Ads by Google X

رواية غناء الروح الفصل السادس عشر 16 - بقلم زيزي محمد

الصفحة الرئيسية
الحجم

  

 رواية غناء الروح الفصل السادس عشر 16 - بقلم زيزي محمد

الفصل السادس عشر
                                    
                                          
الفصل السادس عشر.



تحرك "يزن" بحذرٍ شديد نحو باب الشقة، ينظر حوله وخلفه وفي الرواق خارج الشقة يمينًا ويسارًا، فلم يجد أحدًا، ولكنه لاحظ المفتاح الذي فتح به باب الشقة موجودًا في الباب، رفع حاجبيه معًا باندهاشٍ بالغ، ومد يده وأخرجه من الباب وهو يهمس لنفسه بتَيَه:



-هو أنا مش كنت قفلت الباب وحطيت المفتاح على الترابيزة!



رمش عدة مرات بتفكير، وفي النهاية استنجد أنه ربما قد نسي إغلاق باب الشقة من فرط إرهاقه، هز رأسه بيأسٍ وكاد يتحرك للداخل ليغلق الباب خلفه، إلا أنه سمع صوت صراخٍ يأتي من الشقة المجاورة له، وسيدة تبكي بانهيارٍ ويصاحب بكاءها صوت رجلٍ غاضب، فزفر بحنقٍ شديد وهو يهمس بحقد:



-ربنا ينتقم منك يا زيدان!



دخل وأغلق الباب خلفه بإحكامٍ ثم ذهب نحو الفراش، يُلقي بجسده المرهق عليه ويغطُّ في نومٍ عميق.



مرت ساعة كاملة عليه ولم يشعر بشيء إطلاقًا، أما بالأسفل أمام البناية، فكان يقف "عباس" يراقب الوضع، ومعه "زيدان" على الهاتف:



-لا يا باشا لسه فوق، متأكد.



-معقول، اطلع اطمن عليه!



حرك "عباس" رأسه برفضٍ قاطع وهو يقول:



-لا يا باشا ماتفقناش على كده لامؤاخذة، أنا لا يمكن اطلع أبدًا دلوقتي.



-يا بني آدم خد حد معاك واطلع شوفوه.



رفع "عباس" رأسه نحو البناية ووجد إحدى نوافذ الشقق المهجورة الإضاءة تُفتح بها وخيالٌ أسود كبير يتحرك بعشوائية، فجحظت عيناه بخوف وهو يتمتم:



-بسم الله الرحمن الرحيم، بدأوا، بدأوا.



رفع "عباس" طرف جلبابه الأسود ووضعه في فمه وركض بأقصى سرعة لديه، مغلقًا الاتصال في وجه "زيدان"، بينما "يزن" كان يغطُّ في نومٍ عميق وأحلامٍ متقلبة ما بين سليم أخيه وسيرا وبعض الكوابيس المزعجة، ولم يشعر بأي شيء يحدث حوله، لا من أصوات تحريك الأثاث، ولا من النوافذ التي تُفتح وتُغلق، ولا حتى من رائحة الطعام التي بدأت تفوح في الأجواء!



                              ****
سطعت أشعة الشمس من رحم الظلام لتنثر في الأجواء حيوية وبركة، وقفت "يسر" أمام المرآة، تنظر نظرة أخيرة على ثيابها قبل أن تهم بالخروج من غرفتها، فقابلتها والدتها التي نظرت إليها باستفهام:



-رايحة فين على الصبح يا يسر؟



-رايحة شقتي...



صمتت "يسر" لوهلة وكادت تعود لوصلة نحيبها حينما عادت مرارة القهر تتوغل داخلها، عندما أدركت أن حياتها انهارت وأصبح الانفصال وشيك اللحظة!



-رايحة الشقة، اجيب هدومي وهدوم لينا، وشوية حاجات ليا.



زمت "أمل" شفتيها بضيق من تدهور حياة ابنتها الوحيدة، فلم يبقَ بيدها شيء لتفعله، فقد كُتبت سطور الوحدة والآلام في مجلد ابنتها المهترئ.




               
-أبوكي يعرف؟



هزت "يسر" رأسها نفيًا ثم قالت بهدوء:



-لو قولتله هيقولي لا واجبلك غيرهم، بس دي حاجاتي الشخصية ومحتاجها، فهروح بسرعة وارجع قبل ما يرجع على الغدا.



حركت "أمل" رأسها باستسلام، ثم قالت بتنبيه حاد:



-طيب اوعي تتأخري، عشان أبوكي اليومين دول مطلع زرابينه علينا.



تنهدت "يسر" باستسلام ثم تحركت صوب باب الشقة، إلا أن سؤال والدتها أوقفها:



-مفيش حد من أهل نوح كلمك؟



التفتت إليها "يسر" تردف بلا مبالاة:



-لا، ودي حاجة متوقعة منهم، هما مش يهم إلا مصلحتهم وبس!



وضعت "أمل" كفًا فوق الآخر وهي تقول بضيق:



-والله ما فيهم إلا نوح!



صوبت نظراتها النارية نحو والدتها التي تقهقرت سريعًا نحو المطبخ:



-أنا رايحة اعمل فطار للينا.



زفرت "يسر" بضيق ثم خرجت تجر ساقيها دون ذرة طاقة، وعلى وجهها إمارات الحزن، وعيناها تحمل انكسارًا لن تستطيع الأيام إصلاحه.



