رواية عاشق بدرجة مجنون الفصل الرابع عشر 14 - بقلم الهام عبد الرحمن
كان الجو لطيفًا في تلك الظهيرة، والشمس تُلقي بأشعتها الذهبية على أرصفة النادي، فيمنح المكان هدوءًا غير معتاد. أصوات الأطفال تتعالى من بعيد، تختلط بضحكات متقطعة وموسيقى خفيفة تنبعث من أحد المقاهي. جلس شريف في أحد الأركان الهادئة، على طاولة صغيرة تطل على المسطح الأخضر، يقلب في هاتفه بانتباه وكأنما يبحث عن شيء بعينه، أو لعله يهرب من ضوضاء العالم خلف شاشة مضيئة.
وبينما كان غارقًا في تصفح رسائله، اقتربت منه سيدة أنيقة، ملامحها هادئة وعيناها تحملان امتنانًا دافئًا، في نهاية عقدها الثاني، تتقدم نحوه بخطوات واثقة.
مريم بابتسامة لطيفة:
ـ إزيك يا أستاذ شريف؟ أنا مريم… والدة البنت اللي كانت وقعت من كام يوم، وحضرتك خدتُها على المستشفى.
شريف وهو بيرفع عينه من على الموبايل وبيبتسم:
ـ أهلاً بيكي يا مدام مريم، أيوه فاكر طبعًا… شهد، صح؟ أخبارها إيه دلوقتي؟
مريم وهي قاعدة قدّامه:
ـ الحمد لله، بقت أحسن كتير، وأنا بس لما شُفت حضرتك حبيت أشكرك على وقفتك النبيلة معايا. قليل لما الواحد يقابل ناس بالشهامة دي.
شريف بابتسامة خفيفة:
ـ العفو يا مدام مريم، ده أقل واجب… أي حد مكاني كان هيعمل كدا
جلست مريم أمامه دون أن تنتظر دعوة، وكأنها ترى في هذا اللقاء فرصة لا تُعوّض. نظرت إليه بعينين تلمعان بالحماس، ثم بدأت الحديث دون مقدمات.
مريم بابتسامة عريضة ونبرة حماسية:
ـ على فكرة، أنا دكتورة نفسية… بقالي سبع سنين بشتغل في المجال، ومش قادرة أوصفلك قد إيه بحب شغلي!
أجمل لحظة ممكن أعيشها لما مريض يدخللي وهو تايه، متلخبط، ومش فاهم نفسه… وأخر الجلسة يخرج وهو حاسس إنه اتولد من جديد.
بجد، اللحظة دي بتبقى عندي بالدنيا.
شريف بهدوء، وهو بيحاول يفضل مبتسم:
ـ واضح إنك بتحبي شغلك جدًا.
مريم مسترسلة وكأنها تتحدث مع نفسها أكثر من إنه بجوارها شخص يستمع لها:
ـ يعني مثلًا، كان عندي حالة مؤخرًا لشاب ناجح جدًا، بس عنده صراع داخلي مش بسيط… قعدت أشتغل معاه شهور، والنهارده أول مرة يبتسم من قلبه.
عارف؟ ساعات الناس بتفتكر إنهم مش محتاجين حد، لكن الحقيقة… كل واحد فينا جواه حاجة محتاجة تتفك.
شريف وهو بيحاول يقفل الكلام بلُطف:
ـ بصراحة، كلامك مهم، وواضح إنك شاطرة، بس الحقيقة أنا مشغول أوي… عندي شغل مهم لازم ألحقه.
أنا سعيد إني اتعرفت عليكي، ويا ريت نكمل كلامنا مرة تانية.
مريم: على العموم لو احتجتنى فى اى وقت انا تحت امرك اهو حتى اردلك الجميل اللى عملته معايا انا وبنتى.
نهض واقفًا وهو يمد يده بابتسامة باهتة، ثم أدار ظهره واستعد للرحيل…. معتقدش انى محتاج لاى دكتور نفسى بس متشكر لحضرتك.
