رواية علاقات سامة الفصل العشرون 20 - بقلم سلوى فاضل
آسفة لأن الفصل قصير، لكن حبيت ما اتأخرش اكتر من كده وإن شاء الله هحاول أنشر الجزء التاني خلال يومين، قراءة متتعة 🌹❤️🌹
وقفت تطالع الفراش بتمني، آهٍ لو باستطاعتها العودة إليه والاستلقاء! تذكَّرت اهتمام والدته بها وقت حملها الأول، ثم شحب وجهها بمرور ذكرى مكيدته وتعذيبه لها؛ فسالت دموعها رثاءً لحالها معه.
تحركت سريعًا تبدأ رحلتها للعذاب اليومي بأعمال المنزل، تأمل انهائها قبل عودته ولو بدقائق قليلة لتريح جسدها المنهك، قرأت قائمة الطلبات التي ألزمها بشرائها، فضَرَبتها الصَّـدمة لطولها، كيف سَتَحْمِل هذا الكم؟! المبلغ الذي تركه بالكاد يكفي، لم يترك نقود تستقل بها أي مواصلة، ستذهب للسوق وتغدوا سيرًا على قدميها، ترددت بعلقها جملته «هينزل بطريقة تانية، انتظري اللي جاي»، حاوطت بطنها تحْتَضِن جنينها بحماية وأغلقت مقلتيها متألِّمة، ثم أسرعت تتجهَّز لتبدأ مهامها.
تشعر بالتيه؛ منذ أمَد طويل لم تذهب لأي مكان دون سجانها، وها هي تقصد واجهة لا تعرف سبيلها، خطواتها ثقيلة، تتحرك بوهن، تسأل مَن تقابله عن السبيل لوجهتها، تتبع ارشاداتهم، تحاول أن تستمد الطاقة مِن نسيم الحريَّة لتواصل يومها.
بنفس الوقت، بدأ مؤنس يومه بحالة من النشاط، يتوق لرؤياها، جلس داخل سيارته يرفع رأسه باتجاه شقتها يُمني نفسه برؤياها، لم يكد يحيد ببصره فوجدها أمامه، وكعادته معها تغـزُوه مشاعر متناقضة، سعادة وحزن، فرؤيتها تحيه، كما يحزنه ويؤلمه تعبها المرسوم على وجهها، ضرب عجلة القيادة يفرغ غضبه، لا يعلم كيف يمد لها يد العون؛ لينقلها مِن العذاب للهناء، تبعها عن بُعد فلم تنتبه، وبالسوق جال بعينه المكان، يبحث عن وسيلة لمساعدتها، لمح سيدة تعمل على سيارة متهالكة وآخر يفاصلها بأجرة المشوار؛ فقاطعهما منهيًا جدالهما:
- قالت مش هينفع خلاص.
- ليه يا باشا؟ قطعت برزقي كان شوية ويوافق.
أخرج من جيبه ورقة فئة مائة جنيه، ثم عرض عليها مراده:
- اللي عايزه ياخد وقت أقل وفلوس أكتر، شايفة الست اللي هناك دي.
- اللي مش قادرة تمشي، مالها يا باشا؟ دي شكلها غلبانة زينا وفي حالها.
- عايزك تساعديها لازميها لحد ما تخلص وطلعي لها الحاجة لحد الباب، خدي دي ولما تخلصي ليكِ زيها.
- حسب المشوار والوقت.
- قريب ولو عايزة زيادة مش مشكلة، المهم أفضلي معاها لحد الباب.
عرض مغري؛ فأومأت موافقة أخذت المال وتوجهت إليها، افتعلت حديث تغلبت به على تجاهل طيف، التي استسلمت سريعًا؛ لشدة إرهاقها مع إصرار الأخرى، وبعبارات مجاملة ولسان لبق أصرت السيدة أن تُقِلها للمنزل، احمر وجه طيف خجلًا؛ فالنقود نفذت بالكامل، لم يبقَ منها جنيهًا، لم تنتظر السيدة موافقة طيف حملت الأغراض ووضعتها بالسيارة ودعتها مرحبة لتستقلها، بعد دقائق أصبحت طيف بقلب المنزل، رغم حرجها إلا أنها سعدت وحمدت الله على عونها؛ فلولا هذه الملاك لكانت طاقتها نفذت دون انتهاء تسوقها.
