رواية علاقات سامة الفصل الخامس عشر 15 - بقلم سلوى فاضل
أسفة للتاخير
الجزء الأول من الفصل الخامس عشر
لا زال يفاجئها، بل يصدمها أخذت قرار بمحاولة اصلاح ما فسد، تُمنِّي نفسها بعدم فوات الأوان، ستنقذ طيف ولو مؤقتًا، ابنها هو أهم دوافع انفصالها رغبت أن يكن كوالدها وليس كوالده، لكن كيف أصبح؟ ومتى؟ لا تملك إجابة.
عزلتها عن كل ما يخص ابنها، حتى غرفته القديمة لم تكن لها، ستغدقها بحنانها، لعلها تعوضها ولو قدرًا هيّنًا عمَّا تعايشه، ولم تغفل طيف عن غايتها وامتنت لها، صمت أحاط كلتاهما، لأول مرة تنعم طيف بنوم مريح منذ وفاة والدتها، لكنه أرَّقها بنومها؛ فاستيقظت فزِعة تنفذ ما أمر به قبل مغادرته، بدأت رحلتها لتنظيف المكان، بعد فترة استيقظت الأم، ظنَّت تعمق طيف بالنوم، التي ادهشتها بنشاطها، انهت تنظيف المطبخ بالكامل؛ عمل كان سيستغرق منها وقتًا طويلًا؛ فقد انهكها ما علمته عنه بالأمس واستنزف كل طاقتها، تخلت عن دهشتها سريعا واسرعت تعاتبها:
- ليه كده يا بنتي؟ ايه اللي بتعمليه ده؟
ارتبكت، هل أفسدت أمرًا دون دراية، ماذا إن علم شهاب:
- أنا أسفة، مش قصدي والله! أنا عملت أيه؟ طب ما تقوليش لشهاب.
ضمتها بحنان وتجمعت الدموع بعينها كيف دفع بها لهذه الحالة! ربتت على ظهرها تطمئنها بكلماتها المحتوية:
- اهدي يا حبيبتي، ما عملتيش حاجة، اهدي، أنا مش عايزاكِ تعملي حاجة، ترتاحي وبس، أنتِ هنا عشان اهتم بِكِ، الحوامل خصوصا في الآخر ما لهمش الوقوف، التمشية حاجة والمجهود اللي بتعمليه حاجة تانية، بصي، الأم وبنتها بينهم أسرار ما يعرفاهاش غيرهم، صح؟
طالعتها بترقب وأومأت مؤكدة؛ فاسترسلت الأم:
- يبقي ده سرنا اصحي ونامي وقت ما تحبي، لما يجي شهاب ابقي أعملي أي حاجة، تمام.
أومأت مبتسمة، آه لو كان يشبه والدته! لكانت حياتها معه مختلفة، استمعت لباقي كلماتها الحنونة:
- شكلك ما فطرتيش، هعمل لك أحلى فطار.
منذ سنوات لم تشعر بهذا الكم من الراحة والصفاء، ازداد حبها وتعلقها بهذه الأم الحنونة، فقد زُرِع حبها في قلبها من الوهلة الأولى، تسعد برؤياها، تشعر وكأن والدتها أُحيت من جديد، أن الله أهداها مَن يُحَلِّي مُر الأيام، عادت البسمة لوجهها، نسيت معاناتها، تذوَّقت حلاوة الراحة والحنان، تبادلتا النظرات شاكرة ممتنة، ومعتذرة خجلة، تُعرب الأعين وتشرح ما عجز البوح عنه، وتتحدث الأفعال.
يكاد يميز غيظًا، ما تفعله والدته سيعيده عدة خطوات للخلف، بل قد تثور عليه وتتمرَّد، فقد أدركت، بل وأيقنت أن والدته تقف لجوارها، إن ثارت ساندتها، شغل تفكيره وايقظ جميع حواسه وسخرها ليحكم الشِّرك حول عنقها، لإحكام سيطرته عليها؛ فتوقن ألا مهرب منه ولا مفر، وإن والدته لن تستطيع مد يد العون لها، أنَّ حقيقتها الوحيدة هي: خضوعها له، وأنه يسري بأوردتها، تحيا به وله وفقط.
حسب جدولها مضى على موعد استيقاظها ساعتين وأكثر، سحب الهاتف الأرضي ليتصل بوالدته. توقعت اتصاله، وكي لا تزيد الأمور تعقدًا جعلت طيف تجيبه:
- السلام عليكم.
- صحيتي في معادك، ولا الهانم راحت عليها نومة.
كادت أنْ تنساه حقًا، ليته يختفي من حياتها فجأةً كما اقتحمها، أسرعت تجمع الحروف والكلمات فهو لا يطيق الانتظار:
- آه والله! ونضفت المطبخ كله، حتى اسأل طنط.
