أنا ماشي.. ومش هبات الليلة دي هنا ياما عشان متستنينيش.
وخرج وتركهما يتطلعان نحوه الأولى بقلق والأخرى بخيبة أمل.
***
مساءًا..
توقف فريد بسيارته أمام مركز الدكتور رؤوف ، ثم. ترجل وسار نحو الباب الرئيسي ، ثم دخل فاستقبلته موظفة الاستقبال وقادته نحو مكتب الطبيب.
دلف فريد محاولا رسم ابتسامة بسيطة على وجهه، فأدرك الطبيب على الفور الحالة النفسية الهشة التي يمر بها فريد، رحب به ثم أشار إليه بالجلوس وهو يقول بابتسامة بشوشة:
ـ أهلا يا بشمهندس فريد.. اتفضل ارتاح.
جلس فريد وهو يحاول تنظيم أنفاسه المضطربة اضطرابًا ناجمًا عن أحداث متلاحقة ضاغطة، ثم تنهد وقال:
ـ الحقيقة لما حضرتك قلت إنك مسافر حسيت إني هنفجر..
ابتسم الطبيب بتفهم وقال:
ـ أنا أجلت سفري مخصوص لما سمعت صوتك وأدركت مدى الارهاق اللي إنت فيه.
ـ متشكر جدا لحضرتك ، ده تنازل يستحق الامتنان .
ـ ده مش تنازل أبدا، وإنما شعور بالمسؤولية تجاه الناس اللي بيلجأوا لي عشان أحتوي الفوضى اللي جواهم .. اتفضل يا فريد.. نبتدي منين ؟!
تنهد فريد وهو يضغط بين عينيه بارهاق ويقول بصوت أغرقهُ الإحباط:
ـ الحقيقة مش عارف ، جوايا مِية حاجة تعباني وشغلاني..
ـ خلينا نبدأ بالحاجة اللي خلتك تاخد قرار بالزيارة النهارده..
زم فريد شفتيه باحباط، وأطرق برأسه للحظات مستغرقًا في تفكير صاخب، تغضن جبينه وانعقد حاجبيه، وظهر الانزعاج جليًا على وجهه، ثم نظر إلى الطبيب وقال:
ـ اللي خلاني أجي النهارده إني مش قادر حتى أصلي، الموضوع ده أحبطني جدا وخلاني أحس إن خلاص مفيش أمل، أنا هفضل طول عمري أعاني ومفيش مخرج، حالتي من سيء لأسوأ ومهما هفضل أخد علاج مفيش حاجه هتفيد..
وتابع وهو يحرك يديه شارحًا ما يكنه صدره باستفاضة وأريحية:
ـ المفروض إن أي إنسان طبيعي مهما كان مقصر لكن لما بيضيق بيه الحال أو يمر بأزمة بتكون أول حاجه يفكر فيها إنه يلجأ لربنا سبحانه وتعالى، أنا حتى اللجوء لربنا محروم منه، مش قادر أقف أصلي، مش قادر أرفع ايديا وأقول يا رب من غير ما ييجي في دماغي مليون حاجة …
وتوقف، وظهرت على ملامحه الضيق والانهمام وأخذ يستطرد بعجز:
ـ حاجات أنا مش قادر أوصفها، مش قادر أمنعها، مش قادر أوقفها ولا أبطل تفكير فيها.. هو ده غضب من ربنا ؟! للدرجة دي ربنا غضبان عليا لدرجة انه يبتليني بمرض زي ده ؟!
توقف عن الاسترسال وسحب نفسًا طويلا يشحذ به قوته الخائرة، ثم تابع بقهر يلوح في عينيه :
ـ أنا استحملت جميع أنواع الوساوس، قدرت بعد سنين طويلة أتأقلم مع فكرة إني مريض بالوسواس القهري ، بس مكنتش متخيل إني هوصل للمرحلة دي.. إني أكون نفسي أصلي ومش قادر !!
صمت مجددا، وأسند مرفقيه على فخذيه ووضع رأسه بين يديه بانهزام ، بينما الآخر يرمقه بهدوء وتفهم وهو يدون بعض الملاحظات بدفتره الخاص، ثم تساءل قائلا:
ـ حاولت تضغط على نفسك وتعيد الصلاة أكتر من مرة ، ولا استسلمت من المرة الأولى ؟!
