رواية غناء الروح الفصل الثاني و العشرون 22 - بقلم زيزي محمد
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثاني والعشرون..
تركت "سيرا" والدها في المستشفى مع والدتها وأخواتها، وانطلقت نحو قسم الشرطة الذي يُحتجز فيه شقيقاها التوأم "عبود" و"قاسم"، بعد أن افتعلا شجارًا مع "فايق"، حين حاولا الأخذ بثأر شقيقتهما الكبرى "أبلة حكمت" وسيرا، فقد علما أن فايق ينشر إشاعات مغرضة عن سيرا، فاشتعلت في قلبيهما نيران الغضب، وتصرفا بتهور، كسر أحدهما يد فايق، بينما تسبب الآخر بكدمات في وجهه، بعد أن نصبوا له مع أصدقائهم الطائشين كمينًا عند دخوله الحي، فانهالوا عليه بالضرب المبرح حتى وصل الأمر إلى قسم الشرطة.
مسحت سيرا دموعها، وقد غمرها الخوف على والدها الذي فقد وعيه، كانت الجلطة على بُعد بضع إنشات من جسده، وقد حذرهم الطبيب للمرة الأخيرة بالحفاظ على صحته وتجنب إرهاقه بأمور قد تفوق قدرته على التحمل.
وصلت سيرا إلى القسم برفقة "أبلة حكمت" وزوجها "صافي"، وقبل أن يدخلا، قالت حكمت بضيق من سيرا المتشبثة برأيها:
-يا بنتي اتصلي على خطيبك خليه يكلم اخوه، ينقذ اخواتك، اخوه واصل اوي وهيخلص الموضوع.
هزت سيرا رأسها نفيًا بعناد:
-لا يا أبلة، كفاية لغاية كده، مش كل مصيبة هجري اعرفه بيها، وبعدين أنا قولتلك....
قطعت حديثها عندما قبضت حكمت على مرفقها بشراسة، وجرتها نحو الحائط الحجري الكبير، فاستندت سيرا بظهرها عليه وهي تنظر إلى حكمت برعب، فكانت عينا حكمت تشتعلان غضبًا:
-بصي بقى وحطي الكلمتين دول في ودانك، لو على الكلام الاهبل اللي قولتيه فانسيه خالص عشان محدش هيوافق فينا، لو انتي عبيطة ومش عارفة مصلحتك فين؟، احنا نعرفهالك كويس!، ولو ابوكي مش فارق معاكي قهرته، أحنا يفرق معانا ونخاف على صحته اللي عماله تتدهور والله اعلم ممكن يجراله إيه تاني! مستعدة تعيشي بذنب ابوكي العمر كله يا سيرا؟
تدخل صافي بصوته العميق، محاولًا تهدئة الوضع:
-اهدي يا حكمت، ان شاء الله سيرا هتعقل وهتعرف مصلحتها فين ومصلحة اخواتها اللي مرمين في الحجز دول!
ردت سيرا بنبرة يغمرها الغيظ:
-أنا مش هكلم حد، لو عايزة تكلميه انتي كلميه!
دفعت أختها عنها وتحركت نحو الداخل، لكنها توقفت فجأة عندما رأت "زيدان" أمامها، تجمدت أطرافها، وغاص وجهها في الإحراج عندما اقترب منها بلهفة وسألها:
-مالك؟ إيه اللي جابك هنا؟
مدت حكمت يدها لتصافحه بابتسامة عريضة:
-أهلاً أهلاً أنا حكمت اخت سيرا، فاكرني؟
صافحها زيدان باقتضاب، وتحولت لهفته إلى فتور:
-اه أكيد فاكرك!
ابتسمت حكمت بغرور أثار دهشة سيرا وصافي معًا:
-أنا كنت عارفة، مفيش حد يشوفني إلا ولازم اسيب له بصمة يفتكرني بيها على طول.
رفع زيدان حاجبيه باعتراض على ثقتها المفرطة، لكنه استمع إليها وهي تتحول بنبرتها إلى الاستعطاف:
-كويس إنك موجود، عبود وقاسم اخواتي مقبوض عليهم في مشكلة كبيرة، ضاربين واحد جارنا وأمه الله يجحمها اللي كنت متخانقة معاها وانت خلصت الحوار عملت بلاغ في أخواتي!
كورت سيرا يديها، محاولةً كبح جماح غضبها المتصاعد، خاصةً عندما رأت أختها تتودد لزيدان، لكنها سرعان ما غادرتهما، ووقفت في زاوية بعيدة تبكي بصمت، كان الشعور الذي يسيطر عليها أشبه بفوضى عارمة لا تستطيع ترتيبها، أغمضت عينيها بقهر، وهي تفكر في الذهاب إلى "فايق" بالمستشفى لطلب مسامحته والتنازل عن البلاغ، لكن كبرياءها منعها، بالإضافة إلى خوفها من رؤيته بعد تصرفاته الأخيرة ونظراته المريبة!!
شعرت بلمسة حانية على ذراعها، وصوت يخترق سكونها كالسهام، فتحت عينيها لترى "يزن" يقف أمامها بلهفة وقلق:
-بتعملي إيه هنا، وواقفة بتعيطي ليه بالشكل ده؟!
همست بتوتر:
-آآ.. أنا...كنت جاية مع أبلة وأبيه عشان....