أما مؤنس فتابعهم بإشفاق على مَن ملكت قلبه، تمنى لو يستطيع تقديم ما هو أكثر، ثم ذهب لعمله بعد أن أتفق مع السيدة على مساعدتها كلَّما رأتها وهو سيتكفل بالمصاريف وبسخاء.
انهت طيف قائمة مهامها وحازت على بضع دقائق تختلي فيها بعض الراحة قبل عودة جلادها. توقع شهاب ألَّا تنجز كل ما حدد؛ يعلم أنه يفوق قوة تحملها، وحين وجدها انهته، لعبت برأسه الظنون.
تكرر الأمر لمدة ثلاثة أيام، خلالها انتقل مؤنس وسارة للبيت الجديد المقابل لطيفه الشارد، ومع خطوته الأولى بدأ ممارسة هوايته في تحسس طلتها من الشرفة، أو تتبع خطاها صباحًا أثناء ذهابها للسوق، أصبح واجب يومي قبل التحرك لعمله، لم ينتبه أو يكترث لسارة ونظراتها التي تكاد تحْـرِقَهما معًا، لم تتكبد أي عناء في ربط الأحداث واستنتاج سبب انتقالهما؛ ليكون بالقرب غريمتها التي شاركتها بمؤنس حتى في غيابها، فكيف بحضورها؟!!! توعدتهما داخلها، ستفعل كل ما يعذبهما ويجعل حياتهما قاتمة سوداء.
بالمساء، أعلن هاتف شهاب عن وصول رسالة، تغيرت معالم وجهه مع قراءة كلماتها، أظلمت عيناه وأسود وجهه وغلب عليه الغموض، دلف للشرفة الرئيسية حيث توجد طيف تتابع سلسة أعمال المنزل غير المنتهية، تضع الملابس تفردها على الحبال، نظر إليها بتدقيق، ثم جال بعينيه يبحث عن شيء ما بالطريق ثم بالعمائر المجاورة والمقابلة لهم، وكأنه يبحث عن شيء مفقود ولم يتمكن من العثور عليه، مِن شدة تعبها وإرهاقها لم تنتبه لدلوفه؛ فانتَفَـضَت عندما وجدته أمامها أخفضت وجهها دخلت تواصل مهامها، تبعها بترقب وصمتٍ مطبق.
لم يكن شهاب فقط مَن يتابعها، فمؤنس بات ينافسه، يتشوَّق لانتهاء عمله ليعود للمنزل، يتناول طعامه ثم يجلس خلف زجاج شرفته ينتظر طلتها، وانتفض قلبه مع انتفَـاضَتِها، وبمغادرتها للشرفة أيقن أن فرصة رؤيتها اليوم قد انتهت؛ وبالتفافه ليدلف لداخل المنزل وقعت مقلتيه على سارة تجلس مقابل الشرفة بترقب متحفز، حدثته بمراوغة لتتأكد من شكوكها:
- بطلت تدور على اللي ضاع منك وبقيت تتأمل الشارع كتير، يا تري زهقت ولا لقيتها؟
تجاهلها عامدًا واتجه لغرفته، استلقى ووضع كفيه أسفل رأسه، لا يفكر بسواها، هيئتها وملامحها الذابلة أو بالأصح الميتة تخبره عمَّا عانت ولا زالت، سؤال فرض نفسه على تفكيره، ألا تشعر به كالسابق؟! ابتسم لذكرى داعبت قلبه، عينيها التي تجول تبحث عنه وسط الجموع لشعورها بقربه، أنسيته؟! أم ماتت مشاعرها؟ أبعد أفكاره السلبية عنوة، سيساعدها أيًّا كانت مشاعرها، قطع استرسال أفكاره دخول سارة الغرفة، تسلط مقلتيها عليه تلاحقه بنظراتها، والاها ظهره مدعيًا النوم، لا يرد الدخول في أي محادثات غير مجديةً.