نظر إليه فريد وقال وهو يسترجع بعض الذكريات :
ـ لأ مقدرتش ، أنا بقالي سنتين تقريبا مش بصلي، بسبب إني كل ما كنت بحاول أصلي أحس حاجة واقفة قدامي بتمنعني أصلي، ولو غصبت على نفسي مش بعرف أركز ومليون حاجة بتيجي في بالي وأنا بصلي، زائد ان مفيش خشوع نهائي، بحس إني واقف بعمل تمارين مش أكتر.. وأوقات أحس إن مفيش نية أصلا ، فبالتالي بحس إن صلاتي مش هتتقبل. غير إن دايما كان بيجيلي هاجس إن وضوئي مش صحيح ، فممكن كنت أفضل أعيد الوضوء أكتر من خمس مرات لدرجة إني وصلت لليأس.. حسيت إني خلاص مش قادر وفكرة الصلاة بقت عبء تقيل عليا .
هز الآخر رأسه بتفهم شديد ، ثم قال بروية:
ـ فاكر الزيارة اللي فاتت لما قولتلك في أبعاد تانية هنتكلم فيها ؟!
أومأ فريد مؤكدا، فتابع الطبيب وقال:
ـ كنا هنتكلم عن الموضوع ده بالتحديد..
واسترسل وهو يشير راسمًا علامتي تنصيص بسبابتيه ويقول:
ـ ” علاقتك بربنا عاملة إزاي ” .
وتابع :
ـ مبدئياً وقبل كل شيء ، حابب تضيف حاجة خاصة بالجزئية دي ؟!
هز فريد رأسه نافيًا، فأومأ الطبيب ثم قال:
ـ اسمعني يا فريد وركز معايا كده وخلينا نفصص الكلام اللي أنت قولته واحدة واحدة.. أول حاجة.. إنت بتسأل.. هل للدرجة دي ربنا غضبان عليا لدرجة انه يبتليني بمرض زي ده ؟! عاوزك تفهم إن الابتلاء ده سنة إلهية، تعتبر من أهم سمات الصالحين، مش معنى إن ربنا مبتليك إنه غضبان عليك، ولكن الابتلاء بيحصل لرفع الدرجات وتعظيم الأجور ، وكلما عظم البلاء تضاعف الجزاء.
تاني حاجه ، قبل ما نبدأ في مناقشة تأثير الوسواس ده عليك وعلى صحتك النفسية لازم نعرف توصيفه الصحيح الأول، الوسواس اللي من النوع ده بيكون اسمه الوسواس الديني، وبيشمل عدة وساوس، زي وسواس العقيدة أو وسواس العبادات ، وللأسف ده أصعب وأبشع أنواع الوساوس، لأنه بيهاجم المريض من نقطة حساسة جداا ..
وتابع وهو يحك ذقنه بتفكير ثم قال:
ـ طيب.. وعلاجه إيه ؟! هقوللك علاجه زي علاج جميع أنواع الوساوس والأفكار اللامنطقية اللي بتيجي على بالك.. وهو التجاهل والتحقير .. يعني انت سمعت الأذان ودخلت اتوضيت وفجأة الوسواس هيألك إن الوضوء ده مش صحيح.. إوعى تعيد وضوءك مرة تانية. في مقولة كده إحنا دايما نقولها لمرضى الوسواس القهري، في الإعادة زيادة. بمعنى إنك كل ما هتخضع لوسواسك وتنفذ له اللي هو بيؤمرك بيه وتفضل تعيد وتزيد في نفس الحاجة مرة واتنين وتلاتة عشان تتأكد إنك بتعملها على أكمل وجه فانت كده بدون ما تشعر بتزود الهواجس والوساوس جواك. فأسلم حل إنك حتى لو جتلك الفكرة دي وانت بتتوضى تجاهلها تماما وكمل وضوء..
