رواية حتى اقتل بسمة تمردك (2) الفصل الرابع 4 - بقلم مريم غريب
حتى اقتل بسمة تمردك...للكاتبة مريم غريب💖
*****************************************************************
منذ الظهيرة ، كانا يتنزهان أمام واجهة البحر المقابل للمنزل الحجري الذي سيسكناه لمدة أربعة أيام ..
كان الجو باردا و لكنه ممتعا ، تمشيا إلي جانب بعضهما علي الرمال متشابكي الإيدي ، و من وقت إلي أخر كانا يتوقفان قليلا لمشاهدة منظر خلاب ، أو طائر غريب الشكل ، و لما بدأ الظلام يزحف ، عادا إلي المنزل في الحال ..
كانت"داليا"متعبة جراء رحلة السفر المرهقة ، و النزهة حيث ناضلت في المشي علي الأرض الوعرة ، و في الوقت نفسه كانت فرحة للإقتراب من"عز الدين"إلي ذلك الحد ..
و بينما كانت تحضر القهوة الساخنة لتقدمها إلي زوجها الذي إعتاد أن يشربها في ذلك الوقت ، شعرت برغبة في أن تشكره ، فقالت و هي تجلس بإسترخاء علي مقعد وثير قبالته بعد أن ناولته قدح القهوة:
-كانت بداية حلوة .. اليوم كان حلو اوي ، اه لو تفضل كده علطول.
إبتسم"عز الدين"إبتسامة لم تصل إلي عينيه ، ثم شرع في شرب القهوة الساخنة ، فيما كانت"داليا"تراقب باسمة جوزة العنق عنده تصعد و تنزل في رقبته الصلبه ذات العروق البارزة ..
و بعد أن مضي الوقت قليلا ، نهضت"داليا"متوجهة نحو المطبخ ، و قامت بإعداد وجبة طعام لكليهما ، و لما إنتهيا من الطعام ، تعاونا علي تنظيف الطاولة ، و تولت"داليا"تنظيف الصحون ، ثم إنضمت إليه ، حيث جلسا أمام موقد النار بقاعة الجلوس المظلمة ، إنغمسا في الحديث معا إلي درجة كبيرة و كأنهما لا زالا في مرحلة التعارف ..
ثم فجأة ، سألها"عز الدين":
-احكيلي عن طفولتك .. كانت عاملة ازاي ؟ كنتي مبسوطة ؟؟
لمعان ناعم أنار عينيها الشفافتين ، و راحت تقص عليه بعضا من سيرة حياتها:
-بابا و ماما الله يرحمهم كانوا متفاهمين و بيحبوا بعض اوي .. دلعوني كتير و حبوني اوي ، ماكنش ليهم غيري لحد ما تميت 5 سنين ، بعد كده جت اختي ياسمين بس ..
توقفت فجأة ، فقطب"عز الدين"حاجبيه ، و سألها محتارا:
-ايوه ؟ بس ايه ؟؟
أجفلت"داليا"و أراحت رأسها إلي مسند المقعد ، ثم أغمضت عينيها ، و كأنها تحاول أن تتخلص من شعور يرهقها ، بدا وجهها شاحبا فجأة ، و إرتسمت معالم الكآبة علي وجهها لتؤكد له أن كليهما نهلا من مرارة الحزن في تلك المرحلة من العمر ..
ثم فتحت عينيها ، و بحزن مرير أجابته:
-مات بابا .. بعد ما اتولدت ياسمين بشهر واحد.
صمت"عز الدين"قليلا ، ثم عاد يسألها في إهتمام و لطف:
-مات ازاي ؟؟
قضمت"داليا"شفتها بقوة ، ثم أجابته و قد بح صوتها:
-كان عيان .. كان عنده كسور في الشرايين و قلبه كان تعبان.