انعقد حاجباه بقوة وهو يتأمل توترها ومحاولاتها الضعيفة لاستجماع قواها، أمسك بكفيها بين قبضتيه القويتين والكبيرتين مقارنةً بحجم يديها الصغيرتين، وقبض عليهما بحنو ولطف محبب إلى قلبها:
-اهدي واحكيلي في إيه؟ وليه ماتصلتيش بيا اجيلك؟
تساءلت بعينيها شبه الباكيتين، وهمست بنبرة خافتة، متغافلة عن كفيها اللذين كانا بين قبضته المتمسكة بها وكأنه غريق يتشبث بآخر طوق نجاة:
-هو انت إيه اللي عرفك إن أنا هنا؟ مين قالك؟ زيدان؟
رد بهمس متعجب:
-زيدان؟
لكنه لم يُطل الاستغراب، وشرح سبب وجوده بجمل مختصرة:
-نوح صاحبي هو ومراته جم هنا عشان بنتهم اتخطفت وأنا جيت معاه وبلغت زيدان يجلنا على هنا، انتي هنا ليه؟
شعرت بلمسات حانية من إصبعه تمر فوق كفيها، لمسات داعبت فؤادها وأجبرتها على رفع عينيها إلى بريق عينيه، رأت لونهما الجميل يتلألأ وسط مقلتيه، فكادت تهيم به، إلا أن كلمات "حورية" ضربت رأسها كضربة فارس مغوار أصاب سيفه منتصف رأس عدوه " بيتسلى بالبنات زي ما بيتسلى باللب السوبر كده".
فجأة، شعرت باشمئزاز يجتاحها، وحاولت سحب يدها بقوة من قبضته، قائلة بانزعاج واضح، يرافقه إحراج من تصرفات عائلتها التي باتت وكأنها تعشق التردد على أقسام الشرطة مؤخرًا:
-عبود وقاسم اتخانقوا مع فايق وهو قدم فيهم بلاغ، فجينا هنا نشوف البلاغ وكلمنا المحامي يجي ورانا.....
لم يكن غبيًا ليدرك أنها تمرر له بين كلماتها المبطنة رسالة مفادها أنها ليست بحاجة إليه، ولن تطلب منه العون، شعر بضيق عميق لتفسيرها الخاطئ لموقفه معها، فهو لم يقف بجانبها من باب المجاملة، بل كان شعوره بالمسؤولية ورغبته الحقيقية في حمايتها هما الدافع الحقيقي!
-وماكلمتنيش ليه؟
هزت كتفيها بلا مبالاة متعمدة، وقالت بهدوء بينما كانت عيناها تفر من محاولات عينيه الغامضتين والمربكتين لاحتجازها:
-يعني شوية ضغط وحوارات محبتش اشغلك معايا!
-يـــزن؟!
كانت "حكمت" تمسك بأخويها "عبود" و"قاسم" بيديها وهي تخرج بهما من القسم. توقفت بدهشة:
-مش معقولة، انتي كلمتيه يا سيرا؟!
تجهمت ملامح "سيرا" ووجهت عتابها إلى شقيقيها اللذين أخفضا رأسيهما بخجل، وكررت:
-لا هو اللي جه لوحده!
وقف "زيدان" بجانب "يزن"، يميل نحوه ويهمس ببعض الكلمات التي أثارت استنكار الأخير، هز "يزن" رأسه تأكيدًا على ما قاله "زيدان"، في صمت أثار دهشة الجميع.
نطقت "سيرا" أولاً، وقالت بقلق:
-في حاجة يا يزن؟ عبود وقاسم هيحصلهم حاجة؟
حرك "زيدان" رأسه نفيًا وأجاب بنبرة جادة:
-لا خالص، اللي ضربوه اتنازل عن البلاغ، بس بعد كده المفروض يمسكوا نفسهم ويتعاملوا بذكاء عن كده.
ابتسمت "سيرا" ابتسامة غير مصدقة:
-بجد فايق اتنازل؟
ردت "حكمت" بدهشة واستنكار:
-اه شوفتي، ابن فوزية الملوية اتنازل!
قالت "سيرا" بسذاجة وهي توجه حديثها لأختها:
-والله فيه الخير، ده أنا كنت هروح له المستشفى واطلب منه.....
تجهم وجه "قاسم" وقال بنبرة غليظة:
-تروحي فين؟ انتي عارفة الحمار ده كان بيقول عليكي إيه؟
تابع "عبود" بنبرة أشد ظلمة تفوح منها الغيرة على أخته:
-ده عيل مالوش أي لزمة، تلاقيه بيكسب بونطة عندك.
ارتبكت "سيرا" منهما وأمرتهما بالصمت بنظراتها المستعرة بالغضب، خاصة أمام "زيدان" و"يزن"، وخصوصًا "زيدان" الذي رمق "يزن" بنظرة غامضة استعصت عليها فك شفراتها.
بينما ظهر على "يزن" توتر شديد وكأنه يقاوم شيئًا ما داخله.
قالت "حكمت" بحدة وهي تدفع أخويها أمامها:
-يلا يا بيه منك له قدامي عشان نروح نطمن على بابا في المستشفى!
أخيرًا، نطق "يزن" بقلق حقيقي:
-هو عم حسني في المستشفى؟!
هزت "حكمت" رأسها إيجابًا وأخبرته كيف تلقى والدها الخبر عندما رأى عبود وقاسم داخل سيارة الشرطة، فسقط مغشيًا عليه، أوضحت أن صحته تتدهور بشكل ملحوظ، وأنهم جميعًا يشعرون بالخوف عليه.
