رواية الطبيب العاشق الفصل الثالث عشر 13 - بقلم منة جبريل
الثالث عشر
شهق الجميع وتوسعت أعينهم ونهضوا كمن لدغتهم عقرب من مقاعدهم سوى ذلك الذى يجلس ببرود ويطالعهم بعدم مبالاة وكأن الأمر لا يعنيه حتمًا
هتف مصطفي بغضب :
_ أنت ازاي ترفع السلاح على مرات عمك؟؟
ولم ينظر له ريان بل كان ينظر إلى تلك التي شحب وجهها وأصبحت كالأموات وهي تراه يوجه السلاح نحوها
أصبح صدرها يعلو ويهبط بسرعة رهيبة، تطالعه بأعين شاخصة وعقل شُل عن التفكير، كيف له أن يفكر في قتلها، هل القتل مثل شرب الماء بالنسبة له؟!!...
اردفت حوراء بتلعثم وصدمة من ما يحدث :
_ ريان أنت بتعمل إي ... أنت مستحيل تعمل كدا
لم ينظر لها أيضًا وموجة غضبه تسيطر عليه... وضع اصبعه على الزناد مستعدًا لإطلاق النار والجميع حوله يحاولون إيقافه، عدا بيجاد الذي من المفترض أنها والدته، وإياد الذي جذب شقيقتيه خلفه واقترب ببطء من شقيقته الأخرى التي تلتصق بزوجها
تصنم الجميع، وازدادت نبضات قلبهم، تسارعت وتيرة انفاسهم، تزامنًا مع صرخة من الفتيات عندما سمعوا صوت اطلاق النار...
أمال بيجاد رأسه ليرَ ما حدث بسبب التجمع الذي أمامه والذي يمنعه من المشاهدة، رفع حاجبيه ثم تنهد وعاد للنظر في هاتفه بخيبة بعد أن وجد إياد أمسك بيده رافعًا له لأعلى مخطئًا الهدف
نجحت سميرة في جعله يبغضها لأبعد حد، بل وينسى أنها أمه ويجب عليه مهما حدث احترامها، لقد ربت بداخله لها كرهًا عظيمًا حتى تمنى قتلها بالفعل.
نظر ريان بأعين قاتمة إلى إياد الذي منعه من أصابتها بشكل ما، إصابة ليست مميتة ولكن سيتأكد أن تكون مؤلمة وربما لها أضرارها، إياد يرمقه بحاجبين معقودين ونظرات حادة، قبل أن يسحب السلاح من يده قائلًا بصوت جهوري حاد :
_ وربي لو تكرر اللي عملته دا بدون وجه حق، أختي مش هتشوف ضِلها، بينك وبين مرات عمك مشكلة تتكلم فيها بعقل وتحلها وبلاش شغل أنك تستقوى على مرأة، عيب على كونك راجل
أخذ ريان سلاحه منه قائلًا ببرود :
_ متدخلش في اللي لا يعنيك يا إياد، نقاشي أنا اللي أحدد يكون ازاي ومع مين، وبالنسبة لزوجتي فخلاص، أنك تفكر تبعدها عني دا في أحلامك ومش هتنجح كمان
ثم نظر إلى التي شحب وجهها وقال بنبرة تحذيرية مخيفة :
_ ربما تكوني نفدتي المرة دي، بس لحد امتى يا سميرة، أنا متأكد إن نهايتك هتكون بائسة لأبعد حد
_ ريان احترم نفسك
صاح بها مصطفى بحدة وانتفض جسده بغضب، ليقول ريان بنبرة جامدة :
_ لما تعرف تسيطر على مراتك تعالى اتكلم معايا يا... عمي
_ ريـــان......
هتف بها مصطفي وهو يرفع يده ليصفع ريان وقد طفح به الكيل، وقبل أن تصل له يده أمسكها ريان بقبضة قوية وتجهمت ملامحه بشكل مرعب، خرج صوته وكأنه من بقعة داخل الجحيم انعكس في عينيه :
_ كان ممكن اقطعلك ايدك اللي فكرت أنك ممكن ترفعها عليا ومكنش هيفرق معايا أنت مين بس هعديهالك علشان عارف إن الحقيقة صعبة عليك... وهكملك كلامى...