مر أسبوع اعتاد مؤنس بداية يومه بمتابعة طيف أثناء تسوقها، واعتادت طيف مساعدة السيدة، كما توالى وُرُوْد رسائل لهاتف شهاب تزيده قتامة وتزيد نظراته سَعِيرًا، حتى حدث ما لا يتوقع، كعادة مؤنس مؤخرًا خرج يتحسس خُطاها، يتأمَّل بسمتها الشاحبة التي تهديها للسيدة التي تعاونها، قطع تأمله رنين هاتفه الذي تجاهله بالبداية، لكن مع إصرار المتصل اضطر للإجابة، تملكته الصدمة؛ استشهد حماه والد سارة، وبمسئولية ضابط وزوج أسرع إلى سيارته متوجه لمكان الحادث، يوم طويل ومرهِق وتلاه العزاء، أربع ليالي غاب فيها عن طيفه.
طال غيابه وإن لم تعلم طيف بوجوده، فالسيدة تعلم وتنتظر منه ما يدفعه لتقي أولادها شر الحاجة، يومان عملت دون مقابل، لن تزيد يومًا فعلى عاتقها التزامات كُثُر وظنت أنه تراجع عن مساعدة الأخرى، عزمت أمرها إن لم تجده لن تستمر بما طلبه منها.
بصباح غائم حجبت الغيوم أشعة الشمس وحرارتها، بدأت طيف مهامها بتسوقها لمتطلبات البيت كما حددها شهاب، وبساحة السوق جالت بعينها تبحث عن ملاك راحتها، برؤيتها اقتربت منها بوجه بشوش تلقي تحية الصباح، قابلتها السيدة بفتور ثم ابتعدت، شعرت طيف بالإحراج؛ فانسحبت وبدأت رحلة تسوقها، التي امتلأت بالأشْـواك؛ فتحركها بما ابتاعت استَنْزَف قواها، خلال عودتها شعرت بالأعْـياء الشديد والإرهاق، كما استهلكت فترة زمنية طويلة، جلست على أقرب كرسي منهكة القوى تجَــاهِد لفتح جفنيها، تلتقط أنفاسها بصعوبة، قضت وقت تشجِّع نفسها لتنهض وتواصل أعمالها، حتى استطاعت بالنهاية تلبية نداء عقلها لتتجنب لهِــيب شهابها الحَــارق.
تتحرك بوهنٍ خائر، بشق الأنفس أنهت أعمالها، عاد شهاب مترقب يرمقها بعين صقر، بدى كمَن يتأكد مِن أمرٍ، إعياؤها الظاهر خلاف الأيام الماضية يُثير شكوكه، باختفاء ابنته داخل غرفتها لتبدل ملابسها، قابلها يغرس أصابعه بلَــحم كتفها:
- بصي لي، يا طيف.
نطقها بفحيح مرعب قبل أن يطلق عليها سهام نظراته تفتك بها، ارتجفت بين يديه كادت تبكي، انقذها منه صوت ابنتها:
- ماما أنا جعانة قوي.
تراجع خطوة ورسم على وجهه بسمة مزيفة قبل أن يجيبها:
- ماما هتحط الأكل حالًا.
مر اليوم بثقل تحت نظرات شهاب الحَــارقة وصفعاته التي تناثرت على جَـسَـدها كلَّما انفرد بها، استمر هاتف شهاب يستقبل رسائل تغَضَبه وتزيد بركانه المنصب على طيف، ويزداد حدة وعنف معها.
ثلاثة أيام مروا عليه دون رؤياها ومتابعتها، ثلاثة أيام وقلبه ينزف وجعًا لغيابه عنها، كل خليه به تطالبه بالعودة إليها واحتواء ألمها، غصـبًا ابتعد وغصْـبًا سيعود ليطمئن عليها، وليعطي السيدة المال لتستمر في معاونتها، تخيل حالة طيف إن لم تعاونها، تركهم خلسة وعاد لمنزله وقد احْتَـل غسق الليل السماء وانفض السوق، جلس يراقب عقارب الساعة، ينتظر تحدى الشمس للَّيل لتقشع ظلامه، قطع شروده رنين هاتفه، باسم والدته، أجابها مضطرًا، فهاجمته دون أن يردف حرفًا:
- ممكن افهم سايب مراتك في الحالة دي ورحت فين؟ ازاي جالك قلب تسيبها وهي مكسورة وحزينة!!! اوعى تقولي شغل!