لكن في نهاية حديثها، اشتدت نبرتها حدة، ووجهت نظراتها الملتهبة نحو "سيرا"، التي كانت تقف متجمدةً تحت وطأة تلك النظرات الفاضحة.
-بابا تعبان خالص يا يزن، ادعي له ربنا يشفيه، احنا خايفين عليه خالص، خالص.
زمت "سيرا" شفتيها ونظرت إلى الأرض محاولة إخفاء مشاعرها المضطربة، فأمرت "حكمت" الجميع بالتحرك:
-يلا يا أستاذ منك له!
تحركت "سيرا" بصمت، متجاهلة "يزن" و"زيدان"، كانت تنوي شكر "زيدان" على دعمه لها للمرة التي لم تعد تحصيها، لكنها قررت تأجيل ذلك لوقت آخر،
بينما همس "زيدان" بسخرية:
-امال الباشا مفتحش فيس النهاردة خالص؟!
كان "يزن" يتابع "سيرا" بعينيه، متعجبًا من تصرفها معه، هز رأسه نفيًا، وعقله غارق في التركيز على خطواتها المتسارعة بجانب أخويها وهي تتشاجر معهما.
أخرج "زيدان" هاتفه ووضعه أمام "يزن"، الصورة الساخرة التي تتصدر الفيسبوك كانت له وهو يرتدي الجلباب القصير، فأمسك "يزن" الهاتف بقوة، غير مصدق لما يراه.
قال "زيدان" بانزعاج ساخر:
-مين الاكونت الفيك اللي ناشرلك الصورة دي وكنت فين؟ خطيبتك مش طايقك ليه يا يزن؟ احمد ربنا إن سليم لسه.......
لم يكمل حديثه، إذ تحرك "يزن" بسرعة نحو سيارة "صافي"، فتح الباب حيث كانت "سيرا" تجلس بجواره، وطلب من "حكمت" بلباقة:
-ممكن تسمحيلي انتي والحاج صافي اخلي سيرا معايا بس شوية اخلص مشكلة واحد صاحبي، وبعدها اجيبها وآجي ازور الحج حسني في المستشفى!
رد "قاسم" بخشونة:
-طيب ما تخلص حوارك مع صاحبك وتعالى على المستشفى، هتلاقينا موجودين ماتخافش مش هنهرب.
ابتسم "يزن" ابتسامة تخفي وراءها نيران غضبه، وقال بهدوء مريب:
-في حاجة بيني وبينها يا قاسم وعايز اوريهالها في الطريق!
ردت حكمت بحزم:
-وانت مالك يا واد، هو مش بيستأذن من الناس الكبيرة، اه طبعًا يا حبيبي، انزلي يا سيرا مع خطيبك.
تشبثت "سيرا" بالمقعد، لا تود النزول ولا التحرك معه، ارتبك قلبها من نظراته المريبة تلك، تُرى هل علم بما فعلته؟ أم أنه لا يزال غارقًا في نعيم الجهل؟ وما سر حديثه الكاذب الذي تفوه به؟ هل ينصب لها مصيدة ليحتجزها بها؟
ارتبكت كالجرو الصغير، وهمست بارتباك:
-خليها وقت تاني، أنا عايزة اطمن على بابا!
أمسك بذراعها وحركها للنزول بخفة، دون أن يلاحظ أحد، قائلاً بإصرار ونبرة هادئة ظلت ثابتة:
-لا مش هنتأخر متخافيش، يلا عشان منتأخرش اكتر من كده.
تحمست "حكمت"، وقالت بنبرة تتعمد إظهار الحنق:
-خلاص يا سيرا روحي مع خطيبك ماتزعلهوش، سلام.
ثم أمرت "صافي" الصامت، الذي لم يعنه الأمر، بالتحرك، وبالفعل تحرك بالسيارة، تاركًا إياها في قبضة "يزن"، الذي توقعت أن ينقشع عنه ذلك القناع الغامض، ولكنه نظر إليها بلطف مستذئب وهمس بحنان أثار الشك في عقلها:
-تعالي يا حبيبي هنخلص حوار نوح ومراته ونمشي مع بعض.
نظرت إليه مندهشة من أسلوبه، وكادت تعقب على لفظه كلمة "حبيبي" بتلك النعومة التي تغلغلت في صوته الرجولي الجذاب، إلا أنها صمتت، راحت تتخيل كم مرة نطقها؟ ولكم فتاة؟ فبالتأكيد هن في عينيه بحجم حبات اللب السوبر!
سارت معه كالمغيبة، حتى دخلا إلى القسم، كان "زيدان" بانتظارهما أمام إحدى الغرف الكبيرة، متعجبًا من عودة "سيرا" مرة أخرى، ولكن "يزن" سارع بتبرير الأمر:
-هخلص مع يزن ونروح نطمن على باباها، في جديد جوه مع نوح؟؟
هز "زيدان" رأسه نفيًا، وقال بتنهيدة عميقة:
-للأسف لا، لسه متوصلوش لحاجة، البنت اتخطفت على ماكنة صيني مش عليها لوحة، والشارع كله مفيهوش كاميرات إلا كاميرا السوبر الماركت واللي كان بعيد بشوية عن مدخل العمارة والبنت اتخطفت من قدام العمارة، والعيال اللي كانوا راكبين ملثمين!!
والكاميرا جايبهم من ضهرهم.