_ الحقيقة أنك فاقد سيطرتك على مراتك وهي اللي ممشياك يا ابن الكيلاني، لما مراتك تحمل وتولد وتجيبلك ولد واللي هو ولدها برضه كان المفروض تعامله بحنية لأنها أمه، بس تقدر تقولي هي عملت إي؟ أنا هقولك، هي اهملته وكانت بتعذبه لو بكى علشان جعان أو عايز حاجة، هي رمته لمرات عمه علشان تربيه بينما هي تستمع بالفلوس اللي اتجوزتك علشانها، وكانت تعمل دا في العلن، تقدر تقولي أنت كنت بتعمل إي؟ كنت يا دوب بتروح تقول لابنك معلش امك واستحملها، أنت كنت مستوعب أنك بتقول لطفل استحمل عذاب أمك لأنها مهما كانت أمك حتى لو موتتك عادي هي أمك، لا استنى أنت مسكتش على دا بس..!!
اقترب ريان منه قائلًا بفحيح :
_ أنت سكت على صوتها لما كانت ترفعه على ابوك وتاجي أنت بعد ما تمشي تعتذر لأبوك علشان مش تشوفك وأنت بتعتذرله وتبهدلك، دى رجولتك؟؟... أنت عارف سبب بُعد ابنك عنك السنين دى كلها بسبب مين؟.بسبب مراتك اللي هرجع واقول المفروض تكون أمه، عملت إي هي لما عرفت أنه اشتغل وبقي ظابط في المخابرات المصرية؟؟ أول مهمة ليه استنى فيها دعوة حلوة توفقه، رغم كل اللي عملته واللي شافه منها بس استنى منها دعوة، فاكر هي دعتله بإي؟ أنا هفكرك، قالتله روح إن شاء الله تكون أول وآخر مهمة ليك، أنت عملت إي وقتها، قولتله جملتك الوضيعة كالعادة واللي هو حفظها من صغره، معلش دي مهما كان والدتك وروح ربنا معاك، دا اللي قدرت عليه يا راجل؟؟
أبوك واخواتك الاتنين وابنك دول كلهم سكتوا على تصرفات مراتك البجحة واستحملوا عدم رجولتك خوفًا على زعلك وأنت سوقت فيها لحد ما رجوليتك انعدمت خالص، عرفت حقيقتك دلوقتى يا مصطفي!؟
فلما تاجي مراتك تجرح مراتى بكلامها، وبعد ما رجعت من غربة طالت سنين هي اتجرأت ووجهت كلام لمراتي وفاكرة إنه كالعادة هيتسكت ليها خوفًا على زعلك، بس اللي نسيته أنها مراتي... مراتي أنا، سيدتها وسيدة البيت دا كله
أنت ازاى طايق نفسك أو قادر تبص في المراية ومراتك هي اللي ممشياك على مزاجها؟ بس استنى هقولك على حاجة كمان، بمزاجي مراتك لسه واقفة على رجلها، لا إياد ولا غيره كان هيقدر يغير مجرى الرصاصة اللي أنا عايزها بس علشان أريح ضميري خالص هديها فرصة أخيرة، فرصة تعرف فيها تتعامل ازاي مع أسيادها، وكمان علشان الموت هيريحها وأنا لسه مشواري معاها طويل، لسه في حاجات كتير لازم تندم عليها، ودلوقتي يا مصطفى، وبعد ما عرفت حقيقة نفسك طايق تعيش تاني؟ بس ولا يهمك أنا هسهلها عليك …
ثم مد يده بسلاحه مكملًا ببرود :
_ ريح نفسك بدل ما تعيش عمرك كله وأنت عديم الرجولة
ها قد انتهى الذئب من حديثه والذي كان صدمة للجميع وتعرية لحقيقة مرة في هذه العائلة، كما كان فتح جرحًا غائرًا لآخر …