والتقط نفسا وتابع:
ـ طيب.. اتوضيت وكله تمام.. واستقبلت القبلة.. وبالمناسبة.. إنت بتقول بتحس إنك واقف تصلي بس مفيش نية إنك تصلي، ده هاجس وسواسي بحت، لأن كونك دخلت اتوضيت واستقبلت القبلة فانت كده نويت خلاص.. فبلاش تشق على نفسك وتجهد عقلك وروحك بالتفكير في أمور صغيرة زي دي.. وتجاهلها قدر الإمكان. نيجي بقا للجزء الأهم. وهو إنك خلاص بتستعد للصلاة .. رفعت ايديك وكبرت وشرعت في قراءة سورة الفاتحة والدنيا ماشية تمام.. وفجأة حسيت إن في حاجة غلط.. حسيت إنك مش مرتاح، مش مركز، مش حاسس ومش مستشعر عظمة الموقف اللي انت فيه، مهما كان إحساسك تجاهله..مهما تصورت أو تخيلت تصورات بشعة ومؤذية تجاهلها .. لو قدرت تتغلب عليها وتكمل صلاتك فانت كده سجلت هدف هايل.
ـ ولو مقدرتش ؟! تساءل فريد بإحباط ويأس .
ـ بص يا فريد .. خليني أتكلم معاك بلغة البيزنس ورجال الأعمال ، دلوقتي إنت لو قدامك خصم كبير في السوق بيحاول يوقعك أو ياخد مكانك.. أو حتى يشوه صورتك قدام الناس.. هتتصرف معاه إزاي ؟! هتجيبه وتوقفه قدامك وتنزل فيه ضرب ؟! ولا هتتجااهله ؟
أخذ فريد يتدبر المثال المطروح أمامه ثم قال بهدوء:
ـ لأ أكيد هتجاهله..
ـ لأن التجاهل بيوجع أكتر مش كده ؟! والتجاهل هنا مش معناه إنك هتصيب عدوك من أول مرة، ولكن إنت بتدرب نفسك على إصابته والقضاء عليه،. مظبوط ؟!
ـ أكيد..
ـ حلو جدا.. لازم تتعامل مع الوسواس ده زي العدو أو الخصم بالظبط.. كل ما تتجاهله أكتر كل ما هيضعف ويتراجع.. إنما لو اديته اهتمامك ووقتك فانت كده بتغذيه وتكبره.. قيس على كده بقا كل طرق التعامل مع كل الوساوس اللي بتهاجمك وتحاربك ، يعني لو واقف بتصلي، وفجأة خطر لك إنك سرحت، تعمدت، نقصت ركعة، زودت ركعة، لخبطت في القراءة، غيرت الحروف، أحدثت، جالك أفكار جنسية، أو كُفرية، تخيلات ، سب الذات الإلهية والعياذ بالله.. كل دي وساوس بفعل الشيطان… لازم تتجاهلها وتكمل صلاتك.. وبعد ما تنتهي من الصلاة حتى لو حاسس إن صلاتك باطلة متعيدهاش.. لإن كل ما هتكرر وتعيد فانت هتقوي الشيطان عليك من تاني ..اوعى تلفت لأي أفكار تلح عليك وخليك دايما عارف إن اللص لا يحوم حول البيت الخرب ، يعني الشيطان لو مش عارف إن قلبك فيه إيمان وييجي منك مش هيحاربك عشان يفسد الطاعة اللي بتعملها، بالبلدي كده مش هيتعب نفسه مع واحد مفيش منه رجا .
أومأ فريد متغهما فتابع الطبيب وقال:
ـ وأهم حاجة لازم تكون عارفها إن ليس على المريض حرج.. خُد بالرخصة ومتشيلش نفسك فوق طاقتها، ربنا رحيم بعباده وأرحم عليك من نفسك حتى، و سبحانه وتعالى بيقول في كتابه الكريم في سورة ‘ ق ‘ ، ” ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ” يعني ربنا شاهد ومطلع على اللي إنت بتمر بيه، وقادر يرفع عنك الضرر ده في لمح البصر، ولكن ده ابتلاء زي ما قولتلك.. بيختبر صبرك وقوة إيمانك ويشوف هتصبر ولا لأ..
تنهد فريد بتعب وارهاق، فتسائل الطبيب وقال:
ـ إنت منتظم على العلاج اللي كتبتهولك مش كده ؟!
