رواية حتى اقتل بسمة تمردك (2) الفصل العاشر 10 - بقلم مريم غريب
لم يمر وقت كثير و خرج الأطباء جميعهم ، فنهض"عمر"واقفا و علامات القلق تغزو وجهه ، بينما أقبل عليه الطبيب ، ثم مد يده و ربت علي كتفه قائلا بآسف:
-البقاء لله.
إتسعت عينا"عمر"في ذهول ، و هز رأسه مرارا في عدم تصديق ، فأمسكت"ياسمين"بذراعه ، وربتت علي كتفه بإشفاق ، بينما إندفع"عمر"من مكانه راكضا ، ثم تجاوز غرفة العناية ، تبعته"ياسمين"علي الفور ، فيما تجمد هو بموضعه عندما رأي أمه ممددة فوق ذلك الفراش المعدني ذا الأغطية البيضاء ..
تقدم"عمر"صوب أمه بخطي وئيدة مترددة ، حتي وصل إليها ، فحدق بوجهها مليا ، بدت و كأنها نائمة ، و لكنها أكثر شحوبا ، و إصفرارا ، فقد هرب الدم من لونها ..
مد"عمر"يديه ، وأخذ يد أمه بين راحتيه ، فشعر ببرودة بشرتها ، تلك السيدة الرقيقة الحنونة ، فقدت دفئها ، و رونقها ، و هنا فقط أيقن أنها حقا رحلت
فتلآلآت الدموع بعينيه ، و لم يعد قادرا علي حبسها بجفنيه أكثر ، فأطلق لسيل دموعه العنان ، فيما تهاوت قدماه ، و جثي علي الأرض منهارا ، و هو ينشج بالبكاء المر ..
فجثت"ياسمين"بدورها إلي جانبه ، ثم راحت تواسيه في لطف قائلة:
-بس يا عمر .. اهدا .. مش كده شد حيلك.
-امي .. امي يا ياسمين.
ردد باكيا ، فبكت"ياسمين"رغما عنها ، و قالت:
-ادعيلها يا عمر .. و بلاش تعمل في نفسك كده.
تعالت همهمات بكائه أكثر ، فما كان بها إلا أن تغدق عليه مزيدا من عطفها ، و لطفها ، علها تستطع تزويده بالصبر و التماسك ...
*******************************************************************
مر إسبوعا علي ذلك القصر البيهيج المترف الذي بات كئيبا حزينا ،،
إنقلبت أحوال جميع أفراد الأسرة رأسا علي عقب ، حيث إضطر الجميع أن يخضعوا لشعور المرارة و الآلم الذي غلف الأجواء ..
لم يعد"عز الدين"إلي المنزل ، منذ إضطراره لمواجهة أمه تلك الليلة ، فتأثرت"داليا"نفسيا لغيابه ، شعرت بفراغ رهيب ، كما فقدت شهيتها تجاه كل شيء ، خاصة لأنه أبدي غضبه منها حيث رفض الحديث معها نهائيا ، فقط وجود"عدنان"قربها هو ما كان يهون عليها الآسي الذي تكبدته طوال ذلك الأسبوع
علي الطرف الأخر ، كان"عمر"منفرد بنفسه داخل غرفته خلال تلك الأيام السبع الفائتة ، غمره شعور هائل بالندم جعله غير قادرا علي إستعادة رباطة جأشه مجددا ، لقد تهشمت عفويته المحببة ، و قد خارت عاداته المرحة ..
إنطفأ بريق عينيه البنيتين الجميلتين ، كما تقيد بالصمت أيضا ، فيما تعددت محاولات"ياسمين"اليائسة للحؤول دون إسترساله في الحزن أكثر ، و لكن عبثا ذهبت كل محاولاتها ، فهو منذ وفاة أمه ، تغيرت أحواله كثيرا ، نفسيا ، و بدنيا ، فقد هزل جسده ، و شحب لون وجهه ، و لم يعد به شيئا من قديم صفاته علي الإطلاق ...
بينما كانت"عبير"أخفهم حزنا ، و إضطرابا ، فهي لم تعهد أمها ، و لم تذكر عنها أي شيء ، كل ذكرياتها تضم أخويها و "خالد"حيث نشأت بينهم ، حتي إمتشقت قامتها و أصبحت شابة يافعة ، و لكنها لم تستطع إنكار شعورها المتعاطف و المنحاز إلي والدتها ، فقد قسي شقيقها عليها بدرجة كبيرة دون أن يهتم بعواقب أفعاله التي إنعكست علي توابع مرضها ..