وجد ريان من يزيح كف يده بقوة أدى إلى سقوط السلاح من يده، نظر له ريان وجده والده عامر وهو يقول بغضب :
_ مهما حصل وهيحصل يا ريان، كبير العيلة له احترامه، وعمك تحترمه برضاك أو غصب عنك، هتفضل تبجح بالطريقة دي فأنت غير مرحب بيك بالمرة هنا، ارجع لقصرك وشغلك زي ما كنت، بس أنك تستغل شوقنا ومحبتنا ليك في التصرفات دي فلا، أنا لا يمكن أسمح إن ابني يكون كدا
اردف ريان ببرود وهو ينظر إلى مصطفى :
_ شايف؟ لحد دلوقتي خايفين عليك من حقيقتك وحقيقة مراتك
كان يقف بلا حراك وعينه مثبته على نقطة وهمية وكلام ريان ينزل عليه مثل الخناجر التي تنغرس في قلبه بكل برود لأنها وببساطة الحقيقة، نعم كان يفعل كل هذا ومن أجل من؟ من أجل تلك المرأة التي أحبها... اهمل ابنه ولم يسأل عنه طيلة السنوات التي غابها عنهم وهذا من أجلها... صمت على اهانة زوجته لوالده وهذا من أجلها... صمت على كلامها الجارح التى وجهته إلى تلك الفتاة البريئة الطيبة وهذا من أجلها أيضًا، كان كله لأجلها….
عاد ريان ببصره إلى والده وقال مبتسمًا بجانبية باردة :
_ اللي متعرفهوش إن ابنك اتغير يا عامر، هو مش الطفل اللي سابك علشان يحقق شغفه وحلمه، في حاجات كتير صقلته أنت متعرفش عنها حاجة، وجودي هنا أو رحيلي عنه أنا اللي أحدده، ولأجل الكيلاني أنا واقف هنا وسطكم
ثم غمزه وربت على كتفه قائلًا :
_ ولأجلك ولأجل الجميع هنا حتى مصطفى، عدا سميرة، أنتوا مهما كان عيلتي وتصرفاتي أنا لا بفرق بين كبير وصغير الحقيقة لازم يعرفها الكل، بس دا مش دليل على كرهي أو شيء تاني، العكس، أنا لو مش فارق معايا عمي مكنتش هتعب نفسي في الكلام معاه أصلًا، المهم.... دلوقتي رسالتي وصلت واللي يا سميرة لو حاولتي تتجاهليها صدقيني كونك ست كبيرة دا مش هيمنعني عنك، أيوا أنا برفع إيدي على ست مفيش مشكلة عندي طالما كانت زيك
نهض أيهم ببرود وكأن لا شئ يحدث حوله واقترب من ريان واردف بهدوء :
_ استغربت لما مقتلتهاش، أصل عارف إن القتل عندك حاجة سهلة
نظر له ريان نظرة غامضة بينما أيهم خرج من المنزل بأكمله وهو يسير كالتائه وتبعه صديقه خوفًا عليه...
نظر إلى صديقه الذي يجلس بدون حراك ينظر إلى الأرض ويسند كفيه على قدميه وبجانبه يجلس هشام بهدوء أيضًا …
نظر ريان إلى هشام ثم أشار له بعينه على بيجاد ليفهم الآخر ما يريده وأماء له بهدوء ليخرج ريان من المنزل
اردف هشام بهدوء وهو ينهض :
_ بيجاد، تعالى عايزك
نهض بيجاد بدون حديث وسار مع هشام إلى خارج المنزل .....
أخذ إياد شقيقاته اللواتي كان يتابعن ما يحدث بصدمة وصمت شديدين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ها قد مر منتصف الليل ولم يعود أي من الشباب...
كان الكيلانى وعامر وحسين وليلي وعبير يجلسون فى صمت والحزن يخيم عليهم...