- هي مش لوحدها، أنتِ معاها والكل حواليها، أنا هعمل أيه؟ وأصلًا العلاقة بينا فاترة، يعني لا هتترمي في حضني أخفف عنها، ولا هي بتهتم بالمشاعر.
- الكلام معاك لا يقدم ولا يأخر، أنت فين؟
- في البيت.
- أي بيت؟ وليه؟
- بيتي يا ماما، وهو أيه اللي ليه!! هو أنا محتاج سبب عشان ارجع بيتي!
- أيوه لما نكون في الظرف ده وتسيب مراتك وترجع البيت لازم يكون في سبب وقوي كمان، عيب يا مؤنس أنا ما ربتكش على كده، ساعة زمن تكون هنا مع مراتك، تاخدها في حضنك تواسيها، والله لو ما جيت بسرعة لأقاطعك باقي العمر!
صدرت عنه تنهيدة طويلة حائرة؛ فالوضع حرج، سارة بحالة انهيار لم يعِدها عليها قبل، وطيف تحتاجه هنا، وقف يطالع شرفتها من خلف الزجاج، وبعد فترة زفر بيأس، عاجز عن تقديم يد العون لها.
أيام تتوالي ببطء، تأكل مِن طاقتها، ورغم أنها تقل عن الأسبوع إلا أنها بدت لها كأعوام مريرة، هزلت واستنفذت طاقتها، تملكها الإعياء وتغلل بأوصالها، كل يوم تعجز عن إتمام جزء مما يكلفها به، تنال منه بغسق الليل ما يزيد وهنها وهنًا، وبهذا اليوم نفذت كامل طاقتها مع عودتها مِن السوق، حطت جسدها على الكرسي الذي قابلها، ولم تستطع حتى الرَّمش بجفنيها، وبعودته ارتَـجَـفت رغم إعيائها، صرخت حلا تناديها بخوف وقلق:
- ماما.
بينما حدَّجها شهاب بنظراتٍ حادة قاتمة، جال المكان بمقلتيه؛ فأدرك سبب انتفاضها، ليس المرض فقط كما ظنت ابنتهما، بسمة متهكمة سكنت جانب فمه، اليوم يوم الفصل، سينتظر ذهاب حلا لِتحضر درسها، ثم سيلقن طيف أصعب درس على الإطلاق، نطق لسانه يوجه حلا ويرسل لطيف رسائل خفية عمَّا سيلحق بها:
- ادخلى غيري هدومك، أنا مع ماما وهجيب أكل جاهز.
تابعها حتى أغلقت باب غرفتها عقب دلوفها، خطى نحو طيف بهدوء مخِـيف ونظرات مبهمة، خفق قلبها وشحب وجهها، تقابل وجهيهما لا يفصل بينهما سوى بضع سنتيمترات، يرشِـقها بنظراتٍ تخترقها وتحرقها، وبفحيح أردف:
- في حاجات ماعرفهاش ومش هعديها، هتاخدي الحساب بزيادة، صبرك عليَّا!
قبض بعُنْف على ذراعها يجبرها على الاستقامة وتتبعه، جرَّها إلى غرفتهما ثم دفعها على الفراش بغلظة، مغلقًا الباب خلفه تاركها تنتفض بِرُعْب جليِ، يصور لها عقلها الويلات، حاولت النهوض مرارًا ولم تقوَ؛ فتوترها وإعياؤها مع المجهود قضوا على كامل طاقتها.