قال "يزن" بضيق:
-والعمل؟
وضع يده في جيب سرواله، بينما رد "زيدان" بجدية:
-متخافش القسم كله مقلوب عشانه، وأنا عملت اتصالاتي أصلاً بكام واحد في المرور، هنجيب العيال دي، وأنا فهمت نوح إن لو حد اتصل عليه أو على جد البنت يبلغني وأنا هتصرف، هما دقيقتين تلاتة وهيخرجوا بس أنا لازم امشي حالاً عشان شغلي.
تفهم "يزن" وقال بامتنان:
-معلش يا زيزو على طول معطلك...
قاطعه "زيدان" باستياء ساخر من أدبه الذي ظهر فجأة بوجود خطيبته المبجلة:
-قصدك على طول قارفني، ماتعملش نفسك محترم قدام خطيبتك، وماتتصلش عليا تاني، أنا لو اترفدت هيبقى بسببك وبسبب مليكة.
قالها وأشار لـ"سيرا" ملوحًا بالوداع لها، بينما هي حمدت ربها في سرها أنه لم ينطق اسمها وسط سخطه المنصب على "يزن"، الذي كان واقفًا متقبلًا ذلك بصدر رحب وكأنه معتاد على هذا المشهد!
تنهدت بحزن لأمر اختطاف الصغيرة، وقالت بصوت يغلب عليه الحزن الحقيقي:
-كنت سيبني امشي، وانت خليك مع صاحبك، أكيد محتاجك دلوقتي!
مال نحوها وهمس بنفس النبرة المغوية التي أسرت نظراتها المبهوتة:
-وانتي كمان يا حبيبي أكيد محتاجاني.
ضيقت عينيها وكادت تنهره لتفوهه المتعمد بتلك الكلمة، ولكن خروج عدة أشخاص من الغرفة جعلها تصمت وتأخذ خطوة للخلف.
وقف "يزن" في وجه رجل طويل، عريض المنكبين، يحمل وسامة رجولية شرقية، لكن الحزن الطاغي على وجهه كشف لها أنه والد الفتاة المختطفة، بجانبه كانت فتاة تصل إلى كتفيه، تستند عليه بإعياء، وعيونها منتفخة من شدة البكاء، ويدها متكورة بانقباض فوق صدرها المكلوم، وبجانبها رجل يبدو عليه أنه والدها، يمسك بذراعها الآخر.
سمعت "يزن" يقول بنبرة يغلب عليها العجز أمام حزن صديقه:
-ماتقلقش يا نوح ان شاء الله هنلاقيها والعيال دي هتتربى.
تفهم "نوح" مؤازرة صديقه بصمت حزين خيم عليه منذ أن اختطفت ابنته، مال عليه "يزن" وهمس:
-هوصل سيرا عند باباها في المستشفى وهجيلك؟
نظر "نوح" إلى الواقفة خلفه نظرة متعجبة، فبادره "يزن" بحمحمة خشنة:
-خطيبتي.
همس "نوح" أيضًا باستنكار خشن:
-انت خطبت؟!
أغلق "يزن" عينيه كناية عن الإجابة بالإيجاب، ثم قال بسخرية صدمت "نوح":
-خلينا مانركزش في خيبتي ونركز في مصيبتك دلوقتي.
انتبه "نوح" إلى شبه انهيار "يسر"، ومحاولة والدها المستميتة للاهتمام بها، فصوب تركيزه نحوها، ثم استأذن "يزن" وغادر مع عائلة زوجته ومحاميه ومحامي والدها أيضًا.
في تلك اللحظة، صدح صوت "سيرا" من خلفه وهي تقول بضيق وعتاب:
-مكنش له لزوم أبدًا تخليني معاك يا يزن، الموقف كله محرج.
التفت إليها وهو يرمقها بنظرة تحمل تسلية ساخرة تكرهها منه، غمز بعينيه، ثم جرها خلفه عندما قبض على كفها بقوة، مانعًا إياها من أي حركة تهرب من خلالها، فقالت بحنق طفيف وهي تسير خلفه بسرعة:
-اوعى ايدي، انت واخدني على فين؟
-هنكروز شوية بالعربية يا حبيبي؟
تردد في عقلها صوت الفنان "محمد هنيدي" من إحدى المسرحيات الشهيرة، وهو يقول بجديته الساخرة "الكلمة دي بتعصبني.. خلاص"
حقًا، كلمة "حبيبي" تلك تثير استفزازها، وأشياء أخرى لا تود التركيز عليها حاليًا.
دفعها داخل سيارته برفق، فقالت بتعجب مستنكر:
-يعني إيه نكروز مش فاهمة؟
جلس في مقعده، شغل السيارة، ثم انطلق بها:
-هنلف بيها!
صاحت مستنكرة، وقالت بعصبية:
-نلف إيه، أنا أبويا في المستشفى حضرتك، مش واخد بالك!!!
رمقها بنصف عين، وقال بابتسامة واسعة مستفزة:
-لا واخد بالي، اربطي الحزام ولا تحبي اربطهولك.
رفعت أحد حاجبيها وقالت بعناد لاذع:
-مش هربطه يا يزن.
شعرت بزيادة سرعته حتى كادت تصل إلى حد التهور، كان يقود بيد واحدة والأخرى تستند بإريحية على ساقه، فجأة بدأ يحرك السيارة يمينًا ويسارًا بسرعة جنونية، فمالت نحوه بجسدها رغمًا عنها، وتعلقت بذراعه قائلة بصراخ:
-يـزن بتــعــــمل إيـــه؟!!