بعد مرور عدة دقائق، وصلت "يسر" أمام شقتها، جذبت أنفاسًا عميقة قبل أن تمد يدها وتفتح باب الشقة بالمفتاح، مررت بصرها بحزن دفين على شقتها التي اختارت كل قطعة أثاث بنفسها، وحمل كل ركن في الشقة ذكرياتها التي من الصعب نسيانها.



أسدلت عيناها دموع الفراق والأسى، وهي تتلمس الأثاث بيدها تودعه للمرة الأخيرة، ثم تحركت صوب غرفتها، لكنها وجدت "نوح" يرقد غافيًا فوق الفراش في نوم عميق بنفس ثياب عمله، وحذائه لا يزال يرتديه، تحركت بخطوات هادئة نحو الفراش فوجدت ملامحه مرهقة للغاية، ومن شدة استغراقه في النوم لم يشعر بها.



أغلقت عينيها بقوة تمنع نفسها الضعيفة المتهاونة مما تسعى إليه، فلا مجال للعودة، ولا مكان للحب بقلبها، فقد أحرق مشاعرها في مرجل الخيانة، يبدو أن قلبه تعلق بأخرى غيرها، فلم يعد لديها مكانٌ في فؤاده الذي ودت اقتلاعه بيدها من فرط قهرها واعتصاره بين يديها بغل.



فتحت عينيها الباكية ومدت طرف أصابعها تمسح دموعها، فحتى وإن كان الانكسار يطغى بطوفانه عليها، لن تُظهره مجددًا، تحركت صوب خزانتها وجذبت بعض المتعلقات الشخصية والثياب ووضعتها في حقيبة كبيرة، ثم تحركت بخفة نحو سراحتها تضع أشيائها واحدة تلو الأخرى في الحقيبة وبين حين وآخر تنظر للخلف حيث يرقد "نوح" فوق الفراش.



وما إن انتهت حتى ذهبت صوب دورة المياه، جذبت بعض الأشياء الخاصة من أحد الأدراج ولكن جذب انتباهها سلة الثياب وبما تحويه، قطعة ثياب داخلية غريبة لم تكن لها إطلاقًا!




        
          
                
رمشت عدة مرات بعدم استيعاب وهي تقلبها بين يديها بعدم فهم وصدمة بالغة، وأبواق الخيانة تتعالى في ذهنها الذي استوعب وقاحته!



قبضت بغل شديد على قطعة الثياب وتحركت صوب "نوح" الغافي تجذبه من تلابيب ثيابه بصراخ حاد، فبدت كالمجنونة وهي تصيح به:



-قوم يا بيه، قوم يا دكتور يا محترم، محترم أيه وأنت ماتعرفش أي حاجة عن الاحترام.



سعل "نوح" بخفة وهو يفرق جفنيه سريعًا بعدم فهم، لوجود "يسر" أمامه، ممسكة بثيابه الأمامية بقبضتيها وعيناها تفصحان عن جنون عميق ينذر بقتله:



-خاين، خاين، كنت استنى لما تطلقني يا بجح، بتخوني في بيتي، بيتي، يا حيـ....



وضع يده فوق شفتيها يمنع سبابها وهو يقول بتيه، رغم أن نبرته كانت خشنة وحادة:



-خيانة أيه، وبيت أيه، أنتي شايفني نايم وجنبي واحدة، ما أنا متنيل نايم بهدومي اهو.



-وده أيه؟!



صرخت عاليًا وهي تشير نحو قطعة الثياب، مستكملة بنبرة مجروحة أوشكت على البكاء:



-دي مش بتاعتي، بتاعت مين يا نوح؟! رد عليا، يا أخي أنت أيه حجر، همك مصلحتك ونفسك وبس يا خاين.



ثم ألقتها في وجهه واعتدلت في وقفتها وهي ترمقه بنظرة اشمئزاز وكره انبثق من مقلتيها، وقبل أن تغادر وقفت بشموخ تردف بقوة نبعت من جراحها المستمرة في النزف:



-أنا بكرهك، بكرهك يا نوح.



استفاق "نوح" أخيرًا من صدمته ونهض خلفها محاولًا إيقافها، وهو يقول بصدق واهتمام بالغ ليبرئ نفسه:



-اقسم بالله ما أعرف دي أيه، أنا لسه جاي الشقة الفجر من وقت ما انتي مشيتي وأنا مدخلتهاش صدقيني.



أبعدت يده التي حاولت إيقافها بانزعاج واضح، فهمست ببكاء:



-ابعد عن وشي، حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا أخي على قهرتي ووجع قلبي.



ثم تقدمت خطوة للأمام وأمسكت بمقبض باب الشقة، فكانت نظراتها الزائغة تفضح الألم الذي لا تستطيع كلماتها أن تصفه بعد أن اكتشفت خيانته، فسمعته يدافع عن نفسه:



-أنا عمري ما اعمل حاجة اغضب بيها ربنا، وحقيقي أنا ماعرفش أيه ده! ويمكن تكون بتاعتك ومتهيألك...



قاطعته بصراخ وكأن خناجر العالم بأسره تغرز في فؤادها الملكوم:



-مش بتاعتي، وماتحاولش تبرر في النهاية أنت مجرد واحد خاين، هستنى منك إيه تاني!