ـ أيوة.. بس للأسف الظروف حواليا مش مساعدة أبدا .
ـ دي المشكلة، لأن المشاكل والتوتر النفسي بيخلوا الوساوس تتفاقم وتزيد..
ـ بالظبط.. بالرغم من إني ملاحظ إني مبقيتش زي الأول برش كل شوية كحول وأحس إني مش عايز أقرب من حد.. أو بالأحرى مبقاش عندي نفس مقدار الخوف من الاختلاط والاحتكاك باللي قدامي زي الأول..
أومأ الطبيب مؤيدًا وقال:
ـ لأن في أفكار غيرها بتحل محلها.. خد بالك الوسواس مش ثابت.. يعني ممكن ييجي فترة يختفي تماما.. وممكن فجأة يحصل هجمة شرسة زي اللي حصلت معاك لما حاولت تصلي، للأسف هو خاين مبتقدرش تتوقع هيغدر بيك إمتا .. لكن هقولك على حل مؤقت هيساعدك كتير.. في دراسة مؤخرا توصل ليها الطب النفسي تسمى بـ آلية إنشاء مصدر ألم .. بتستخدم لتشتيت الرغبة للاستجابة للوسواس .. بمعنى ، جاتلك فكرة وسواسية مؤذية وفوق طاقتك ومش قادر تصرف انتباهك وتركيزك عنها ، أو حاسس إن في طقس معين بيلح عليك عشان تعمله ومش عارف توقفه، وقتها كل اللي عليك إنك تنشئ موضع ألم ، مثلا تضغط بقوة على منطقة الرسغ وبالتحديد فوق الأوردة.. أو أي موضع ألم تاني بس طبعا ميكونش فيه إيذاء ليك .. الألم غالبا بيشتت الرغبة للاستجابة للوسواس أو للطقوس بتاعته.
أومأ فريد موافقا، وتنفس بعمق محاولا استعادة إيقاع أنفاسه، ثم قال:
ـ أعتقد هلجأ للحل ده كتير ..
ـ مفيش أي مشكلة، وخليك متفائل إن التغيير هيحصل بإذن الله ، أهم حاجه الصبر على الابتلاء وعدم رفع سقف التوقعات عشان متحسش بالاحباط من تأخير النتيجة، لأن الوسواس اتملك منك بالتدريج البطيء وهيسيبك بنفس الطريقة ، يعني لازم تستمر في التطبيق وإنت واثق في قدرة الله عز وجل وفي رحمته ومتيقن إن الشفا قادم لا محالة بإذن الله وحده .
أومأ فريد مؤيدًا، ثم قال:
ـ الحقيقة مش عارف أشكر حضرتك إزاي على وقتك وكلامك اللي خلاني حاسس إن في أمل لسه.
ـ الأمل موجود طول ما إحنا مؤمنين بإن أقدارنا بيد الله سبحانه وتعالى وحده، الحياة والموت والصحة والمرض… كل حاجة بايد ربنا عز وجل ومستحيل تخضع لسيطرة الإنسان مهما حاول.
ـ ونعم بالله.. أنا شايف إن كفاية كده النهارده.. أنا أُرهقت جدا.
ـ زي ما تحب.. وزي ما قولتلك المرة اللي فاتت مش هحدد ميعاد الزيارة الجاية لأني عايزك تيجي وانت متعطش تحكي وتفضفض.. فوقت ما تحس إنك حابب تتكلم تقدر تيجي .
نهض فريد وهو ينظر إليه مبتسما ويقول برضا:
ـ أنا متشكر جدا.. اخدت من وقت حضرتك كتير جدا .
ـ لا شكر على واجب ، ده شغلي وأنا دايما تحت امرك.
غادر فريد وهو يشعر بقليل من الراحة، ثم استقل سيارته وعاد متجهًا نحو المشفى ..
***
حين تخذلك جميع الأشياء من حولك، لا تحاول أن تثق بها مجددا ، ولكن حاول أن تثق أنك تستطيع العيش بدونها.
ـ ويليام شكسبير.