نظر إليها وهي تتشبث بذراعه، وقال بنبرة ساخرة مالت إلى الجنون:
-هكون بعمل إيه، بنتحر ومالقتش غيرك يشاركني انتحاري!!!
أعاد حركته بسرعة أكبر وبأسلوب أكثر تحكمًا، فأغلقت عينيها بإحكام وأطلقت صراخها علنًا، ومن بين صرخاتها قالت بتوسل:
-يزن، اقف بطني قلبت بجد، انت بتعمل إيه؟
نظر إليها بتسلية وقال بانزعاج مصطنع:
-العربية شكلها بايظة، بتحدف لوحدها.
عقدت حاجبيها بعدم فهم، وفتحت عينيها لتنظر إلى عجلة القيادة التي يتحكم بها بيد واحدة، فقالت بذعر:
-ماهي لازم تحدف ما انت بتسوق بايد واحدة!!
رفع يده فجأة فأصابها الذعر، وقال:
-يعني ماسوقش وهي هتتعدل!!
أمسكت بعجلة القيادة ظنًا منها أنها تستطيع التحكم بالسيارة، ولكنها تحركت بجنون نحو أقصى اليمين، فصرخت بقوة وهتفت بذعر حقيقي:
-هنموت يخربيتك، الحق...
وفي اللحظة الأخيرة، أمسك "يزن" بعجلة القيادة وأعاد مسار السيارة، بينما ظل محافظًا على سرعتها العالية، جاءت سيارة من الخلف، وأطلق سائقها أبواقًا بطريقة معينة، ثم تقدم عدة أمتار عن سيارة "يزن".
تفاجأت "سيرا" بسماع "يزن" وهو يطلق سيلًا من الشتائم البذيئة تحت أنظارها المندهشة، وقال مخاطبًا السائق الآخر:
-انت بتقولي أنا كده يا ابن الـ ******.
صرخت "سيرا" باندهاش واستنكار:
-انت بتعمل إيه يا قليل الأدب؟ احنا اللي غلطانين كنا هنخبطه.
ظهر على ملامح "يزن" خليط من التسلية والجنون، وكأنه يستمتع بكل هذا الفوضى، بينما "سيرا" بدأت تدرك أن ركوبها معه قد يكون مغامرة غير محسوبة العواقب.
فسمعته يقول بغيظ مكتوم:
-ده شتمني بالكلاكس!!
اتسعت عيناها بدهشة وهي تنظر إليه بعدم فهم، غير مستوعبة سوى رغبته الجامحة في الانتقام، سارعت بوضع حزام الأمان وانتظرت أن تمر مناورات "يزن" المجنونة بسيارته السريعة ذات الإمكانيات المخيفة، تشبثت بيدها بمقبض الباب، بينما كانت السيارة تتحرك كالثعبان، تحاصر سيارة الرجل الذي حاول تفادي "يزن" بشتى الطرق.
أعلن الرجل عجزه عندما توقفت سيارة "يزن" فجأة أمامه، وكأنها سد منيع لا مجال لتجاوزه، أبعد "يزن" حزام الأمان عنه، واتخذ قراره بالنزول، فبادرته "سيرا" بصوت متوجس:
-يزن، انت رايح فين يا مجنون، الراجل معملش حاجة؟
أدار رأسه نحوها، ونظر إليها بعينين تلمعان بجنون مكبوت:
-لو خرجتي من باب العربية، هكسر راسك نصين فاهمة...
تجمدت في مكانها، وظهرت علامات الاستهجان على وجهها، فصرخت بغضب:
-أنا مش جارية عندك......
لكن "يزن" لم يُعرها اهتمامًا، أغلق باب سيارته بقوة حتى اهتزت نوافذها، ثم هبط نحو الرجل الذي نزل بدوره، وبدأت المشاجرة بينهما، تراشق الاتهامات والشتائم البذيئة ملأ الأجواء، بينما التفت السيارات من حولهما، محاولين إيقاف هذا الشجار الذي سرعان ما تحول إلى عراك بالأيدي.
راقبت "سيرا" المشهد من خلف الزجاج بخوف حقيقي، بينما كان "يزن" يتحرك كالثور الهائج، اكتشفت فيه جانبًا جديدًا؛ جنونًا قد يتفاقم ويبتلع كل من حوله.
انتهى الشجار بتدخل بعض المارة، وعاد "يزن" إلى سيارته يتنفس بغضب، وجهه عبارة عن كتلة من اللهيب المقتد، التزمت "سيرا" الصمت، بينما أوقف السيارة على جانب الطريق، وصمت ثقيل خيم عليهما، أثار ريبة "سيرا".
فكرت مليًا في الهروب، ولكن صوت أنفاسه العالية شل حركتها، بدا شخصًا آخر، ليس ذاك الذي عرفته في الأيام السابقة، شخصًا لا يُستهان بغضبه وانفعاله.
كسر الصمت بنبرة باردة، لكنها محملة بالتهديد:
-عارفة لو مكنتش اتخانقت معاه ونفست عن غضبي كان هيبقى غضبي ده كله عليكي!
التفتت إليه بحدة:
-عليا!! ماتهددنيش أنا مابخافش.
ضحك ضحكة جافة، وقالت بسخرية ثقيلة:
-اه ماتبصليش أنا مبخافش يا يزن؟!