ثم غادرت الشقة، فوقف مكانه ينظر لأثرها بصدمة بالغة، جلس على مقعد في زاوية ما في الصالة، يحاول لملمة شتات نفسه المبعثرة، مفكرًا بحيرة، عاجزًا عن اتخاذ أي خطوة، بينما كانت الصدمة تسري في جسده كتيار كهربائي!
                                 ****
استيقظ "يزن" بكسل شديد، وحاول التركيز عندما وصل إليه صوت طرق عالٍ على باب الشقة، نهض ببطء وتحرك صوب الباب ليفتحه، فوجد "عباس" يقف مرتبكًا، وما أن رآه حتى ابتسم ابتسامة مهتزة:




        
          
                
-انت كويس يا باشا؟!



مد يده ليعيد خصلات شعره المبعثرة إلى الخلف وهو يقول بصوت يحمل بحة النوم:



-اه يا....



نسي اسمه، فتفهم الآخر الأمر ووضع يده على صدره، قائلًا:



-محسوبك عباس يا باشا.



-معلش لما ببقى صاحي مابركزش.



قالها يزن بهدوء يطغى على إحراجه، حتى تولى عباس مهمة التحدث سريعًا وكأنه يريد أن يلقي ما في جعبته ويهرب:



-زيدان باشا اتصل عليك ياما، ابقى كلمه، عايز حاجة يا باشا، سلام أنا ماشي.



-استنى بس، عايزك تجبلي شوية طلبات، عيش جبنة شاي او قهوة أي حاجة.



توسعت عينا "عباس" بصدمة بالغة وهو يردف مستنكرًا:



-هو أنت قاعد يا باشا ومطول؟!



رفع "يزن" حاجبيه ساخرًا من الصدمة التي تتجلى على وجه "عباس":



-امال هروح فين؟! مافهمتش قصدك!



-آآ اقصد يعني، كنت مفكر إن الشقة كإمنها قديمة مش هتعجبك.



حاول "عباس" تدارك نفسه كي لا يخطئ أمام "يزن" الذي لا يعلم شيئًا عن تلك الشقة، وذلك بأمر من "زيدان"، وفي ذات الوقت كان الإيجار الذي دفعه "زيدان" في تلك الشقة سيعود عليه بمبلغ مالي كبير من صاحب البناية، الذي اتفق معه أنه لو نجح في تأجير شقة من شقق البناية، سيكافئه بمبلغ كبير، وهو في أمس الحاجة للمال، لذا سيصمت وينتظر هروب "يزن" بمفرده دون تدخل!



-لا هي كويسة، بس يا عباس وانت نازل نبه على الراجل اللي في الدور الاول مايشغلش أغاني بليل يا عم، ويا ريته بيشغل أغاني حلوة.



قالها يزن بضيق كلما تذكر نظرة الرجل إليه، فلاحظ اندهاش "عباس" وهو يهمس لنفسه:



-راجل!



-اه اللي تحت بيشغلها في الجنينة اللي وراه وبيعلي على الآخر، أنا مرضتش اهزئه وسكت عشان بس قاعد يومين مش أكتر.



أكد يزن حديثه، فلاحظ نظرات الاندهاش تسيطر على "عباس"، فعاد وقال بتأكيد آخر:



-ياعم لو مش مصدقني، اسأل الست اللي قاعدة في الشقة دي، هي كمان صحيت هي وبنتها.



هنا توسعت عينا "عباس" بخوف وهو ينظر حيث يشير "يزن" بيده، فقال بلهجة سريعة، وحروفه تتداخل مع بعضها:



-اه اه ، مصدقك، حاضر، سلام.



ثم وضع طرف جلبابه في فمه وفر راكضًا، تاركًا "يزن" في حالة ذهول من تصرفه، لكنه دخل وأغلق باب الشقة خلفه، واتجه نحو دورة المياه مقررًا أخذ حمام دافئ يجدد به نشاطه، وما إن دخل دورة المياه وفتح الصنبور حتى لم يجد الماء، زفر بحنق وتحرك ليغادر، لكنه استمع إلى صوت الماء يتدفق من الصنبور.




        
          
                
ابتسم بلطف وهو يهمس بحماس:



-الحمد لله المياه جت.



اقترب من الصنبور وهو يخلع سترته العلوية، لكنه وجد الماء قد انقطع مجددًا، مط شفتيه بضيق وارتدى ثيابه مرة أخرى، ثم جاء يغادر إلا أن صوت الماء جذبه، فرفع أحد حاجبيه واقترب خطوة، إلا أن صوت الماء انقطع ثانيةً، حرك رأسه نحو الباب، فأعيدت المياه مرة أخرى، وعاد برأسه نحو الصنبور، قطعت المياه مجددًا، فقال بنزق:



-طيب والله ما أنا مستحمي!!



أغلق الصنبور وخرج من دورة المياه، يمسك هاتفه فوجد اتصالات عديدة من "زيدان"، فأجرى اتصالًا به، وما إن جاءه صوته، قال بضيق:



-أيه يا عم الشقة الغربية دي!



انتظر "زيدان" قليلاً قبل أن يسأل بحذر:



-مالها في أيه؟



-الميه قاطعة فيها يا عم!



قالها "يزن" وهو يجلس فوق الأريكة ويمسك بريموت التلفاز الذي يبدو عليه أنه قديم، ففتحه، لكنه لم يجد إشارة، واستمع إلى صوت زيدان المتعجب:



-بس؟



-ومفيش تلفزيون كمان إيه القرف ده!