كانت نغم تجلس على أحد مقاعد الاستراحة الموجودة بالخارج، حيث أن المكان بالداخل لم يعد يناسبها أبدا في ظل وجود تلك الشقراء ، فها هي تجلس هنا منذ أن سمعت الحوار الساقط الذي أدارته چيلان مع أحدهم، وكأنها قد تعمدت أن توصل لها رسالة ما، وبالفعل لقد نجحت في ذلك.
نجحت في أن تطعنها بخنجر الحقيقة المسموم، وأن تجعلها تفيق من آمالها وأوهامها وتعي على الحقيقة المرة، ليس عليها الوثوق بأي إنسان لأن الجميع متشابهون باختلاف القوالب الوهمية التي تحتويهم .
وأخذت تفكر، هل يعقل أن تكون چيلان قد اختلقت قصة وهمية لدس الكراهية بينها وبين فريد ؟! ولكن لمَ عليها أن تفعل ذلك؟! في الأساس هي وفريد يتعاملان بلطف ليس أكثر، أي أنها لا تشكل تهديد بالنسبة إليها لكي تسعى إلى التفريق بينها وبينه، إضافة إلى أنها حتى وإن كانت تشعر بمشاعر حديثة الولادة تجاه فريد فتلك المشاعر ليست ظاهرة للعلن، مما يبطل احتمال أن تكون چيلان قد افتعلت تلك القصة مخصصا لكي تجعلها تكرهه، إذا فالواضح والواقعي أن ما قالته چيلان صحيح مئة بالمئة ، هي وفريد تجمعهما علاقة خارج إطار الأخوة أو الصداقة.. ربما تكون علاقة حب أو علاقة عابرة.. لا تعرف.
تنهدت وهي تنكفأ للأمام وتسند جبهتها على يديها فإذ بها تستمع إلى خطوات بالقرب منها فرفعت عيناها لتجده عمر، حيث جلس بجوارها وهو يقول مبتسما:
ـ ينفع أقعد معاكي شوية ؟!
نظرت إليه ببطء ثم إلى المقعد وقالت:
ـ ما انت قعدت خلاص.
ضحك وقال:
ـ معاكي حق، أنا دايما كده متسرع.. قوليلي مالك ؟! واضح إن في حاجة مضايقاكي .
تنهدت بأسى وقالت باقتضاب:
ـ لا أبدا.. أنا كويسة.
ـ أوكي براحتك.. بس لو عايزة تتكلمي أنا بحب أرغي جدا على فكرة.
زمت شفتيها وهي توميء مرارا ثم قالت بنظرة متهكمة:
ـ ليه مش بترغي مع أختك ؟! بدل ما هي واقفة فوق على حيلها رايحة جاية مش لاقية حاجة تعملها .
ضحك وقال:
ـ لأ أنا ممكن أرغي مع أي حد ما عدا اتنين.. نادية الصواف، ونادية الصواف لايت.. اللي هي چيلان .
ارتفع رنين هاتفه فنظر إليها قائلا:
ـ هرد على الموبايل وأرجعلك تاني.
سار خطوات بعيدة عنها وأجاب المكالمة قائلا:
ـ إيه يا عم حسن فينك ؟!
ليجيبه الآخر بنبرة منفتحة:
ـ عمورة.. قالوا لي هان الود عليك يا عمورة.. رحت وقلت عدوا لي من آخر مرة ده أنا حتى كنت بحسب الصنف مغشوش ولا حاجه.
ـ لا تمام.. أنا عايز شريط دلوقتي حالا..
ـ إنت تؤمر، أجيلك فين ؟! نفس المكان ولا إيه ؟!
ـ لأ أنا مش هناك دلوقتي ، أقوللك.. هبعتلك شير لوكيشن تجيلي عليه.
ـ ماشي يا عمورة إحنا في الخدمة، مسافة السكه وأكون عندك.
أنهى عمر الاتصال وظل منتظرا قرابة النصف ساعة إلى أن رأى حسن وهو يتقدم منه على دراجته البخارية ، تصافحا بود زائف، ثم تحدث عمر وهو ينظر إلى واجهة المشفى ويقول:
ـ الكلام على إيه يا عموره؟ بتعمل إيه هنا ألف سلامة عليك.
ـ تسلم ، مش أنا اللي تعبان ده بابا وأختي .
فأجابه حسن باستهزاء مبطن:
ـ لا ألف سلامة على بابا.. يقوم بالسلامه إن شاء الله.