ثم تابعت ، و هي تحدق أمامها في اللا شيء و كأنها تري الأن أمام عينيها ما حدث منذ سنوات طويلة:
-في يوم تعب اوي .. فنزلنا معاه كلنا في الليل انا و ماما و ياسمين اللي كانت لسا حتة لحمة حمرا ، وقتها و لا مستشفي قطاع عام قبلت تسعفه ، فروحنا لمستشفي تانية قطاع خاص ، و بردو ماقبلوش يسعفوه.
-ليه ؟؟
سألها مقطبا ، فأجابته و الدموع تتلألأ بعينيها:
-كانوا عايزين مبلغ كبير يتدفع قبل ما ندخل ، ماكنش معانا المبلغ ده وقتها .. و ماكناش عارفين نعمل ايه ، فرجعنا البيت ، و تاني يوم كان بابا مات .. بس لو كان معانا المبلغ ده كان عاش.
إنتهت من سرد التفاصيل ، ثم أحنت رأسها و راحت تنتحب بصمت ، فنهض"عز الدين"من موضعه ، و تقدم نحوها ، فأمسك بكتفيها و أوقفها علي قدميها ، و بدون أن ينتظر مال عليها و عانقها ، ثم غمغم بخفوت:
-داليا .. داليا هو عمره خلص لحد كده ، حتي لو كان دخل المستشفي و رجع البيت معاكوا و هو كويس ، كان عمره هيخلص في نفس الميعاد بردو.
ثم أبعدها عنه قليلا ، و أخذ وجهها بين راحتيه ، و نظر بعمق في عينيها ، بينما ترقرقت الدموع حزينة في مآقيها ، فقال و قد لانت نبرته
كثيرا ، و هو يمسح بيده علي شعرها:
-مش انتي لوحدك اللي عيشتي ظروف قاسية يا داليا .. انا كمان عيشت ظروف يمكن أسوأ من ظروفك ميت مرة.
هدأت قليلا و راحت تتأمل تعابير وجهه ، فهز رأسه بشيء من العصبية ، و قال:
-خلاص .. احنا مش جايين نكتئب ، تعالي.
لم يتسني لـ"داليا"الوقت للإحتجاج ، فأمسك"عز الدين"بذراعها و جذبها خلفه ، فسألته بنبرة متهدجة:
-علي فين ؟؟
لم يجيبها ، بل قادها إلي حجرة النوم دون كلام ، فيما مضت يداه تعزفان ألحانا علي منعطفات جسدها ، حيث تبددت مخاوفها و ذكرياتها ، في الليل الدافيء المظلم ...
***************************************************************
في الصباح التالي ، ذهبت"عبير"إلي الجامعة ، و لما أنهت محاضراتها ، و كانت علي وشك مغادرة قاعة المدرجات ، إستوقفها صوتا:
-عبير !
توققت ، ثم إستدارت مسرعة نحو مصدر الصوت ، فإبتسمت عندما إلتقت عيناها بعيني الدكتور"أمجد"الذي يُدرس لها إحدي المواد ... :
-نعم يا دكتور ؟؟
-عايزك دقيقة لو سمحتي !
قال و هو يجمع حاجياته من فوق الطاولة أمامه ، فهزت"عبير"كتفيها ، و تقدمت نحوه ، كانت القاعة فارغة عندما عاد ينظر إليها من جديد ، فقال و هو يحدجها بإبتسامة خفيفة:
-اولا عايز اقولك حمدلله علي سلامتك ، كنت سمعت انك مريضة اوي في اواخر السنة اللي فاتت عشان كده ماقدرتيش تدخلي الامتحانات.
منحته"عبير"إبتسامة عذبة ، ثم قالت تشكره:
-متشكرة جدا يا دكتور علي اهتمامك الله يسلمك.
-العفو يا عبير لا شكر علي واجب ، بس انا ملاحظ تغيير جذري حصلك السنة دي.
قهقهت بخفة ، ثم قالت:
-طب اتمني تكون لاحظت تغيير ايجابي مش سلبي.