-بس؟



القى "يزن" الريموت جانبه وقال بضيق:



-هو أيه اللي بس، قولتلي مفيش رفاهيات ماشي، بس مش للدرجادي، كلم لي عباس يحاول يتصرف في الميه اللي بتروح وبتيجي دي، أنا كل ما اكلمه يقعد يستغرب، راجل عجيب!



-يزن، هو أنت استحميت؟



سأل "زيدان" بحذر، فتعجب يزن وأجاب:



-لا لسه، حاولت بس ماعرفتش من الميه!



اختفى صوت زيدان نهائيًا حتى عاد يزن يسأله باستنكار:



-في أيه يا زيدان؟



عاد صوت "زيدان" يخترق مسامع "يزن" الذي نهض وقرر العودة إلى الغرفة ليجلب الحاسب الآلي الخاص به، ولم يلاحظ تحريك الريموت من الأريكة إلى مكانه فوق الطاولة.



-سليم، مبهدل الدنيا عشان مختفي.



-خليه كده أحسن، يمكن يحس باللي بيعمله فيا، أنا هقفل عشان اشوف حل في الميه دي، هموت واستحمى.



-طـ طيب، ما تقفلش ستارة الحمام.



توقف "يزن" قبل أن يفتح باب دورة المياه وسأله بعدم فهم:



-نعم! في أيه يا زيدان!!



-لا أنا بكلم واحد عندي في القسم.



-انتوا عندكوا ستاير في حمامات القسم؟!



تسائل يزن مستنكرًا، فقال زيدان بحنق طفيف:



-اه احنا قسم شرطة قالب على اوتيل، انت مالك يا عم، اقفل يلا سلام.




        
          
                
أغلق "يزن" الهاتف وألقاه فوق فراشه، وقبل أن يدخل إلى دورة المياه، استمع إلى طرق على الباب، فتوجه نحو باب الشقة شاعرًا بالنقم الشديد على الطارق، وما أن فتح الباب، لم يجد أحدًا سوى بضع حقائب بلاستيكية موضوعة أمام الباب، هبط بجذعه وتأكد منها، حتى وجد الأشياء التي طلبها من "عباس"، حمل الحقائب متعجبًا من عدم وجود ذلك الرجل غريب الأطوار، وقبل أن يدخل وجد باب الشقة التي أمامه يفتح وتخرج منه الفتاة الصغيرة، ترتدي فستانًا أبيض قصيرًا وتلعب بكرة صفراء وبيدها دمية مشوهة، ألقى "يزن" بسمة صغيرة نحوها، وتحرك ليدخل إلا أنها ألقت الكرة نحوه، فابتسم إليها وأعادها نحوها، قائلًا:



-إزيك، أنا أسمي يزن، اسمك إيه؟!



لم تجبه بل كررت نفس الفعل وألقت الكرة نحوه، فكرر هو أيضًا ما فعله وأعادها نحوها، قائلًا:



-عايزة تلعبي؟



هزت رأسها إيجابًا في صمت، وظلت تكرر نفس اللعب حتى وجد والدتها تخرج وتأخذها من يدها وتدخلها مرة أخرى إلى الشقة، وقبل أن تغلق باب شقتها، ألقت نحوه نظرة نارية، رفع "يزن" حاجبيه مندهشًا منها، ولكنه لم يعطِ للأمر أهمية، ودخل هو الآخر إلى الشقة، مغلقًا خلفه الباب بقدمه، وما إن تحرك خطوة للأمام حتى استمع إلى اندفاع شيء ما بباب الشقة، فالتفت برأسه للخلف ووقف ثانيتين مفكرًا قبل أن يفتحه مرة أخرى ووجد الكرة أمام الباب، اعتقد أن الصغيرة هي مَن ألقتها نحو الباب واختبأت داخل شقتها، فابتسم بشقاوة وهو يحمل الكرة ويدخلها معه، هامسًا بتحدٍ:



-ابقي لفي عليها بقى، والله ما أنتي واخدها!



ألقى الكرة على الأرض وذهب صوب المطبخ ليصنع لنفسه إفطارًا بسيطًا مع كوب شاي ساخن، مقررًا أن يجلس في الشرفة المطلة على الحديقة الخلفية، يتابع آخر حسابات معرضه من على حاسوبه الآلي.



                            ****
دخل "زيدان" المحل الرئيسي لعائلة الشعراوي، وجميع العمال يلقون عليه التحية، حتى وقف أمام مكتب "سليم"، وخلع نظارته الشمسية ووضعها أمامه على المكتب وهو يجلس، قائلًا:



-خير يا سليم طلبتني ليه؟



-يزن فين؟!



تساءل سليم مباشرة دون أن يرحب به، وبدا على وجهه علامات الاستياء، فتظاهر "زيدان" بعدم الفهم، مشيرًا نحو نفسه بتهكم:



-وأنا مالي، ما أنا بدور عليه معاك!



أمسك "سليم" قلمه وطرق به عدة مرات فوق مكتبه قبل أن يرفع بصره نحو "زيدان"، وتحدث بنبرة شبه حادة حاول تحجيمها في ظل اشتداد ظلمة عيني "زيدان":



-عارف أيه اكتر حاجة بتقفلني من الشخص اللي قدامي؟ هو أنه يعاملني على أساس إن أنا غبي.



مالت شفتي "زيدان" ببسمة جانبية، قبل أن يقول بتروٍ يُحسد عليه:




        
          
                
-ما عاش ولا كان اللي يعاملك كده يا سليم باشا!