جلست حلا معه ليتناولا الطعام، فسألت عن سبب عدم مشاركة طيف لهما، لم يدرك عقلها الصغير أن والدها يحْرِم والدتها تذوقه:
- هي ماما مش هتاكل معانا؟
- لا، ماما نايمة تعبانة، لمَّا تصحي تاكل، خلصي عشان ما نتأخرش عن معاد الدرس، لازم مواعيدك تكون مظبوطة بالثانية.
نبرة غَاضِبة رغم هدوئها، تعرف وتدرك توابع مجادلة والدها بعدها؛ فتابعت طعامها بصمتٍ، وقبل مغادرته دلف إلى طيف رمقها بوعيد وبأحرف مستَعِرة مُخِيِفَة هدَّدَها:
- اجي الاقي المكان نضيف وواقفة في مكانك منتظرة رجوعي، مفيش أكل ليكِ طبعًا، ويا ويلك لو لقيت غير كدة!
لم ينتظر سماع إجابتها رحل ليخلي البيت من سواهما، لينفرد بها ويجازيها بما تستحق كما يرى.
الحمد لله قدرت اخلص باقي الفصل اتمنى ينول رضاكم، كالعادة ما تنسوش الفوت وتعليق برأيكم 😊
🌹قراءة ممتعة🌹
»٢٠ ج٢«
جلست على الفراش بوَجَس ووهن، تتخيل لو كانت تحيا حياة طبيعية، تساءلت: لمَ حظها عاثر بالحياة؟ ماذا لو كان لها أبا أخر؟ وللغرابة تمنت أن يكون والدها كشهاب في تعامله مع ابنته! يهتم بها لا يشعرها بنقص، الوحيدة التي تشعر بحنانه وتنال دلاله، انتشلها من بحر أفكارها صوت فتح باب المنزل انتفضت بذُعْر، أسرعت تقف كما أمر، أنفاسها متلاحقة، تتزايد ضربات قلبها وتتسابق.
دلف بخطوات بطيئة مدروسة وطلة مُخيفة، يشن عليها حرب نفسية، يستغل هشاشتها، كما استغلها من اليوم الأول في علاقتهما، يضغط ليزيدها سلبية، وقف أمامها مباشرةً يسلط نظره عليها بنظرات قاتمة؛ فانكمشت على نفسها، تفكر كيف تحمي جنينها! هو لا يريده ولن يهتم به، تدعو الله وتتوسل إليه أن ينجيه مِن بطش أبيه، ثواني مضت جعلتها ترتعد أمامه وتنتفض، فاجأها بصــفعة رسمت خطوط حمراء محلها، أعقبها بكلماته اللاذعة:
- دوغري ومن غير لف، قولي كل المستخبي، قدامنا ساعة ونصف، ممكن أعمل كتير قوي ومفيش منقذ لكِ؛ فهاتي مِن الآخر، لأن القلم ده تسخين مش أكتر.
- تعبت وما قدرتش على المشوار، المجهود كتير عليا.
لم يرحم ضعفها ونبرتها الباكية، أو ارتِعَــادها، لطَـمها لطمتين متتاليتين دوى صداهما بالغرفة:
- وكده، بردو ما فيش جديد.
- عايزني أقول أيه طيب!
- حابه تطلعي أسوأ ما فيَّا ودايما تخليني أغير عاداتي معاكِ، تمام.
كلماته جعلتها بحالة ذُعْر شديدة؛ فعَـذَابه لا حدود له، انتبهت من تفكيرها على يديه المتجبرة تقيد يديها معًا، فاضت مقلتيها بسخاء ترجوه العدول عمَّا نوى، تتحدث فلا يجيب قصت ما حدث معها ولم يقتنع:
- بلاش أرجوك، والله ست في السوق كانت بتساعدني وبعدين بطَّلِت.
وكأنَّه لم يسمعها، دفعها على الفراش؛ فداهما دوار وكاد أن يُغشى عليها، استدعى وعيها ما حط على جسدها وصدرت عنها صرخة مدوية زلزلت الجدران، حاولت حماة نطفتها؛ فتقوقعت بوضع الجنين ووضعت يديها المقيدة حول مسكنه، تبني بجَسَدِها دروعٍ تحميه قدر استطاعتها، عاملها كالأسْرى، مع كل جَـلْدَة يلقي عليها جملة، وتزداد وتيرة فعله قوة مع إجاباتها:
- الحزام بيرجع الذَّاكرة يا طيف.