أما مصطفي فكان يجلس فى غرفة فارغة يفكر فى كل ما قاله له ريان وهو يعلم أن ما قاله وإن كان جارحًا فهو الحقيقة
اردفت عبير بقلق :
_ هما ليه مرجعوش لحد دلوقتي؟
اردف حسين بهدوء :
_ دول رجالة وميتخافش عليهم فإهدوا اكيد جايين دلوقتي
كادت عبير أن تتحدث ليقاطعها صوتها الهادئ والقلق وهي تردف :
_ ريان لسه مجاش؟
نظر لها الجميع لينهض عامر ويتجه لها ويردف بحنان :
_ متقلقيش يا بنتي، أكيد في سبب لتأخيرهم دا تعالي اقعدي
هزت حوراء رأسها بالرفض وعادت إلى غرفتها وهي تحاول الاتصال بريانها...
ولكن لا رد...
فزاد قلقها ووضعت الهاتف بجانبها وامتلأت عينيها بالدموع خوفًا وقلقًا عليه، كان اليوم صعبًا ومرًا على الجميع بفضل زوجها ولكن... هي متأكدة أنه لم يكُن حلوًا عليه أيضًا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فوق اعلى واخطر منحدر كان يجلس اضلاع المثلث الثلاثة وهم ينزلون قدمهم فى الهواء...
-متأكد انك تمام؟
هتف بيجاد بضجر :
_ ارحمني، سألتني السؤال دا في الدقيقة حوالى ٩٩ مرة
اردف ريان ببرود :
-طيب اكملها ١٠٠ .. أنت كويس؟
ضحك بيجاد وابتسم له ريان فأردف هشام :
_ مش حاسين إننا تقريبًا كدا اتأخرنا، خصوصًا إن في واحد وسطنا مبقاش أعزب
اتسعت أعين ريان وكأنه تذكر للتو، لينهض وهو يسبهما يركض إلى سياؤته بسرعة تبعه هشام وبيجاد وهما يصحكان على حاله، وبعد وقت كان الجميع على وضعهم قلقين على من بالخارج، ليجدوا الثلاث أصدقاء يدخلون عليهم
نهض الجميع فور رؤيتهم لهم وتوجهت نحوهم ليلى وعبير وهمما تسألان بقلق :
_ كنتوا فين ولي اتأخرتوا كدا؟
اكملت عبير وهي تنظر خلفهم :
_غيث فين؟
واكملت ليلى :
_ وكمان أيهم، هما مش معاكم؟
اردف ريان بهدوء :
_ لا مش معانا
ثم نظر خلفهم واردف بهدوء :
_ حوراء نامت؟
اردف الكيلانى :
_ لا، هي قلقانة عليك ومستنياك
همهم ريان وتحرك بسرعة إلى الأعلى حيث زوجته.
جلس هشام وبيجاد مع باقي العائلة... جد بيجاد وهشام الجميع ينظرون لهما ليقول بيجاد بتعجب :
_ بسم الله، مالكم؟ لبتبصولنا كدا.؟
اردف الكيلانى بجدية :
_ كنتوا فين الوقت دا كله؟
رفع هشام حاجبه الأيسر واردف بجمود :
_ دا شئ يخصنا احنا!