مريم صدقنى كل واحد فينا محتاج لحد يسمعه ويكون مرايته اللى تعرفه حقيقته وتلحقه قبل مايقع فى الغلط وميبقاش فى غير الندم
شريف شكرا ليكى مرة تانية بس مش كل الناس مرضى نفسانيين عن اذنك.
اكتفت مريم بمراقبته وهو يبتعد، نظرتها كانت متأملة وابتسامة غامضة على طرف شفتيها، كأنها ترى أكثر مما تقوله الكلمات.
همست بصوت بالكاد يُسمع، لكنه مشحون بالثقة:
ـ مفيش مشكلة… كل حاجة بتبدأ بخطوة، وأنا شاطرة قوي في تفكيك العقد وصدقنى انا قد التحدى ومحدش هيفك عقدتك غيرى يا…شريف ولا……
فى اليوم التالى كان النادي في تلك اللحظة هادئًا، والأجواء لطيفة مع أشعة الشمس التي بدأت تنحسر في المساء. كانت أمنية جالسة في أحد الأركان المعزولة، تحاول التركيز في كتاب بين يديها، لكن ذهنها كان مشغولًا بأمور أخرى. كان واضحًا أنها ليست في مزاج القراءة، رغم محاولاتها المستمرة لتشتيت أفكارها. بين الحين والآخر، كان قلبها ينبض بشكل أسرع كلما رأت ملامح أشخاص يمرون بالقرب منها، وكأنها تبحث عن شيء مفقود، أو ربما شخص.
مرت دقائق قبل أن يدخل شريف، كان يبدو من بعيد كما لو أنه قادم من عالم آخر. ارتدى ملامح التركيز التي عرفتها جيدًا من اللقاءات السابقة. وعندما اقترب، التقت عيناه بعينيها فجأة، وكأنها كانت تنتظره في الوقت المناسب.
شريف بابتسامة دافئة وهو يقترب منها:
ـ يظهر ان الحظ بيساعدنى وكترة الصدف بينا بتحاول توصلى ريالة وهى انى لازم اعرف الحقيقة
أمنية بتردد وهي ترفع عينيها إليه:
ـ يظهر ان القدر مُصر ان كل النقط تتحط على الحروف عشان الحلقة المفقودة تظهر ومش بيقولوا فى المثل رب صدفة خير من ألف ميعاد.
شريف:
عندك حق لان احيانا الصدفة بتعمل اللى ميقدرس يعمله التخطيط.
ابتسمت له أمنية بخجل، ثم لاحظت أنه جلس أمامها دون أن يسألها عن رأيها.
شريف بعد لحظة من الصمت:
ـ اعتقد انك مديونة ليا بتفسير .
أمنية بتوتر:
ـ انا عارفة ويظهر انى زودتها اوى بس صدقنى لو تعرف اللى حصل ساعتها هتعذرنى وتقدر موقفى
شريف بجدية، وهو يحاول تهدئة الموقف:
ـ تعرفى بسبب خوفك مني، واللي كنتى بتحسيه كل مرة كنت تشوفيني فيها. حسيت إن فيه حاجة ورا القلق ده، ومش عايزك تبقي متألمة أكتر من كدا وبصراحة أكتر أنا حاسس بتأنيب الضمير لانى سبب فى خوفك دا .
أمنية (بعد لحظة صمت وتردد:
ـ خوف؟… كلمة خوف قليلة على اللى كنت بحس بيه وانت ملكش اى ذنب ، هو… كان فيه شوية اضطراب في البداية بسبب الشبه بينك وبينه لكن بعد موقف البنت اللى انت اخدتها على المستشفى اتاكدلى انك مش هو .
شريف لاحظ التردد في كلماتها، لكنه فضل الصمت منتظرًا.
أمنية وهي تهز رأسها وكأنها تحاول ترتيب أفكارها:
ـ اسمع، الحقيقة إن فيه سبب… سبب كبير لده. علشان… كنت دايمًا بحس إنك شبيه لشخص تاني.