مال نحوها، عيناه تضيقان بنظرة مشبعة بالاتهام، وملامحه تتصلب وكأنه يُحاصرها بحبل من الشك:
-ليه عملتي كده؟!
تراجعت في مقعدها قليلاً، وكأنها تحاول خلق مسافة أمان بينها وبينه، تظاهرت بالبراءة، ملامحها ترتسم عليها دهشة مصطنعة:
-عملت إيه؟
ازداد تقطيب حاجبيه، وكأن أعصابه مشدودة إلى حد الانفجار:
-ماتتستعبطيش!
عقدت ذراعيها أمام صدرها، محاولة الحفاظ على رباطة جأشها، وردت بعناد:
-هستعبط لما اعرف الاول، لو عندك حاجة قولها!
أغمض عينيه لثانية، وكأنه يحاول جمع شتات غضبه قبل أن ينفجر، ثم فتحهما مجددًا، وأطلق سؤاله بنبرة حادة كالسيف:
-ليه نزلتي صورتي كده، قاصدة إيه بالحركة دي؟
لمعت عيناها ببصيص من التحدي، وارتفع حاجباها بدهشة مفتعلة:
-انت زعلت؟! أنا كنت بهزر معاك.
رسمت ابتسامة جانبية على شفتيها، ولكن تلك الابتسامة لم تستطع إخفاء ارتعاشة خفيفة في صوتها.
نظر إليها بعمق، وكأنه يحاول اختراق قناع اللامبالاة الذي ترتديه، قال بنبرة بطيئة، مشبعة بالتهديد:
-انتي جريئة اوي!
تصلبت ملامحها، واستقامت في جلستها، ثم ردت بجرأة مُفتعلة:
-معنديش حاجة اخاف منها!! انت عندك؟
ارتسمت على وجهه ابتسامة باهتة، لم تحمل سوى السخرية المرة، زم شفتيه بغيظ مكتوم، وكأنه يُحاول كبح بركان الغضب في داخله، ثم تحدث بصوت خفيض لكنه ينضح بالجدية:
-هتستفادي إيه لما اتريقتي عليا؟!
-أنا قولتلك كنت بهزر!!
ولكنه لم يُبدِ أي استجابة، ظل يُحدّق بها، وكأن كل كلمة تقولها تزيد من اشتعال النار في صدره، كان الجو بينهما يزداد توترًا، وكأن كل حرف يُقال يُشعل شرارة جديدة في بركة الوقود التي تفصل بينهما.
فتقلصت ملامحه في سخرية مريرة:
-عارفة خوفك وكدبك ده هعتبره أكبر رد اعتبار ليا، مش هعاقبك ولا هضغط عليكي، كفاية أوي محاولتك لتبيسط الوضع، عشان انتي عارفة كويس إنه مش موضوع بسيط ولو واحد غيري كان رأيه هيبقى غير كده وأبسط حاجة كان نهى اللي بينك وبينه...
-وماله انهي احنا فيها، كل واحد يروح لحاله!
ابتسم ابتسامة خافتة ولكنها تحمل بين طياتها تهديدًا لا يُخطئه القلب:
-مش بمزاجك يا سيرا، وأنا عايز وهكمل!
-انت عايز إيه بالظبط؟
اقترب منها بهدوء يشبه العاصفة قبل أن تشتد:
-عايزك تتبسطي للي جاي، جاهزة.
أعاد تشغيل السيارة، لكن "سيرا" صرخت بانفعال:
-يزن ماتسوقش بسرعة.
ألقى عليها نظرة جانبية تحمل مزيجًا من السخرية واللامبالاة:
-كان ممكن تقوليها بأسلوب أهدا وابسط من كده!
تجاهلت حديثه وأمسكت ذراعه، وضعتها بقوة على عجلة القيادة وأمرته بلهجة حازمة:
-سوق بإيدك الاتنين لو سمحت.
رفع حاجبه بدهشة ثم همس بنبرة مثقلة بالتهكم:
-تحبي اطلع رجلي اسوق بيها هي كمان!!
زفرت بغيظ، وعادت إلى مقعدها، تعقد ذراعيها بقوة أمامها، فعاد الصمت يخيم على المكان، لكنه كسره بنبرة آمرة:
-امسحي الصورة ويا ريت الموضوع ده مايتكررش تاني، أنا مبحبش اللي بيتهاون معايا، أنا بضحك اه بهزر، دمي خفيف، بس حرفيًا قلبتي والقبر.
نظرت إليه باندهاش:
-انت مش ملاحظ انك عمال تهددني كتير!!
ابتسم ابتسامة باردة:
-لا أنا بنبهك بس مش أكتر، متستهاونيش بيا يا....
التفتت إليه بزجر طفولي:
-ماتقوليش يا حبيبي دي!!
ضحك بخفة:
-كنت هقول يا سيرا!! بس لو عايزة اقولها عادي خالص معنديش مانع، وعندي حاجات كتير تانية ممكن تبسطك!
تسارعت دقات قلبها، ولاحظت وقوفه أمام المشفى الذي يرقد به والدها، وقبل أن تخرج من السيارة، قالت بتحذير قوي وشرس:
-مش عايزاك تقولي أي حاجة منك، لأني متأكدة إنك قولتها للبنات اللي انت تعرفهم بعدد شعر راسك.