اردف عامر بهدوء :
_ مش مهم، المهم إن لما تكونوا هتتأخروا متقفلوش الفون
نهض هشام واردف ببرود :
_ تصبحوا على خير
رحل وهو لا يحب ان يملي عايه أحد ما يفعل أو يتدخل في حياته بأي شكل كان، ليهرع بيجاد خلفه قائلًا بمرح :
_ أنت هتسبني لوحدي، استنى
تنهد الكيلاني وهز رأسه بيأس منهم، مهما حاول جمع هذه العائلة تتبقى هناك شغور تجرح كل منهم وتضع فواصل بينهم، لتقول عبير بقلق :
_ طيب دول رجعوا، ابني وأيهم فين؟
قال عامر مطمئنًا لها :
_ هيرجعوا كمان يا عبير، متقلقيش، يلا روحوا ناموا الوقت اتأخر
تنهدت عبير بقلة حيلة وذهبت مع ليلى، ليتحدث عامر بحزن :
_ أنا مش عارف اعمل إي مع اخويا بعد اللي قالهوله ابني
هتف الكيلانى بهدوء :
_ اللى قالهوله ابنك كان الحقيقة ياعامر وفعلا احنا كنا ساكتين علشانه هو، بس محدش من الشباب مضطر أنه يستحمل تصرفات مراته وسكوته هو واكيد كان في يوم حد فيهم هيعترض على اللي بيحصل بس الخوف دلوقتى هيبقي من ريان دا بقي محدش فارق معاه وأي حد هيقرب من حاجه تخصه دا ممكن يمحيه من على وش الأرض
نظر عامر الى والده سريعًا وكأنه تذكر شئ ليردف :
_ هو انت يابابا متعرفش إي اللى بين ريان وأيهم واللى خلاهم يبقوا مش طايقين بعض كدا
هز الكيلانى رأسه بلا ونهض مردفًا وهو يتنهد :
_ لا معرفش، واحنا ملناش دعوة بيهم يحلوا مشاكلهم بنفسهم... يلا روح نام ومتفكرش كتير ، ابنك ميتخافش عليه ابنك يتخاف منه
ابتسم عامر قليلًا وهو يهز رأسه وذهب كل منهم ليرتاحوا من عناء يوم طويل...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كانت جالسة تضم ساقيها اليها وتدفن رأسها بينهم وهى تبكى بخوف وقلق... سمعت صوت اقدام تقترب من غرفتها لتجف دموعها فورًا واعتدلت في جلستها ومن وضع حجابها ووجهت نظرها إلى الباب لترى من هذا...
وجدت الباب يفتح بهدوء ليطل هو بقامته الطويلة والعريضه والتقت سوداوتيها برماديتيه الغريبة...
لتنهض على الفور واتجهت نحوه بخطوات سريعة ليبتسم هو ويفتح ذراعيه لها لترتمي هي بين ذراعيه وهي تعانقه بشدة... أغلق ذراعيه حول خصرها وقربها منه أكثر زافرًا بثقل ما مر به من ساعات اليوم
سمع همسها الخافت والذي بالكاد استطاع سماعه وهي تردف :
_ قلقت عليك أوى...
ابتسامة صغيرة شقت شفتيه ليردف بحنان وهو يقبل رأسها من أعلى حجابها :
_ متقلقيش يا روحى أنا جنبك وهفضل دايمًا جنبك
ليشعر بها وهي تزداد من تعمقها بين ذراعيه ليزيد هو من التفاف ذراعيه حولها وكأنها أفعى، ولكن الفرق أنه لن يلتهمها.... رُبما يحطم عظامها!
بعد دقائق شعر بانتظام وتيرة أنفاسها ليعلم أنها غفت رغم وقوفها، كبح ضحكته وحملها برفق يضعها على الفراش واندثر بجوارها يضمها إلى حيث مكانخا الأول، إلى ضلعه الأقرب إلى قلبه، نظر لها متنهدًا،هامسًا ويده تمسح على وجنتها برفق :
_ أنا أسوأ من إني أبعدك عن ظلامي، قدرك اتربط بيا وللأبد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أصبح الصّباح وذهب القمر ليختبئ في مداره، ليفسح مجالًا للشمس كي تشرق من جديد.
وكالعادة كانت عائلة الكيلاني تتجمع فى بهو المنزل بعد انهاء فطورهم....
تحدث حسين بهدوء :
_ كنت فين يا أيهم أنت وغيث الليل كله؟
هتف غيث برزانة متوليًا الرد :
_ كنا بنغير جو يا عمي، متقلقش
اردفت عبير بقلق :
-وتغيير الجو دا يجرح ايدك كدا... مال ايدك يا غيث وحصل اي علشان تتجرح كدا؟
نظر غيث إلى كف يده اليمنى التي يزينها شاش طبي متنهدًا وعقله يعيد ما حدث معه أمس مع صديقه
ذهب غيث خلف صديقه خوفًا من أين يصيبه سوء لغضبه، صعد جواره سريعًا في السيارة وانكلق الآخر دون النظر له حتى وكأنه في سابق مع الزمن
اردف غيث بهدوء :
_ هدي السرعة يا أيهم يا إما هتأذي نفسك أو غيرك
لم يرد عليه أيهم وهو يزيد من سرعة السيارة بشكل مخيف، فضل غيث الصمت غير عابئًا باحتمال وقوع حادث شنيع قد يمزقهما داخل هذه السيارة، وبعد وقت طويل توقف أيهم فجأة ليرتد جسدهما إلى الأمام بقوة وصدر صوت مرعب من احتكاك إطارات السيارة بالأرض
زفر غيث بقوة يحمد الله كونه وضع حزام الأمان وإلّا كان جسده الآن يقبع أسفل عجلات السيارة الأمامية!