هز رأسه ، و قال باسما:
-لا لا ايجابي طبعا ، انتي بقيتي طالبة مجتهدة ، و في الحقيقة انا مستغرب جدا انتي طول سنين الدراسة اللي فاتوا ماكنتيش كده.
ثم صاح متذكرا:
-و اه نسيت اباركلك صحيح .. الف مبروك يا عبير.
-مبروك علي ايه يا دكتور ؟؟
سألته مقطبة ، فأجابها:
-علي جوازك .. سمعت بردو السنة اللي فاتت ايام الامتحانات انك اتجوزتي ابن عمك.
هزت رأسها مرارا ، و قالت:
-كنت متجوزة فعلا.
-كنتي !!
علق متسائلا ، فأجابته:
-ايوه.
قطب حاجبيه ذاهلا ، و سألها:
-معقول اتطلقتي بالسرعة دي يا عبير ! ليه كده ؟؟
إبتسمت بخفة ، و أجابته:
-النصيب.
ثم تابعت ممازحة:
-عقبالك انت يا دكتور كل اللي في الدفعة نفسهم يشوفوك في القفص الذهبي الدفعات السابقة ما لحقوش.
فضحك بخفة ، بينما راحت تقهقه بمرح ، و كان يتأملها باسما ...
****************************************************************
خرجت "ياسمين"من غرفتها حاملة الصبي بين ذراعيها ، و ما كادت تخطي بقدمها في إتجاه الدرج حتي أتاها صوتا هاتفا بإسمها جعلها تقفز من موضعها مذعورة ، فإلتفتت بعنف إلي مصدر الصوت ، لتجد"عمر"يقف في مواجهتها باسما ، فعنفته عابسة:
-ايه عمر ده !!
ثم إنتبهت فجأة إلي صراخ"عدنان"الذي علا نتيجة فزعه من ظهور عمه المفاجيء .. :
-كويس كده ؟؟
هتفت"ياسمين"حانقة ، ثم راحت تهدهد"عدنان"و تخاطبه بخفوت و لطف ، حتي هدأ تماما ، فحولت نظرها إلي"عمر"و سألته:
-فين عبير ؟؟
-راحت الجامعة.
عبست"ياسمين"قائلة:
-اتأخرت اوي.
-في ايه بس ؟؟
سألها بهدوء ، فأجابته متأففة:
-لازم اروح الكلية دلوقتي عندي امتحان عملي.
ثم صاحت فجأة:
-طيب بص خده خليه معاك و ابقي سلمه لعبير لما ترجع.
ثم ناولته"عدنان"بسرعة ، و كادت تفر من أمامه فإستوقفها مرة أخري:
-ياسمين استني.
عادت تنظر إليه ، و سألته بضيق:
-عايز ايه يا عمر ؟ بقولك عندي امتحان و مستعجلة.
تلعثم قائلا:
-كنت .. كنت عايز اقولك بس لو كنتي لسا زعلانة مني .. ماتزعليش.
-زعلانة منك !
هتفت مقطبة ، ثم سألته:
-و انا هزعل منك ليه ؟؟
-عشان اخر مرة اتكلمنا شديت معاكي و ...
-لا خالص يا عمر انا مش زعلانة ابدا.
قاطعته باسمة ، و كاد يتكلم ، ففرت من أمامه مسرعة ..
بينما تنهد بثقل ، ثم إنتبه فجأة إلي"عدنان"الذي راح يعبث بوجه عمه بأصابعه الصغيرة ، محاولا فقأ عينه .. :
-ايه يا استاذ براحة ده وشي.
قطب"عدنان"حاجبيه ، و زم شفتيه في إستياء ، فإبتسم"عمر"قائلا:
-طب خلاص يا عم ماتزعلش اوي كده .. تيجي ننزل نلعب سوا بالكورة ؟؟
إنفرج ثغر الصبي بإبتسامة عريضة لمداعبة عمه ، فقبله"عمر"ثم قال:
-يلا يا سيدي.
ثم أخذه يلاعبه بحديقة القصر ...
***************************************************************
غادرا في الصباح الباكر ..