- يا ويلك يا طيف لو ما التزمتيش بالجدول، الحاجة الوحيدة اللي تتغير هي الأكل اللي ماما تحطه تكليه، حتى لو شبعانة، حتى لو مش قادرة، اللي زيك ما لهمش اختيار.
- حاضر.
تتابع باهتمام، جعلتها تجيبه لتَمْتَص غَضَبه، لكن يكفي ما سمعت؛ فشحوبها جلي ورجفتها واضحة، اقتربت منها مدعية الجهل به، وقفت جانبها تمسد على رأسها، تحدثت ببشاشة تجذب سماعة الهاتف بيد وعانقت كف طيف بالأخرى:
- مين يا طيف؟
- شهاب.
- روحي نضفي أوضتك زي ما قولت لك.
لم تمنحها فرصة للحركة، وشعر شهاب ببعض الراحة بالرغم من عدم تصديقه، وهذا ما أرادت، تحدثت تكمل مبغاها:
- صباح الخير يا حبيبي، بقالك كتير ما صبحتش عليَّا كويس إنك افتكرتني، أخد مراتك كتير بعد كده؛ عشان تفتكرني.
- صباح النور، خليها تكلمني أول ما تنضف، ماما بلاش تدلعيها، بلاش تكوني سبب اذيتها.
ابتلعت غصة مؤلمة، لم تتصور أن يهددها يومًا، التزمت الهدوء وأغلقت قلبها على جراحه:
- بتتصل عشان كدة! حاضر، عايز حاجة تاني.
- شوفتي بسببها زعلتي مني لأول مرة، شايفة عمايلها.
صدمت! يقلب الأحداث، يحمل زوجته ما اقترفه، تحدثت تنفي التهمة عن الجميع:
- مش زعلانة ولا حاجة، افتكرتك بتسأل عليا، أنت ابني الوحيد وكل اللي بعمله عشانك يا حبيبي، أنت متأكد من ده، صح؟
- ماشي يا ماما، اديني طيف.
- دخلت الحمام، اوعى تتأخر على الغدا يا حبيبي، شوفت نسيت العلاج، هروح أخده قبل ما انسى تاني، عايز حاجة يا حبيبي؟
- لا شكرًا.
تنفست بعمق ونظرت لطيف تطمئنها، رسمت بسمتها مردفة:
- الشمس في الوقت ده مفيدة جدًا، تعالى ندخل البلكونة.
جذبتها برفق ودلفتا للشرفة، استمتعتا بجو لطيف مرح دون توتر أو ضغوط، حظيت فيه طيف بالاهتمام الذي افتقدته مع والدها ثم زوجها، اغدقتها فيه الأم بالرعاية والحنان، تحاول تعويضها عمَّا منعه ابنها عمدًا. نَعِمَت طيف بالسعادة، أنهت طعامها بمرح ظنته لن يزورها يومًا.
حلق التوتر بالأرجاء مع عودته، سكنها القلق والخوف، لم تكن الوحيدة؛ فشاركتها الأم حالتها، وكلٍ لأسبابه، أما شهاب فملأه التحفز بضراوة، استقبلته والدته بابتسامة قلقلة، أما طيف ففعلت كما اعتادت، ثبتت بمنتصف المكان، تخفض وجهها، كتلميذ بليد وتحدثت بنفس الوضع.
- حمد الله على السلامة.
طالعها بنظرات مبهمة، حلَّ السكون المشحون لثوانٍ، الذي تبدل لذهول وصدمة حين التفَّت والدته ووجدت طيف بتلك الوضعية، وزَّعت نظراتها بينهما؛ فتقدم شهاب بضع خطوات، ووقف مقابلًا لطيف، حلق الصَّمت بالمكان حتى تمكنت الأم من الخروج من صدمتها:
- طيف، أنتِ واقفة كدة ليه؟!
سكون خجل تغلغل بالأجواء، تباينت تعابيرهم، نمت بسمة ساخرة على جانب فمه، سعد بكشف ذلها أمام والدته المصدومة، استمتع بحالتها قليلًا، ثم اردف يحمل سلسلة كَسْرِها:
- بتحب تستقبلني كدة يا ماما، صح يا طيف؟
- أيوه، كده.
لم يخفى عنها نبرة الرعب المتغلغلة بحروفها؛ فطريقته مخيفة، تشك أنه ابنها الذي تربى على يدها، تشهد الله أنها لم تقصر في تربيته. اقترب شهاب حتى التصق بطيف، طوقها بيده غرس أصابعه أسفل كتفها؛ فشددت على إغلاق فمها تحبس وجعها، وما زالت تخفض وجهها، تحدث بهدوء يطيل وقوفهم:
- يومكم كان ازاي النهاردة؟ طيف زعلتك يا ماما؟! لو زعلتك أفهمها غلطها.