خرجت نبرة سليم عن طوعه، فظهرت أكثر حدة وحنقًا أمام برود أخيه الظاهر:



-زيدان، بلاش لف ودوران، أنت أكيد عايز مصلحة أخوك!



لا زالت طريقته في الحديث تتسم بالرصانة، والتي لم تكن أبدًا في طباعه، فهو بارع في الهجوم وفظاظة لسانه، ولكن يبدو أن سمة الهدوء والرزانة اكتسبها مؤخرًا ليتكيف مع تقلبات سليم:



-عايز أكيد بس مش بالطريقة دي يا سليم، يزن مش صغير، ومينفعش معاه سياسة الأمر الواقع.



مالت رأس "سليم" إلى الجانب الآخر وهو يقول بسخرية مقصودة:



-وأيه كمان؟!



زم "زيدان" شفتيه بضيق، فاخشوشنت نبرته رغماً عنه وهو يلقي بتهديداته في لهجة آمرة لم تعجب سليم بتاتًا:



-ماتتريقش يا سليم، متعاملناش وكأننا كلنا مابنفهمش وانت بس اللي بتفهم!



-اممم يعني أنا طلعت زفت في الآخر؟!



قست ملامحه وغاص صوته في بحور الغضب والاستنكار، لتضرب أمواجه العاتية عقل "زيدان" الذي تراجع سريعًا وهو يبرر بتريث:



-لا طبعًا، أنا ماقولتش كده، بس يعني أحيانًا الكبير بيغلط، ومفيش حد معصوم من الغلط.



استند بمرفقيه على مكتبه وتساءل في سخرية خشنة:



-وأنا غلطت في أيه؟!



تنهد "زيدان" بقوة قبل أن يجيب بهدوء أوشكت قارورته على النفاد:



-في معاملتك معاه، سليم يزن مش صغير، وعقله ده يوزن بلد، طيب انت عارف أنا فاهم كويس اوي ليه يزن مش عايز ياخد خطوة جد في حياته.



-ليه؟!



تساءل سليم برفق، دفع أخيه ليوضح وجهه نظره بأريحية:



-عشان لو اخدها هيضطر يمنع نفسه عن البنات كلهم، وهيحترم البنت اللي هتكون في حياته، على قد ما هو لعبي وبتاع بنات، بس لما هيتجوز هيبقى حد تاني.



أشار على نفسه بتهكم طفيف وبسمة انتصار احتلت محياه:



-يعني أنا قراري صح، والمفروض أنه يتجوز ويتلم.



عاتبه "زيدان" بلطف، وهو يلقي بحلوله خارج ذهنه المشتعل بضراوة من أسلوب سليم المبطن بالسخرية:



-بس مش بالزعيق وصيغة الأمر، اتكلم معاه واقنعه مثلاً إن ده عشان سمعة البنت، أو مثلاً عشان سمعته أنه هو بيجري ورا واحدة كرفاله، صدقني هيلين وهيجي معاك.



انفجر "سليم" غاضبًا، فكانت كلماته قاسية وعيناه تخفي اهتزازًا حاول دومًا أن يخفيه كي لا تفضح مشاعره نحو إخوته، طالما كان جافًا وشحيح المشاعر معهما:




        
          
                
-زيدان ماتلمونيش على عصبيتي معاه، أنتوا الاتنين حتة مني وعيالي مش مجرد اخواتي، اللي يمسكوا يمسني، أنا عايزكم تبقوا احسن مني، ومفيش حاجة تمس سمعتكم ولا تقل منكم، لما الراجل ده جه هنا وقعد يزعق ويهلفط بالكلام على تربية اخوك واسلوبه اللي زي الزفت، أنا ماستحملتش، محدش فيكم يلومني لما اتدخل في حياتكم فاهم ولا لا.



حاول "زيدان" امتصاص غضبه، وخاصة بعدما لاحظ العمال في المحل انفعاله، فقال بهدوء ولطف ألصقه بحديثه:



-تمام فاهم اهدا، أنا ماقولتش حاجة، أنا بس بوضحلك شخصية اخوك، عشان تعرف تتعامل معاه، وبعدين أنا معاك يعني في أي حاجة تخص مصلحته.



-أنا فاهم كل واحد فيكم على أيه، واخوك مش هيتلم إلا بالطريقة دي، عشان كده قولي مكانه فين؟



زفر زيدان باستسلام وهو يقول بحيرة:



-هقولك، بس يعني هتعمل أيه؟



أجاب سليم باقتضاب:



-هروح له اتكلم معاه، ومش هسيبه إلا لما يوافق على اللي أنا قولته.



انكمشت ملامح زيدان بعدم فهم وترقب:



-تروح له ازاي مش فاهم!



استنكر "سليم" بقوة وهو يرمق أخيه بشك:



-هو إيه اللي مش فاهم، يزن فين؟!



جف حلق "زيدان" مما آل إليه تفكيره، فقال بحذر:



-في الاقصر، الحوار ده سفر وهتتعب، استنى هو هيجي بعد يومين.



أعلن سليم رفضه لفكرة أخيه، مصرًا على رأيه كعادته:



-لا الموضوع مش مستحمل، أمك مش مبطلة عياط، واخاف يجرالها حاجة وترجع تقولي بسببك، احجز لي تذكرة طيران على اول رحلة طالعة للاقصر، واحجز لي في الاوتيل اللي هو نازل فيه.