كانت تجلس"عبير"قبال"خالد"إلي مقعد عاجي وثير بقاعة الجلوس ، لم تكن مستعدة بعد لملاقاته ، و رغم ذلك سعدت برؤيته ، و لكنها نجحت في عدم إظهار ذلك له ، حيث تبادلت معه حديث جامد ، متقطع ، بينما بدا هو مذبذب تلك المرة ، إذ لم يستطع ضبط إنفعالاته كما إعتاد أن يفعل مؤخرا ..
نظراته المرتبكة ، لهجته المختلجة ، و حركاته المتوترة ، كل هذه أشياء أوضحت لـ"عبير"مدي تأثره بغيابها عنه ، و ولعه بها ، و تلك أمور لطالما سهرت ليالٍ تفكر فيها ، و لكنها ما زالت متمسكة بقرارها ، إلا إذا نجحت خطتها الجهنمية التي رتبت لها بالغش ، و التحايل ، و كم شعرت بالآسف لذلك ، و لكن ما من حل أخر .. :
-و انتي عاملة ايه في دراستك ؟؟
قال"خالد"متسائلا ، فأجابته في هدوء:
-الحمدلله ، كله تمام.
أومأ رأسه مرارا ، ثم عاد يسألها:
-مش محتاجة اي حاجة طيب ؟؟
-اي حاجة زي ايه ؟؟
-فلوس مثلا ، المفروض انك مراتي يعني و مسؤولة مني.
إبتسمت"عبير"بخفة ، ثم شكرته برقة:
-شكرا يا خالد ، انا مش محتاجة اي حاجة .. بس اكيد لو احتجت هطلب مساعدتك.
تنفس بعمق ، وقد غمره سرور عارم جاهد في إخفاؤه ، ليس بسبب كلامها ، و إنما لتأكده بإنها قد نست فكرة طلاقهما .. :
-ماجبتش عز الدين معاك ليه يا خالد ؟؟
كان هذا صوت"داليا"التي جاءت فجأة دون تأهب ، فيما تطلع إليها"خالد"في إستغراب ، ثم سألها مقطبا:
-اجيبه منين ؟؟
-تجيبه منين !!
هتفت"داليا"في تساؤل مستنكرة ، ثم عادت تسأله:
-هو مش قاعد عندك ؟؟
أومأ"خالد"رأسه صائحا:
-اه هو كان قاعد عندي فعلا.
-كان ! يعني ايه ؟؟
أجابها"خالد"باسما:
-اصله سافر.
-سافر !!
هتفت"داليا"في صدمة ، بينما تابع"خالد"قائلا:
-اه ، راح ريو يتمم ورق صفقة مهمة اوي ، هو المفروض كان يفضل هنا و انا اللي اطلع مكانه ، بس لاقيته غير رأيه فجأة الاسبوع اللي فات.
-بس ازاي يسافر منغير ما يقولي ؟؟
تساءلت"داليا"بخفوت مقطبة ، بدت و كأنها تخاطب نفسها ، حيث إستدارت ، و عادت أدراجها و هي لا زالت تتحدث إلي نفسها ..
بينما تنهدت"عبير"بثقل ، ثم قالت و هي تحدق بعينا"خالد":
-محدش عرف عز الدين ده الا و تعب نفسيا يا خالد.
ثم منحته إبتسامة عذبة ، فبادلها البسمة عينها ...
*********************************************************************
-انا بجد تعبت معاك.
قالت"ياسمين"ذلك في ضجر مصطنع و هي تجلس إلي جانب"عمر"فوق آريكة غرفته الصوفية ، ثم تابعت:
-مش كده يعني يا عمر قدر اني واحدة دكتورة سايبة مذاكرتي و لازقالك ليل نهار و بحاول اخليك تفك.
لم يجبها"عمر"بل ظل صامتا ، و جامدا كما هو ، فزمت"ياسمين"شفتيها في عدم رضا ، ثم قالت:
-يعني هتفضل ضارب البوز ده كده كتير ؟ اوكيه .. براحتك يا عمر ، بس خد بالك بقي من هنا و رايح خلص الود بينا ، و انا مش عايزة اكلمك تاني خالص اصلا.