- والله يا شهاب هي الست اللي ساعدتني! لمَّا بطَّلِت ما بقتش بقدر أخلص وبتعب جامد، آه، كفاية، والله دي الحقيقة!
- وهي تعرفك منين؟
- ما اعرفهاش، والله ما أعرفهاش! آاااااه
- اصرخــي براحتك، بنتك مش هنا ومفيش حد يحوش عنك، قولي الحقيقة كاملة.
- والله العظيم دي كل الحقيقة! ارحمني بقي.
- اللي بيساعدك واحدة ولا واحد؟! مش شهاب ثابت اللي واحدة زيك تضحك عليه، قولي هو مين؟
- والله واحدة اللي ساعدتني حتى اسأل في السوق، هى بتشتغل هناك ومعاها عربية بتوصل بها، كفاية، كفاية!
- خليكِ، أدام بتكذبي، تحملي العِـقَاب.
- مش بكذب، والله مش بكذب!
انتهت قوة تحملها ولم ينتهِ جرمه؛ فلا نيَّة له للتوقف، توسَّلت له واستحلفته، ثم التجأت لله ليقتص منه:
- مش بكذب، وربنا ما بكذب، ارحمني بقى، حسبي الله ونعم الوكيل! منك لله!
- بتدعي عليَّا وتحسبني كمان! أنتِ اللي جبتيه لنفسك.
استمر حتى شعر بالرضي، قبل أن تفقد وعيَّها، ليس رحمة منه، لكن لتشعر بالألم من البداية للنهاية، ثم تركها فَرِيِسَة للأَلَم ينهَشُها، وجلس بغرفة المعيشة، أشعل سيجارته ناظِرًا للفراغ، وصلته رسالة من رقم غير معروف كما اعتاد بالأيام السابقة، وكان محتواها:
«صدقت وتأكدت إن كلامي صح!»
شغل تفكيره عِدة أسئلة، مَن الشخص الذي يساعدها؟ هل استطاع الضابط الوصول إليهم بتلك السرعة؟ أم هناك آخر لا يعرفه؟ متأكد إنها لا تكذب ولا تعلم مَن وراء مساعدة السائقة لها، لكن قبولها لمساعدتها تحدي لأوامره واستهانة به، جال بعقله سؤال عجز عن إجابته، مَن هو صاحب الرسائل التي يستقبلها منذ فترة؟ تحدث داخله يبني استنتجاته: «يا ترى مين؟ أكيد مش هو لأنه متأكد إني مش هرحمها، هي مش فارقة معايا، في كل الأحوال هرميها، بس كرامتي ما تسمحش بده، مش طيف اللي تدوس على كرامتي، هتشوف كتير ده البداية بس، اللي جاي كتير».
ابتسمت بانتصار، موت والدها لم يمنعها عن حيك مكيدتها، ومواصلة خطتها، التي تسير أفضل مما توقعت؛ فبالتأكيد نالت طيف الكثير.
لا زال في حيرته، أيخبره والده بما حدثه سامر أم يصمت؟! أيشاركهم دون علم والده؟! العديد مِن التساؤلات، علامات استفهام نمت بعقله دون إجابة، ابتسم ساخرًا مِن ذاته؛ فلا يوجد مَن يلجأ له إن ضل، أو اختلطت عليه السبل، داوم سامر كل الاتصال به والتودد إليه، يتبادلان أحاديث وذكريات الطُّفولة القليلة التي جمعتهما، يشتكي إليه سامر شدة والدهما، يؤكد له أنَّه المخلص الوحيد له، ازدادت حيرة حسن، بات يؤنب نفسه لسوء ظنه به.
بعد عودته من عمله، ومع بداية مُدَاهَمة الملل له، استقبل رسالة على هاتفه من سامر يطلب منه مُهاتفَته؛ ففعل.