تفهم "زيدان" ما يرمي إليه "سليم"، وذلك عندما اتهمه بكل غباء بأنه السبب في وفاة والدهما، تجاهل حديثه لعلمه بمدى خطئه حينها، ويبدو أن أخيه لم يستطع النسيان أو مسامحته، فرد بنزق ظهر بوضوح على ملامحه التي تشربت من الغضب ما يكفيها:



-لا ما هو مش نازل في اوتيل، في شقة.



-طيب ابعتلي عنوانها.



انتظر "زيدان" ثوانٍ قبل أن يتساءل بقلق مما سيحدث إن ذهب "سليم" بالفعل لتلك الشقة، لم يكن خائفًا عليه من الجن أو العفاريت، بل كان مشفقًا عليهم من ردود أفعاله، كل مخاوفه تتلخص فيما سيحدث عندما يعودان هو و"يزن":



-سليم انت بجد هتروح، ما تقعد وتستناه احسن!



نهض "سليم" صادرًا أوامره، والصرامة تتصدر عناوين ملامحه، فأشفق "زيدان" على أخيه الأصغر عندما يحاصره "سليم" تحت وطأته:



-لا لازم اروح له، يلا انجز احجز لي تذكرة، أنا عايزه بليل يتفاجئ بيا، ما أشوف اخرتها معاه.
                            ****




        
          
                
جلست "يسر" في غرفتها ولم تعرف كم من الوقت مر وهي على نفس تلك الحالة، لقد أخذت من طرف الفراش مكانًا لها، وظلت بنفس ثيابها، ونفس صدمتها، وملامحها التي ازدادت شحوبًا، أما عيناها فكانت تحمل انكسارًا نابعًا من قلب مهترئ وشجن مشاعرها المطعونة بنصل الخيانة.



انهارت أمانيها وحياتها تحت قدميها، وأحاطها الحزن كغيمة سوداء وهي تنظر أمامها في الفراغ، ورغم أن الغرفة كانت مضيئة، إلا أنها شعرت بسواد شديد يحجب عنها أي نور.



آهات عديدة متألمة قاومت حلقها الجاف لتخرج بحرقة، لو سمعها أحد لأشفق عليها حتى قساة القلوب.



ومع آخر دمعة هبطت فوق خدها، قررت قرارًا لا رجعة فيه لعله يكون طوق النجاة للحفاظ على ما تبقى من روحها.



نهضت بعجز تغلغل في كيانها وخرجت من غرفتها، متجاهلة نظرات والدتها المستفهمة ونداءات ابنتها، دخلت غرفة والدها، الذي كان جالسًا فوق فراشه يقرأ في مصحفه كعادته كل ليلة:



-بابا.



همست بها بنبرة مجروحة اخترقت قلب والدها قبل مسامعه، رفع عينيه يتساءل في صمت مقلق، فأجابت بنبرة جافة تحمل حدة انتقام لاذع:



-نوح مش هيطلقني بسهولة، أنا عايزة اخلعه.



كانت تخبر والدها بقرارها وهي تشعر بقلبها الذي تحطم إلى آلاف الشظايا، فحمحم والدها بقوة قبل أن يسألها بشك:



-وده ليه؟ أنا قولتلك هخليه يطلقك غصب عنه!



كانت عيناها تحملان خيبة أمل لا يمكن وصفها، فقالت بنبرة صلدة:



-بس أنا عايزة اشرده واجرح كرامته، ومفيش حاجة هتوجعه غير إن أنا اخلعه.



كان من الواضح أنها تعيش في حالة ضياع، أشفق عليها والدها، فرد برزانة:



-طيب سيبيني، اتصرف بمعرفتي ولو محصلش وطلقك هعملك اللي انتي عايزاه.



-لا.



قالتها قولًا واحدًا، بقسوة حملت كل الجراح التي تسبب بها نوح في فؤادها، باتت وكأنها فقدت جزءًا من نفسها، عندما دخلت في دوامة الحزن والخذلان بسبب أفعاله، استكملت دون أن يرمش لها جفن:



-أنا مش هستنى تاني، لو سمحت نفذلي اللي أنا عايزاه، نوح لازم يتربى على اللي عمله فيا، وحتى لو كنت وافقت من الاول، هو ماقدرنيش وباع وخان، كان معيشني في جحيم الخوف، خليه يعيش فيه شوية ويخاف على سمعته وسط معجبينه وصحابه واهله، لما يعرفوا إن أنا خلعته.



ساد الصمت بينهما لفترة قليلة وكان أبلغ من أي كلمات يمكن أن تُقال، حتى قطع والدها لحظات السكون عندما حسم رأيه وقال:



-هكلم المحامي وارفعلك عليه قضية.
                          ****
ليلاً...



لم يحظَ "يزن" بحمام دافئ، فظل طوال اليوم يعافر مع المياه التي تأتي وتختفي في نفس الثانية، صنع "يزن" لنفسه كوب قهوة ووضعه فوق الطاولة بجانب الفراش، ثم التفت ليجلب حاسوبه، لكنه انتفض فجأة حينما سمع صوت تكسير خلفه، فاستدار سريعًا بكامل جسده، ووقع بصره على الكوب المتهشم إلى عدة قطع على الأرض، فرفع حاجبيه بتعجب.




        
          
                
-وقع إزاي ده؟!