رد عليها بنبرة عميقة تحمل غموضًا:
-ماقولتش لحد يا حبيبي قبل كده، على فكرة!!
اقترب منها ببطء، ينثر جاذبيته الخاطفة في الأجواء المحيطة بهما، فاهتزت وتوترت ملامحها، بينما نبضات قلبها ترتفع بعنف، همس بنبرة رخيمة زعزعت ثباتها:
-ولا استحملت واحدة قبل كده زي ما بستحملك!
-يعني إيه؟
ابتلعت ريقها بصعوبة، وتوردت وجنتاها، فهمست بخجل لم تستطع إخفاءه، اقترب منها أكثر، حتى شعرت بأنفاسه تلامس بشرتها:
-يعني ماتتهوريش تاني، وخلينا نستمتع بخطوبتنا!!
داعبت الكلمات طرف لسانها، كانت على وشك أن تُطلقها وتُنهي الأمر برمته، أن تُخبره برفضها له، وتُعلن رغبتها الصريحة في الانفصال، لكن ثقل نظراته المشتعلة وهي تحاصرها، وتلتهم تفاصيلها بعينيه، قيد لسانها وكبل شجاعتها، حاولت إقناع نفسها بتأجيل القرار، متذرعة بأن الوقت غير مناسب، وأن عليها الانتظار حتى يستعيد والدها صحته.
فجأة، انتفضت جسدها الهش على وقع ضربة قوية على زجاج السيارة بجانبها، صرخة مكتومة ترددت في صدرها قبل أن تلتفت بسرعة، فترى "عبود" يُدخل رأسه إلى داخل السيارة بعد أن أنزل "يزن" الزجاج بحركة سريعة.
قال "عبود" بنبرة تتأرجح بين الدهشة والفضول:
-بتقولوا إيه ده كله؟
انعقد جبين "يزن" بغضب مكتوم، وزفر الهواء من بين شفتيه بضيق، ثم همس بصوت خفيض، لكنه مشحون بالغيظ:
-إخواتك دول ولا مخبرين أمن دولة!
جالت عيناه بين وجه "سيرا" الذي اشتعل بلون الخجل، ووجه "عبود" الذي ارتسمت عليه علامات الاستفهام، كان الموقف مشحونًا، وكأن الهواء بينهما قد تشبع بالكهرباء، ينتظر فقط شرارة صغيرة لتشتعل النيران.
حاولت "سيرا" السيطرة على الموقف، فابتسمت بارتباك وقالت:
-مفيش حاجة يا عبود، كنا بنتكلم عادي.
لكن "عبود" لم يُخدع بسهولة، ضيق عينيه بنظرة متفحصة، ثم عاد يُثبت نظره على "يزن" وكأن بينهما حديثًا غير منطوق.
رفع "يزن" حاجبه باستخفاف، ثم قال ببرود جليدي:
-مالك يا عبود، بتبص كده ليه يا حبيبي؟
ابتسم "عبود" ابتسامة صغيرة، لكنها تحمل وراءها ألف معنى، ثم قال:
-ولا حاجة، بس يعني طولتوا أوي هنا... قولت أجي أشوف في إيه.
ارتفعت وتيرة التنفس لدى "سيرا"، شعرت وكأنها عالقة بين فكي كماشة، طرفاها "يزن" بنظراته المشتعلة، و"عبود" بحدسه المتيقظ.
أطلق "يزن" ضحكة قصيرة، لكنها خلت من المرح، وقال:
-كنا بنتكلم عن شوية حاجات شخصية... مش لازم تعرف كل حاجة يا عبود!
رد "عبود" ببرود مماثل:
-لو الحاجة دي تخص أختي، يبقى لازم أعرف.
ساد الصمت لثوانٍ بدت وكأنها دهور، ثم فجأة تحركت "سيرا" بسرعة وفتحت الباب، قائلة:
-يلا يا عبود، نطمن على بابا.
تابعها "عبود" بعينيه وهي تخرج من السيارة، ثم استدار نحو "يزن" وقال بصوت منخفض لكنه مثقل بالتحذير:
-خليك فاكر إن سيرا مش لوحدها، ولو لمحت حاجة غلط، هتعرف إن أنا وقاسم مش مجرد مخبرين... إحنا بنعرف ناخد حقنا كويس أوي لو حد جه على أختي!
لم ينتظر الرد، أغلق الباب بخفة، وتبع "سيرا" إلى داخل المستشفى.
ظل "يزن" في مكانه، يراقب ابتعادهم من خلال الزجاج الأمامي للسيارة، عض على شفتيه، حتى كاد طعم الدماء يتسلل إلى فمه، اشتعلت في عينيه نار خفية، وكأنها تتوعد بما هو قادم.
كانت المعركة قد بدأت، لكن ساحة الحرب لم تتضح معالمها بعد ومن هم أطرافها!!
***
بعد مرور عدة ساعات..
في منزل والد يسر...
جلس نوح بالخارج، يضع كلتا يديه فوق رأسه، غارقًا في بحرٍ من الهموم، فيما تسرب العجز إلى أوصاله، تلاحقت في ذهنه صورٌ مظلمة، يتخيل صغيرته الرقيقة "لينا" في قبضة أشخاص غرباء، قلوبهم خالية من الرحمة، وأفكاره تشتعل بمشاهد التعذيب والترهيب التي قد تواجهها، بل راح عقله يجرفه إلى ما هو أبعد، إلى أشد الزوايا ظلمةً وإيلامًا.