و هبت واقفة ، و ما كادت تخطو إلي الأمام بعيدا عنه ، فقد قبض علي رسغها ، و أعادها إلي مكانها مجددا ، ثم أخيرا فتح فمه ، و قال بلهجة صارمة:
-اقعدي يا ياسمين و كفاية كده بقي.
زفرت"ياسمين"في ضيق ، ثم راحت تخاطبه بجدية:
-انا بردو اللي كفاية يا عمر ؟ بتقولي انا كفاية ؟؟
قطب"عمر"حاجبيه ، و نظر أرضا ، فمدت"ياسمين"يدها و لامست لحيته التي نمت كثيرا ، ثم وبخته قائلة:
-عاجبك منظرك ده ؟ عاجبك الوضع اللي انت فيه ؟ هتفضل كده لحد امتي ؟؟
لم يعطها جوابا ، فعادت تسأله بإلحاح:
- ما ترد عليا ساكت ليه ؟؟
-عايزة ايه يا ياسمين ؟؟
صاح"عمر"بعصبية بالغة ، ثم تابع بنبرة أقل حدة:
-انا تعبان و محدش حاسس بيا ، مخنوق و قرفان من نفسي .. كل ما بفتكر اني جيت عليها في مرة بـ ...
-هي اكيد مسمحاك و مش زعلانة منك يا عمر.
قاطعته"ياسمين"في لطف ، و أضافت:
-و بعدين حزنك ده لازم ينتهي ، كل يوم بيعدي عليك حالتك دي بتطور اكتر و بتبقي اسوء ، مامتك مش هترجع خلاص يا عمر ، و غلط انك توقف حياتك و تهمل في مستقبلك بالشكل ده ، ماتنساش انك لسا طالب ، و كمان انت فاتتك حاجات كتير جدا طول الفترة اللي فاتت .. يعني جه الوقت بقي انك ترجع تركز تاني في دراستك.
-مش هقدر اركز في حاجة يا ياسمين.
قالها بصوت منخفض ، فإبتسمت"ياسمين"بخفة ، ثم غمزت بعينها مرحا ، و قالت:
-ماتقلقش يا سيدي ، انا هساعدك.
إبتسم"عمر"رغما عنه ، و سألها:
- هتساعديني ازاي بقي ؟؟
-هشجعك و هفضل جنبك ، مش هاسيبك الا لما ترجع تقف علي رجليك من تاني.
مد"عمر"يده ، وأخذ يدها ، ثم رفعها إلي فمه ، و طبع قبلة رقيقة بباطن كفها ، و قال:
-ربنا يخليكي ليا يا سو.
تخضبت وجنتيها بحمرة الخجل ، و لكنها جاهدت و منحته إبتسامة رقيقة ..
******************************************************************
-يا دكتور مافيش داعي للاستعجال ، و بعدين اخويا سافر و لسا مارجعش.
قالت"عبير"ذلك تخاطب دكتور"أمجد"هاتفيا ، بينما إحتج برقة قائلا:
-ما بلاش تقوليلي دكتور دي يا عبير ، ارفعي الالقاب و ناديني بإسمي عادي.
أطلقت"عبير"شهقة قصيرة ، ثم قال:
- يا خبر .. لألأ ماقدرش يا دكتور.
-ليه بس يا عبير ؟ ما انتي لازم تتعودي علي كده من دلوقتي ، و لا انتي ناوية تعامليني برسمية بعد الجواز بردو ؟؟
قهقهت"عبير"بخفة ، ثم عادت تقول:
-مش لما الجواز يتم الاول يا دكتور.
- ان شاء الله هيتم ، انتي بس حدديلي ميعاد مع اخوكي اول ما يرجع من سفره بالسلامة ، و انا عليا الباقي ، اوعدك في خلال شهور قليلة جدا هتبقي مراتي ، يكون فات وقت الحداد علي والدتك بردو.
تجاهلت"عبير"خفقات قلبها السريعة ، و قالت بثبات مرتبك بعض الشيء:
-مش هينفع احددلك انا ميعاد مع عز الدين ، الموضوع هيبقي حساس بالنسبة لي.
-طيب هنتصرف ازاي ؟؟
- انت هتاخد الميعاد بنفسك ...
يتبع ...
- يتبع الفصل التالي اضغط على (حتى اقتل بسمة تمردك) اسم الرواية