نظر إلى أيهم الذي ترجل من السيارة بوجه ذابل وملامح باهتة، كان مكانًا غريبًا يكاد يصنف من الأماكن المهجورة، فقط رمال كثيرة وبعض أثار بيوت قديمة مهدمة
تحرك أيهم بخطوات واهنة تشعر وكأنها ترتجف في كل خطوة ويكاد يسقط على وجهه، إلى نقطة فارغة إلّا من رمال وجزء مرتفع عن الأرض قليلًا حوله حجارة كثيرة وكأنه قبر ما!
وقف أمامه وكأن طاقته انتهت، سقط متراخيًا أمامه وتهدل كتفاه زكأن فوقهما ثقل جبل، احمر جفن عيناه وأضحت رؤيته للقبر أمامه ضبابية، انكمشت ملامحه بألم حارق، فرت دمعة حارة من بين جفنيه لتكون الإشارة الخضراء لغيرها، شقت دموعه وجنتيه وكأنها جمر يحرقه، انخفض رأسه وتحركت كتفته في بكاء شديد صامت، كان صامتًا قبل أن تنقطع أنفاسه وتثاقل الهواء على رأتيه ليصبح يشهق كالطفل الذي لا يملك رفاهة الحديث ليشكو ما يؤلمه!.
ظل غيث واقفًا يظر له بحزن وعينته تشارك ضديقه البكاء، مسح وجهه زافرًا بقوة يشعر أن الأجواء حوله أصبحت حارة، ضاق نفسه وانتفض قلبه حزنًا على صديقه خبس الحزن والألم لسنوات طوال
سنوات تفرقه عن يوم فقد فيه صديقه نفسه، حبيبته وابنه، وكذلك عائلته بعد أن رحل عن بلاد فقد فيها أنفاس زوجته رفيقة قلبه، غاب عن بلاده ثمان سنوات إلّا أيام، من كل سنة كان يأتِ دائمًا في اليوم الذي فقدها فيه، يقضي يومه معها باكيًا فراقها ثم يرحل مجددًا يعدها إن بقي في عمره بقية سيقابلها في ذات التاريخ العام القادم
لم يفكر في رؤية أب أو أم أو أخوة، يأتِ ليجاور ثرى يحتضن أعز ما امتلك يومًا.
كان الأمر هذه المرة مختلفًا، ما زال على تاريخ ذكرى موته أيام، ولكنه أتى بعد أن علم بوجود السبب في فقدانه لها، ليقوده غضبه ونقمه إلى لقاه بعد سنوات، متوعدًا بعدم الرحيل إلًا بنزع روحه، ولكن القدر قدم له هدية قيمة وهو يراه متعلقًا بإمرأة وأخيرًا، فرصة ليذيقه بعض ما لا يزال يتجرعه إلى الآن
تداخلت مشاعره بداخله لتشكل ثورة مخيفة وهو ينتفض عن الأرض بعد أن أتى في زيارة في يوم ليس اليوم المعتاد، ولكنه كان بحاجتها، رؤيته للجميع مع احبائهم تشعىه بوحشة تمزق فؤاده بإبر سامة
يتحرك نحو سيارته وهو يهتف بوعيد ونظرات مظلمة :
_ هقتله، هقتله بيها زي ما قتلني
وقف غيث أمامه وهو يحاول تهدأته، صائحًا به يريد أن يصل صوته لغياهب عقله المظلم بانتقام طويل :
_ أيهم اهدى، الأمور مش بتتاخد بالشكل دا، لازم تفكر و....