دون أن يدرك، دفع المقعد الخشبي أمامه بمقدمة ساقه، فانقلب على الأرض مُحدثًا صوتًا مكتومًا، كادت دمعة أن تخونه، أن تنزلق فوق وجنته، لكنه مسحها سريعًا عندما اقتربت منه والدة يسر، قائلة بأسف:
-معلش يابني، أنا السبب....
رفع نوح عينيه الحمراوين إليها، قاطعًا كلماتها بصوت مبحوح يحمل أثقالًا من الانفعالات المكتومة:
-ما تقوليش حاجة يا حجة أمل، ده كان مكتوب...
جلست أمامه، تضع يدها أسفل ذقنها بحزن، عيناها معلقتان بالساعة المعلقة على الحائط، وكأن عقاربها تخطو فوق جمرٍ، تتمنى أن يُسرع الوقت، أن تعود صغيرة العائلة إلى دفء أحضانهم.
فجأة، اخترق صراخ يسر جدران الغرفة، ليُدرك نوح أن انهيارها قد اقترب مجددًا، ولا يعلم كم مرة انهارت في هذا اليوم وحده!
اندفع إلى داخل الغرفة، تحركه غريزته الحامية، ورغبته الجامحة في مساندتها، أغلق الباب خلفه دون وعي، واقترب من فراشها حيث كانت تبكي بصوتٍ عالٍ، تمتمت ببعض الكلمات الخافتة المتداخلة، لم يستطع تمييز شيء منها سوى اسم ابنتهما "لينا".
اقترب منها بحنان، مد يده ليربت على خصلات شعرها، يعيد ترتيبها إلى الخلف وهو يحتضنها أسفل ذراعه:
-اهدي يا يسر، اهدي وحاولي تمسكي أعصابك، عشان البيبي!
لكن... أي طفل يتحدث عنه؟ ذلك الصغير الذي يسكن أحشائها دون أن تشعر به، أهو حي أم لا؟ فالأحزان والمشاكل التي عاشتها في الأيام السابقة أنستها تمامًا أنها حامل! لم تكن تهتم بصحتها، ولم تشعر بأي من أعراض الحمل المعتادة، إلى هذا الحد تناست وتجاوزت مفاجأة حملها، لم تفكر به ولم تشعر بوجوده، حتى أنها لا تعرف في أي شهرٍ هي!
شعرت بيده تلامس بطنها، كان بارزًا قليلاً... أو ربما هكذا خُيل لها، أم أن ضعفها الشديد جعلها لا تُدرك أن هناك حياةً صغيرة تنمو داخل أحشائها؟
-يسر.
رفعت عينيها إليه، مزيج من الذعر والتوجس يكسو ملامحها، همست بصوتٍ متحشرج:
-هو أنا مش هشوفها تاني؟!
أغمض نوح عينيه بقوة، وكأنّه يُصارع وحشًا شرسًا يُحاول اقتلاع كل شيء حوله، لمجرد تخيّله فكرة عدم رؤية "لينا" مجددًا!
-لا طبعًا هترجع، أنا مش هسكت، وهنزل على النت حالاً مكافأة بمبلغ كبير لأي حد شافها أو يدلني على مكانها.
تمتمت بتفكيرٍ مشوش:
-مش ممكن الناس تستغلك ومحدش يكون شافها؟
ردّ نوح بثقة، وعزيمة لا تلين:
-أنا اعمل أي حاجة في سبيل إن بنتي تبقى في حضني تاني، حتى لو بعت اللي ورايا واللي قدامي!
عادت بنظرها إلى السقف، تغرق في شرودها، ثم التفتت إليه بتفكير، تبحث عن أي خيط يقودهم إلى صغيرتهم:
-نوح هو انت ليك أعداء؟
هز رأسه نفيًا، ويداه لا تزالان فوق بطنها، وكأنه يستمد الأمان من ذلك الصغير الذي لا يعي شيئًا، ربما لم يتكون بعد داخل أحشاء:
-لا، ماليش وفي حالي وانتي عارفة كده كويس!!
ترددت قبل أن تُلقي بما يعتمر داخلها، همست بحذر:
-مش...مش ممكن تكون واحدة عايزة تنتقم منك ..
نظر إليها نظرة معاتبة، وكأنها تُلقي كرة الاتهام في ملعبه، رغم أنه لم يُخطئ:
-لما اكون بعشم حد يا يسر، بس أنا قولتلك وبقولهالك المرة الألف أنا معنديش استعداد أبدًا اغضب ربنا، لو عايز حاجة بعملها في النور وعلنًا.
رن هاتفه فجأة، ارتجف قلبه، كان اتصالاً من رقم مجهول، أجاب فورًا واللهفة تحرق صوته، جاءه صوت رجولي متحشرج، بدا وكأنه يُغيّر نبرته عمدًا:
-دكتور نوح؟
-أيوه.
-طيب، بنتك أمانة عندنا، عايزاها تدفع خمسة مليون جنية، مش عايزاها تجار الأعضاء كتير ومحتاجين جثة صغيرة يلعبوا بيها.
شعر نوح وكأن قلبه توقف، وأنفاسه تتسارع كأنها تتسابق مع عقارب الساعة، بين الرجاء والخوف، بين الأمل واليأس، وقف الزمن عند تلك الكلمات التي حطمت ما تبقى من روحه.
______________
قراءة ممتعة ♥️🍍
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية غناء الروح) اسم الرواية