- إزيك يا سامر، عامل إيه؟
- اللي يسمعك يفترك متصل عشان فاكرني مش أنا اللي طلبت منك، على العموم يا سيدي أنا تمام والحمد لله ادام أنتَ كويس يا أبو على.
سعد وانتشى قلبه؛ فقد اشتاق للحديث بحميمية مع إخوته، وتبادل الحديث معه بود وحبور:
- سامحني، اختلاف التوقيت وشغلي، مش بيخلوني عارف أكلمك، أنت كمان مش بتبقى فاضي؛ فبقيت أحرج أتصل.
- إيه الجو ده يا أبو على! احنا اخوات يعني تتصل براحتك وقت ما تحب، ولو نايم أصحى لك.
- أنا مش قادر أخد قرار، اصبر عليّا شوية.
- عشان كدة مش بتتصل!
تغيرت نبرت واتسمت بالجدية على غير عادته، وتحدث يرفع عن حسن الحرج كما فهم حسن من حديثه:
- بص يا حسن، أنا عرفتك عشان لما الموضوع يتعرف ما تزعلش، أصل ده مشروع مش هانخبيه كتير، أنا مش فاهم ليه مش راضيين تشارك معنا، أنت الكبير ومن حقك تعرف، كلمتهم كتير وما فيش فايدة، للأسف ماما رافضة وجودك في المشروع، ولمَّا فشلت اقنعهم قولت تشاركنا مِن وراهم، فلو أنت مش عايز خلاص، ومش هتضايق مني لمَّا تتعرف الحكاية، ده غير إني مش بكلمك للسبب ده.
ابتسم بسعادة غامرة، أخوه الصغير يهتم به، كم تمني تجربة هذا الشعور! وتذوق المشاعر الأخوية والأسرية، لا إرايًا خرجت منه كلمات الموافقة:
- ما تزعلش كده، مش لايق الجد عليك، أنا موافق، وكفاية اهتمامك، وأنك مش ناسيني.
- عمرك ما تندم يا أبو علي، المهم الفلوس اللي قولت لك عليها جاهزة.
- مش كُلها، الفترة اللي فاتت كنت بفرش الشقة، وبجمع أقساط العربية، والدنيا ماشية بالزق.
- لسه قدامنا وقت كفاية، لمَّا تجمعهم عرفني، انا أشتغل باللي معايا ولما احتاج منك المبلغ هقولك.
أخيرًا شعر بلذة الاهتمام، وامتن لسامر وموقفه الأخوي، لدرجة جعلته يتغاضى عن موقف والده، مر اليوم وعلى وجهه بسمة رضا وسعادة.
لا زال يشعر بتأنيب الضمير، لازمته صورة شيماء وهي فاقدة الوعي، علق بذاكرته شحوبها ودموعها العالقة بعينها، يراها بنومه وصحوته، يتابعها دون أن يشعر، هي تتردد كثيرًا على مكان عمله؛ فضغطها يباغتها كثيرًا بنوبات هبوط، كما تمر من أمام غرفته يوميًا بطريقها للمسجد، لاحظ اهتمام وسيم بها وتتبعه لها، لم يطمئن لفلعه بزميله منذ حطت قدميه المشفى وهو يتابع كل ما ينتهى بتاء مربوطة، توقع سوء نيته واكتفى بالصمت.
شعرت بالإعياء فتحركت نحو الطوارئ، وبهذه المرة اكتفت الطبيبة بإعطائها دواء تحسنت حالتها، وبطريق عودتها استوقفها صوت وسيم مناديًا، غضبت من طريقته المتعمدة لرفع الألقاب رغم اعتراضها الدَّائم، وتعمَّدت اظهار الضيق على قسماتها، بينما رسم وسيم ابتسامة عريضة على ملامحه أبرزت وسامته، انتبه رامي لندائه فاقترب منهما قليلًا يستمع دون لفت نظر الجميع:
- شيماء، شيماء استني.
- عاملة أيه دلوقت؟ أحسن.
تعمَّدت الصمت منتظرة باقي حديثه غير المرحب به، شعر بالحرج ولم يبدِ:
- بطمن بس، مش محتاجة حاجة، لما تتعبي تعالي على مكتبي بدل ما تروحي لأي حد.