لكمه أيهم بقوة فى وجهه ليرتد غيث إلى الخلف ولكنه عاد سريعًا يحاول السيطرة عليه ولكن يصعب عليه بسبب حركته العنيفة فأداره له سريعًا ولكمه هو الآخر في وجهه ليلتف وجه أيهم الجهة الأخرى ليصبح صوت تنفسه مرتفع، نظر إلى غيث بأعين مظلمة مخيفة ولكنه لم يفعل شيء وتوجه إلى السيارة ولكن منعته يد غيث مجددًا ليدفعه بعيدًا عنه بقوة ليسقط غيث على أثرها أرضًا مصطدمًا بحجز شق كف يده اليمنى ….
امتعض وجه غيث ألمًا متحاملًا عليه يقترب من صديقه مرة أخرى :
_ أيهم، اللي أنت بتعمله غلط، وبعدين هو شرحلك اللي حصل،لي مُصِر أنه السبب؟
صاح به أيهم بحدة وغضب :
_ لأنه السبب فعلًا، كفاية رغي من غير فايدة وتعالى علشان نشوف إيدك دي
تنهد غيث ورافقهما الصمت حتى وقف أمام مشفى، دلفوا إلبها وغيث يوقف نظيف يده بصعوبة، رأتهما طبيبة هرعت إليهما تشير لغيث إلى غرفة ليدهل إلبها سريعًا
_ الجرح شكله عميق وهيحتاج تقطيب
وقف أيهم بعيدًا ينظر إلى صديقه وباشرت الطبيية في تنظيف جرحه وتؤهله للخياطة، ارتفع حاجبه بسخرية وهو يرَ ممرضة تقف جوارها تتطلع إلى غيث بهيام والآخر في عالم آخر شاردًا
ابتسم بخبث وأشار له بعينه ما إن نظؤ له غيث عليها، نظر غيث إلى ما يشير إليه ليجد تلك التي تتطلع إليه وكأنها تنظر إبى فارس احلامها وقد جاء أخيرًا، امتعض وجهه موليًا الناحية الأهرى يرمق صديقه بغيظ والآخر ابتسم ببهوت ساخرًا
_ في حاجة؟؟
نظرت الممرضة بسرعة إلى أيهم الذي ينظر لها بسخرية، لتتشع عيناها وهي تنظر إلى الطبيبة بتوتر ولم تتحدث
_ بس كدا كفاية
_ كفاية إي، أنا لسه مخيطتش الجرح!
تحدثت الطبيبة معترضة ليسحب غيث رباط طبي قائلًا :
_ مش لازم، شكرًا على كدا
نظرت الطبيبة إلى أيهم علّه يقنعه، ولكن الآخر قال بهدوء وهو يتحرك إلى الخارج :
_ أخرتنا، وهتضطر انت للشرح لإني مبحبش كدا
أفاق غيث من شروده ونظر أمامه ليجد الجميع ينظر له سوى أيهم الذي كان مريحًا رأسه إلى الخلف يغمض عيناه
هتف غيث بفزع :
_ أعوذ بالله... أنتوا ليه بتبصولى كدا؟
اردفت عبير بقلق :
_ مالك ياحبيبي أول ما سألتك عن الجرح أنت بصيت على ايدك ومرديتش!
نعم، شرد حتى قبل أن يجيب على والدته القلقة، تنهد بقوة مرددًا :
_ مفيش، مجرد جرح بسيط
فهمت عبير أنه لا يريد التحدث عن سببه، لتتنهد وهي تنظر إليه بصمت قلق.
نظر غيث إلى تلك التي تتطلع إلى يده وعلى وجهها علامات القلق ليبتسم بهدوء بداخله عليها، وإن حاولت إنكار مشاعرها، فعيناها تعانقانه في كل مرة تراه فيها.
غمزها بعينه لتتسع عيناها ونهضت بسرعة مغادرة، لتعلو قهقهة غيث لتصل إليها تزيد توترها وحنقها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تأتِ رياح الذكريات مُقلبة، بين ثنايا الروح غوائرُ.
والسَّلام.
مِـنَّــــــة جِبريـل.
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية الطبيب العاشق) اسم الرواية