شريف بتساؤل:
ـ شبيه لشخص تاني؟ مين ده؟
أمنية وهي تأخذ نفسًا عميقًا قبل أن تكمل:
ـ اسمه يزن… يزن دا كان خاطفني… هو كان مريض نفسي، عنده اضطراب الوهم، وكان بيعتقد أنه بيحبني. وكل حاجة حصلت كانت بسبب مرضه ده.
وقفت لحظة لتلتقط أنفاسها، ثم تابعت بصوت منخفض:
أمنية:
ـ كان شايفني بتاعته، ملكه ، وكان متأكد إني ببادلّه نفس المشاعر رغم كل حاجة… كان بيحاول يتحكم في كل تصرفاتي، وأنا ما كنتش قادرة أهرب. حتى لما حاولت، كان بيخليني أرجع… كنت حاسة إني عايشة في كابوس مستمر. ولكن… لما شوفتك، كان فيه شيء فيك بيخليني أتردد، كنت حاسة إنك هو وانه رجع من الموت .
توقف شريف عن الكلام، وترك المجال لها لتكمل حديثها. كانت عيون أمنية متألمة، لكنها كانت أخيرًا تُحاول الإفراج عن جرحها القديم.
امنية مسترسلة فى حديثها:
عارف ان جوزى مرضيش يصدقنى انى سوفت واحد شبهه فضل يتعامل معايا انى بقيت مريضة نفسية مع انه لو كان كلف خاطره بس وحاول يسمعنى او يصدقنى مكناش وصلنا لطريق مسدود انا بقيت حاسة انى وحيدة احمد كان هو السند والامان…
شريف بنظرة غامضة…. كان يعنى انتى دلوقتى مبقتيش تخسى انه امانك وسندك.؟!
شعرت امنية بفداحة ماتفوهت به فقالت بصوت متردد…
لا مقصدش احمد سندى وامانى وهيفضل كدا لكن اللى حصل هزنى من جوا شويه.
شريف بابتسامة محاولا تلطيف الموقف….
خلاص انا عندى الحل انتى تجيبى احمد هنا ويشوفنى ساعتها هيصدقك ويتاكد انك مش بتتوهمى اظن دا حل كويس وهينهى الخلاف بينكم.
امنية بفرحة: بجد انت بتتكلم جد ياأستاذ شريف انت كدا تبقى عملت فيا معروف كبير اوى.
شريف بابتسامة وجع: قد كدا بتحبيه وفارق معاكى.
امنية: بحبه!! دى كلمة قليلة اوى على اللى فى قلبى ليه.
شريف بحزم: يبقى خلاص مفيش حل غير اللى قولتلك عليه انا موجود هنا كل يوم فى نفس الميعاد تقدرى تجيبيه معاكى ويشوفنى وحتى دى تبقي فرصة كويسة عشان اتعرف بالشخص اللى قدر يستولى على قلب ملاك زيك.
شعرت امنية بالخجل الشديد من طريقته بالحديث معها فاحمر وجهها ونظرت الى اسفل، وحينما شعر بانه اخجلها فتنحنح وهب واقفا وهو يقول….
شريف: استاذن انا بقى، ثم مد يده بكارت مدون به اسمه ورقم هاتفه واكمل قائلا: دا رقم تليفونى لو احتجتينى فى اى وقت انا تحت امرك.
بعد لحظات غادر شريف وشعرت امنية ان بابا من الامل قد فُتح اليها لكى تستعيد هدوء حياتها مرة اخرى، وفى تلك اللحظة كانت مريم تنظر فى اثر شريف الذى غادر وهى تقول لنفسها بابتسامة…
مريم: دا انت حكايتك حكاية ووحياة بنتى محد هيعالجك غيرى قال كل الناس مش مرضى نفسانيين قال ماشى يا…… سى شريف مؤقتا.
•تابع الفصل التالي "رواية عاشق بدرجة مجنون" اضغط على اسم الرواية