ـ تسلم يا أبو علي، قوللي الحاجة معاك ؟!
أخرج حسن شريط الأقراص من جيبه ودسهُ بجيب سترة عمر وهو يقول:
ـ أحلى عمورة.. الصنف المرة دي حاجة لوز من الآخر.. يستاهل بؤك.
أومأ عمر وهو يستل جزدانه من جيبه ، ويخرج منه النقود ، بينما تسائل حسن قائلا:
ـ إلا قوللي يا عمورة، شاب لسه عضمه طري زيك كده وواضح انك ما شاء الله ابن عز بتاخد الحاجات دي ليه ؟! أنا أعرف اللي بيضربوا تامول دول يا عندهم مشاكل بيهربوا منها بالسطل ولا مؤاخذه أو شقيانين وعاوزين يخدروا الجتة عشان ميحسوش بالتعب، أو مرضى بعيد عني وعنك يعني.. إنت بقا ظروفك إيه ؟!
طالعه عمر بحنق وملامح متجهمة وهو يسحب بعض النقود من جزدانه وينظر إلى حسن قائلا بنزق:
ـ ملكش فيه، واتعود متسألش كتير.
أومأ حسن بتمهل وهو يقول:
ـ ماشي يا حبيب أخوك.. عندي دي.
” عمر ”
انتفض عمر من مكانه عندما استمع إلى صوت چيلان التي تقف خلفه بخطوات وهي تقول :
ـ واقف عندك بتعمل إيه ؟!
نظر إليها حسن بانبهار، لوحة فنية بهية، ملامحها حادة فاتنة وجسدها كما قال الكتاب، وكأنها خرجت من عالم الحوريات للتو .
ـ آآ.. أنا.. بتكلم مع واحد صاحبي وجاي حالا..
عقدت جيلان ذراعيها أمام صدرها، وهي تطالع حسن باستنكار وتقول:
ـ صاحبك ؟!!
هنا برز صوت حسن الذي مال نحو عمر وسأله:
ـ مين القطعة دي يا عموره ؟! المدام ؟!
فطالعه عمر وهو يشير بيديه بانزعاج وضجر وهو يقول:
ـ مدام إيه يا عم انت كمان دي أختي..
وتقدم من چيلان وهو يقول:
ـ مش صاحبي أوي يعني، صاحب واحد صاحبي.. تعالي ندخل أنا أصلا خلصت كلام معاه..
تحركت معه چيلان عل مضض وهي تلتفت برأسها للخلف وتطالع حسن وهيئته الغريبة بتفحص، بينما هو غمز إليها بعينه في عبث صريح جعلها ترفع حاجبيها بتعجب وهي تنظر إلى عمر وتقول:
ـ إيه ده ؟! إيه الأشكال دي ؟! ده بيغمز لي ؟!!!
وقف حسن يتأملهما للحظات وهو يتمتم:
ـ يا ابن الإيه يا عمورة، أختك فرس !!
ونفض رأسه من تلك الأفكار العابثة واستقل دراجته من جديد وهم بالانصراف قبل أن تقع عينيه على شيئا ما ملقى على الأرض بإهمال.. فانحنى والتقطه وهو يتمتم:
ـ الواد غيبب قبل ما يبرشم.. ده وقع بطاقته !!
وأخذ ينظر فيها وهو يقرأ الاسم ” عمر سالم عبدالعظيم مرسال ”
ـ مرسال ؟! التاني اسمه فريد مرسال !! لا لا أكيد صدفة مش أكتر.. هو مفيش غير مرسال واحد في البلد يعني ولا إيه ؟!
وقف مترددا، هل يدخل ويعطيها له؟ أم يحتفظ بها للمرة القادمة؟! وبعد أخذٍ و رد قرر أن يبحث عنه ويعطيها له، وخلالها سيحاول معرفة أي معلومة منه عما إذا كان يمت بصلة لذلك الفريد أم أنه مجرد تشابه أسماء .
نزل من على الدراجة مجددا، ثم سار خطوات نحو بوابة المشفى، وقبل أن يخطو للداخل صُدم برؤيته لنغم وهي تقف في مقابل عمر ويتحدثان .