حاولت تحريك جسدها لعله يخفف من وطأة ألمها، فكان رده غرس أظافره بخشونة مقصودة. صدمات متعددة تتلقاها منذ الأمس، جعلتها بحالة تخبط قصوى، دارت بها الدنيا تسلبها قواها، نفضت رأسها؛ لتعود إلى أرض الواقع حين رأت طيف تتألم بين يديه، فخطت نحوهما، وجذبتها إليها تحتضنها؛ فتركها على مضض، خرجت منها الحروف تائهة حزينة:
- طيف، آنست وحدتي، يا ريت كل الستات زيها، تعالى يا بنتي نحضر الغدا.
- اقعدي يا ماما طيف حتعمل كل حاجة.
- هتتحكم فيا، عايزني اتحرك على هواك.
- أنا عايز اريحك، لكنك تعصبتِ بصورة مبالغ فيها.
حافظ على جمود تعابيره رغم اشتعال دواخله، ولم تدري والدته بما تجيبه، ألا يشعر بسوء أفعاله، حاولت التحلي بالهدوء تحاول اصلاح الامور لا افسادها:
- ما قصدتش، انا بس عايزة اتغدى، تعالى يا طيف نحط الأكل.
اجتمعوا على المائدة وقد اعدتها الأم ليجلسا على جانبيها، لاحظ شهاب ولم يبدِ اعتراض حتى كادت طيف أن تجلس؛ فصدح صوته بأسلوبه الآمر:
- الست تقعد جنب جوزها يا طيف أدام مش هو اللي على رأس السفرة، انقلي الأطباق هنا، ده مكانك.
- سيبها جنبي عشان اخد بالي من أكلها.
- أنا هأهتم بها يا ماما، ما هي مراتي.
لديه الحجة والمنطق؛ فصمتت مرغمة، يرتب لكل خطوة، سيذيقها قدرًا بسيطًا هينًا مما ينوي فعله بها لاحقًا، دعس قدمها وثبت قدمه فوقها، تضغط بقوة من حين لآخر، عضَّت شفتها السفلية تكتم ألمها مالت على المائدة تخفي وجهها عنهما، فاتاها صوته أمرًا:
- كُلى.
ملأ صحنها بالكثير من الطعام، تعجبت والدته:
- -كفاية يا ابني، مفيش بني آدم يقدر يخلص الكمية دي.
- دي حامل يا ماما لازم تتغذي، مش ده كلامك؟ كُلي يا طيف، كُلي كله.
التهبت بشرو ثدمها ولا زال مستمرًا، تشعر بتخمة معدتها يراودها الشعور بالغثيان، وتتابع الأم متحسرة على ابنها، ثم حاولت وقف معاناتها:
- لو شبعتي يا بنتي خلاص قومي.
- شبعتي يا طيف؟
حمل سؤاله أمر صريح، رافقه بضغط أكبر على بشرة قدمها؛ فكتمت تأوهها مردفة:
- لا لسه، لسه باكل.
- شوفتي بقى أنا حافظها.
تدرك أنه يؤلمها بطريقة تجهلها، ويهذبها بالطعام، فتحركت تحاول انهاء المهزلة الواقعة بتبجح، سحبت الطبق من أمامها:
-لا كفاية أوي كده.
اختفت داخل المطبخ؛ فوجدت طيف خصلاتها ملفوفة حول كفه، يجذبه للخلف يلوح لها بوعيده:
- انبسطي النهاردة واستعدي للي جاي، مش هحرق الأحداث هنتظر تشوفي بنفسك، وهسيب خيالك يرعبك لوحده.
دفعها بغلظة وأمرها باللحاق بوالدته لمساعدتها؛ أطلعته راضخة، لا تقوى على الحركة اثقلتها كمية الطعام واعيتها، تحركت بوهن. انسابت دموع الأم لثوان، ثم جففت دموعه؛ لا وقت للانهيار الآن، رأت طيف تتحرك بوهن، فعاونتها للجوس:
- اطلعي اقعدي يا بنتي، انا هعمل كل حاجة.
- لا يا طنط انا هعمل كل حاجة.
سبحت مقلتيها على جسدها تبحث عن موضع ألمها، زلزلت حين رأت التهاب قدمها، بل نزفت الدماء، لهذا كانت تتألم اثناء تناول الطعام، ابتلعت غصتها،
-اغسلي رجلك، وفي مرهم كدمات في التلاجة ادهني منه، اعملى الشاي الكاتل مليان.
•تابع الفصل التالي "رواية علاقات سامة" اضغط على اسم الرواية