التفت حوله يبحث عن قطعة قماش ليمسح آثار القهوة في كل مكان، إلا أنه أثناء بحثه سمع صوت التلفاز الذي اشتغل في الصالة، تجمد للحظات مكانه، ثم تحرك نحو باب الغرفة الموارب وفتحه على مصراعيه، ليجد التلفاز مضاءً وثابتًا على إحدى القنوات التي كانت تعرض فيلمًا مصريًا قديمًا!



وأثناء تسمره كالأبله، سمع صوت موسيقى يأتي من الأسفل، يبدو أن جاره ثقيل الدم بدأ وصلته في سماع أغنيته التي لم يفصلها أبدًا بالأمس.



تحرك لا إراديًا نحو الشرفة وفتحها، ثم وقف ينظر للأسفل حيث مكان جلوس الرجل، في نفس المكان وبنفس الوضعية، ونفس الأغنية تصدح في الأجواء بجانب دخان تبغه الكثيف.



"قوليلي يا خاينة ليه الشيطان وزك" 



لم يستفق إلا عندما رفع الرجل بصره فجأة ورمقه بنظرات شيطانية متوعدة، وكأنه سلب شرور العالم ووضعها في عينيه المظلمتين، توتر يزن قليلًا منه، وعاد بجسده للخلف وقرر الدخول، وما إن التفت، وجد نفس الرجل يقف خلفه وابتسامة مخيفة تحتل ثغره الداكن، فخرج من يزن سباب نابي لم يستطع منعه من هول صدمته، حيث تجمدت أطرافه وفقد عقله التركيز، فأصبحت أفكاره التي تصرخ بالهروب مشوشة وهو يقف فاغرًا فمه في حالة ذهول شديدة، أغمض عينيه وفتحهما عدة مرات حتى اختفى الرجل من أمامه، وهنا تيقن أنه ليس بإنسان، بل إنه... جن، وهنا اشتعلت حواس يزن بالخوف والفرار السريع.



دخل إلى الغرفة التي وجد بابها مغلقًا، تيبست أطرافه ونظر حوله بقلق، حتى بدأت الإضاءة تلعب دورها في زجه إلى غياهب الخوف، وذلك عندما حل الظلام على الغرفة وفي نفس الثانية أعيدت الإضاءة مرة أخرى، لم ينتظر كثيرًا وفتح باب الغرفة بقوة، لدرجة أن مقبض الباب خُلع في يده من شدة قوته، نظر إلى المقبض بتعجب، ثم ألقاه من يده فصدر عنه صوت قوي، وأثناء ركضه، لمح المطبخ الذي أطفأ إضاءته بنفسه قبل أن يدخل الغرفة، فإذا بالإضاءة به مشتعلة ورائحة شهية تأتي منه!



لم ينتظر كثيرًا وفتح باب الشقة حتى تفاجأ بوجود "سليم" أمامه، رافعًا يده ويبدو أنه كاد يطرق الباب، إلا أن عقله لم يستوعب مجيء سليم خلفه، فاعتقد أنه جن متمثل في أخيه، فدفعه بعيدًا بقوة وكاد يفر من أمامه حافيًا وبثيابه البيتية، إلا أن سليم أوقفه ونهره بصوت غاضب:



-بتعمل أيه يا مجنون، اقف عندك.



حاول يزن جذب يده من قبضة سليم وهو يقول بصوت مرتفع:



-اعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الارض ولا في السماء وهو السميع العليم.



استنكر "سليم" بخشونة وهو يقبض أكثر على يده:



-انت شفت عفريت يا يزن، عيب أنا أخوك الكبير، احترم نفسك.




        
          
                
انهار عقل "يزن" بعد ما عاشه، فقال بقوة زائفة لعل ذلك الجان ينصرف عنه:



-بص لا تأذيني ولا أأذيك، انصرف.



-يا حيوان بتقول لاخوك الكبير انصرف، ادخل يلا خلينا نتكلم، وقدر إن أنا جاي من سفر عشان خاطرك، وبلاش الهزار البايخ ده.



ابتلع "يزن" ريقه بصعوبة وهو يدقق في سليم بحذر قبل أن يقول بارتباك جلي على نبرته:



-سليم، يلا بينا من هنا، الشقة دي...



قاطعه صوت باب الشقة الذي فتح وظهرت السيدة وهي طفلتها وقد وضح عليهما الغضب، فاعتذر سليم بهدوء وحرج:



-معلش يا مدام، ازعجناكم.



ثم جذب "يزن" التائه خلفه بقوة إلى داخل الشقة، وأغلق الباب خلفه، وهو يقول بنبرة معاتبة:



-مش هتبطل يا يزن حركاتك دي، الجيران طلعوا اهم.



نظر يزن حوله بريبة، منتظرًا ظهور الجن مجددًا، فظل يتمتم ببعض الآية القرآنية وترك سليم يتفحص الشقة حتى وصل إلى الغرفة فوقف على أعاتبها، وهو يقول ساخرًا:



-يا رايق، وكمان عملتلك قهوة، وسايبنا هناك بندور عليك زي المجانين.



لم يعقب يزن بل تحرك بخطوات ثقيلة نحو الغرفة، ووقف بجانب سليم، وما إن وقعت عيناه على كوب القهوة الذي لم يُكسر وموضوعًا فوق الطاولة وكأن شيئًا لم يحدث، حتى جحظت عيناه وأمسك بيد سليم، يقول برجاء:



-يلا من هنا يا سليم بسرعة.