بعد أن قضيا أربعة أيام بقلب الصحراء ، شعرت"داليا"بالأسف لإنتهاء المدة ، كما شعرت بالسرور العارم أيضا لإنها ستري إبنها بعد أطول فترة غياب قضتها بعيدا عنه ، كم إفتقدته ، و كم تتوق إلي ضمه بين ذراعيه ، رائحته لا تزال بأنفها ، تبتسم كلما تذكرت إبتساماته ، و ضحكاته ، و حتي التمتمة الغير مفهومة التي يصدرها ، و التي تسطتيع"داليا"وحدها فهمها ، كل شيء يخص إبنها ، تفتقده ...
و لما وصلا أخيرا إلي القصر ، و عبرا بالسيارة البوابة الكبيرة ، إرتسمت علي وجه"داليا"إبتسامة عريضة مفعمة بالشوق لرؤية"عدنان" ...
بينما"عمر"و"عبير"يقفان بالمسبح أمام بعضهما ، و يتقاذفان"عدنان"الذي وضعا حوله طوق من البلاستيك المضغوط بالهواء ، فكان الطفل بأمان تماما ، كما أنه راح يطلق صياح الفرح ، و أحيانا صراخ الخوف ، فيما راح"عمر"يقهقه بصوت مرتفع عندما تمسك"عدنان"بشعره محاولا التسلق علي كتفيه خاشيا الوقوع في الماء ..
لتظهر"داليا"في تلك اللحظة يتبعها"عز الدين" ... :
-ابني !!
هتفت"داليا"صائحة ، فإنتبهوا الثلاثة إليها ، إلا أن"عدنان"راح يصرخ بفرح عندما شاهد والديه ، كما راح يضرب المياه بيديه طالبا الذهاب عند أمه ..
بينما أخذ"عمر"الصبي بين ذراعيه ، و أشار لأخيه و زوجته قائلا:
-اهلا .. حمدلله علي السلامة ، اخيرا وصلتوا.
-بقي كده يا عمر ؟ بتعمل في الولد كده ؟ طلعه لو سمحت اديهولي.
قالت"داليا"ذلك منفعلة ، فضحك"عمر"بقوة ، بينما خرجت"عبير"من حوض السباحة و إتجهت نحو"داليا"ثم ربتت علي كتفها باسمة و قالت:
-اهدي بس يا داليا ماتخافيش كده ، ده ابن اخونا بردو اكيد مش هنأذيه احنا كنا بنلاعبه من الصبح و كان بيعيط عليكوا
و مش راضي يسكت فقلنا نعمله حاجة جديدة عشان يبطل عياط بس.
-الجو برد عليه.
هتفت مقطبة ، بينما تدخل"عز الدين"باسما:
-سيبيهم يا داليا .. خليهم يقووا قلبه شوية.
-انا ابني قلبه قوي منغير حاجة علي فكرة.
قالت"داليا"حانقة ، ثم مدت يديها إلي"عمر"الذي ناولها الصبي ضاحكا ، بينما أخذته"داليا"بين ذراعيها و مضت به إلي الداخل و هي تضمه و تقبل وجناته و تخاطبه هامسة ، فهز"عز الدين"رأسه باسما ثم تبعها ، فيما شعرت"عبير"بالبرد فلحقت بهما إلي الداخل في الحال ، بينما راح"عمر"يجفف جسده بمنشفته ، ثم وضع علي كتفيه إزاره ، و عندما إستدار ليلحق بالباقية ، إصطدم بـ"ياسمين"التي وقفت في مواجهته عابسة الملامح ، فرمقها"عمر"في تساؤل قائلا:
-ياسمين ! في حاجة ؟؟
لم تجبه ، بل ناولته مجلة صحفية ، فتصفحها متنقلا بنظره بها ، حتي وقعت عيناه علي خبر جمد الدماء بعروقه ....
يتبع ....
- يتبع الفصل التالي اضغط على (حتى اقتل بسمة تمردك) اسم الرواية