- أولًا مش بكشف غير عند دكاترة سيدات
ثانيًا: اسمي آنسة أو أستاذة شيماء، ما ترفعش الألقاب يا دكتور، إحنا مش أصدقاء.
ثالثًا: مش فاهمة يعني إيه تطمن عليا؟! بأي مناسبة؟! إحنا مش أكتر مِن زملا من بعيد لبعيد.
- ليه كل ده؟ أنا نيتي صافية والله.
- واضح.
واصلت طريقها دون الالتفاف خلفها، أثارت حنقه، نوع من الفتيات لم يقابله من قبل، حاول إخفاء ضيقه، نمت على شفتيه بسمة ساخرة، ثم واصل يومه، غير متناسي إحراجه، يقسم أنه سينتصر.
ابتسم رامي برضى وسعادة غير مبررة، هي حقا مختلفة، تبدو قوية رغم هشاشتها أحيانًا، ولأنه عانى الخذلان، رأى حزنها مخفيًا داخل مقلتيها، كلماتها البسيطة عن جدها التي وقعت على سمعه من قبل جعلت بينهما قاسمًا مشتركًا، وفرضتها على تفكيره، بل وأحلامه أيضًا.
ما زالت نادية تتجنَّب الجميع، تهاتف والدها كل حين بحديث يتسم بالحدة والجفاء وتتغلب عليه الندية، كما يلقي عليها والدها وابل من الاتهامات:
- أنت فاكرة بمكالمتك دي برأتِ نفسك، أنت زي أمك، هي طردتها وأنتِ بترمي لها ملاليم كل أول شهر مِن فلوسها، وقافلة على الباقي عشان باسمك، فعلًا تربية إيدنا وجدك فشل في تغيرك.
- أنتَ اللي شايف الناس كلها زيكم، وبتقول كده عشان اديها فلوسها وأنت تاخدهم، ما هي مش هتقدر عليك، بس مش هيحصل صدقني.
- مش لما تصدقي نفسك، أنت طمعتِ في الفلوس، ما هي كتير بردو.
انتهت اتصالها وزفرت بحنق، سلط نادر نظره عليها بلوم وعتاب، تلاقت الأعين فهربت سريعًا، تعلم ما ينوي قوله، فكثيرًا ما يتحدثا بنفي الموضوع ولم يلتقيا، لكنه لن يمل حتى تعود إلى رشدها.
- قالك نفس الكلام.
- نادر من فضلك.
- لا يا نادية مش هاسكت، هفضل أكلمك بدل المرة ألف، لازم توفي بوصية جدك، وتسلمي لأختك أمانتها.
- هياخدها غَصْـب، مش هتطول حاجة، استحالة أقبل بده.
- ده الظاهر واللي بتحاولي تقنعي نفسك وتقنعيني به، بس الحقيقة إنك مش قادرة، نفسك غلبتك، جواكِ صراع، أنا حاسس بيكِ، ده اللي مخليكِ مش قادرة تقابليها، وهي كتير تتصل تتحايل عليكِ تشوفك، وانت دايما تعتذري وتتحججي بأي حاجة، خايفة تفتح موضوع الفلوس، خايفة تواجهيها أو تواجهي نفسك، أرجعي يا نادية قبل ما تضيعي أختك منك، أنتم سند بعض، أنا خايف عليكِ.
تركته ودلفت الغرفة هربًا، هي تهرب حتى من كل صوت داخلها، تحدث نفسها وتؤكد لها صحة ما تفعل: «أنا بعمل الصح، أكيد بعمل الصح».
دخل الغرفة بعد فترة وجيزة؛ فوجدها مستلقية وشاردة بعالم أخر، حين انتبهت لوجوده عدلت وضعها مدعية النوم، طالعها بأسف يتمنى عدولها عن فعلها قبل فوات الأوان، استلقى جانبها وضمها إليه:
- بحبك، وعمري ما اتخلى عنك مهما غلطتي، دايما في ضهرك.
•تابع الفصل التالي "رواية علاقات سامة" اضغط على اسم الرواية