أبعد "سليم" يده بقوة بعيدًا عنه وهو يقول بنزق:



-لا هتقعد وهتسمع أنا عايزاك في أيه، ولازم تسمع كلامي وتحترمني، ابوك لو كان عايش كان قالك اسمع كلام اخوك.



-يا عم هتجوزها، والله هتجوزها، لو عايزاني اتجوز اربعة هعمل كده، بس يلا من هنا.



-هو أيه اللي يلا من هنا، في أيه مالك مش على بعضك ليه!



قالها سليم باستنكار ناري وهو يرمق يزن الذي تصنم فجأة وكأنه تمثال وعيناه مثبتتان على شيء خلفه، فالتفت "سليم" خلفه ونظر إلى حيث ينظر "يزن" 
لم يجد أحد، فقال بشك وهو يهز "يزن":



-مالك يا يزن، بتبص على أيه!



سبة أخرى خرجت منه وهو يبتعد للخلف وهو يردف بتوتر وخوف:



-هو أنت كمان مش شايفه، اعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ده واقف وراك على طول.



أشار إلى حيث يقف سليم، وهنا أدرك خطورة الموقف، وذلك عندما شعر بأنفاس خلفه وتحديدًا بجانب أذنه، لا شك أن الدماء تسربت من أوردته، لكنه ظل ثابتًا وهو يحرك عينيه يمينًا لينظر خلفه، لمح "خيال" أسود يتحرك بالمطبخ الذي كان على يمينه، وصوت أنثوي يصدح عاليًا:




        
          
                
-أنا خلصت الأكل يا حبيبي.



ثم خرجت هرة سوداء مخيفة من المطبخ تركض بسرعة البرق نحو سليم، الذي ابتعد في اللحظة المناسبة، انتبه لصوت يزن وهو يصيح:



-يلا يا سليم من هنا.



تحرك سريعًا مع يزن، الذي فتح باب الشقة، وكان سليم خلفه، قبل أن يهبطا أولى درجات السلم، وجدا كرة صفراء تضرب بقوة رأس سليم، التفت خلفه، فوجد الفتاة الصغيرة تقف وتبتسم ابتسامة مخيفة، والدماء تسيل من أنفها، وفستانها الأبيض الذي كان نظيفًا ملطخ بالدماء، فنظر يزن إلى سليم المصدوم، وهو يهمس بتيه ويشير نحوها:



-هي البت مالها...



ظهرت والدتها من العدم، وشعرها مشعث للغاية وسكين مغروس في صدرها، وآثار ضرب قوية على وجهها، ونفس ابتسامة صغيرتها تحتل وجهها هي أيضًا، همس يزن لسليم بارتباك وخوف:



-هماا.....هماااا....هما عفاريت بردو.



فجأة، فتحت أبواب شقق العمارة وأغلقت بقوة، والإضاءة انطفأت واشتعلت، وصوت صراخ وصياح متداخل وصوت طلق أعيرة نارية، وكأنهما في فيلم سينمائي، لم يعرفا كيف ركضا وخرجا من تلك البناية بسرعة الصاروخ، حتى وجدا رجلاً يعبر الطريق، فأوقفه يزن وصوته قد بح من هول ما رآه:



-لو سمحت هي العمارة دي مالها!



نظر الرجل ليزن الذي وجده حافي القدمين، وسليم الواقف بجانبه صامتًا ولكن ملامحه مهزوزة:



-انت طالع منها!!



-اه، كنت قاعد هنا...



أجاب يزن ولم يكمل حديثه، إلا أن الرجل ركض سريعًا وهو يصيح برعب:



-العفاريت طلعت علينا يا بلد، الحقونا.
                                ****
مع شروق الشمس، هدأ "يزن" قليلاً وعادت أنفاسه المضطربة تنتظم بعد أن صنع له عباس كوب عصير مثلج، وقرأ عليه بعض الآيات القرآنية، وبجانبه، كان سليم يجري اتصالاً بزيدان للمرة التي لا يعلم عددها، ليوبخه عما فعله بهما، بعدما اكتشفا من عباس أنه كان على علم بالعمارة المسكونة.



-واقسم بالله ما هسيبه، الكلب.



-أنا قطعت الخلف بسببه.



قالها يزن بحسرة، فابتسم عباس وظل صامتًا حتى سأله يزن بريبة:



-قولتلي العمارة كلها مسكونة، يعني أنا كنت بتعامل مع عفاريت.



-يا باشا ده انت جاحد انت قدرت تنام فيها ليلة كاملة غيرك مقدرش.



قالها "عباس" بجدية، إلا أن يزن قال:



-الله اعلم يا عباس كانوا بيعملوا فيا أيه وانا نايم، الله اعلم، اقعد ساكت، المهم حاجتي أنا عايزاها.



-هجبهالك بس الصبح والرجل تدب في المنطقة واخد كام راجل معايا وادخل اجبهالك.



وضع "يزن" يده فوق رأسه وشعر بصداع فتاك برأسه:



-لسه هستنى، أنا عايز امشي من هنا.



رفع عيناه فنظر إلى سليم الذي ترك الهاتف ويبدو أنه كان سيتحدث بشيء إلا أن يزن اوقفه قائلاً:



-هتجوزها لو عايزاني اتجوز ابوها هعمل كده، بس نمشي من هنا
 


google-playkhamsatmostaqltradent