دق قلبه بعنف، واضطرب وجدانه بالكامل، وقبل أن يقتحم المشفى رن هاتفه فجأة، فنظر به ليجدها نهال.. فأجاب:
ـ مش وقتك خالص.. اقفلي دلوقتي.
ـ إلحق يا حسن البيت بيولع .
جحظت عينيه بصدمة ووقف بدون وعي للحظات قضاها في تردد، قدما بالداخل والأخرى بالخارج..
فزمجر بغضب شديد وهو يركض نحو دراجته مضطرا أن يعود لأمه رغما عن أنفه، لا وقت لفعل أي شيء آخر…
في نفس الأثناء كان فريد يصف سيارته أمام المشفى وذهلهُ رؤية حسن أمامه، غادر سيارته مسرعا وهو يحاول اللحاق به ولكن الآخر كان قد انطلق يسابق الريح.
فدخل المشفى على الفور متلهفًا للاطمئنان على نغم، ولكنه رآها تقف في مقابل عمر يتجاذبان أطراف الحديث بكل سلاسة.. فتقدم منهما وهو يشعر بالضيق والاستياء ويقول:
ـ مساء الخير.
أجاب عمر التحية بينما همت نغم بالانصراف فاستوقفها فريد قائلا:
ـ ثواني يا نغم..
نظرت إليه باستغهام صامت، فنظر فريد إلى عمر الذي كان يستعد للمغادرة بالفعل فقال:
ـ طيب، في مشوار ضروري كده هعمله وأرجع ..
وانصرف وتركهما يقفان في مواجهة بعضهما البعض فقال فريد مباشرةً:
ـ حسن كان هنا .
فكت عقدة ذراعيها من أمام صدرها، ووقفت أمامه تطالعه بذهول وهي تقول:
ـ حسن مين ؟!
زم شفتيه باستياء وقال:
ـ ابن خالتك.
انزلق ريقها بخوف وهي تقول:
ـ مش ممكن، وهو عرف مكاني إزاي ؟!
تنهد بتعب واحباط وقال:
ـ مش عارف، وجايز وجوده هنا كان صدفة وميعرفش بوجودك.. لأن لو كان شافك أعتقد مكانش هيمشي ببساطة كده.
ـ إنت متأكد إنه حسن ؟!
أومأ باستياء فشعرت بالدوار يلف رأسها، فرفعت يدها تمسك بها جبهتها وباليد الأخرى ارتكزت على ذراع فريد الذي نظر إليها بقلق وقال:
ـ فيه إيه مالك ؟!
شحب وجهها وشعرت وكأنها على وشك فقدان وعيها، فساعدها للوصول إلى المقعد فجلست وجلس هو بجوارها وهو يقول:
ـ أجيبلك مية ؟!
هزت رأسها برفض وقالت:
ـ يعني إيه ؟! معقولة مراقبني وعرف مكاني؟!
ـ ماعتقدش.. مش معقول هييجي لحد هنا وهو عارف إنك جوا ويمشي، وإلا كان جاي ليه من الأول ؟!
استمع إلى صوت الممرضة حيث هتفت إليه :
ـ فريد بيه، والد حضرتك طالب يشوفك .
أومأ فريد موافقا ونظر إلى نغم وقال:
ـ تعالي ندخل دلوقتي ونكمل كلامنا بعدين.
نهض ومد يده إليها ليدعمها، فأخذت تنظر إليه للحظات دون أن تمد يدها، لم تفعل، وكأنه حين مد يده إليها كان يقول لها ثقي بي، ولكنها لم تقدر عل ذلك، وهذا دفعه للتراجع، فأعاد يده إلى جانبه حين رأى التمرد بعينيها..
اللعنة.. تريده بجوارها. لكي يُصلح أجزائها المكسورة ويرممها من جديد، لكن ليس وهو كاذبًا، يفرق وعوده هنا وهناك كما يُحسن المحسنين إلى سائلين الغرام .
لذا تجاهلت رغبتها في الإمساك بيديه ، وتجاهلته هو شخصيا ودخلت إلى المشفى، ستبقى هنا فقط لحين إشعار آخر.
***
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية محسنين الغرام ) اسم الرواية